أبو جعفر الباقر (ع) وحادثة السهام المحيِّرة
طرح وتقديم طالبة العلم العضوة الفاضلة: 【يا صاحب الزمان】
مراجَعة وتصحيح سماحة: السيد أمين السعيدي حفظه الله
أضاء وجه العلمِ و الرسومـــي .. بنورِ وجهِ باقــر العلومي
تعساً و بؤساً لهشام الشُؤومي .. من هتكهِ لباقر العلـومي
ببقيع الفرقد نقف ناعين ونجري دموع مسفوحة على قبور الآل ، وبقلوبنا جراح نازفة لحبهم ، باحثون عن مرقد فاطم الطهرِ ، لنعزية بالمسموم أبي جعفر .. فسلامٌ عليك يا أهل بيت النبوة ، سلامٌ عليك يا حجة الله في أرضه..
تتقدم مؤسَّسة أنبياء أولي العزم (ع) ببالغ الحزن والأسى في ذكرى استشهاد الإمام محمد الباقر عليه السلام ، رفعة أحر التعازي والمواساة لبقية الله في أرضه وسمائه مولانا وولينا و إمامنا الحجة ابن الحسن عجل الله فرجه .. وإلى مراجعنا العظام وكافة الشيعة والموالين ..
من مصب العداء والمكائد والخداع في حق أهل البيت لا يحق للناس أن يختاروا إمامهم حسب رغباتهم. وسواء كان الإمام معاشرهم أم اعتزل وأصبح جليس داره ، فهذا لا يؤثّر على مكانته ولا منصبه للإمامة ؛ لأن الإمامة كالرسالة منصب إلهي وفيض رباني لمن يختاره الله عز وجل.
لكن الغاصبون والغادرون كانوا دائماً ينظرون بعين الحقد والحسد ليسلبوا الخلافة التي هي من شؤون الإمام المعصوم ، وليشكلوا الإمامة بأي شكل في سبيل تحيق أهدافهم.
ومن هذا ما قد قارن مرحلة إمامة الإمام الباقر عليه السلام والحكومة الجائرة لهشام بن عبدالملك الأموي ، فالأمويون كانوا يعلمون بأنهم إذا استطاعوا أن يسلبوا مكانة الإمام عليه السلام فسيستولوا على الحكم بالظلم والجور.
لذا في أحد الأعوام جاء هشام مقبلاً على الحج ، وكان الإمام عليه السلام من ضمن الحجيج ، فخطب الإمام الصادق عليه السلام خطبة أمام حشود من الناس ، وكان من بينهم مسلمة أخو هشام.
فقال الإمام:
(الحمد لله الذي بعث محمداً بالحق نبياً ، وأكرمنا به ، فنحن صفوة الله على خلقه ، وخيرته من عباده ، فالسعيد من تبعنا ، والشقي من عادانا وخالفنا) ، فلما سمع مسلمة ذلك بادر إلى أخيه وأخبره بما سمع ، فأخفاها هشام في نفسه ، ولم يتعرض للإماميين عليهما السلام بسوء ، إلى أن رجع إلى دمشق ، فأمر بإحضارهم إليه ، وحجبهما ثلاثة أيام ، لم يسمح لهما بمقابلته واستهان بهما ، إلى اليوم الرابع ، فأذن لهما ، وداره مكتظة بالأمويين وسائر قومه ، وكانوا يرموهما بالسهام.
يقول الإمام الصادق عليه السلام:
فلما دخلنا ، كان أبي أمامي وأنا خلفه ، فنادى هشام: يا محمد ارم مع أشياخ قومك. فقال أبي: (قد كبرت عن الرمي ، فإن رأيتَ أن تعفيني).
فصاح هشام:
وحق من أعزنا بدينه ، وبنيه محمد (صلّى الله عليه وآله ويلم) لا أعفيك.
لقد ظن الطاغية أن الإمام سوف يخفق في رمايته فيتخذ ذلك وسيلة للحط من شأنه أمام الغوغاء من أهل الشام ، وأومأ إلى شيخ من بني أمية أن يناول الإمام عليه السلام قوسه ، فناوله ، وتناول معه سهماً فوضعه في كبد القوس ، ورمى به الغرض فأصاب وسطه ، ثم تناول سهماً فرمى به فشق السهم الأول إلى نصله ، وتابع الإمام الرمي حتى شق تسعة أسهم بعضها في جوف بعض ، ولم يحصل بعض ذلك إلى أعظم رام في الكون ، وجعل هشام ، يضطرب من الغيظ وورم أنفه ، فلم يتمالك أن صاح:
يا أبا جعفر! أنت أرمى العرب والعجم!! وزعمت أنك قد كبرت!!
ثم أدركت هشام الندامة ، فأطرق برأسه الأرض والإمام عليه السلام واقف ، ولما طال وقوف الإمام غضب عليه السلام ، وبات على وجهه الشريف الغضب ، وكان إذا غضب نظر إلى السماء ، ولما بصر هشام غضب الإمام عليه السلام قام إليه واعتنقه ، وأجلسه عن يمينه ، وأقبل عليه بوجهه قائلاً: يا محمد! لا تزال العرب والعجم تسودها قريش مادام فيها مثال لك لله درك!! من علمك هذا الرمي؟! وفي كم تعلمته؟! أيرمي جعفر مثل رميك؟ فقال أبو جعفر عليه السلام: (إنا نحن نتوارث الكمال).
وثار الطاغية ، واحمر وجهه ، وهو يتمزق من الغيظ ، وأطرق برأسه إلى الأرض ، ثم رفع رأسه ، وراح يقول: ألسنا بنو عبد مناف نسبنا ونسبكم واحد؟
فرد عليه الإمام مزاعمه قائلاً:
(نحن كذلك ، ولكن الله اختصنا من مكنون سره وخالص علمه بما لم يخص به أحد غيرنا). وطفق هشام قائلاً: أليس الله بعث محمداً (صلّى الله عليه وآله وسلم) من شجرة عبد مناف إلى الناس كافة أبيضها وأسودها وأحمرها، فمن أين ورثتم ما ليس لغيركم؟ ورسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) مبعوث إلى الناس كافة ، وذلك قوله عز وجل {ولله ميراث السماوات والأرض}[1] ، فمن أين ورثتم هذا العلم؟ وليس بعد محمد نبي ، ولا أنتم أنبياء.
فرد عليه الإمام ببالغ الحجة قائلاً:
(من قوله تعالى لنبيه: {لا تُحَرِّك بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ}[2] ، فالذي لم يحرك به لسانه لغيرنا أمره الله تعالى أن يخصنا به من دون غيرنا ، فلذلك كان يناجي أخاه علياً من دون أصحابه ، وأنزل الله به قرآناً في قوله: {وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ}[3].
فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم):
سألت أن يجعلها أذنك يا علي، فلذلك قال علي عليه السلام: علَّمني رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) ألف باب من العلم يفتح من كل باب ألف باب ، خصه به النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) من مكنون سره ، كما خص الله نبيه ، وعلمه ما لم يخص به أحداً من قومه ، حتى سار إلينا فتوارثناه من دون أهلنا)
التاع هشام ، والتفت إلى الإمام عليه السلام وهو غضبان قائلاً: إن علياً كان يدعي علم الغيب؟ والله لم يطلع على غيبه أحداً ، فمن أين ادعى ذلك؟!
فأجابه الإمام عليه السلام بالواقع المشرق من جوانب حياة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام قائلاً: (إن الله أنزل على نبيه كتاباً بين دفته فيه ما كان وما يكون إلى يوم القيامة في قوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْياناً لِكُلِّ شيْء}[4]، وفي قوله تعالى: {وَكُلَّ شَيْء أَحْصَيْنَاهُ فِي إمَام مُبــِيْن}[5] ، وفي قوله تعالى: {ما فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْء}[6] ، وفي قوله تعالى: {وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاء وَالأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبــِيْنٍ}[7] ، وأوحى الله إلى نبيه أن لا يبقي في غيبة سره ، ومكنون علمه شيئاً إلا يناجي به علياً ، فأمره أن يؤلف القرآن من بعده ، ويتولى غسله وتحنيطه من دون قومه ، وقال لأصحابه:
حرم على أصحابي وقومي أن ينظروا إلى عورتي غير أخي علي ، فإنه مني ، وأنا منه ، له ما لي وعليه ما علي ، وهو قاضي دَيني ، ومنجز وعدي ، ثم قال لأصحابه: علي بن أبي طالب يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله ، ولم يكن عند أحد تأويل القرآن بكماله وعامه إلا عند علي ، ولذلك قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): عَليٌ أقضاكُم؛ أي هو قاضيكم ، وقال عمر بن الخطاب: لولا علي لهلك عمر ، يشهد له عمر ويجحده غيره).
فأطرق هشام برأسه إلى الأرض ، ولم يجد منفذاً يسلك فيه للرد على الإمام عليه السلام فقال له: سَلْ حاجتك.
قال الإمام عليه السلام:
(خلَّفتُ أهلي وعيالي مستوحشين لخروجي). قال هشام: آنس الله وحشتهم برجوعك إليهم ، فلا تـُقِمْ وسِرْ من يومك[8].
فبقي هشام صامتاً .. وغادر الإمام عليه الصلاة والسلام مجلسه .. إلى أن دَسَّ إليه السم النّقيع شوى به كبده وأحرق عليه العيون.
(السّلام عليك يا باقر علم النّبيين ، وإمام الهدى ، وقائد أهل التقوى ، المنتجب اللهم من عبادك ، ومناراً لبلادك، ومستودعاً لحكمتك ، ومترجماً لوحيك ، وولياً لخلقك ، اللهم أبلغه عنا سلاما)
نسأل المولى القدير أن يتقبل منا ومنكم العزاء بخير قبول .. آجركم الله.
____________________________
المصادر:-
[1] سورة آل عمران، الآية 180.
[2] سورة القيامة، الآية 16.
[3] سورة الحاقة، الآية12.
[4] سورة النحل، الآية 89.
[5] سورة يس، الآية 12.
[6] سورة الأنعام، الآية38.
[7] سورة النمل، الآية 75.
[8] حياة الإمام محمد الباقر ج 2 ص 64 عن ضياء العالمين “الشيخ علي بن الحسن الطاطري الكوفي” ج 2 ودلائل الإمامة “محمد بن جرير الطبري” ص 104 ـ 106.
للتعلیق أو مطالَعة التعلیقات اضغط هنا