لماذا أَضمَرَ الله الأسماء ووصَفَها؟ (مناقشة وتصحيح)
عناوين هذا الكلام كما يلي:
- ذِكْرُ عدة أمثلة إثباتية لمحور الكلام (وفيه أربعة أمثلة موجزة).
- بيان مركز البحث: ضمن السؤال (لماذا أَضمَرَ الأسماء ووصَفَها وكَنَّاها؟).
- الجواب (وفيه استعراض لأقوال بعض السنة والشيعة).
- تقييم للأقوال وصياغة بديل صحيح.
فبيان جميع هذه الأمور بإيجاز كما يلي:
- أمثلة إثباتية لمحور الكلام:
ذكرهم القرآن مجموعةً من الشخصيات بصفاتهم دون أسمائهم، وهنا نذكر بعض الأمثلة ومن ثم ندخل في أصل الكلام المقصود في المقام؛ فمنهم الأمثلة التالية:
المثال الأول:
قوله تعالى:
{أَلَمْ تَرَ إلى الْمَلَإِ مِن بَنِي إسرائيلَ مِن بَعْدِ مُوسى إذْ قالُوا لِنَبيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً ..}[البقرة: 246]؛ من بعدِ موسى أي بعد ما قبض الله روح نبيه موسى عليه الصلاة والسلام، إذ قال وجوه بني إسرائيل وأشرافهم ورؤساؤهم لنبي لهم ابعث لنا ملكاً …
وأما من هو هذا النبي المذكور كنايةً بصفته؟ فهو محل خلافٍ بين المفسِّرين؛ فمنهم –كما يذكر الطبري- من ذهب إلى أنه شمويل بن بالى بن علقمة بن يرحام بن إليهو بن تهو بن صوف بن علقمة بن ماحث بن عموصا بن عزريا بن صفنية بن علقمة بن أبي ياسف بن قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، أو كما هو مكتوب في الكتاب المقدَّس في أخبار الأيام الأُوَل في الإصحاح السادس: صموئيل. كما ورد الاختلاف في سلسلة هذا النَّسَب بالزيادة أو الإنقاص وبإثبات حروف الأسماء.
ومنهم من ذهب إلى أنه شمعون؛ سمِّي شمعون لأن أمه دعت الله أن يرزقها غلاماً, فاستجاب لها دعاءها, فولدت غلاما فسمته شمعون، تقول: الله تعالى سمع دعائي.
ومنهم من ذهب إلى أنه شمؤل.
ومنهم من قال هو يوشع بن نون بن أفراثيم بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، وهو –يوشع- أحد الرجلين اللذين أنعم الله عليهما[1]؛ أي في قوله عز وجل: يعني المذكورَين في قوله تعالى {قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا}[سورة المائدة : 23].
وفي نصوص من التوراة والإنجيل في النبوات والأنبياء الصادر عن مركز المصطفى صلى الله عليه وآله جاء في عنوان الهدى إلى دين المصطفى للبلاغي في حِواريَّته نقلاً عن الكتاب المقدَّس:
(ثانياً: إن كتابك يقول: إن الذي طلب منه بنو إسرائيل أن يجعل لهم ملكاً هو نفس صموئيل، وإن طالوت ’’شاول‘‘ ملك في حياة صموئيل انظر ’’1 صم 10 – 25 ، 1‘‘)[2].
وقيل أشموئيل هو بالعربية إسماعيل.
ومِثلما ذكره الطبري أيضاً ذكر البغوي، حيث ذكر ذلك في تفسيره مع شيء من التفصيل[3]، وأما تفسير ابن كثير؛ ففيه:
(قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: هذا النبي هو يوشع بن نون. قال ابن جرير: يعني ابن أفراثيم بن يوسف بن يعقوب. وهذا القول بعيد; لأن هذا كان بعد موسى بدهر طويل، وكان ذلك في زمان داود عليه السلام، كما هو مصرح به في القصة وقد كان بين داود وموسى ما ينيف عن ألف سنة والله أعلم.
وقال السدي: هو شمعون وقال مجاهد: هو شمويل عليه السلام. وكذا قال محمد بن إسحاق عن وهب بن منبه وهو: شمويل بن بالي بن علقمة بن يرخام بن إليهو بن تهو بن صوف بن علقمة بن ماحث بن عموصا بن عزريا بن صفنيه بن علقمة بن أبي ياسف بن قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليه السلام …)[4]؛ فكل من ذكروا الرأي في اسم النبي المذكور في الآية المباركة لم يذكروا رواية واحدة اسندوا فيه إليها.
المثال الثاني:
قوله تعالى:
{أوْ كالَّذي مَرَّ على قَرْيةٍ وهِيَ خاوِيةٌ على عُرُوشِها قالَ أنَّى يُحْيِي هذهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها، فأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ، قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوماً أوْ بَعْضَ يَومٍ قالَ بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فانظُرْ إلى طَعامِكَ وشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وانظُرْ إلى حِمارِكَ ولِنَجْعَلَكَ آيةً لِّلنَّاسِ وانظُرْ إلى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُها ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً، فلَمَّا تَبَيَّنَ لهُ قالَ أعْلَمُ أنَّ اللهَ على كُلِّ شَيْءٍ قَديرٌ }[البقرة: 259].
خاوية أي خالية، وعروشها جمع عرش أي بيوتها ومساكنها وأبنيتها، وجمع قليل عرش هو أَعْرُش، والعرب تطْلق على كل بناء مسمى عرش، فالعرش في اللغة هو ما له سقف وقد يُطلَق على نفس السقف من باب إطلاق الكُل على الجُزء أو إطلاق الكُل على الأبرز من ناحيته الخاصة، ومنه قوله تعالى: {مَعْروشاتٍ وغَيْرَ معروشاتٍ}[الأنعام: 141] وقوله عز وجل {وأوْحَى رَبُّكَ إلى النَّحْلِ أنِ اتَّخِذِي مِنَ الجِبالِ بُيُوتاً ومِنَ الشَّجَرِ وممّا يَعْرِشُون}[النحل: 68] وقوله سبحانه {وأَوْرَثْنا القَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُستضعَفونَ مَشارِقَ الأرضِ ومَغارِبَها الَّتي بارَكْنا فِيها … ودَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرعونُ وقَوْمُهُ وما كانُوا يَعْرِشُونَ}[الأعراف: 137]، فإذا أضيفت الكلمة لموصوفها أخذت معناه المتعاهَد؛ ومن ذلك قولك: عرشُ السلطان أو عرش الملك كناية عن الحُكم، أو عريش مكَّة أي خيامها وأبنيتها، وعرش الله أي عالَم الوجود وساحة حُكمه العظمى اللامتناهية. ثمَّ بعثه أي أحياه بعد مماته.
ولم يَتسنَّه فيه قراءتان: قراءة عامة قراء أهل الكوفة وهي بحذف الهاء في الوصل وإثباتها في الوقف مع القول بأنها زائدة أي لم يتسنَّ، وقد قال قوم هو مأخوذ من قوله تعالى {مِن حَمَإٍ مَسْنون} أي المتغير، وقراءة عامة قراء الحجاز وهي بإثبات الهاء وصلاً ووقفاً على الأصل، فلم يتسنه أي لم يأتِ عليه السنون فيتغير، وانظر إلى حمارك أراد أن الحمار بقي قد تهالك لحمه وعظمه وعصبه وبارت عروقه بمئة عام فأحياه أمامه فقام.
وننشزها فيها أكثر من قراءة: قراءة الكوفيين نُنشزها بضم النون وبالزاء والنشجز هو الاتفاع، تقول للموضع المرتفع من الأرض نشزَ ونشْز ونشاز ومنه نشوز المرأة، أي انظر إلى العظام كيف نرفعها ونركِّب بعضها فوق بعض، وقراءة قراء المدينة بضم النون وبالراء نُنشرها قالوا أي انظر إليها كيف نحييها ..
وفي تفسير الطبري:
({وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما} فكان أول شيء أحيا الله منه [أي من نبيه] رأسه, فجَعل يَنظر إلى سائر خلقه يُخلق) [5].
واختلف المفسِّرون أيضاً بهويّة الشخص المذكور في الآية؛ فمنهم –على ما ذكره الطبري- مَن ذهب إلى أنه عزير. وقال آخرون: هو إرميا بن حلقيا وزعم محمد بن إسحاق أن إرميا هو الخضر. فنَقَل: (حدثنا بذلك ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, قال: حدثنا ابن إسحاق, قال: اسم الخضر فيما كان وهب بن منبه يزعم عن بني إسرائيل, إرميا بن حلقيا, وكان من سبط هارون بن عمران). وذَكر فيمن قال ذلك: (حدثنا الحسن بن يحيى, قال: أخبرنا عبد الرزاق, قال: حدثنا عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه يقول في قوله {أنى يحيي هذه الله بعد موتها} إنّ إرميا لما خرب بيت المقدس وحرقت الكتب, وقف في ناحية الجبل, فقال {أنى يحيي هذه الله بعد موتها} …، حدثني محمد بن عمرو, قال: حدثنا أبو عاصم, عن عيسى بن ميمون, عن قيس بن سعد, عن عبد الله بن عبيد بن عمير في قول الله {أو كالذي مر على قريه وهي خاوية على عروشها} قال: كان نبياً وكان اسمه إرميا … انتهى.
… فلما عايَن من قدرة الله ما عاين قال: أعلم أن الله على كل شيء قدير, ثم عَمَّرَ الله إرميا بعد ذلك, فهو الذي يُرى بفلوات الأرض والبلدان)[6].
أقول: لو قلنا بمثل هذه المقالة في الإمام المهدي عليه الصلاة والسلام؛ لَشنَّعَ علينا القوم من إخوتنا بذلك وسفَّهوا عقولنا!
وفي تفسير الميزان قال:
(التدبر في الآية يعطي أن الرجل كان من صالحي عباد الله، عالماً بمقام ربه، مراقِباً لأمره، بل نبياً مكلَّماً فإن ظاهر قوله: أعلم أن الله، أنه بعد تبيُّن الأمر له رجع إلى ما لم يزل يعلمه من قدرة الله المطْلَقة، وظاهر قوله تعالى: ثم بعثه قال كم لبثت، أنه كان مأنوساً بالوحي والتكليم، وأن هذا لم يكن أول وحي يوحى إليه وإلا كان حق الكلام أن يقال: فلما بعثه قال الخ أو ما يشبهه كقوله تعالى في موسى عليه السلام: {أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ}[طه: 12]، وقوله تعالى فيه أيضاً: {فَلَمّا أَتاها نُودِي مِن شَاطِئِ الوادِي الأيْمَنِ}[القصص: 30]) [7] انتهى.
ثم في عنوان ’’بحث روائي‘‘ اكتفى العلامة بالقول في تحديد اسم الشخص:
(وفي عدة من الروايات التي روتها العامة والخاصة في قوله تعالى: أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها الآية ان صاحب القصة أرميا النبي وفي عدة منها: انها عزير، الا انها آحاد غير واجبة القبول، وفي اسانيدها بعض الضعف، ولا شاهد لها من ظاهر الآيات، والقصة غير مذكورة في التوراة، والتي في الروايات من القصة طويلة فيها بعض الاختلاف لكنها خارجة عن غرضنا من أرادها فليرجع إلى مظانها) [8] انتهى.
المثال الثالث:
قال تعالى:
{فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبَادِنا آتَيْناهُ رَحمةً مِنْ عِنْدِنا وعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنّا عِلْماً}[الكهف: 65]؛ فوجدا أي نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام وفتاه يوشع بن نون. عبداً من عبدانا أي النبي الخضر عليه السلام.
قال العلامة في تفسير الميزان:
(في تفسير البرهان عن ابن بابويه باسناده عن جعفر بن محمد بن عمارة عن أبيه عن جعفر بن محمد عليه السلام في حديث: إن موسى لما كلمه الله تكليما، وأنزل عليه التوراة، وكتب له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء، وجعل آية في يده وعصاه وفي الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم وفلق البحر وغرق الله فرعون وجنوده عملت البشرية فيه حتى قال في نفسه: ما أرى الله عز وجل خلق خلقا أعلم مني فأوحى الله إلى جبرئيل: أدرك عبدي قبل أن يهلك، وقل له: إن عند ملتقى البحرين رجلا عابدا فاتبعه وتعلم منه.
فهبط جبرئيل على موسى بما أمره به ربه عز وجل فعلم موسى أن ذلك لما حدثته به نفسه فمضى هو وفتاه يوشع بن نون حتى انتهيا إلى ملتقى البحرين فوجدا هناك الخضر يعبد الله عز وجل كما قال الله في كتابه: “فوجدا عبداً من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما” الحديث.
أقول: والحديث طويل يذكر فيه صحبته للخضر وما جرى بينهما مما ذكره الله في كتابه في القصة.
وروى القصة العياشي في تفسيره بطريقين، والقمي في تفسيره بطريقين مسنداً ومرسلا، ورواه في الدر المنثور بطرق كثيرة من أرباب الجوامع كالبخاري ومسلم والنسائي والترمذي وغيرهم عن ابن عباس عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم)[9].
إلا أنه وقع الخلاف بين المفسرين في أن الخضر من الأنبياء أم لا! والأكثر ذهبوا إلى أنه نبي؛ ومن الدليل القرآني على كون الخضر من الأنبياء قوله في آخر قصته من الآية: {وما فعلتُهُ عن أَمري}[الكهف: 82]؛ يعني أنه فعله بوحي من الله تعالى إليه فيه.
وغير هؤلاء الثلاثة الذين ذكروا في القرآن بالوصف دون الاسم؛ كالأسباط؛ قال تعالى: {قُولوا آمَنّا باللهِ وما أُنزِلَ إلينا وما أُنزِلَ إلى إبراهيمَ وإسماعيلَ وإسحاقَ ويعقوبَ والأسباطِ وما أوتيَ موسى وعيسى وما أوتيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ ونَحْنُ لهُ مُسْلِمُونَ}[البقرة: 136] ..
- مركز البحث:
لماذا أَضمَرَ الأسماء ووصَفَها وكَنَّاها؟
وهنا ينقدح في النفس سؤال مُلِح؛ وهو أنّه لماذا لم يذكر الله تعالى أسماء الأنبياء الذين أشار لهم في القرآن الكريم؟
الجواب:
ذكر العلماء تبريراً لذلك نذكر منهم ما يلي:
أولاً: (مِن أساطين علماء إخواننا السنة).
قال الطبري في تفسيره لآية {أوْ كالَّذي مَرَّ على قَرْيةٍ وهِيَ خاوِيةٌ على عُرُوشِها قالَ أنَّى يُحْيِي هذهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها} بعد أن استعرضَ الأسماء المذكورة في بيان اسم القائل:
(وأَولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إنّ الله تعالى ذِكره عجب نبيه صلى الله عليه وسلم ممن قال إذ رأى قرية خاوية على عروشها {أنى يحيي هذه الله بعد موتها} مع علمه أنه ابتدأ خلقها من غير شيء, فلم يقنعه علمه بقدرته على ابتدائها, حتى قال: أنى يحييها الله بعد موتها! ولا بيان عندنا من الوجه الذي يصح من قِبَلِه البيان على اسم قائل ذلك, وجائز أن يكون ذلك عزيراً, وجائز أن يكون إرميا, ولا حاجة بنا إلى معرفة اسمه, إذ لم يكن المقصود بالآية تعريف الخلق اسم قائل ذلك.
وإنما المقصود بها تعريف المنكرين قدرة الله على إحيائه خلقه بعد مماتهم, وإعادتهم بعد فنائهم, وأنه الذي بيده الحياة والموت من قريش, ومن كان يكذب بذلك من سائر العرب, وتثبيت الحجة بذلك على من كان بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهود بني إسرائيل بإطلاعه نبيه محمد صلى الله عليه وسلم على ما يزيل شكهم في نبوته, ويقطع عذرهم في رسالته, إذ كانت هذه الأنباء التي أوحاها إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم في كتابه من الأنباء التي لم يكن يعلمها محمد صلى الله عليه وسلم وقومه, ولم يكن عِلْم ذلك إلا عند أهل الكتاب, ولم يكن محمد صلى الله عليه وسلم وقومه منهم, بل كان أميا وقومه أميون, فكان معلوماً بذلك عند أهل الكتاب من اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجره أن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يعلم ذلك إلا بوحي من الله إليه.
ولو كان المقصود بذلك الخبر عن اسم قائل ذلك لكانت الدلالة منصوبة عليه نصباً يقطع العذر ويزيل الشك, ولكن القصد كان إلى ذم قيله, فأبان تعالى ذكره ذلك لخلقه. واختلف أهل التأويل في القرية التي مر عليها القائل: {أنى يحيي هذه الله بعد موتها} فقال بعضهم: هي بيت المقدس)[10].
ثانياً: (مِن أساطين علماء الشيعة).
قال العلامة في تفسيره الميزان:
(وقد أَبهم الله سبحانه اسم هذا الذي مر على قرية واسم القرية والقوم الذين كانوا يسكنونها، والقوم الذين بعث هذا المار آية لهم كما يدل عليه قوله ولنجعلك آية للناس، مع أن الأنسب في مقام الاستشهاد الإشارة إلى أسمائهم ليكون أنفى للشبهة.
لكن الآية وهي الإحياء بعد الموت وكذا أمر الهِداية بهذا النحو من الصنع لَمّا كانت أمراً عظيماً، وقد وقعت موقع الاستبعاد والاستعظام، كان مقتضى البلاغة أن يعبِّر عنها المتكلم الحكيم القدير بلحن الاستهانة والاستصغار لكسر سورة استبعاد المخاطب والسامعين كما أن العظماء يتكلمون عن عظماء الرجال وعظائم الأمور بالتصغير والتهوين تعظيماً لمقام أنفسهم، ولذلك أَبهم في الآية كثير من جهات القصة مما لا يتقوم به أصلها ليدل على هوان أمرها على الله، ولذلك أيضاً أبهم خصم إبراهيم في الآية السابقة وأبهم جهات القصة من أسماء الطيور وأسماء الجبال وعدد الأجزاء وغيرها في الآية اللاحقة.
وأما التصريح باسم إبراهيم عليه السلام فإنّ للقرآن عناية تشريف به عليه السلام، قال تعالى: {وتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إبراهيمَ على قَوْمِه}[الأنعام: 83]، وقال تعالى: {وكَذَلِكَ نُرِي إبراهيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ والأَرْضِ ولِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ}[الأنعام: 75]، ففي ذكره عليه السلام بالاسم عناية خاصة.
ولما ذكرناه من النكتة ترى أنه تعالى يذكر أمر الإحياء والإماتة في غالب الموارد من كلامه بما لا يخلو من الاستهانة والاستصغار، قال تعالى: {وهُوَ الَّذي يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ولَهُ المَثَلُ الأَعْلى في السَّماواتِ والأَرضِ وهُوَ العَزِيزُ الحكيمُ}[الروم: 27]، وقال تعالى: {قال ربِّ أَنَّى يَكون لي غُلام -إلى قوله- : قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ ولَمْ تَكُ شَيْئاً}[مريم: 9])[11].
ثالثاً: (تقييم للأقوال وصياغة بديل صحيح).
أقول: الصحيح أن يقال إنّ الاسم في مثل هذه الموارد له ملاكات وأهمية كبرى ناشئة من علل إلهية حكيمة وبليغة بل وفي أقصى درجات البلاغة والغَرَض، وليس كما ذهب إليه الطبري وغيره، ناهيك عما في كلام الطبري من مؤاخَذات على بعض جوانبه الأخرى؛ كقوله بأن النبي المذكور في الآية لم يقنعه علمه بقدرة الله تعالى على ابتداء خَلْقِ القرية الخاوية على عروشها مع علمه أنه ابتدأ خلقها من غير شيء ورغم إقرار الطبري بأن المذكور نبيٌّ، وغير ذلك،
كما أنّ العلامة الطباطبائي وإن كان أقرَّ بغرضية إخفاء الاسم وأبرز له بعض الوجوه، إلا أنّ ما ذكره يرد عليه مجموعة إيرادات؛ منها أنّ بعض الشواهد التي ذكرها موضوعها مختلف عن موضوع الآية، وبعضها يرد عليه نقضاً نفس ما ذكره من العلة؛ إذ أنّ مقتضى العلة التي ذكرها من الاستهانة والاستصغار عند ذكر الله للإحياء والإماتة مطَّرِد في قضية إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك لم يضمر الله تعالى اسمه؛ نعم؛ غاية الأمر أنّ إبراهيم عليه الصلاة والسلام له خصوصية هي على ما يظهر من كلام العلامة التشريف؛ وبالتالي يصح كلام العلامة من هذه الناحية في حال التسليم بأنّ التشريف هنا أهم من الاستهانة والاستصغار الإلهي بالإماتة والإحياء فقُدِّم عليه. كما أنّ مما يرد على ما ذهب إليه أيضاً قوله (كما أن العظماء يتكلمون عن عظماء الرجال وعظائم الأمور بالتصغير والتهوين تعظيماً لمقام أنفسهم) حيث أنه قياسٌ مع الفارق،
وإن تَنزَّلنا في القياس بوجهٍ من الشَّبَه؛ فإنّ هذا ليس دائماً صفة وسجيّة العظماء؛ فيُحتمَل ويُحتمَل، وإذا وردَ الاحتمال بطل الاستدلال، وغير ذلك؛ إلا أنّ المهم في المورد هو أن نذكر الملاكات والعلل والأغراض التي عنها نشأ هذا الفعل الإلهي البالغ في حكمته بإخفائه الاسم في مثل هذه الأحوال؛ منها على سبيل المثال ما يلي:
- أ- معلومٌ أن الأنبياء تختلف درجاتهم عند الله تعالى؛ فالرسل لا شك أنّهم أعظم درجة عند الله من الأنبياء، وإبراز ذلك يتطلَّب أسلوباً فنياً من الخطاب يشير إليه؛ بالتالي فإنّ هذا النحو من الذِّكر قد يُشَكِّل مؤشِّراً بدرجةٍ ما على الأفضلية وعلى هذا التمايز الذي بدوره له حِكَم بالغة؛ منها معرفة الشرائع الإلهية وحركتها في تاريخ البشرية وتمامية الحُجج الإلهية على الناس، ومعرفة الفارق العقَدي والعلمي بين النبي والرسول، وصورة التعامل الإلهي مع النبي والرسول …
- ب- معلومٌ أنّ الله تعالى جَعَل أُمَناء وحفّاظاً لكِتابه وللحقائق عن الضياع، ونصبهم أعلاماً للتمييز بين الحق والباطل ومعرفة أسرار العِبَر والمواعظ العظيمة؛ بالتالي فإنّ الله تعالى أراد أن يوجِد حلقة وصل بين الناس –جاهلهم وكذلك عالمهم- بحُججه على خلقه، وهذه الصلة إنما تحصل كثيراً عندما تقع الحيرة والمآزق؛ فالعالِم قد يأخذه الغرور بعلمه ويتكبَّر على أولياء الله تعالى؛ فيجد نفسه مضطراً إما بجهله الذاتي في الأمور وإما العارِض –كأن يسأله الجاهل التابع له عن المراد فيضطره للفحص والسؤال- لأن يتدكدك أمام أولياء الله تعالى والاتصال بهم والفزع إليهم وأن لا يعتزل بنفسه أو أتباعه وأمثاله؛ وهو عز وجل القائل: {وما أَرْسَلْنا مِن قَبْلِكَ إلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إلَيْهِمْ فاسأَلوا أَهلَ الذِّكْرِ إنْ كُنتُم لا تَعْلَمون}[النحل: 43].
وواضح أنّ هذا الأمر له فوائد كبرى كثيرة جداً؛ منها: الاعتراف بأفضليتهم وأنهم بوصلة الحياة والحقيقة. ومنها كشف منزلتهم والحق لعامة الناس، ومنها تسليم زمام القيادة والريادة لهم وعدم مزاحمتهم في هذا المنصب الإلهي الجسيم الخطير، ومنها حفظ الأُمّة من التمزق ونشأة المذاهب وما يجرّه ذلك من فتن ظلماء عمياء فائقة الخطورة، ومنها تحصين الأمة من الغزاة والطامعين، وغير ذلك، كما أنّ منها أيضاً أنّ معنى أهل الذِّكر إنما يتشخّّص جلياً وعملياً ووجدانياً بمثل هذه الأمور.
كما أن التعرف من خلال أولياء الله تعالى على الاسم له أبعاد علمية كبرى جداً؛ فمثلاً لو لاحظنا نبي الله الخضر عليه السلام الذي هو أحد الأنبياء الذين ذكرهم الله تعالى في القرآن بالصفة والكناية دون ذكر اسمه؛ فإننا نجد مدى الأثر الكبير في معرفة اسمه لدى كثير من القضايا العلمية والبراهين الدينية وتبرير الأحداث.
زِدْ عليه أنّ معرفة حتى أسماء شخصيات غير الأنبياء لها أثر بالغ؛ منه تشخيص وتسهيل معرفة تاريخ الشخصية المذكورة، وعلة حصول المذكور في الآيات عن مصيرها في ظل أهميتها، وإلا لَما ذكر الله تعالى تلك الشخصية بعناية خاصة من بين ملايين البشر على مر التاريخ الإنساني.
- ج- إنّ الترديد في اسم الشخصية المذكورة رغم رفعة منزلتها، حيث أنها شخصية نبي من أنبياء الله المقدَّسين المقرَّبين، فيه معرفة عظيمة بالتزوير الواقع في الأديان الإلهية السابقة، ومدى الاستهتار الذي طالها من الأقوام السابقين وجبابرة العصور؛ وبالتالي التحذير وصياغة العِبَر لأهل هذه الديانة الخاتمة وغيرهم وإتمام الحُجة عليهم في الوعظ والتعاليم.
- د- إيجاد حلقة وصل بين الجاهل والعلماء، ليتعلَّم وينفتح على آفاق المعرفة التي من أجلها قام وجود الإنسان وخُلِق؛ فورثة الأنبياء وحياط الدِّين والأمّة هم العلماء.
- هـ- معرفة وتشخيص هوية الأشخاص مَن يتَّبعون من خلال معرفة نوعية آرائهم في ظل الاختلاف في المسألة.
وغير ذلك.
فهذه كما ترى أمورٌ في غاية الأهمية وبكل واحدٍ منها مجموعة أمور في غاية الأهمية.
فأنت تلاحظ بوجدانك أنّك بمجرَّد أن تمر على هكذا تعبير؛ فإنّه يثير الاستفهام الشديد في نفسك عن ذلك النبي فتسأل: من هو ذلك النبي المقصود؟
فهذا الأمر واضحٌ في وجداننا جميعاً، بل وما دفَعَ العلماء للوقوف على الاسم والتساؤل فيه والبحث عنه إلا نفس هذا المحرِّك المشتد في النفس؛ بالتالي فإنّ صياغة الله تعالى لخصوص هذه الآية وأمثالها بهذه الطريقة -مع علمه عز وجل بدواخل الإنسان وتكوينه ومجريات الوقائع- من ورائه أغراض ربانية جليلة وعظيمة؛ فتَدَبَّرْ.
أمين السعيدي
صفر المبارك 1437هـ
[box title=””]
– الهوامش:
[1] راجع تفسير الطبري، لأبي جعفر محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب المعروف بالطبري: سورة البقرة آية 146 مع هوامشها بمشروع مصحف جامعة الملك سعود.
[2] نصوص من التوراة والنجيل في النبوات والأنبياء، مركز المصطفى صلى الله عليه وآله: ص الهدى إلى دين المصطفى للبلاغي ج2 ص222.
[3] راجع تفسير البغوي، للحسين بن مسعود البغوي: ج1 ص296.
[4] تفسير ابن كثير، لإسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقي المسمى ابن كثير: ج1 ص665 و666.
[5] انظر تفسير الطبري، للطبري: سورة البقرة بآية 259.
[6] انظر تفسير الطبري، للطبري: سورة البقرة بآية 259.
[7] تفسير الميزان، للعلامة الطباطبائي: ج2 ص363 و364.
[8] تفسير الميزان، للعلامة الطباطبائي: ج2 ص378.
[9] تفسير الميزان، للعلامة الطباطبائي: ج13 ص354.
[10] انظر تفسير الطبري، للطبري: سورة البقرة بآية 259.
[11] الميزان في تفسير القرآن، للعلامة الطباطبائي: ج2 ص361 و362.
[/box]
للتعلیق أو مطالَعة التعلیقات اضغط هنا