الإمارات تَرحل لوحدة والشعب السعودي أَسير مجلس!
لقد كنا نأمل وبشدة أن تكون بلادنا هي السباقة لرفع مشْعل الوحدة الوطنية وتجريم الطائفية. إنّ هذا الأمر المثالي يمثِّل فخراً عظيماً في المضمار الإنساني والوطني والديني والساحة العربية والإسلامية، فكم كنا نود أن نفاخِر العالَم بمثل هذا الفوز والانتصار الحقيقي الأكبر، لكن -ومع شديد الأسف- كان قدر هذا الشعب العظيم أن يتلقى صدمة لا يكاد العقل الإنساني والديني يصدقها، لقد صُدِمنا جداً حينما سمعنا بتعرُّض قانون تجريم الطائفية للفشل الذريع في مجلسٍ كان الأجدر به أن يكون على قدر كبير من القدوة للشعب والمواطنين، حيث صوَّت غالبية أعضائه بالضد لتشريع قانونٍ كهذا!
حقاً كان الخبر مأساة أشد ألماً في الشعب من ألم الإرهاب والتفجيرات البائسة.
وفي خضم ذلك لقائل أن يقول: إنّ في دستور الدولة ما ينص على المساواة بين المواطنين، وأن هذا بوحده يكفي لأن يكون نبراساً محقِّقاً للغَرَض المنشود؛ ومن ثم لا يوجَد ما يدعونا لسن قانونٍ جديد بهذا الصدد.
ولقائل آخر أن يبرِّر ذلك بمنحى آخر أقرب لمبادئ السياسة المعجونة بقوة القرار بما مؤداه: أن سَن مثل هذا القانون وفي مثل هذه المرحلة بالذات هو اعتراف بالخلل في الدولة وضعفها عن الإمساك بزمام الأمور؛ وبالتالي هذا يَقْدَح بمكانة الدولة وماء وجه الوطن وقوَّتِه؛ فيجب بناءً عليه تغليب هذه المصلحة على غيرها من باب أن الأهم مقدَّم على المهم؛ ومن ثم لا داعي لسن قانون تجريمي للطائفية خصوصاً في محنة الظرف الراهن.
ولقائل ثالث أن يخوض المسألة بطريقة أخرى تتلاءم مع الفكر الديني المتغطرس المحتسِب لأَناتِه وحده فيقول: أن سن قانونٍ يجرّم الطائفية لن يكون خادماً إلا للأقليات الصغيرة؛ ومن ثم هذا سيؤدي إلى استعظام الأقليات لنفسها ومطالبتها بمرور الأيام لما هو أبعد من ذلك في ظل حقوقها البشرية والوطنية والدينية، والحال أننا نحن الأكثرية في هذا الوطن وبهذه البقعة من الأرض ونمتلك عضوية كاسحة في المجلس؛ بالتالي لا داعي لإقرار مثل هذا القانون الذي يساوي غيرنا -القليل- بنا نحن الكثير بما سيؤدي لسحب بعض الصلاحيات التي نتمتع بها وحدنا ولو كانت على حساب استلاب حقوق وصلاحيات ذلك الغير وما يمْليه مرسوم العدل والعدالة.
وقد يقول قائل -بحسن نية أو سوء نية- بأن الذي مَنع عن تصدير قانون التجريم هو أن هذا الأمر له وزناً كبيراً وفخراً جليلاً، وهذا الفخر الجليل يجب أن يكون من حظ السلطة لا من حظ المجلس، فهذا الأمر الكبير لا يليق إلا بولي الأمر، سيّما في ظل حساسيته؛ ففكرة القانون الجبارة يجب أن تكون إبداعاً مختصاً بها؛ وهذا بالتالي أدى لتعطيله مؤقتاً إلى حين بروز أحداث مناسبة تَحمل معها الفرصة المواتية لإصدار السلطة بنفسها هذا القرار وحيازة مفاخره.
ولقائل خامس أن يتوجه بالمسألة لناحية أخرى أقرب للمنظار العملي والتطبيقي فيقول بأن قانون التجريم لو تم القَبول به في مجلس الشورى وصَوَّت عليه الأغلبية بالإيجاب؛ فإنّ هذا القانون سيكون حبراً على ورق مثله مثل المادة الناصة على المساواة الوطنية المعنية ضمنياً بتجريم الطائفية طوال هذه العقود الطويلة؛ وبالتالي فإنّ سن هذا القانون مع تعطيل تنفيذه لن يكن له أي معنى، سواء كان المعطِّل لتنفيذه هم الموظفون كما يحصل في كثير من القرارات الحكومية الكبرى الداخلية التي يعطلها المنفِّذون والموظفون أم كان المعطِّل جهة أخرى؛ وبالتالي لا داعي لسن القانون من أساس والوقوف ضده في جلسة التصويت أفضل.
ولقائل سادس أن يُقَيِّم المسألة وفق ميزان العدل على أنه هذا نتاج الديمقراطية؛ باعتبار أن المملكة تحاوبت مع النظام المدني بتعيينها مجلساً شورائياً، فكان لابد من الخضوع لطابع غَلَبة القرار بغَلَبة الكَم، حتى لو كان القرار المصوَّت عليه يتعلق بقضية كبرى حاسمة ترتبط بكل مقدَّرات الوطن، وحتى لو أخطأ الغالبية في التقدير بفعل عللٍ وأسبابٍ ما، ومهما كان ذلك الوطن يختلِف عن الأوطان ويمثِّل قِبلة القرآن.
ولسابعٍ أن يقول بأنّ الدافع لرفض القانون هو تخوُّف بعض الأعضاء من التهديدات الفعلية أو المحتمَلة الآتية من المعارضين على فَرْضِها ..؛ مما ساهم بتكثير الصوت الممانِع.
وقد يقول ثامن بأنّ فشل المجلس كان مصيدة فاصلة؛ لتسقط قيمته ويفقد أهمية وجوده.
أو يقال بأن هذه الأزمة الإرهابية مجرَّد حدثٍ طارئ يذهب بمرور الوقت كغيره، ثم تعود الأمور لسالف عهدِها؛ وبالتالي لا حاجة لسن مثل هذا القانون.
ولقائل آخر أن يفسر المسألة بحنكة أعمق وتدقيق أكبر فيقول بأن المانع مِن سن قانون التجريم هو أن الوطن لازال بحاجة إضافية لاستيعابه؛ فهو لا يزال بحاجة لأنْ يشعر أكثر بخطر الطائفية وتَذَوُّق مرارتها جيداً؛ لتكون فكرة سن القانون أكثر قَبولاً في النفوس؛ ذلك باعتبار أن هنالك من لا يَرى ما يستوجِب سن مثل هذا القانون الذي سيساوي بين الكثير والقليل، لكن عندما يكتوي الشعب بنار الطائفية جيداً، فتمس مَصالحهم؛ فإنهم عندئذ سيَهْرَعون لحفظ مصالحهم والخوف على أعراضهم ودمائهم وأموالهم؛ وبالتالي ستَكون أنفسهم مهيَّئة ومؤهَّلة جَمْعياً لاستساغة قانون التجريم والمطالَبة به بحزمٍ متين وإرادة بالغ ولن يكن حينئذ للشعب مطلب يعلو على هذا المطلب الذي قد يكون آنذاك مراداً للأكثرية أكثر؛ باعتبار أنهم يَحوزون المصالح الأكثر في هذا الوطن؛ وطبيعي أن القانون إذا سُن برغبة شعبية شاملة كاسحة وممتده؛ فإنه سيَكون أصلب وأقوى تقبلاً، بخلاف ما لو كان له جماعة كبيرة جداً تعارضه؛ إذ سيكلِّف ذلك أتعاباً كبيرة إلى حين الاعتياد الجماهيري عليه.
وغير ذلك من التحليلات التي يمكن أن تُطرح كمفسِّر لعلل النكسة التي حصلت تجاه قانون التجريم في بلدنا العزيز. مع لحاظ أن جميع هذه الوجوه قابلة للرد والنقاش، وأنها ليست إلا مثالاً للقَشَّة التي قَصَمَتْ ظَهر البعير! علاوة على أن بعضها له من يؤمن به وبعضها قد يكون لا واقعه له من حيث المجريات الحاضرة.
وعلى أي حال؛ فليس الغرض هنا أن نجيب على كل تفسيرٍ من هذه التفسيرات، فلكل عاقلٍ أن يتدبر فيها برُشدِه؛ سيما وأنه بات من الواضح للجميع أن سن القانون هو مطلب إنساني وديني وعربي وإسلامي واجب لا يمكن التجافي عنه بحال أو النقاش في ضرورته حتى لو غضننا النظر عن الإرهاب؛ ذلك لأن قانون التجريم هو مبدأ وأصل، والمبدأ الأصيل لا يتوقف على تَوفُّر حالة انفلات محددة قد تكون ليست إلا مجرَّد مصداق واحد أو مفردة عابرة تأتي وتذهب وتحل محلها صور انفلاتية أخرى خطرة -أو أخطر- بأشكال مختلفة تنتجها الكراهية والتحريض وتعصبات النفوس الضيّقة العابثة وعماء الجهالة واستئثار الأنا على حساب الوطن وترابه المشترَك ..
إنّ قانون التجريم هو الأصل الحضاري الذي عليه تقوم حضارة الشعوب والتداخل فيما بينها، وبدونه لا يمكن ادعاء الحضارة. ولا قيام لدولة دون حضارة.
ولسنا نَعرف شعوراً نقوله في هذه المرحلة المركزية سوى أننا أُصِبنا بنكسة أليمة عند بلوغ خبر الفشل الذريع الذي وقع فيه المجلس السعودي، المجلس الذي كان من المفترض له أن يكون وصياً على الشعب، المجلس الذي كان عليه أن يتحمل المسؤولية الإلهية تجاه هذا الشعب المنكوب وتجاه دماء أقاربنا وأعزتنا الذين سقطوا مضرَّجين بدمائهم الغالية وجراحهم المفجِعة. لكنه أبى إلا أن يسقط من اعتباريته ويفجع قلوب المواطنين المفجوعين بأشد من مرارة وجود القَتَلة والمجرمين الذين يتسلّون بأعراض ودماء ومشاعر هذا الشعب.
فجاءت دولة الإمارات بحكمتها سبّاقة لتَرفع وسام هذا المشعل وتَحوز مفخرته الكبرى الذي تطوَّقَتْ به لنفسها ولشعبها، فسنت (القوانين الصارمة الواضحة) الصادرة مباشرة من رأس السلطة، رغم أن الإرهاب ضرب الدول العربية المجاورة التي كانت أولى بالمبادَرة بعدما تَجرَّع أبناؤها ألم المحنة، فلله ذرها.
فيا شعب الإمارات العزيز؛ والله لسنا نخفي غبطتنا لكم، إننا لكم غابطون، إننا نغبطكم على ذلك، فهنيئاً لكم، فإنه حريٌّ بالإنسان -والمسلم العربي- أن يفاخِر الناس ويرفع رأسه ويصرخ بصوته: بلادنا العربية سَنَّتْ قانوناً يجَرِّم الطائفية.
لقد وددنا أن تكون بلاد الحرمين -البلد العربي الكبير- هي الفيض العرمرم في هذا الظلام الحالك، وأن تكون القدوة التي تؤم بقية الدول العربية لهذا النصر المجيد، وتكون بحق (أُم القرى) كما سماها الله تعالى في كتابه الأعظم على لسان نبيه الأكرم (ص)، بما هي الأم لكل البلدان وبوصلة علاج كافة المشكلات والقدوة الكفوءة والمَفْزع لجميع الدول.
وهنا نَسأل دولة الإمارات العربية الشقيقة بعض المسائل الصادقة والبريئة -مع الإعراض عن كثير من الأسئلة التي تدور في النفس- :
هل قامت الدولة بتشريع القانون بعد مساس الإرهاب بها أم قبله؟
هل لو كان للإمارات مجلس شورى طِبْق النُّظُم الديمقراطية، فهل ستنيط به مهمة التصويت على قانونٍ واجبٍ لا ريب في ضرورته إنسانياً ودينياً وحضارياً؟
هل لو أُنيطت مهمة الأمر للمجلس فأخطأ التقدير في هذه القضية الجازمة واضحة الوجوب، هل ستقوم بنفسها بتسلُّم زمام الأمر وحسْم المسألة واستقطاب أفئدة الرعية؟ ..
إننا والله حزينون، وبتنا نشعر بالكآبة مادام الذين يمثلون الناس في هذا المجلس يفسحون المجال للفساد والإفساد من حيث يدرون أو لا يدرون.
فهل سيُكَفِّر مجلس الشورى عن خطيئته العظمى بحق أبنائه؟
هل سيسبق الآخرين ليكون بلدنا هو العربي الخليجي الثاني الذي يسير على هذه الخُطى الواضحة الواجبة والمباركة؟
هل سيتدارك المجد قبل فواته؟ ..
أمين السعيدي
٣شوال١٤٣٦ – ٢٠يوليو٢٠١٥
للتعلیق أو مطالَعة التعلیقات اضغط هنا