آلية التعامل مع المنحرفين من أبناء المذهب 【تربية وإجراءات】:
✿↩
السائل:
♦ يوجد العديد من الشخصيات في مجتمعاتنا الاسلامية ممن يتمتع بقدرة هائلة في تبديل الوجوه وتغيير الأقنعة.. فمرة هو في المسجد يستمع بامعان انصات للمجلس الحسيني.. وأخرى نراه فيها متهاونا في صلاته وتاركا أبسط واجبات الدين..
والسؤال هو: هل يحل لنا شرعا التشهير بمن يمتلك هذه القدرة..؟
مع العلم ان النصيحة له غدت أمرا لا رجاء منه؟؟
أجيبونا اثابكم الله وسدد خطاكم لكل خير..
✿↩
♦ جواب سماحة السيد أمين السعيدي حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله جناب العزيز عبد المحسن.
كيف حالك؟ أرجو أن تكون بخير وسلامة.
حقيقةً ما تتفضل به غدا واقعاً لا مفر منه ولا مهرب ، وهو ليس صنيع اليوم ، فعمر هذا الواقع طويل في تاريخ البشرية ، وقد حاربه النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ، وحاربه الأئمة عليهم الصلاة والسلام ، وحاربه أصحاب النبي وأصحاب الأئمة ، ويكفينا شاهداً على ذلك في زمن الأئمة عليهم الصلاة والسلام -مثلاً- صالح بن سهل الهمداني ، الذي كان من وكلاء أبي جعفر الثاني عليه السلام ، حيث دَخَل عليه يوماً فقال:
جُعِلتُ فداك ، اجعلني من عشرة آلاف درهم في حِل ، فإني أنفقتها.
فقال أبو جعفر عليه السلام: أنت في حِل. فلما خَرج صالح بن سهل هذا من عنده عليه الصلاة والسلام قال أبو جعفر:
أحدهم يــَـثِـبُ على أموال حق آل محمد وفقرائهم ومساكينهم وأبناء سبيلهم ، ثم يقول اجعلني في حل! أتراه ظَنَّ بي أني أقول له لا اَفعل؟! والله ليسألنهم الله يوم القيامة عن ذلك سؤالاً حثيثاً.
وكذا مِثله علي بن أبي حمزة البطائني ، وزياد بن مروان القندوري ، وعثمان بن عيسى الرواسي ، كلهم كانوا وكلاء لأبي الحسن موسى عليه السلام ، وكان عندهم أموال جزيلة ، فلما مضى أبو الحسن عليه السلام إلى ربه وَقفوا عليه ولم يــَقْبلوا بإمامة الإمام الذي بعده ؛ طَمَعاً في الأموال التي في أيديهم ، فجَحدوا إمام الرضا عليه السلام ، مع أنهم من كبار الوكلاء ومن كبار الشخصيات الدينية بين الناس!
ومِثلهم فارس بن حاتم.
كما أن أئمة الهدى صلوات الله وسلامه عليهم طَرَدوا بعض فساق الشيعة العوام من مجالسهم.
بل ويكفيك شاهداً على ذلك زمن الغَيبة الصغرى لولي العصر أرواحنا فداه ، كأبي جعفر أحمد بن هلال ، الذي روى أكثر أصول أصحابنا ، كما امتلأتْ بيوت الشيعة بكتبه ، والمكتبات العامة ، بل بيوت حتى إخواننا السنة ، وكان من أصحاب الهادي عليه السلام ثم العسكري عليه السلام ، ثم أَدْرَك الغَيبة الصغرى.
وكان عابداً من أعلام العُبّاد ، وقد حَجَّ 54 حجة ، عشرون منها حَجَّها ماشياً ، ودرَس عنده كبار مشايخنا ، وتَلقّوا منه ونقلوا عنه ، فادَّعَى النيابة في أواخر حياته ؛ ادَّعَى النيابة الخاصة لإمام العصر عليه الصلاة والسلام ، بل ووَقَفَ على إمامة العسكري عليه السلام ..
فتَحيَّر الرواة والعلماء في أمره ، وانشقُّوا فيه ، فأربَكَ الطائفة ، وتَورَّط الناس بكتبه المنتشرة في كل مكان ، واحتاسوا ، فصدر من أبي الحسن وأبي محمد العسكري عليهما السلام فيه ذمٌّ كثير ، فلم يـَرتدع ، ثم في الغَيبة الصغرى خَرَج التوقيع من إمام العصر عليه السلام بلعنه والبراءة منه على يد السفير الثالث (أبي القاسم بن رَوح) وغيره من السفراء.
وتوقَّف الأكابر عن العمل بمروياته كالعلَّامة رحمه الله ، بينما البعض توقَّف في مروياته إلا بطريقة التعامل معها بقرينة الراوي والمروي بتخصيص بعض مَن يروي عنهم كما بنَى ابن الغضائري الواسطي رحمه الله في تبعيضه لمروياته ، بينما البعض توقَّف فيما يـَتفرَّد به من مرويات فحسب كما هو رأي المشهور ومنهم على هذا المبنَى شيخ الطائفة رحمه الله ..
ومِثله الصوفي الحلاج ، والشريعي ، وغيرهم ممَّن صدَّر الإمام عجل الله فرجه في غَيبته الصغرى توقيعات لعن وطرد في حقهم.
فإذا وجدنا أمثال هؤلاء في المساجد ويعيشون بيننا فأمرهم كما يلي:
فهم تارة من البسطاء الأوائل ، وتارة من المثقفين ، وتارة من أهل العلم.
والظاهر أن سؤالكم عزيزنا عبد المحسن هو عن فئة من عامة الناس ما بين الأولى والثانية مع الميلان للثانية ؛ لذا فهؤلاء أمرهم أهون وأسهل ، ويجب في إصلاحهم السَّير معهم وفق الضوابط التي ذكرها الفقهاء أجلَّهم الله في رسائلهم العملية في باب (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) ؛ حيث ذكروا لذلك ثلاث مراحل علاجية:
المرحلة الأولى: الوعظ باللسان أمراً ونهياً.
والثانية: إبراز الكراهة له والإعراض عنه بنحو الكراهية له والنفور.
والثالثة: الضرب.
ولهذه الثلاثة ضوابط أيضاً: فمثلاً الأولى والثانية ، يراعى فيهما حال ذلك الشخص ؛ هل يستجيب بالأولى أم لا؟
فإذا كنا نعلم بأنها لا تنفع معه ، فيجوز الانتقال مباشرة للثانية دون العمل بالأولى.
وكذا إذا علمنا بأنه لا يستجيب بالثانية أيضاً ، فيصار مباشرة للثالثة دون العمل بالأولى والثانية. لكن هذا كما ترى يعني التجريب عليه سابقاً بالأولى والثانية ؛ لذا حصل العلم بأنه لا يستجيب فجاز الانتقال مباشرة للمرحلة الثالثة.
وأما المرحلة الثالثة فهي -مورد الكلام- خاصة بالفقيه ، الذي هو الحاكم الشرعي. والفقيه له نواب ووكلاء ، فهؤلاء النواب والوكلاء إذا كانت لهم وكالة في هذا الأمر من جهة الحاكم الشرعي ؛ فلهم أيضاً تأديب ذلك الشخص ضرباً.
هذا من ناحية القانون.
وأما التشهير به الذي هو محل سؤالكم ، فيصار إليه في المرحلتين الأولى والثانية ؛ لأن النصح باللسان فيه جهة تشهير عندما يمارسها الناصح الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر ؛ وذلك فيما لو مارسها أمام الناس مع ذلك الشخص الفاعل للمنكر.
وكذا الثانية ؛ لأن الإعراض عنه بنحو الجفاء والكراهية له ، إذا حصل أمام الآخرين فهو أيضاً تشهير به ؛ لذا كانت الغِـيبة في الشريعة تشمل القول والإشارة والكتابة.
وعليه ؛ إذا كان فساد ذلك الشخص من نوع الصغريات ؛ فلا يجوز التشهير به في المرحلتين الأولى والثانية ؛ الصغريات: أعني بها صغائر الذنوب.
وأما إذا كان فساده في كبائر الذنوب ؛ فالتشهير به يجوز ، بل يجب ، لكن بشرائط من قبيل:
1- مراعاة المرحلة الأدنى ثم الترقي للمرحلة الأشد.
2- أن يكون التشهير به طريقاً لإصلاحه ؛ أي بأن تكون غِيبته تؤدي إلى اهتدائه أو ردعه ؛ لذا بعض الفقهاء قيد جواز غيبة الفاسق بما إذا كانت غيبته التشهير به يوجب صلاحه أو ردعه ، بينما بعض الفقهاء اَطْـلَق وقال لا غيبة لفاسق مطْـلَقاً ؛ وذلك من باب النهي عن المنكر له ولغيره ومَنْعِ إشاعة المنكر.
وعلى كلِّ حال فالأوجَه فيما يراه نظري الوضيع هو الأول ؛ أي غِيبته فيما إذا كان ذلك يصلحه أو يردعه ، فإن لم يـَـترك فليس له إلا الضرب ، فإن لم يـَـنفع فالحبس ، أو ما يراه الحاكم الشرعي في حقه بما يناسب الظرف والحال.
هذا كله طبعاً في فاعل المنكر الذي هو من عامة الناس ، لا الذي من قبيل أهل العلم ؛ فأهل العلم أمرهم يختلف ، وفيه تشديد أكبر وأشد.
لكن ؛ علينا أن نكون رحماء اَحِـبَّة ، نَصْدق الله في القول والفعل ، وأن نرفق بالبسطاء والضعفاء والجاهلين كما هو ديننا دين المحبة والرحمة ، وأن نبحث عن أسباب فساده وعلَّة إفساده ، لربما يعاني من مشكلة أسرية ، أو ضائقة مالية ، أو عقد نفسانية ، أو ما اَشبه ذلك كالعُقَد الفكرية.
فنبحث عن الأسباب ، ونستجذبه ، ونُسْمعه الكلمة الرحيمة الودودة المؤثرة ، خصوصاً وأنه كما تذكرون يراوِد المسجد ومجالس الخير والهِداية ، فالدِّين مليء بالقِيـَم المؤثرة ، ويمكن تهجينه بالمال أيضاً كما فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع بعض مرتكبي المنكر.
علماً أنه لا يجوز الانتقال للمرحلة التأديبية الأشد إلا بعد اليأس من المرحلة الأدنى ، وإلا كان المصــْـلِح مفسِداً وهو من يحتاج للإصلاح والتعديل ، فمثلاً ورد في الخبر: الغِيبة أشد من ستٍ وثلاثين زنية. وفي خبرٍ آخر:
لَـمَّا رجم النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجل الزنا قال رجل من الحاضرين لصاحبه: لقد اُقْعِصَ هذا كما يُقْعَصُ الكلب. فسمعهما النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فمَرَّ بهما على جيفة ، فقال لهما: انهَشا منها. قالا: يا رسول الله! أننهش من جيفة؟! فقال صلى الله عليه وآله وسلم: نعم ؛ إنّ ما اَصبتما من صاحبكما اَنتَن من هذه.
وفي خبرٍ آخر بما مضمونه: يجيء العبد يوم القيامة ، فيجد أعمال خيرٍ لم يفعلها ، فيقول: يا رب! هذا ليس كتابي ، فإني أجد فيه أعمالاً كثيرة لم أفعلها! فيقال: هذه حسنات فلان أعطيناك إياها بغيبته إياك. ويجيء آخر فيقول: إلهي! ما هذا بكتابي ، إنّ لي أعمالاً كثيرة لا أجدها فيه! فيقال له: إنّ ربك لا يَضل ولا يـَـنسَى ، لقد ذهبتْ أعمالك باغتياب الناس.
وغيرها من الأحاديث المخيفة والمهيبة.
لذا ؛ يجب مراعاة حدود الله ، وأن نخلص النية في الإصلاح ، وأن نكون رحماء بالجُهّال والضعاف ، وأن لا نعمل بمرتبة إلا بعد اليأس من الأدنى منها ، ونصبر ، ولا نقنط من رَوح الله ، ونبتهل له بالدعاء سراً ، فدعاء الأخ لأخيه في ظهر الغيب مستجاب ، ونراقب أنفسنا ونيتنا ، فالنية قد تنقلب في وسط العمل ،
فالحذر من انقلاب النوايا ، فعن عليٍّ عليه الصلاة والسلام قال:
تخليصُ النيةِ من الفَساد أشدُّ على العاملِين من طُولِ الجهاد.
وكذا يجب أن لا نتثاقل عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ فهو من فروع الدين الكبرى ، مثله مثل الصلاة ، وفي مفاد الخبر: ما تَرك الناس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا سَلَّطَ الله عليهم شِرارهم ، فيـَدْعون الله فلا يستجاب لهم.
فالتوازن يا أخي العزيز.
رعاك الله وأدام لك الصحة والعافية ، وبصَّرَنا بضعفنا وجهلنا ونقائصنا ، والحمد لله ، أولاً وآخراً ، والصلاة والسلام على نبينا المصطفى محمد وآله الطاهرين وصحبه المنتجَبين.
أمين السعيدي
ربيع الأول – قم المقدسة
للتعلیق أو مطالَعة التعلیقات اضغط هنا