أُسس وضوابط الكتابة القصيرة
سؤال وجواب مع سيد أمين السعيدي
● السائلة:
السلام عليكم. تقبل الله أعمالكم … ونسألكم الدعاء في سحر هذه الليله العظيمه..
يخالجني سؤال اود طرحه على الاستاذ الفاضل ..
انتم لكم …
ونحن ك مبتدئات نحاول ان نخربش بما يجود به القلم فما هي اهم النصائح التي ممكن ان تقدموها لنا لكي نرتقي في الكتابه ؟
موفقين لكل خير بحق محمد وآل محمد
◀ جواب السيد أمين:
السلام عليكم ورحمة الله
مساء الخير
يـَظْهر لي أنكم بسؤالكم عن الكتابة تقصدون (الكتابة الوجيزة)؛ ككتابة المقالات القصيرة وما شابه؛ لذا نقول في الجواب:
إنّ الكتابة تحتاج لإتقان مجموعة (أمور) و(فنون).
علماً أن الكتابة موهبة ومِنْحة ونعمة إلهية من الصانع الخالق سبحانه الذي أقسم بالقلم في كتابه الأعظم (القرآن الكريم)، فكل شيء نافع وخيّر فهو نعمة وهبة من الله تعالى.
نعم؛ أصبحت الكتابة اليوم أمراً عاماً في ظل تَوَفّر موارد التواصل الاجتماعية المحفِّزة على كتابة المواضيع المقالية والوجبات العلمية والفكرية والأدبية والشعورية القصيرة.
وهذا أمر كما أنه جيد ورائع ومفيد من جهة، إلا أنّ له أيضاً مضار كثيرة وخطيرة من جهة أخرى.
أما فوائده؛ فمن أهمها مثلاً:
تعميم المعرفة، ونشر العلم، ومشاركة الآخرين بالفكر وفي الفكر، وبالمشاعر وفي المشاعر، وجعْل القوة لصوت العلم والكلام النافع، وإحياء الكتابة والاستفادة من منافعها الهائلة والعظيمة، وإعداد الأقلام وتقويتها على الرصد والبيان والدفاع عن المبادئ، وتوطيد المساهمة الكََتْبية النافعة، وإحياء القراءة وتعميق العادة عليها في النفس، واتساع البحث والتفحص، ونيل الأجر والثواب لا سيما ثواب الصدقة الجارية التي هي من أعظم الصدقات، وكذا التحفيز على تلَقّي وجبات ((علمية)) طويلة، والتأهيل لقراءة الكتب الموسَّعة، وغير ذلك من الفوائد الضرورية النافعة والمهمة.
وأما مضاره؛ فمن أهمها مثلاً:
انتشار نَفَس الذوق القصير، والاعتياد على الوجبات المعرفية القصيرة، والإخلال بالفكرة إذا كانت تحتاج لنظرة شمولية واسعة تتناولها بصورة ليست عابرة؛ ذلك لأن ((بعض)) المقالات والوجبات الكَتْبية العلمية القصيرة تساهِم في الإخلال بالفكرة المتناوَلة، وإرباك القارئ أو توهيمه، وإفقاد تلك الفكرة لعمقها وحقيقتها وتفريعاتها الجوهرية الغير منفكة عنها، وغير ذلك من المضار الخطرة ، لا سيما المضار الناجمة عن الكتابة القصيرة لـ((المقالات العلمية التخصصية)) بجرأة دون علم وإحاطة بتلك المسائل العلمية، وبأبعادها الـمَعرفية والمضار المستقبلية الفتاكة، الناتجة عن كتابتها المختَلْة والغير واعية وعن الخوض فيها دون امتلاك الأسس العلمية والدينية الضرورية التالية:
أُسس وضوابط الكتابة القصيرة:-
إنّ الكتابة حقيقةً تَتطلب مجموعة من الفنون والأمور اللازمة، وهذه الأمور والفنون لا تختص بالكتابة القصيرة فحسب؛ فبعضها يشمل الكتابة التخصصية كما يشمل القراءة والكلام.
أما ((الفنون))؛ فمِن أهمها:
أولاً:
إتقان الإملاء بشكل مقبول لا يستوجِب الخلل القبيح، سواء من حيث الشكل والطابع العام للمكتوب، أو من حيث المفاد والمؤدى الذي تحتويه ألفاظ ذلك المكتوب؛ فمثلاً:
لو كتبت التالي هكذا: إنشاء الله، وأُخوان، وعَمّة فاطمة، وكان طلب منهم، وإرادة الله نافدة. فكنت تقصد: إن شاء الله، وإخوان، وعَمّت فاطمة، وكأن طلب منهم، وإرادة الله نافذة؛ فهذه الأخطاء الإملائية تُغيِّر المعنى المراد بالكامل وتوجِد مشكلات خطيرة ؛ فـ(إن شاء) من الـمَشيئة، بخلاف (إنشاء) فهي من الإنشاء والجَعل. و(أُخوان) مثنى الأخُوّة، بخلاف (إخوان) فهي جمع. و(عَمّت) من العموم والشمول، بخلافة (عَمّة) التي هي أخت الأب. و(كان) من الكينونة والماضي، بخلاف (كأن) فهي من التمثيل والاحتمالية. و(نافدة) من الانتهاء؛ تقول: نفدت الكمية؛ أي انتهت، بخلاف كلمة (نافذة) فهي من النفوذ والحصول والـمُضي والإطاعة والحزم والتحقق والفعل والخروج ..؛ تقول: رجلٌ نافِذٌ؛ أي مُطَاع وحازم؛ أي الرَّجل الماضي في أموره. وتقول: أَمرٌ نافِذٌ؛ أي مُطاعٌ ومُنْجَز ومطبَّقٌ ساري المفعول. وتقول: امرأة نافذة البصيرة؛ أي ذكية ذات ذِهنٍ وعقلٍ ثاقب. وتقول: شخصيّة نافذة؛ أي ذات نفوذ وتأثير ومكانة ..
فهذه الأخطاء الإملائية وأمثالها توجِد خللاً كبيراً في المعنى، وتقلب المراد كاملاً كما رأيت، وقد توجِد مشكلات عقائدية وفقهية وفكرية وعلمية وإنسانية خطيرة.
نعم؛ هناك أخطاء إملائية يمكن تجاوزها وعدم التشديد على العامة فيها، وعدم تعويق عطائهم من أجلها حال عدم القدرة منهم على تداركها وإتقانها، لا سيما في ظل شَيـَعانها حتى لدى أهل العلم وأكابر الكُتّاب؛ وهذه الأخطاء القابلة للتجاوز معهم نمثِّل لها بالتالي:
همزة الوَصل وهمزة القَطْع (ء)؛ مثلاً: الأب، الإنسان. فالهمزة في هاتين الكلمتين همزة قَطْع؛ أي يجب كتابتها على الألف أو تحت الألف، بحسب الكلمة. بينما مثلا: الابن، الاسم، الاجتماعية، الاختلال، فالهمزة هنا همزة وَصْل لا تُكتب.
فالبعض يخْطِئ في الكتابة فيـَجعل همزة القطع همزة وصل، والعكس؛ فيكتب هكذا: الإبن، والإسم، الإجتماعية، الإختلال ..
وكذا الحال بالنسبة لوقوع الخطأ الإملائي في كتابة الألف الممدودة (ـا) والألف المقصورة (ى)؛ فمثلاً: الفعل عفا، والفعل قضى. عفا ألفه ممدودة، وقضى ألفه مقصورة.
فالبعض قد يكتبهما: عفى، قضا ..
وكذا الحال بالنسبة لـ(إنَّ) و(أنَّ)؛ فالبعض يكتب إنَّ مكان أنَّ، وأنَّ مكان إنَّ. وكذا بالنسبة للتاء المربوطة والهاء في آخر الكلمة لدى كتابة بعض المبتدئين؛ مثل: مدرسة، فاطمة. فالبعض يثبتها هاءً هكذا: مدرسه، فاطمه.
وكذا لدى المبتدئين مثل: ذوحَدّين؛ فهما (ذو حَدّين) كلمتان لا كلمة. ومِثلُه: ماذكرنا؛ فهما كلمتان أيضاً (ما ذكرنا). ولاحظ: تتطورت (فالصحيح: تطورت)، وبالإظافة (فالصحيح: بالإضافة)، ويحضى (فالصحيح: يحظى)، وحظن (فالصحيح: حضن)، وأستاد (فالصحيح: أستاذ)، موضف (فالصحيح: موظف)، وظيف (فالصحيح: ضيف)، وضن (فالصحيح: ظن)، وشي وشىء (الصحيح: شيء)، وسراط (فالصحيح: صراط، وإن كانت في القرآن يستحب أن تنطق هذه الكلمة مائلة للسين)، وضَفِـرَ (فالصحيح: ظَفِـرَ؛ أي فاز).
وغير ذلك من الأخطاء الإملائية التي -غالباً- لا تؤثر في المعنى.
نعم؛ مثلاً الألف الممدودة والألف المقصورة الخلط بينهما أحياناً يوجِب الاختلال والتغيير في المعنى؛ وذلك من قبيل: عصا، وعصى. يـَحيى، ويـَحيا. فهذه كلمات حروفها وحركاتها واحدة ومعانيها مختلفة؛ فعصا (الممدودة) اسم يراد به تلك القطعة الطويلة التي يـَتوكأ عليها ويهش بها الراعي غنمه ..
بينما عصى (المقصورة) فعل يراد به العِصيان.
ويحيى (المقصورة) اسم عَلَم؛ كما لو قلت: قال يحيى لزكريا أنت منار الحياة. بينما يحيا (الممدودة) فعل؛ كما لو قلت: أسأل الله للمهدي عجل الله فرجه أن يحيا حياةً طيبة.
فوقوع الغلط الإملائي في هذه الحالات (تبديل المقصورة والممدودة) يغير المعنى؛ لكنها حالات نادرة قليلة، ويسهل الأمر فيها باعتبار أنّ سياق وتركيبة الكلام يـَمنع كثيراً من وقوع الفهم الخطأ حال وقوع الغلط في مثل هذه الموارد؛ فالمهم هو أن لا تقع من الكاتب العامي والمثقَّف تلك الأغلاط الإملائية المخلة بالمعنى؛ إذ يجب عليه إتقان فن الإملاء كي يوصل مراده للقارئ بشكلٍ صحيٍّ سليم.
ثانياً:
إتقان علم النحو والصرف بشكل مقبول لا يستوجب الخلل القبيح، أيضاً سواء من ناحية الطابع العام والناحية اللغوية، أو من ناحية المضمون والمعنى؛ ذلك لأن اللغة العربية دقيقة، وتغيير حركة في بعض الكلمات والأحوال والأوضاع قد يغير المعنى بكامله، وبتغير المعنى بسبب الحركة قد تنقلب الحقيقة إلى عكسها تماماً، كما يجعل المضمون منفِّراً لدى المتخصص المثقف الذي لديه معرفة بتلك السقطات القبيحة التي وقع فيها كاتب المقال؛ فمثلاً:
قد يكتب الشخص العبارة التالية هكذا:
قَتَلَ هابيلُ قابيلَ. أو يكتب العبارة التالية هكذا: فهَزَموهُم بإذنِ اللهِ وقَتَلَ داوودَ جالوتُ.
فالكاتب يكون هنا قد ارتكب خطأً خطيراً وفادحاً؛ حيث يكون بذلك قَلَبَ الحقيقة الدينية والإلهية رأساً على عَقِب؛ لأنه رَفع (قابيل وجالوت) ونَصب (قابيل وداوود)، والحال أنّه يتكلم عن فاعل ومفعول (عن قاتل ومقتول)، وفي اللغة العربية الفاعل يكون مرفوعاً، والمفعول به يكون منصوباً، فإذا عَكَس الكاتب ذلك اشتباهاً؛ فإنه سيكون المقتول البريء جَعَلَه قاتلاً وجانياً، والقاتل المعتدي جَعَلَه مقتولاً وبريئاً!
وهذا كما ترى يغيِّر المضمون والحقيقة بكاملها، ويقصم المراد، حتى لو كان الكاتب هو في داخل نفسه لا يقصد ذلك ويـَعلم أن هابيل عليه الصلاة والسلام هو المقتول، وجالوت الظالم هو المقتول، وداوود النبي عليه الصلاة والسلام هو القاتل، وقابيل الظالم هو القاتل لأخيه.
فالكاتب حتى لو كان في داخل نفسه يـَعلم مَن القاتل ومَن المقتول ومَن الظالم ومَن المظلوم مِن هؤلاء، إلا أنه بخطئه النحوي البسيط هذا أوصل الحقيقة والمعلومة للقارئ بشكل خطأ. والخطأ العلمي يجر أيضاً لنتائج ولوازم اجتماعية بل وعلمية خطيرة؛ خصوصاً إذا وقع في الأمور الدينية؛ إذ أن الأمور الدينية دائماً تكون مقدمات لغيرها من المسائل، كما أنها بمجموعها تشَكِّل منظومة مترابطة متأثرة بجزئياتها بشكل رَكِـيْزٍ وجوهري تام.
لاحظ كيف أن الخطأ هنا وقع في حركة واحدة فقط في اللفظة: بدل قابيلُ كتب قابيلَ، وبدل هابيلَ كتب هابيلُ. وبدل داوودُ كتب داوودَ، وبدل طالوتَ كتب طالوتُ.
من هنا أيضاً تتضح أهمية وضرورة تنوين بعض الحروف في بعض الكلمات؛ من أجل منع وقوع اللبس والاحتياط عن وقوع الفهم الخطأ للكلام المكتوب؛ فمثلاً لاحظ الجُمَل التالية:
خديجة تعتبر الجمالُ الجوهر. فهذه الجملة لو قرأ القارئ منها كلمة (تعتبر) هكذا: تُعتبَر (بضم التاء وفتحِ الباء)؛ فسيكون الجمال الجوهر عائداً على نفس خديجة وصِفة لها؛ أي كأن الكاتب قال هكذا: الجمال الجوهر هو خديجة، أو خديجة هي الجمال الجوهر. وهذا بخلاف ما لو قرأ القارئ كلمة (تعتبر) هكذا: تَعتبِر (بفتح التاء وكسرِ الباء)؛ فسيكون الجوهر في اعتبار خديجة هو الجمال؛ أي كأن الكاتب قال هكذا: الجوهر في نظر خديجة هو الجمال.
وبمثال بياني آخر؛ انظر أيضاً الجُمْلة التالية: إن قافلة المدينة مشت فلابد من الإسراع في الاختباء. فهذه الجملة لو قرأ القارئ منها كلمة (إن) هكذا: إنْ (بتسكين النون)؛ فسيكون معنى الجملة: شَرطية خبرية طَلَبية؛ أي كأن الكاتب قال هكذا: إذا قافلة المدينة مشت فلابد من الإسراع في الاختباء. وهذا بخلاف ما لو قرأ القارئ كلمة (إن) من الجملة هكذا: إنّ (بتشديد النون)؛ فسيكون معنى الجملة هو الإخبار والطلب؛ أي كأن الكاتب قال هكذا: لقد مشت قافلة المدينة فلابد من الإسراع في الاختباء.
وكذا لاحظ مثلاً كلمة: درست؛ فلو كتب الكاتب هذه الجملة: لقد دَرسَتْ زهراءُ مجموعة كتب. فهذه الكلمة (درست) لو قرأها القارئ بتخفيف الراء هكذا: دَرَسَتْ؛ فسيكون المعنى هو أنّ زهراء وهي طالبة تعلَّمَت مجموعة كتب من خلال الدراسة. وهذا بخلاف ما لو قرأها القارئ بتشديد الراء هكذا: دَرَّسَتْ؛ فسيكون المعنى هو أنّ زهراء مُدرِّسة ومعلِّمة لا طالبة، فهي التي عَلَّمت مجموعة الكتب تلك.
وكذا عبارة: مِن ميولي أنني أحب الشعر القصير. فقد يقرأها القارئ: شِعر (بكسر الحرف الأول)، وقد يقرأها: شَعر (بفتح الحرف الأول). وأيضاً بالنسبة للضمير مثلاً؛ ككلمة (قلت): قد يقرأها القارئ بفتح التاء هكذا: قلتَ (التي يراد بها المخاطَب “بالفتح”)، وقد يقرأها بضم التاء هكذا: قلتُ (التي يراد بها المتكلم).
لذا؛ يجب تنوين بعض الحروف الضرورية في بعض الكلمات، وخصوصاً تلك التي تَحتمل أن يقرأها القارئ بعدة أشكال؛ فتوقعه في فهم المراد بشكل خطأ، ومن ثم النقل الخطأ، أو النقد الخطأ. أو توقع بعض القراء في الخلط والتخالف في مراد الكاتب ..
وكذا أيضاً ((لكن استحباباً قدر الإمكان)) تنوين الحروف التي تَحفظ للقارئ اِلتذاذه بالقراءة، وتزيد في النفع، وتَختصر عليه الجهد والوقت، وتكفيه بالقراءة مرة واحدة دون أن تضطره لإعادة قراءة الجملة ولو ذهنياً في ظل وضوحها من خلال مجموعها؛ فمثلاً لو كتبت:
فاطمة تعتبر الوردة هي المولِّد للعطر الطبيعي. فهذه الجملة قد القارئ في بداية قراءته لها يَقرأ كلمة (تعتبر) هكذا: تُعتبَر (بضم الأول وفتح الرابع)، ثم بعد أن يـَسترسل في قراءة بقية الجملة يـَعْرِف أنّ مراد الكاتب: تَعتبِر (بفتح الأول وكسر الرابع) لا تُعتبَر؛ ذلك لأن هذه الجملة من حيث ((مجموعها)) مفهومة وواضحة، لكن بعد قراءتها كلها؛ وعليه:
لو أنّ الكاتب من البداية نَوَّن الحروف التي تسهل على القارئ الاسترسال في القراءة بمرة واحدة دون اضطراره لتكرار القراءة أو دون اضطراره لإعادة صياغة معناها في ذهنه؛ لكان ذلك أفضل وأحسن وأَجوَد وأَسهَب وأَبرَع وأكثر فائدة وأوسع وأنفع. فالتنوين مهم ولكن أيضاً دون إفراط وإكثار بلا طائل وبلا فائدة راجحة ونافعة؛ وإلا فكثرة التنوين بلا غرض وجيه قد يـَعمل على تنفير بعض القراء؛ فيعطي نتاجاً سلبياً في أنفسهم.
وكذا الأمر أيضاً بالنسبة للشَّدة ( ـّ ) في بعض الموارد؛ فهي مهمة مثل التنوين ..
علماً أن هذه المسألة -أعني تنوين الحروف سواء وجوباً أو استحباباً حسبما بيّنّا- هي مسألة كما تَرتبط بالنحو (التنوين في أواخر الكلمات)، وبالصرف (التنوين في أوائل وأواسط الكلمات)، كذلك هي ذات ارتباط وثيق بالإملاء كما اتضح لك.
نعم؛ هناك اختلالات نحوية لو وقعت في الكتابة لم تضر بالمعنى بين عامة الناس، وإن كانت منفِّرة للمتخصص العارف، إلا أنها لا تضر بحسب هذا المستوى؛ ذلك لأن المتخصص يـَدْري بها، والعامي لن توهمه لأنها لن تؤثر على المضمون والقالب العام للمكتوب ، كما أنّ المتخصص يجب أن يكون خلوقاً ومتواضعاً في ((هذا المورد))؛ فكلنا بدأنا من الصِّفر {واللهُ أَخْرَجَكُم مِن بُطُنِ أُمَّهاتِكُم لا تَعْلَمونَ شيئا}؛ فلا يُسَفِّه العوام عشاق المعرفة والخير، ولا يحَبّطهم، وإلا كان عِلْمه عاراً وبلاءً ووباءً على الناس وعلى انتشار المعرفة ورواجها ورِقيّها شيئاً فشيئاً ومُفَوِّتاً للفوائد الجمة والعظيمة التي أشرنا لبعضها أعلاه عند بيان الفوائد ؛ فهذه الأخطاء -التالية- الغير ضارة بصورة كبيرة، يمكن إغفالها مع كتابات العوام والمثقفين المبتدئين، وإفساح المجال لهم بالتعبير والتطور والتقوي ودفع عجلة المعرفة، خصوصاً وأنَّ تعبيراتهم تَمنح المتخصصين أيضاً مجموعة من الاستقراءات والبحوث والدراسات النافعة التي تصب في رصيد المعرفة البشرية والتقدم الإنساني والتطور الخلّاق السريع.
وهنا يمكن أن نمثل لهذه الأخطاء اللغوية والنحوية القابلة للتجاوز كالتالي:
مثلاً قد يـَكتب أو يقرأ شخصٌ العبارة التالية هكذا: سيـَفُوزَ محمداً في مَسابقةَ قُرَاءةُ الكِتابَ بإذنَ اللهَ تعالى.
لاحظ هذه العبارة، فقد وقع فيها العديد من الأخطاء اللغوية والنحوية؛ حيث نصب زاء سيفوز، ونصب محمداً، وفَتَح ميم مسابقة، ونصب مسابقة، وضم قاف قراءة، ورفع قراءة، ونصب الكتاب، ونصب بإذن، ونصب الله. مع أن الصحيح هو أن يكتب الجملة هكذا:
سيـَفُوزُ محمدٌ في مُسابقةِ قِـرَاءةِ الكِتابِ بإذنِ اللهِ تعالى.
ثالثاً:
البلاغة، المعاني والبيان والبديع …
وهذه القضية الفنية تَعتمِد في غالبها على سعة اطلاع الكاتب في مجال ألفاظ اللغة ومعاجمها كـ: كتاب معجم الوسيط، ومختار الصحاح، ولسان العرب، ومعجم كلمات القرآن، ومعجم اللغة العربية المعاصر، والمعجم الغني، والمعجم الرائد، والعجم القيّم: معجم المعاني الجامع، فهو معجم نافع جداً جامع أوصيكم به، وكذا الكتاب القيّم الرائع: الفروق في اللغة لأبي هلال العسكري …
كما أيضاً تَعتمد هذه القضية الفنية على سعة اطلاع الكاتب فيما يستعمله أكثر الناس من الألفاظ الشائعة بينهم في كلماتهم وتعاملاتهم، كما تعتمد على ذوق الكاتب وجمالية لمساته وإبداعه وسعة ممارسته واعتياده، كما تحتاج لسعة قلب وتفاعل مع الكتابة، وكذا تحتاج لمزاج في النفس حال الكتابة وفي الألفاظ المختارة.
[ملاحظة: نقصد بالمزاج النفساني ليس خصوص الانشراح والسرور، وإنما الأعم من ذلك؛ بالتوجه للكتابة؛ مما يعني أن المزاج النفساني قضية ممكنة حتى في حالة الكتابة عن حزن وألم وانقباض].
إنَّ استعمال الألفاظ العربية الغريبة الشاذة وصعبة الفهم يُفَوِّت على الكاتب استيعاب شريحة كبيرة من الناس لِـما يـَكتب، ويـَجعل ما كتبه مُنْزَوياً لا يحظى بشعبية ولا يمتاز بالرواج، حتى لو كان ما كتبه كلاماً عميقاً وعلمياً وشديد النفع بل وفريداً من نوعه ؛ ذلك لأن التعقيد في الألفاظ ينفِّر أغلب النفوس، تماماً كما أنّ البساطة في الألفاظ تنفِّر المتخصِّص من أن يـَتناول ذلك الكتاب بصورة درْسٍ، أو ربما حتى بصورة ثقافة له؛ فالعامي وكثير من المثقَّفين يريدون لغة سهلة سَيّالة سلسلة موضَّحة يـَفهمون من خلالها مضامين ما يقرؤونه، فيستلذون به، والمتخصِّص يريد أن يقرأ كُتُباً بلغة اصطلاحية صعبة مختصرة تتناسب مع مستواه وتختصر وقته وتثير مفاهيمه، فيستلِذ بها.
فمثلاً لو استعملتَ فيما تكتبه كلمات من قبيل كلمة: احْرَنْجَمَ. فهي كلمة غريبة على العوام والكثير من المثقفين، بل وعلى الكثير من المتخصصين في المجالات العلمية المختلفة، مع أنها كلمة عربية وكانت في القديم كلمة سهلة معلومة المعنى ومستعمَلة لدى السابقين.
تقول: احْرَنْجَمَ القومُ والدوابُّ: أي اجتمع القوم واجتمعتِ الدواب. وتقول: احْرَنْجَمَ فلانٌ: أي أَراد أَمراً ثُمَّ رجَع عنه.
لذا؛ يجب استعمال الكلمات الشائعة، السهلة في نطقها، والمفهومة في معناها، والبليغة المؤدية للمراد المطلوب بسلاسة وحُسن، مع مراعاة نوع الحالة الموصوفة؛ فمثلاً حالات الحزن والألم تتطلب ألفاظاً حزينة مؤلمة تَحْمِل هذا الشعور مِن قلب الكاتب وتوصِله إلى قلب القارئ بصورة وافية وجيدة، وكذا الحال في توصيف الأمور الأخرى.
وبالنهاية الغاية هي الفهم والإتقان في معرفة المقروء والاستفادة والرقي والاستلذاذ، لا التباهي والتفاخر بصعوبة المادة المقروءة أو ما شاكل. أكرر: المهم هو أن نَستوعِب ونفهم ونستفيد، كلٌ بحسب سعة إنائه ومساحة فهمه، فلا نقحِم أنفسنا بقراءة الصعب إذا لم نكن من أهل التخصص ؛ لأننا لو فعلنا ذلك فلن نحصل على الغاية الرئيسية التي هي الفهم والاستيعاب والرقي والاستلذاذ، بل سنكون أضعنا أوقاتنا بما لا ينفعنا وربما عقّدنا أنفسنا ونفَّرناها بشكل نَسبي أو كامل؛ ومن ثم جناية نتيجة سيئة وسلبية بدل النافعة والعظيمة.
إنّ لنا في الأنبياء والأوصياء أُسوة حَسنة؛ فهم دائماً كانوا يـَتوخون الوضوح والاستفادة لدى الناس، لا التباهي والتفاخر بقراءة الصعب المغْلَق الذي لا نفع فيه إلا لأهل التخصص والصناعة العلمية الخاصة؛ ففي الكافي روى الكليني رحمه الله عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليه الصلاة والسلام، قال: (ما كَلَّمَ رسولُ الله صلى الله عليه وآله العباد بكُنْهِ عقله قَط) ؛ أي كان صلى الله عليه وآله رؤوفاً عطوفاً متواضعاً، يـَستعمل العبائر السهلة، والتراكيب اللغوية البليغ البسيطة الواضحة البديعة الحلوة الجميلة المفهومة للجميع ممن حوله؛ لأنه غايته الفهم لدى الآخرين واستفادتهم ورِقِيّهم لا غير ، وإلا لو كان صلى الله عليه وآله يريد أن يـَستعمِل المغاليق ويـَصطنع المصطلحات والعبائر الخافية بالمعاني المستترة المنعقدة؛ لَـمَا سبقه في ذلك سابق، ولا لحقه فيه لاحق، وهو المأثور عنه صلى الله عليه وآله قوله: (أنا أَفْصَح العرب، وإنّ أهل الجَنّة يـَتكلّمون بلغة محمد)، لكنه إنما هو نبي يُكلِّم الناس بقدر عقولهم، فهو القائل بأبي هو وأمي: (إنّا معاشر الأنبياء أُمِرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم)؛ فهو صلوات الأولين والآخرين عليه وآله خيرُ أُسوةٍ وقدوة.
وكذا الحال -مثلاً- بالنسبة للعطف بشيء جديد لم يتم الحديث عنه في الكلام السابق، سواء وقع ذلك عن قصد التعقيد في العبارة ..، أو بدون قصد؛ فمثلاً قد تَكتب مقالاً حول الغنى والفقر، فتتكلم في كتابتك أولاً عن الغنى، ثم بعد أن تنتهي منه تقوم بالحديث عن الفقر بصورة كأنك تكلمت عنه في الكلام السابق، والحال أنك لم تتكلم عنه أساساً؛ فهذا الأسلوب كما أنه خاطئ بلاغياً وبيانياً هو أيضاً يشوِّش القارئ المبتدِئ كما يشوِّش بعض المعتادين على القراءة أيضاً.
وكذا ينبغي عدم صياغة جُمَل طويلة لا تَتقبل الفواصل، تَفُوق الأنفاس وتربك القارئ؛ فهذا كما أنه خطأ يتعلق بالمضمون والبيان، هو كذلك خطأ يتعلق بالتشكيلة النَّسَقية الداخلية الآتية.
أضف إليه لزوم تجنُّب الوقوع في الأغلاط الحاصلة بالنسبة لإرجاع الضمائر؛ فمثلاً قد البعض يرجِع الضمير للفظ ليس الضمير له، أو يـَجعل ضمير المخاطَب بدل ضمير المتكلِّم؛ مثل: قلتَ (الفتحة للمخاطَب) بدل قلتُ (الضمة للمتكلِّم)، أو العكس، أو يـَجعل ضمير الجمع مفرداً، أو ضمير المؤنث ذكراً، والعكس.
وكذا ينبغي تجنب الإكثار من الضمائر خلال الكلام، فلا الإكثار جيد ولا التقليل الفاحش جيد.
هذا؛ وقد يمارِس الكاتب بعض الأمور الغير جيدة في حال إرادة الوضوح والتبسيط؛ وذلك من قبيل: أن يتحدث الكاتب عن أمور متتالية في جملة واحدة، ثم يرجع الضمير على أمر من تلك الأمور بصورة مرتبكة في نفس الكاتب أو مختلة لغوياً أو موهِمة مستصعَبة لدى القارئ، أو يتحدث عن أمر فيطيل الكلام عنه بالضمير ضمن جُمَل طويلة أو كثيرة مما يستوجِب التشويش والخلط في فهم المراد.
علماً أن هذه المسألة -ضوابط الضمائر- كما أنها ترتبط بالجانب البياني، كذلك ترتبط في حالات بالجانب الإملائي.
وكذا عدم الوقوع في التكرار المزعج، بل تجنب التكرار إلا في حالات الضرورة والحالات التي يكون التكرار فيها مفيداً؛ كالتكرار للتأكيد النافع أو للتركيز على أمر مهم أو للاستذكار والتذكير أو للتوضيح الجيد لما هو غامض وصعب .. شريطة عدم الاستغراق في التكرار الممل والمنفِّر؛ فإن التكرار بلا غرض بياني وبلاغي يكون سالباً للذة القراءة ومفرِّقاً للشعور.
أضف إليه الرموز الشعورية اللغوية؛ كعلامة التعجب والاستفهام ..؛ فهذه العلامات يتوجب وضعها في أماكنها الصحيحة وعدم إهمالها؛ فهي تساهم في تفهيم القارئ بمراد الكاتب من الجُملة، هل هي جُملة استفهامية أم تعجبية أم تَهَكُّمية ..، كما أيضاً تساهم في إيصال الشعور إلى القارئ من خلال الكتابة ؛ فالكاتب أثناء الكتابة له انطباعات شعورية، يريد إيصالها للقارئ كما هي، ولأنّ الكتابة ليست كالكلام الصوتي والنظر البصري لملامح المتحدث؛ لذا وضع الإنسان علاماتٍ ورموزاً لتمكين الجُمل من إيصال مشاعره للقارئ قدر ما أمكن. فالفصيح البليغ الحاذق هو الأقدر على التعبير وإيصال و(إبلاغ) مراداته ومشاعره كما هي دون نقص؛ فهذه هي البلاغة حق البلاغة، بخلاف التعقيد في التعبير ؛ فهو -أعني التعقيد في التعبير- على العكس تماماً يـَعجز عجزاً كاملاً أو شبه كامل عن (الإبلاغ) والإيصال للمراد إلى شريحة غالبية كبيرة وواسعة من السامعين أو القراء، ويُفَرِّغ التراكيب والجُمل من محتوياتها الحسية والشعورية؛ مما يلغي -في حق تلك الشريحة الغالبية- سِمة الفصاحة والبلاغة عن المتكلم أو الكاتب، وإن كان ذلك المتكلم أو الكاتب فصيحاً وبليغاً بالنسبة للشريحة القليلة التي تَفهم عباراته المضغوطة، فيما لو كانت عباراته تلك تمتاز بالبـَلاغ والبيان والبديع الرفيع.
رابعاً: التشكيلة الداخلية.
وهي تَتضمن مجموعة قضايا؛ من أهمها ما يلي:
أ- العَنوَنة.
بمعنى وضْع عنوان رئيسي للموضوع في بدايته، خصوصاً إذا كان الموضوع علمياً أو فكرياً ..؛ فالعنوان نقطة مهمة جداً؛ تعطي للقارئ انطباعاً عن محتوى الموضوع، وتحدد مركز الكلام، وتمنع من تشعبه وتمايله يميناً شمالاً، وتختصر الوقت على الباحث والمطالِع، كما أنّ العنوان يستجذب القارئ فيما يحب القراءة فيه إذا كان موضوع المقال ومحتواه من ذلك النحو والمجال الذي يحب القراءة فيه.
هذا؛ ويجب أن لا يكون معنى العنوان أكبر من محتوى الموضوع ولا أقل.
وأن يكون واضحاً جلياً لا غموض فيه بصورة فاحشة ومفرطة.
وأن يكون جميلاً وجذاباً في نفس الوقت.
وأن لا يكون طويلاً جداً، وكلما كان قصيراً للمقال القصير كان أفضل شريطة أن لا يفتقر لما سبق ولا يخل به.
وكذا وضع عناوين فرعية إذا كانت مَفاصل ومنعطفات المقال تستوجِب ذلك، لكن أيضاً دون إكثار فاحش.
وكلما كان المقال أقصر؛ فيجب أن تكون العناوين أقل.
وكذا إذا كان المقال قصيراً جداً؛ فيـَلزم أن لا يحوي أكثر من العنوان الرئيسي الذي يكون في بدايته.
ب- النَّسَق والرتابة.
بمعنى أن تكون المقالة من حيث الشكل منسَّقة ومنَظَّمة ومرتبة، غير فاقدة للجاذبية الشكلية الفنية؛ وذلك من قبيل:
وضْع الفواصل نهايات الجُمَل، وتقطيع المقال لـمَقاطع لا جعْله بكامله كمقطع واحد مسترسِل متصل ببعضه من البداية إلى النهاية؛ فالاسترسال بهذه الصورة ينفِّر بعض القراء ويفرِّق البصر، ويعسِّر القراءة المريحة.
وكذا وضْع فراغ بمقدار سطر بين كل مقطع وآخر إذا كان النشر في أماكن الحروف والخطوط فيها غير قابلة للضبط كالوتساب والفيسبوك ..؛ فالسطر الفارغ بين كل مقطع وآخر يـَجعل الكلام شكلياً أكثر تقبلاً للنفس وأيسر للنظر، ويحفظ القارئ مِن العودة لقراءة بعض السطور دون شعور أو تَخَطي بعض السطور دون التفات بفعل الانشحان وعُسْر النظر؛ فوضع سطرٍ فارغٍ بين كل مقطع وآخر يـَمنع مِن أن يكون الكلام مشحوناً فوق بعضه البعض، ومن ثم يكون رتيباً وأكثر جمالية وانسيابية في المطالعة والقراء في هذه البرامج.
وكذا أن لا تكون المقاطع مسترسلة طويلة فاحشة في حجمها؛ فيجب تقطيع المقاطع بصورة لا تَجعلها منفِّرة، لا سيما في أماكن النشر التي لا يمكن التحكم فيها بالخط ونسق الكلام والحروف؛ فيكفي في هذه الحالات -مثلاً- أن يشتمل كل مقطع بالكثير على ما يقارب ٧٥ إلى ٩٠ كلمة، أو خمسة أو ستة سطور بحجم السطور المكوَّنة من ١٥ كلمة تقريباً. [المسألة ذوقية تقديرية].
وأيضاً ابتداء الكلام الجديد بسطر جديد، لا وضعه مباشرة متصلاً بسابقه.
وكذا وضْع مسافة فارغة في بداية أول سطر من كل مقطع قدر ما أمكن.
كما ينبغي أيضا أن تكون التقويسات بنسق واحد؛ فالآيات كلها تكون بقوس خاص مثل {..}، والأحاديث القدسية كلها تكون بقوس خاص مثل «..»، والروايات المنقولة عن الأنبياء والأوصياء كلها تكون بقوس خاص مثل (..)، والأقوال المنقولة كلها تكون بقوس خاص مثل “..”، والبيانات المتوسطة في الجملة كلها تكون بعلامة خاصة مثل -..-، والإضافات الشخصية من الكاتب داخل ما ينقله من كلام غيره كلها تكون بقوس خاص مثل:
قال فلان الفلاني: “العِلْم [الصالح] يـَزرع شجرة النور، والعمل [الصالح] يثمر تلك الشجرة”؛ فكلمة [الصالح] تَصَرُّف أو إضافة؛ لذا تضعها بين قوسين خاصين؛ كي يـَعرف القارئ بأن فيها نكتة معيَّنة: كأن مثلاً أضفتها من عندك، أو مِن طبْعة تامة من كِتاب ذلك الفلان الفلاني سقطت هذه الكلمة من طبعة أخرى لنفس كِتاب ذلك القائل الفلاني..
فكل شخص بحسب آلية التقويس التي يختارها في كل مقال أو مقام؛ فالمهم هو تعيين آلية تقويس والسير عليها من البداية إلى النهاية.
وغير ذلك من الأمور النَّسَقية والتنظيمية.
ج- التوقيع.
بمعنى ذِكر الاسم وتاريخ كتابة الموضوع في نهايته، لا سيما في مواضيع المقالات العلمية والفكرية. وكذا لا بأس أيضاً بكتابة الأرض التي وقع فيها ذلك التدوين، وأيضاً حال وجود مراجِع للمحتوى أو مشرِف عليه .. فيتوجب ذِكره بعد استجازته.
إنّ التوقيع مهم لا للشهرة المذمومة وما شاكل؛ إنما هو مسؤولية يحاسَب من خلالها الكاتب حال التقصير أو التجاوز على الآخرين أو الانحراف والإحراف، كما أنّ بالتوقيع يُعْرَف أيضاً مستواه العلمي، أو يُعْرف مدى عطائه وأفضاله ومساهماته ومختصاته وابتكاراته، أو يُصنَّف في علماء ونشطاء أي منطقة عند إرادة إحصاء علماء ونشطاء منطقة معينة.
كما أيضاً يـَتمكن المتابِع له من أن يلاحِق نتاجاته وكتاباته الأخرى، لا سيما الكتابات التي تكون بشكل سلسلة مواضيع مترابطة تُنشر بشكل تدريجي بين حين وآخر، وكذا معرفة تواريخها وما هو المتقدم منها وما هو المتأخر، وأيضاً التمكن من دراسة آراء الكاتب من مرحلة لأخرى، ومراحل تطوره، والتغييرات الجارية من الناحية الأدائية أو المعرفية، وكذا القدرة على تقييد كلامه أو إطلاقه بمعرفة ما هو المقيِّد وما هو المقيَّد إن وُجِد.
أضف إليه أنّ التوقيع يمكِّن من معرفة بيئة الكاتب، والظروف المعرفية المكانية التي كَتب فيها، ومؤثراتها وخصائصها وامتيازاتها، كما يمكِّن من معرفية شخصية الكاتب بدرجة نِسبية معينة تختلف من مشَخِّص لآخر بحسب عمق الاطلاع والسعة المعرفية لدى المقيِّم وما يمكن للمحتوى الكَتبي أن يرسمه من معطيات.
وكذا معرفة مدى تهور الكاتب، أو جرأته المذمومة، ودخوله وولوجه فيما لا دراية جيدة له به، أو معرفة مدى تَحَفّظه السلبي، أو احتياطه المحمود، أو شجاعته الضارة المفرطة، أو شجاعته الحسنة المعطاءة ..
كما أيضاً يمكِّن التوقيع من معرفة اهتمامات الكاتب ومجالات معرفته، ومدى إتقانه وصلابة ومتانة بنائه العلمي، وانسجام وتَناسُق منظومة كتاباته وعدم تَعارضها القبيح المستهجَن فيما بينها، أو معرفة مدى ضعفه وركاكة ما يقدمه وتخلخله وتَضاربه فيما بينه.
إنّ التوقيع يراد أيضاً لمعرفة مَن هو الكاتب، ومن ثم القدرة على التواصل معه واستخدامه والإفادة من عطائه وخدمته الاجتماعية والوطنية والخاصة، وكذا القدرة على الوصول إليه لتصويبه فيما لو كان فيما كتب خطأ أو اشتباه، أو نقْده بالشكل النافع الطيب المهذَّب والمحترم، وكذا فإن التوقيع مهم لمعرفة منهج الكاتب، والقدرة على وضع دراسات واستقراءات علمية تجاه ما يُكتَب بالمقارَنة بين الأفكار والأوضاع والأحوال المتعددة والمتغايرة، ..
وغير ذلك من الأمور المهمة، والتي منها ما بعد الموت أيضاً، حيث يـَمنح التوقيع إحياءاً للميت وإثراءاً ذِكرياً لمساهَماته وعطاءاته ويوجِب ترحماً عليه ..
كما أن للتوقيع فائدة نفسانية مهمة جداً وفاعلة في رواج الفكر وعوامله؛ وهي أن الإنسان -بالعادة- يـَنجذب لقراءة ما يكتبه الأشخاص الذين حوله والذين يعرفهم، ويتفاعل مع ذلك كثيراً، ويستأنس بكتاباتهم بصورة أوثق؛ بفعل القرب المكاني والاتحاد الـمَناطقي والمعرفة، ولو المعرفة العامة لا الشخصية، كما أن الـمَناطقية والتقارب في البيئة يوجِد ميلاً أكبر لدى الكثيرين في القراءة لابن منطقتهم وبيئتهم بفعل التلاقي الوضعي والتشاكل في الهموم والتشابه في المتطلبات والطموحات.
لذا؛ تجد الناس يتفاعلون كثيراً مع كُتّاب مناطقهم وقُراهم، ويفاخرون بمَفاخر وعظماء ومبدعي قريتهم ومدينتهم ووطنهم، وربما عَلَّقوا عليها بالنقاش والاستفادة وإبداء الرأي والنظر، بل ويهتمون بها كثيراً، ويوازنونها ويقَيّمونها ولو بصورة عامة غير تخصصية؛ فهي تجتذبهم وتؤثِّر فيهم وتثير تفاعلهم دون شعور.
فالتوقيع يلعب دوراً كبيراً تجاه هذه الظاهرة الإنسانية الطبيعية النابعة من مؤثرات وعوامل منطقية جداً؛ لذا دائماً كنا نقول: لو أن كل قرية وكل منطقة حَظِيَتْ ببضعة كُتّاب جيدين مرموقين؛ لازدهرت القراءة وأصبحت سمة واسعة بين المعارف والمحيط المجاور، ومن ثم ستكون الكتابة والقراءة حالة عامة في مختلف المناطق، وستَأخذان -الكتابة والقراءة- اشتدادهما -إذ لا قراءة وقراء بلا كتابة وكُتّاب- وستَقْطعان طريقهما نحو الوضع المطلوب والمأمول ؛ فكل ذلك يحصل حال تَوفَّرَت عوامل استغلال التفاعل والانجذاب النفساني لمبدع الأسرة وتغاريد حمامة القرية والمنطقة والوطن، وإن كانت -كما في المثل- حمامة الحَي لا تُطْرِب؛ إذ البعض من المرضى مهما لاحظَ من ثراء واقتدار وقوة علمية وإبداعية وعطائية وتغريدية لدى أبناء جلدته ووطنه ومنطقته وقريته وأسرته؛ فإنّ ذلك لا يطربه، فتجده يـَلْهَث ويـَبحث عن حمامة حي وبلد آخر، فيـَنعجب بتغريدها ويتفاعل معه ويباهي به حتى لو كان تغريدها مِن أنكر الأصوات وكصوت الحمير!
نعم؛ وإن كان كلامنا لا يعني عدم الإفادة من العطاءات والخبرات النافعة القادمة من الأُمّة من خارج الوطن، أو حتى من خارج الأُمّة ومن الأمم والأقوام الأخرى؛ فـ(الحكمة ضالة المؤمن؛ أينما وجدها أخَذها).
هذا بالنسبة للفنون التي يجب إتقانها.
وأما ((الأمور اللازمة))؛ فمِن أهمها ما يلي:
الأمر الأول: (الصدق وعدم ممارسة الأكاذيب).
إنّ الكذب من صفات المنافق، والنفاق لا يجتمع مع الإيمان أبداً.
واعلمْ أنّ المنافق دائماً خاسر، في الدنيا والآخرة؛ قال تعالى: {إنَّ المنافقِينَ في الدَّرْكِ الأسْفلِ مِنَ النارِ ولَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا}[ النساء: ١٤٥]، وقال تقدست أسماؤه:
{إنَّ المنافقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وهُوَ خادِعُهُمْ}[النساء: ١٤٢]؛ فاحذرْ أن تكون في لحظةٍ منهم؛ فإنّ الله إذا مَكر بالعبد قد يرديه ويسلب منه كل بركة، وقد أقل شيء يفعله به أن يميته ميتة السوء دون تريث فيختم له حياته بتلك الحالة النفاقية؛ فيكون مآله للعذاب بعد الهلاك؛ لأن خاتمته كانت خاتمة على غير إيمان، هذا أهون مكر الله تعالى بالعبد المخادِع؛ فالحذر الحذر.
الأمر الثاني: (اليقين).
بمعنى أن لا تكتب شيئاً تشك في صحته أو لست بمتأكد منه وغير فاحص متحقق عنه.
هذا؛ واليقين يشمل المعرفة الحُجة وعدم الكتابة بغير علم، خصوصاً في المجالات الدينية؛ أما ما عداها كالشِّعر والنثر الأدبي والمشاعر المعتادة والخواطر والقصص ..؛ فلا ضير في كتابتها حتى لو بدون معرفة وعلم، شريطة أن لا تحوي الكذب وما شاكل من القبائح العقلية والمحرَّمات الشرعية.
وكذا الحال في الكتابات الضعيفة الركيكة؛ فلا ضير في نشرها شريطة أن:
١- لا تكون مضيعة للوقت الشخصي وأوقات الآخرين.
٢- أن لا تكون كثيرة في مواقع التواصل وباعثة على ملل الآخرين بفعل كثرتها، بل وباعثة على الملل في نفوسهم ليس فقط عن قراءتها، وإنما أيضاً عن قراءة غيرها بسببها؛ ذلك لأن كثرة الكتابات الضعيفة والركيكة تساهم في تمليل وتنفير بعض النفوس عن الاستفادة كلياً، والإعراض عن قراءة حتى الكتابات المفيدة.
لذا؛ يجب مراعاة الكثرة والقلة؛ بمعنى أنه حال تكون هنالك كثرة في نشر هذه الأمور يـَتم الإعراض عن نشرها وتقليل مجالات التواصل منها، وعندما تكون قليلة فلا مشكلة في نشرها.
نعم؛ لو أكثر الشخص من الكتابات الركيكة العادية الغير علمية بينه وبين نفسه؛ فهو حر، خصوصاً إن كان في ذلك فوائد نافعة له بشكل أولي؛ كالاستئناس والترفيه عن النفس ومِلئ وقت الفراغ وتقوية القلم والقريحة.
وعلى أي حال؛ إياك والكتابة في دين الله تعالى بما لا تَعلم، والنقد عن جهل؛ فـ”الناقد بـَصير”؛ قال تعالى:
{وإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بالكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الكِتَابِ وما هُوَ مِنَ الكِتَابِ ويَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللهِ وما هُوَ مِنْ عِندِ اللهِ ويَقُولُونَ عَلَى اللهِ الكَذِبَ وهُمْ يَعْلَمُون}، وقال عز وجل:
{فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هٰذا الأَدْنَى ويَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وإنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ اَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الكِتَابِ أن لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ والدَّارُ الآخِرةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُون}، وقال:
{ومِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ولاَ هُدىً ولاَ كِتَابٍ مُنِيْرٍ}، وقال:
{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ الله لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالـمِين}، وقال عَزَّ ذِكْرُه:
{انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إثْماً مُبِيْناً}، وقال تعالت أسماؤه:
{فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هٰذا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ ووَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} ..، وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال:
(مَن أفتى الناس بغير عِلمٍ لعنَتْه ملائكة السموات والأرض)، وجاء في حديث شريف عن الإمام الرضا عليه الصلاة والسلام أنه قال:
(إنّ أدنى ما يُخرج الرجل من الإيمان أن يقول للحصاة هٰذه نواة، ثم يدِيْن بذلك ويَبرأ ممن خالفه).
الأمر الثالث: (الوضوح والشفافية).
بمعنى أنك لو اضطررت مثلاً لكتابة شيء لست على يقين من صحته وسلامته؛ فأشر إلى أنك تحتمل الصحة إن كنت تحتملها، أو تشك في الصحة إن كنت تشك فيها، أو تطمئن بذلك إن كنت تطمئن بها، وهكذا.
الأمر الرابع: (الأمانة العلمية).
بمعنى أن لا تَسترِق حقوق الآخرين وكتاباتهم ونتاجاتهم وأتعابهم، فتنسبها لنفسك، أو توهم الآخرين بأنها لك ولو بدون نِسبة شخصية صريحة لنفسك، في أي مجالٍ كان، في العِلم أو القصص أو الخواطر أو الشِّعر والأدب أو غير ذلك، وأنه إذا اقتبستَ مِن مَصْدرٍ معلومة؛ فعليك أن تشير إلى المصدر، ونفس الأمر إذا سمعت من شخصٍ أو عن شخصٍ معلومة ابتكارية، فاستفدتَ منها؛ فعليك أن تشير إلى صاحبها الذي سمعتها عنه، وكذا لو استفدت فعلاً عملياً وأدباً وما شاكل.
إنَّ الأمانة من صفات المؤمن الخَيِّر النزيه الصادق الفاتح، الذي يـَتعامل مع مَن {عِنْدَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لا يَعْلَمُها إلا هُوَ ويَعْلَمُ ما فِي البَرِّ والبَحْرِ وما تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إلا يَعْلَمُها ولا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرضِ ولا رَطْبٍ ولا يابِسٍ إلا فِي كِتَابٍ مُبِيْن}[الأنعام: ٥٩]؛ إنه الله تقدَّست أسماؤه، البصير بكل شيء، الذي لا يغيب عنه شيء، الموزِّع للأرزاق، المقدِّر للبركات، القاسم بالميزان القويم، الحاكم العَليم.
ولا يفوتك أنه كما تُدِيْن تُدان.
الأمر الخامس: (المشورة).
بمعنى عَرْض ما كتبتَه على شخص معتمَد موثوق في علمه ونُصْحِه، وفهْمُه جيد ونزيه.
ويجب أن يكون ذلك بعد الانتهاء والمراجعة، وقبل النشر، لا بعد النشر ولا قبل المراجعة.
كما يتوجب عدم التذمر والتضايق من انشغالات مَن تريد مشورته فيما كتبت حال عدم استطاعته أن يراجِع ذلك إذا كانت انشغالاته شديدة وواسعة؛ فالعُذْرُ عند كِرام الناس مقبولُ؛ فكن كريماً واعلمْ أن البعض لديه مَشاغل ومهام كثيرة، وأَهَم، لا تَعْلَمها، قد تَحُول أحياناً بينه وبين خدمتك والتفرغ لمراجعة ذلك وإبداء الرأي فيه.
ففي هذه الحالة لا بأس بمراجعة غيره المماثِل الكفوء، أو معاودته بين فترة وأخرى أوقات تمَكُّنِه، ودون تَحَسُّس وضَجَر وسوء ظن وتململ وقلة هِمّة؛ فإنّ الشيطان له مداخل وأبواب للقلب والعقل من خلال هذه الهَلاوس والوساوس.
ولنعْلَم أنّ خِدمة الآخرين بالمراجعة لهم وتطويرهم والشد على أيديهم، فيها مثوبة عظيمة لا تحصى، وموفَّقية ربانية عجيبة، كما أنّ في ذلك خِدمة كبرى للدِّين ومشارَكة للخير ومساهمة في البناء العام. كما يجب أيضاً الرفق بهم وتشجيعهم والحذر من إبداء أي فعل قد يساهِم في تحطيمهم وقتلِ حماستهم؛ فإنَّ فِعْل ذلك من كبائر الذنوب العظام ومن الـمُسخطات الجِسام، المستوجِبة للطرد الإلهي والإبعاد وفقدان التوفيق.
الأمر السادس: (الصبر).
بمعنى أن لا تتعجل في النشر وتعميم ما كتبته قبل الاطمئنان الكامل والرضا الصِّحّي بما يحتويه.
واعلمْ -كما ورد في الخبر عن أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام- أنّ (الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس مِن الجسد، ولا خَيْرَ في جسدٍ لا رأسَ معه، ولا في إيمانٍ لا صبرَ معه).
إنّ العجلة وقلة الصبر أو قلة التصبر من دواعي الشيطان ومكرِه ومكائده وأشراكه وخِدَعِه؛ فالحذر من العجلة وضِيْقِ الفؤاد عن الاصطبار.
الأمر السابع: (المراجعة).
بمعنى أن تَقرأ ما كتبتَه بعد الانتهاء منه، تقرأه بتمعن وتركيز.
واعلمْ أن ما تكتبه إذا خَرج من عندك للعلن فإنه غير معلوم أن تستطيع التدارك وإرجاعه، كما سيتضح لك في الأمر الثامن الآتي. وكما قيل: ما تكتبه وتعلنه فهو مولودٌ لك كابنك، لا يمكن لك أن تَتبرأ منه؛ فاحذرْ أن تبادِر بالنشر قبل التفحص والتمحيص.
واعلمْ أيضاً أنك إذا خَتمتَ على ما كتبتَه وقلت انتهيت؛ فأنت إنما خَتمت على عقلك وأفكارك في ذلك الذي كتبته وأنهيتها؛ لذا دقِّق وراجع ١- قبل المشورة ٢- وقبل التعميم والنشر.
الأمر الثامن: (الإخلاص).
وهو الركيزة الأولى؛ فما كان لله يـَنْمو، وما كان لغير الله يـَنْفد ويـَضمحل ولا تحل فيه البركة وتَنالك به الشقاوة.
هذا؛ وإنما أخرتُ هذه الركيزة الضرورية اللازمة وجعلتُها الثامنة لاعتبارٍ فنيٍّ في تسلسل هذه الأمور، وإلا فالإخلاص هو أول الركائز ورأسُها وعَصَبُها؛ فهو من الإيمان كالصبر.
ثم إنه لو حصل التعميم والنشر ثم ظهر الخطأ؛ فيجب إصلاحه وعدم التهاون بتركه، وإلا كنتَ سبباً من أسباباً نشْر الباطل والحرام، وهذا الباطل قد يتراكم ويـَكبر من حيث لا تدري، وحتى بعد أن تموت؛ فتأتيك سيئاته وبلاياه في القبر من حيث لا تَحتسِب.
وكذا كما يجب إصلاح الخطأ كذلك يجب قدر الإمكان إبلاغ مَن قرأ ذلك الخطأ الذي كتبته.
إذا كان إصلاح الخطأ بشكل صريح أو الاعتراف بالاشتباه أو الإبلاغ عن تصحيحه يحرجك؛ فبإمكانك أن تَستعمِل طُرُق ذوقية لا توجِب لك الحرج ولا تحجبك وتمنعك عن أداء اللازم وإبراء ذمتك، فالطُّرُق والحلول في ذلك كثيرة، لو تفكرتَ أو استشرتَ حوْلها فستظفر منها بالكثير؛ وهذه الحلول الذوقية أستَعرِض لك منها مثلاً ما يلي:
أن تقوم بالتعليق على الموضوع في صميمه، أو نشرِه مجدداً في المساحة التي نُشر فيها لكن مع تغيير في العنوان والعبائر والتركيز على الخلل السابق بعنوان علاج تبرُّعي في صورة مطلبٍ جديدٍ أو تفصيلي، وغير ذلك من الطُّرُق التداركية. فالمهم أن لا تهمل ذلك وأن لا تتهاون بترك تصحيحه وإبلاغ مَن قرأه في صورته الخطأ قدر ما أَمْكن الوصول لهم، وأيضاً أن لا تقع في الكذب عند التصحيح، فلا بأس باستخدام عبارات لطيفة تبعدك عن الكذب فيما لو وسوس لك الشيطان بذلك وأَبت نفسك عن (الصدق الصريح).
إنّ الخطأ دَينٌ في عنقك؛ لذا نؤكِّد عليك ونوصيك بالمراجعة قبل المشورة، والعرض على من تثق بعلمه ونزاهته قبل التعميم والنشر.
الأمر التاسع: (تقَـبُّل النُّصح والتصويب).
بمعنى أنه لو وَجد الآخرون خطأً واشتباهاً فيما كتبت، وصَوَّبوا ذلك لك وصحَّحوه؛ فيجب أن يكون صدرك رحباً فسيحاً متواضعاً آخذاً بالصواب وأفضل المقال وأصح الوجوه والأقوال، فإنّ هذا رزق من الله عز وجل محروم منه الكثيرون.
كما يجب عليك حتماً الشكر لله وحمده تعالى على تسييره لك مَن يصوِّب اشتباهك وخطأك، والتشكر من الشخص المصوِّب؛ فالشكر من كمال الإيمان ومن الـمُروءة، و(مَن لم يـَشكر المخلوق لم يـَشكر الخالق)؛ فالتنكر للشكر لؤمٌ ومَذمة أخلاقية في النفس، ومن علل وأسباب انضمار الخير وانعدامه؛ لأنّ الشكر يحفز الآخرين على الـمَنح والعطاء، ويشعرهم بثمرية تقديمهم وإيجابيته؛ ومن ثم يحفزهم على الـمَزيد، والعكس بالعكس غالباً حال عدم شكر المحْسِن على جميلِ الصَّنيع.
ختاماً:
إنَّ حُب الكتابة، وكثرة القراءة، وخصوصاً مطالَعة آيات القرآن وقراءته بكثرة، وكذا الإكثار من قراءة الأحاديث؛ للتزود من بلاغتها وبراعة لسانها، وقراءة الحِكَم والشِّعر السلس السهل بالأخص المنسوب لأئمة الهدى عليهم الصلاة والسلام؛ كالديوان المنسوب للإمام السجاد صلوات الله عليه الذي قمنا بمراجعته للطباعة قبل فترة في الـمَجْمع العالمي لأهل البيت عليهم الصلاة والسلام للمؤتمر العالمي للإمام السجاد سلام الله عليه؛ فهو قَيّم ونافع جداً.
وكذا التركيز على أساليب كتابات الكُتّاب الصلحاء المرموقين، ومطالعة المعاجم اللُّغَوية لا سيما كتاب الفروق في اللغة لأبي هلال ومعجم المعاني الجامع فهو يغني اللسان ويكفي الطالب.
وكذا استيعاب المسائل العامة للعقيدة والفقه، مضافاً لممارسة الكتابة بصورة مستمرة، والاستفادة من ملاحَظات وإرشادات مَن يراجِع لكم، والتركيز عليها والعمل بها؛ فكل هذه الأمور تساهِم في سلامة المحتوى وثَباتِه ونفْعِه، وتقوية القلم وتَبريعه وتفويق جاذبيته، والأداء بالشكل الجيد والمطلوب، بل والمتميز.
وبالنسبة لمن يريد الكتابة في مجال علمي؛ فيجب أن يكون مطلعاً جيداً ومتخصصاً في ذلك المجال، فاحصاً، نبيهاً، وإلا فإنّ ما سيفسده أكثر مما سيصلحه، كما سيكون نزيلاً دنيئاً في قدره، حاسراً في بصيرة الداري بهفواته وسقطاته الفادحة العمياء.
علماً أنه كلما اتسعت معرفة الشخص، واتسع أفق نظره، وأخذ بعينه الأبعاد الآنيّة والمستقبلية؛ كلما كانت كتابته دقيقة ونورانية وفاعلة ومباركة.
هذه بعض الفنون اللازمة والأمور الضرورية التي تتطلبها الكتابة القصيرة. والحديث في تفاصيل ذلك واسع، لا مجال لاستيعابه في هذا الوجيز، ففيما ذكرناه هاهنا للأخت المؤمنة الفاضلة كفاية وإيفاء بالغاية.
أسأل الله لها مستقبلاً باهراً، وعملاً خالصاً، ومساهمات طيبة في بناء المجتمع، ومشاركة الآخرين بالفكر النبيل الطيب المبارك النافع.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أسألكم الدعاء
أمين السعيدي – قم
٣٠ رجب الأصب ١٤٣٥هـ
للتعلیق أو مطالَعة التعلیقات اضغط هنا