سلوكيّات شيخ المدينة “الإمام علي بن الحسين(ع)” بين التّناقض والاستقامة [1]
قراءة تحليليّة لمسيرة الإمام (ع) على ضوء
رُؤية التّناقض في “سيرته التّجزيئيّة الواحدة” و”المجموع الكُّلِّي لسِيَر الأئمّة (ع)”
المقال الأوّل
أمين السعيدي
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
مقدِّمة
الحمد لله، أحمده بالحمد الّذي ارتضاه مِن خَلْقِه، وأَوجبَ قَبولَه على نفْسِه، والصّلاة والسّلام على جدِّنا المصطفَى، وحبيبِه المرتضَى، إمام الموقِنين، وسيّد المرسلين، وعلى آله الميامين وصحبه الطّاهرين.
وبعد..
أحببنا في هذه الإطلالة أن نقف وقفةَ تفكّرٍ وتدبّرٍ في مرحلة من أهم مراحل التّأريخ البشري الحافل بالوقائع والأحداث، تلك المراحل الّتي لازالت بأمسّ الحاجة للتّحليل والوقوف عند مفاصلها والنّهل من عطاياها الجمّة، فمورد الكلام -هنا- يرتبط بجنبة من جَنَبات الحياة الخالدة لسيّدنا ومولانا الإمام زين العابدين عليه أفضل الصّلاة وأتم التّسليم المليئة بالتّشريعات والفِكَر والعِبَر، فهذه الوقفة –في واقع الأمر- تتعلّق في المقام بتحليل حركته عليه الصّلاة والسّلام في الفترة الزّمنيّة الواقعة بين مرحلة واقعة الطَّف الأليمة وما تلاها، وتفسير مسيرته وفق أدوار الأئمة المتعدِّدة وأهدافهم الموحَّدة، وذلك وفق ما سنبيّنه من خلال هذه الوريقات وما تضمّنته من أبحاث.
تمهيد “في تعريف الإمام علي بن الحسين عليهما السّلام”:-
وسنتحدّث فيه –بإيجاز- عن جهتين تمهيديّتين بهدف تعريف شخصه عليه السّلام للدّخول في صلب البحث المراد خوضه؛ أمّا الجهة الأولى منهما فترتبط ببيان نَسَبِه وتأريخ مولده وبعض معالم نشأته وتأريخ استشهاده، بينما سنختص الجهة الثّانية باستقراء وعرض شيء من أقوال الأعلام والرّجاليِّين والجمهور الإسلامي فيه، وذلك على النّحو التّالي:
1- هويّة الإمام زين العابدين (ع) من حيث المولد والمَنشأ والرَّحيل:-
هو أبو محمّد علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم الصّلاة والسّلام.
فأبوه هو سيّد الشّهداء سبط رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم، وأحد سيِّدَي شباب أهل الجنّة الحقيق بجنّة الله والمبشَّر بها الفائز بأعلى مراتبها باتّفاق قاطبة المسلمين على الإطباق.
وأمّه هي حرّار بنت يزدجر –كسرَى ملك الفرس- أو غزالة حسبما غَيَّر الإمام الحسين عليه السّلام اسمها بعد زواجه منها[1].
وجدّه من أبيه هو أمير المؤمنين وسيّد الوصيِّين، خليفة رسول الله صلَّى الله عليه وآله مسلَّم، ومنزلة هارون منه من موسَى، علي بن أبي طالب بن عبد المطّلب الهاشمي القرَشي عليه أفضل الصّلاة وأتمّ السّلام.
وجدّته من أبيه هي سيّدة نساء العالمين الطّهر الطّاهرة، الّتي عرّفها القرآن بالكوثر وفضيلة الله سبحانه علَى رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فاطمة الزّهراء أفضل صلوات الله وأتم تسليمه عليها.
وجدّه من جدّتِه من أبيه هو سيّد العرب وكافّة الخلق، خاتم الرّسل والنّبيِّين وسليل الطّاهرين، وخِيَرَة ربِّ العالمين، محمّد بن عبد الله بن عبد المطّلب الهاشمي القرَشي صلَّى الله عليه وآله وسلّم.
وبهذا فهو عليه أفضل صلوات الله وملائكته ورسله ابن الصّالحين صالحاً من صالح، ومن أهل بيت النّبوّة، ابن أحد الخمسة الّذين جلّلهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بكساء اليمن يوم نزلت فيهم {إنَّما يُرِيدُ الله}[2]، ومن قريش، وتحديداً من بني هاشم الّذين يَفْضلون على جميع الخلق، وحقّه على كل المسلمين بهاشميّته –فحسب- لا يَجوز إنكاره باتّفاق المذاهب الإسلاميّة؛ لما لبني هاشم وذرّيّة رسول الله وأبناء هذه الذّرّيّة من أحكام إلهيّة خاصّة موضوعها وإناؤها ومعدنها قوله عزَّ وجل:
{لا أَسْأَلُكُمْ عليهِ أَجْراً إلا الـمَوَدّةَ في القُربَى}[3].
وعن أمير المؤمنين علي عليه الصّلاة والسّلام: (لا يقاس بآل محمّد صلَّى الله عليه وآله من هذه الأُمَّة أحد، ولا يُسَوَّى بهم مَن جَرَت نعمتهم عليه أبداً، هم أساس الدِّين، وعماد اليقين، إليهم يفيء الغالي، وبهم يلحق التّالي[4]، ولهم خصائص حقِّ الولاية، وفيهم الوصيّة والوراثة، الآن إذ رجع الحقُّ إلى أهلِه، ونقلَ إلى مُنْتَقَلِه)[5].
فهذه الأحكام الخاصّة بأبناء رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في كلِّ مكان وزمان وإن كانت مضيّعة في غابر السّنين وحاضرها بين المسلمين، إلا أنّها مفروضة منصوصة قائمة فتوىً لدى جميع العلماء والفقهاء وإن لم نعد ندركها –في كثير من الحالات- إلا بالسّماع بها بين النّاس دون رؤيتها والعمل بها!
ثمَّ له بعد هذا الحق –على الخلق والمسلمين خاصّة- حقّ إمامته وخلافته، فهو الإمام الرّابع من أئمّة أهل البيت الاثني عَشَر عليهم الصّلاة والسّلام والتّحيّة والإكرام، الّذين نصَّ عليهم الرّسول الأعظم صلَّى الله عليه وآله وسلّم بإقرار العامّة قبل الخاصّة، حيث ورد النّص على ذلك في صحيح البخاري وصحيح مسلم بصحّتيهما جملةً وتفصيلاً لثقَتَي الثِّقاة عند أهل السّنّة والجماعة –الإمام محمَّد بن إسماعيل البخاري الفارسي والإمام مسلم النّيسابوري- قبل غيرهما من سلف الأعلام، حيث جاء فيهما عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم:
(الخُلفاء بعدي اثنا عشر كلّهم من قريش)[6]، وهو حديثٌ تبيِّنه الصّحاح السّتّة من قوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم في المتواتر: (إنّــي تاركٌ فيكُمُ الثــَّـقــَـلــَـيْنِ، كتابَ اللهِ وعـِـترتِـي أهلَ بيتي فإنــَّـهـُما لن يـَـفترِقا حتــَّى يَرِدا عليَّ الحَوضَ).
فشموخه شموخ، ولا نسب يجاري نسبه الأعظم.
أمّا يوم مولدِه؛ فقد وُلِدَ في الخامس من شعبان سنة ثمان وثلاثين للهجرة المباركة، وقيل قبل ذلك، بما يَفْرق بسَنتين أو سنة.
وتوفّي بالمدينة المنوّرة في الخامس والعشرين من محرّم الحرام سنة 99هـ، وقال قوم سنة 100هـ، وله ثمان وخمسون سنة[7]، وقال قوم من علمائنا الأجلاء الأعلام غير ذلك.
وبهذا نَتَجَ أنّه أدرك جدَّه عليّاً عليه السّلام، وتربَّى في كنفه، كما أدرك بعده عمّه الحسن بن علي السيّد الثّاني من سيّدَي شباب أهل الجنّة، فعاش مراحل زمانه في خلافته، ودور عمّه بالكامل عن كثب بعينٍ باصرة وأُذُنٍ واعية وقلبٍ متوجّه وعقلٍ عليم وروحٍ عالية، كما عاش مرحلة أبيه، وشارك في معركة الطَّف الدّامية، وثورة الأنبياء السّامية، غير أنَّ المرض أعياه عن الشّهادة، والسِّلّة في مبدئه ومبدأ آبائه الأعاظم لرفض الذِّلَّة.
وفي المقابل عاصر أغلب حكّام بني أميّة، حيث شهد عهد يزيد بن معاوية، وعهد أبي ليلَى معاوية بن يزيد الّذي حكم أربعين يوماً –وقيل أربعة أشهر- ثمَّ رفض الـمُلك والخلافة وتوفي وهو ابن ثلاث وعشرين سنة وكان له مذهب جميل[8]، وعهد مروان بن الحكم الّذي عاصره سلطان عبد الله بن الزّبير فتشابك حكمهما في البلاد، وعهد عبد الملك بن مروان بن الحكم قاتِل ابن الزّبير في البيت الحرام عن طريق واليه الحجَّاج بن يوسف الثَّقَفي، والوليد بن عبد الملك بن مروان، وسليمان بن عبد الملك بن مروان، كما شهد شطراً من أيّام عمر بن عبد العزيز الّذي “تَرَك لعن علي بن أبي طالب على المنبر، وكتب بذلك إلى الآفاق…، وأَعطَى بني هاشم الخُمس، ورَدَّ فدكاً، وكان معاوية أقطعها مروان، فوهبها لابنه عبد العزيز، فورثها عمر منه، فردّها على وِلْد فاطمة، فلم تزل في أيديهم حتَّى ولي يزيد بن عبد الملك، فقبضها”[9].
وغير ذلك ممّا سيأتي.
2- هويّة الإمام زين العابدين (ع) من حيث التّراجم وأقوال الرّجاليِّين والأعلام والعلماء:-
قال سعيد بن المسيَّب: “ما رأيت قَط أفضل من علي بن الحسين، وما رأيته قَط إلا مقتُّ نفْسي”[10]، وكما ترَى فهذا كلام مطلق يفضي إلى اللانظير في قلوب وعقول القوم ممّن عاصروه وعاينوا فِعاله عن قرب وحِس، والإنسان جُبِل على حِسِّه أكثر منه على عقله، فهو يعبِّر بما يراه ويدركه بكامل مشاعره ودواعي وجدانه، و”قَط” ليست إلا تعبيراً واعياً صادقاً طافحاً بذلك وعنه.
“وكان بعض الأشراف إذا ذكر علي بن الحسين يودّ النّاس كلّهم أنَّ أمّهاتهم إماء”[11]؛ فهؤلاء رغم شرفهم وكونهم من الأشراف كانوا يغبطونه في نسبه، لا لأنّه ابن بنت يزدجر كسرَى، وإنّما لأنّه ذلك العبد الصّالح الكريم، الّذي جُمِعَتْ له المكارم في الخصال والنّسب معاً، فهم نالوا شرف النّسب ولم يصلوا لمنزلته لا فيما نالوه –فهو ابن الخِيَرَتَين كما لُقِّبَ لقول رسول الله “ص”: (لله في عبده خيرتان، فخيرته من العرب قريش، ومن العجم فارس) فهو من أبيه ابن قريش وسيد العرب ومن أمّه ابن يزدجر كسرَى- ولا في علمه وتقواه وعبادته.
وقال الزّهري كما عن تأريخ أسماء الثّقاة: “ما رأيتُ قرشيّاً أفضل منه”[12]؛ وهو تعبيرٌ يجاري سالفه، ويَشْمخ به على عروق العرب وأنسابهم، وليست قريش بأدون الأنساب، بل هي أعلاها وأقصاها.
وقال في مناسبةٍ أخرى فيه أيضاً: “ما رأيتُ هاشميّاً أفضل من علي بن الحسين ولا أفقه منه”[13]؛ ولك في هذا ما يحمله من عرق النّبي الأشرف واختصاصه به بعد تشرّف الكون والوجود بوطأته على أرض الدّنيا، ناهيك عن شهادة الشّاهد بأنّ عليّاً ما كان “أفقه منه”، وكل هذا المقال بعينه تجده –أيضاً- في كلامٍ لسفيان بن عيينة[14] بلا أدنى فارق.
وقال الإمام مالك: “سمِّي زين العابدين لكثرة عبادته”؛ وهذه –وأنت خبير- شهادة بقمّته في قِمم العروج والصِّلة بربّه وتعفير جنبه وجبينه له بلا منازع، حيث فسّر في مقولته سبب تسميته بـ”زين” مضافة لـ”العابدين”.
وقال الإمام الشّافعي: “أفقه أهل المدينة”[15] كنايةً عن أنَّ أهل المدينة لا أفقه منهم، كيف ذاك وهم صحب النّبي ومحط الجل الأكبر من كتاب وحي الله الكريم وإعجازه، بل والكل الكامل من أحكام شريعة الإسلام حيث نزلت آيات الهدي والتّهديد في مكّة، ففرقت بها من صفةٍ عن صفةِ آيات الأحكام الّتي نزلت في المدينة المنوّرة، وبالتّالي إن كان بشهادة الإمام الشّافعي قطب المذهب الشّافعي صاحب الوزن الكبير بين مذاهب العامّة هو أفقه أهل المدينة؛ إذن هو أفقه الجميع بما لا يدانيه من أهل البلاد الإسلاميّة قبل غيرها من البلدان الأخرى، وهذا ما يعضده الإطلاق في عبارات غيره ووثائقهم ممّا تقدّم.
وقال فيه اليعقوبي المؤرّخ العبّاسي المعروف: “كان أفضل النّاس، وأشدّهم عبادة، وكان يسمَّى زين العابدين، وكان يسمّى أيضاً ذا الثّفنات؛ لِـما كان في وجهه من أثر السّجود، وكان يصلِّي في اليوم والليلة ألف ركعة، ولَـمّا غُسِّل –يقصد بعد استشهاده- وُجِدَ على كتفيه جُلَب[16] كجُلَب البعير، فقيل لأهله: ما هذه الآثار؟ قالوا: من حمله للطّعام في الليل يدور به على منازل الفقراء”[17].
هذه مقولة الأعلام وأمّا مقولة الحكّام:
فقد قال فيه حاكم عصره ممّن هو من ألذّ أعدائه وأعداء أبيه وقتلة رجاله وأقاربه وأهل بيته وسُفّاك دم الحسين عليه السّلام الطّاهر ممّن استباح حريم الرّسالة وأسَرَه في جُلّةٍ من الحرائر الطّاهرة والنّسوة من الأصول الفاخرة، وشَرَّدَ ذرّيّة النّجباء وطارد الأحرار في كلِّ واد، عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي المعروف، حيث كان يخاطبه بقوله:
“ولقد أُوتيتَ من العلم والدِّين والورع ما لم يؤته أحد مثلك قبلك إلا من مضَى من سلفِك”[18]؛ فما أجد لي بعد هذا القول الحقيق من عاقبةٍ أو تعليق.
ومثله القول فيما قال عمر بن عبد العزيز فيه عندما ذكره يوماً فقال: “ذهب سراج الدّنيا، وجمال الإسلام، وزين العابدين”[19].
وقول ملك الرّوم في كلامه لـمّا بلغه جواب عبد الملك بن مروان في ردّه على تهديده –كما سنبيّن- يوم عالج الإمام عليه السّلام الموقف وحمَى الأمّة من التّصادم بجيش الرّوم الجرّار: “ليس هذا كلامه –يعني ليس كلام عبد الملك بن مروان- هذا كلام عترة نبوّته”[20]، أو كما في مورد آخر، حيث قال: “ما خرج هذا إلا من كلام النّبوّة”[21]، يعني الإمام عليه الصّلاة والسّلام.
فكفاك هذا، وحسبك، وكفانا عن قول الخاصّة بعد أن تهافتت أقوال العامّة للقول فيه بكل ما هو جليلٌ من تعابير اللغة، وعالٍ من الحقائق النظِرة، في إمامٍ كان يقف شامخاً كبيراً عظيماً على سُرُجِ البيت العتيق فيتلاقف لمساته النّورانيّة ذاك الحَجَر الأسود في ركنه، ليفخر بحناياه العطرة على كلِّ الوجود، وقد انشقَّت له جماعات الحجيج المحتشدة سماطَين كما ينفرج الجيش العنيد ببواسله أمام وطأة الفارس الأَنْزَع، بينما يَعسر ذلك على الملوك رغم ما لهم من سلطان وقوّة واقتدار وسطوة بحيث تنتظر انتظار الرّعايا لجلوات مليكها، كما حصل للأموي هشام بن عبد الملك، ليجيء فخر المؤمنين وسليل عُرَى الفلاح بخشوعِه ووصالِه فتَفْتِق له الصّفوف المتراصّة سبيلاً تلتهي منه بنظراتها الشّاخصة وأنفاسها المتلهّفة لطلعة ابن رسول الله، ووالد باقر علوم الأوّلين والآخرين، حتّى يقف الشّاعر الأنصع شعراً، والألذُ مذاقاً وحِسّاً، لا غاوياً ولا هائماً ولا وجلاً، فيرتجل فيه –ردّاً على الحاكم السّائل المستفيض بالعَجب المتزلزل بسلطنته وسلطانه- بأبياتٍ ملأ الدّنيا رنينها، وخطَّت كتب التّأريخ سطورها، بعذب كلماتها الفوّاحة الممتزجة بوحي الكلمات ومعانيها العالية الّتي لا ينسجها ولا يدركها غير قدير، لتقول للدَّعي مقولة الطّاهر ابن الطّاهر:
أنت حاكم الأجساد وهذا حاكم القلوب!
ولتردَّ مقولة القائل: “أَعْذَبُ الشِّعرِ أَكْذَبُه” بأنَّ: “أَروعَ الشِّعرِ أَصْدَقُه”.
وهنا لنا وقفة عابرة مع صدرِ بيتٍ واحدٍ من تلك القصيدة الفرزدقيّة وعجزه القائل فيها شاعرها:
ما قال لا قَطُّ إلا في تشهّدِهِ لو لا التَّشهّدُ كانت لاؤُهُ نَعَمُ[22]
وهذه المنقبة الرّفيعة للإمام عليه السّلام هي من أبرز سجاياه وصفاته العالية، وشهادة أخرى من الشّهداء، إلا أنّنا يمكن أن نُلفِت القارئ إلى معنيين قد يتراودان في قلب الشّاعر ولا يُلتَفَت إليهما معاً من قِبَل القارئ، وهما:
الأوَّل: أنَّ قوله “لو لا التّشهّدُ كانت لاؤه نَعمُ” يُفهم منها أنَّ نفْس التّشهّد لو لم يتضمَّن كلمة “لا”، لما صدرت عنه عليه السّلام هذه الكلمة أبداً تبعاً لسجيّة الكرم فيه من آبائه الطّاهرِين، وبهذا تكون “لا” التّشهّد في عَجْزِ البيت استثناءً من قوله: “ما قال لا قَط” في صدر البيت ومصداق أداة الاستثناء “إلا” الواردة فيه؛ أي لم يقُل “لا” أبداً في جميع حالاته غير حالةٍ واحدة، هي حالة التّشهّد، وإلا لو لا التّشهّد لما سُمِعَ منه هذه الكلمة ولما صدرت عنه، فهو الكريم ابن جدّه وأمّه وآبائه الكرماء.
الثّاني: أنَّ قوله “لو لا التّشهّدُ كانت لاؤهُ نَعَمُ” يراد به من الشّاعر كون نفس كلمة “لا” تعني “نَعم”، وبتعبير آخر: أنَّ قول أشهد أن لا إله إلا الله، هي بمثابة نعم الإله هو الله وحده، فهي مستبطِنة لمعنى الإثبات لا لمعنى النّفي، وبهذا تكون العبارة في عجز البيت مصداق العبارة في صدره القائلة “ما قال لا قَط” لا بالاستثناء منها؛ أي ما قال “لا” أبداً ولا في حالة من حالاته، وحتّى الّتي يقولها في التّشهّد إنّما هي نَعَم وتذلّل وإذعان، فكلّه عطاءٌ وكرم.
والمعنى –كما يقال- في قلب الشّاعر، ذلك الشّاعر الّذي راح ضحيّة الحقِّ والحقيقة، فهذه الكلمات والحقائق الواردة في القصيدة هي الّتي جعلت من الأبرش الكلبي ينجو من سطوة هشام بن عبد الملك حين أنكر عرفانه بالإمام، في الوقت الّذي كلَّفت فيه الفرزدق أن يُحْبَس بين مكّة والمدينة غضباً منه على جوابه له بهذا الجواب المذِل.
مَدْخَل لموضوع البحث “تحديد زاوية الكلام”:-
وهنا نستقل عمّا سبق الكلام فيه لننتقل إلى صلب حديثنا المقصود فيما نحن فيه، وهو –كما أسلفنا- حديث يدور في نطاق تحليل سيرة الإمام عليه السّلام في خصوص دوره المتعلِّق بالمرحلة الواقعة بين واقعة كربلاء الدّامية ومقتل أبيه عليه السّلام وما تلاها؛ لذا نقول:
إنَّ المحلِّل لسيرة ومسيرة الأوصياء من أهل البيت عليهم أفضل الصّلاة وأتمّ التّسليم قد يجد فيها –للوهلة الأولى- أشكالاً عديدة من التّضاد والتّناقض فيما يخص أدوارهم وسلوكيّاتهم المختلفة، حيث يجد –حسب بعض الرّؤى المطروحة- شيئاً من التّباين الظّاهر على صعيد العمل الإسلامي والتّحرّك السّياسي والقيادي ما من شأنه أن يولِّد نظرةً ورؤيةً من هذا القَبيل؛ هذا ما أشار له بعض الأعلام العلماء وردّه ووجّهه وأثار موارد السّلب والخطأ فيه.
إلا أنَّ توجيه ذلك وإن تناوله البعض من الجنبة المذكورة –السّياسيّة- وأعرض عن الجنبة الدّينيّة، حيث كان يرى فيها وحدة في الهدف على الرّغم من التّعدّد في الأدوار، فهذا التّوجيه والتّصحيح المستقطب لفكرة الوحدة الهدفيّة والتّعدّديّة الوظيفيّة بما له من اهتمام خاص بالجنبة القياديّة لا يعفونا من الوقوف على الجنبة الدّينية، ممّا يلزمنا بتوسعة الفرضيّة لذلك، إذ قد نجد –أيضاً- للجنبة الدّينيّة متغيّرات واضحة على طول الخط الجهادي والعملي من جهتهم صلوات الله التّامّة وتحيّاته الوافرة عليهم، وهذا ما يفرض لها تحليلات خاصّة بما يحتاج للوقوف عندها والتّفكّر الدّقيق في تفصيلاتها.
لكنّنا مع ذلك –نظراً لضيق المقام- سنتكلّم بشكلٍ خاص عن خصوص الحيثيّات السّياسيّة والقياديّة الّتي مارسها كل فرد من أوصياء رسول الله صّلى الله عليه وآله وسلّم الاثني عَشر، لنتناول على ضوئها حركة الإمام علي بن الحسين عليه السّلام ودوره السّياسي والقيادي في الأمّة.
هذا ونشير إلى أنَّ فرضيّة التّناقض، أو قُل رؤية التّناقض المطروحة رغم وجاهة طرحها من الجهة العلميّة إلا أنّنا نرى استقلالها –أيضاً- بجنبة استعراضيّة خاصّة بالمجموع الكلّي لأدوار الأئمة عليهم السّلام بعد الفراغ عن السّيرة الانفراديّة التّجزيئيّة لكلِّ فردٍ منهم، غير أنَّ هذا لا يعطي للفرضيّة سعة تفي بشموليّتها لكافة أشكال التّباين والتّناقض المفترضة والشّكليّة، حيث أنّ ما تمّت إثارته تجاه المجموع الكُلِّي على أساس السّيرة الجزئيّة الفرديّة، هو بذاته يرد –أيضاً- في الكثير من السِّيَر الجزئيّة الفرديّة بما هي سيرة واحدة منفردة لكل معصوم منهم عليهم أفضل الصّلاة والسّلام بغض النّظر عن غيرها من سِيَرِهم؛ وهذا ما سنلحظه ونبيّنه –أيضاً- في المباحث الآتية الّتي سنتناول فيها سلوك الإمام زين العابدين عليه السّلام على ضوء ذلك.
ومنه تلخّص أنّنا سنستعرض سيرة الإمام علي بن الحسين عليهما السّلام بالتّحليل على مسارين؛ مسار المجموع الكُلِّي للسِّيَر الجزئيّة على ضوء تعدّد أدوار الأئمّة عليهم الصّلاة والسّلام ووحدة أهدافهم، ومسار المجموع التّجزيئي لكل سيرة واحدة منفردة من هذه السِّيَر، وتحديداً سيرة الإمام السّجّاد عليه السّلام الّتي هي مَعْرَض حديثنا.
الدّاعي لِطرح موضوع البحث:-
إنَّ من أهم ما يدفع بنا لتناول هذا الموضوع الحاضر بين أيدينا يكمن في بيان وتوجيه عدّة نقاط من أهمّها ما يلي:
1- ما نجده من القوم –خصوصاً من الخاصّة- من تصويرات سلبيّة لحركة الإمام السّجّاد عليه السّلام وإن كان ذلك غير متقصَّدٍ ويَلتف فكريّاً عند الكثير بقالب الإيجابيّة، حيث يُصوَّر الإمام عليه السّلام –بدءً من حادثة الطَّف التّي حضرها في صغر سنّه وريعان شبابه- على أنّه ذلك الشّاب الضّعيف الهزيل العليل المريض جسديّاً الـمُدْنِف المانعة له علّته عن نصرة أبيه وسلِّ السّيف للذّب عن كرامة نسائه وأهل بيته وأصحابه.
كما يصوَّر –انتهاءً من عوارض كربلاء المباشرة وحوادثها المتعاقبة ليوم الطَّف- على أنَّه ذلك الرّجل الّذي لم يُعرف عنه إلا كثرة البكاء على ما حلَّ بأبيه السّبط وبنساء الرّسالة وأنصار الدِّين، وأنَّه ذلك الرّجل المعتزل العابد المتفكّر السّاجد، الّذي كان من كثرة سجوده يقطع عاماً بعد عامٍ جزءً من جبينه الشّريف بسبب تكدّس الدّم فيه واختماره في داخل جلده واسوداده به، لَـحتَّى كان يسمَّى ذا الثّفنات.
فالإمام بأبي وأمّي وإن كان الرّجل الأمثل على جميع هذه الأصعدة إلا أنّه كانت له ريادة وزعامة وحركة كبيرة وحاسمة في مصير الأمّة حاضرها ومستقبلها بكل ما للكلمة من معنى، وهذا عين ما سنتكفّل إثباته بالدّليل والبرهان.
هذا من جهة.
2- ومن جهة أخرى نرَى أنَّ من أهم ما يدعونا للخوض في موضوعنا هذا هو ضرورة التّعرّف على سلوك الإمام عليه السّلام على الصّعيد السّياسي والقيادي وعدم عزله عنه؛ لننهل من ذلك ما نقوّم به مفاهيمنا ومسيرتنا وحركتنا على صعيد العمل الدّيني والإسلامي والإنساني، في الوقت الّذي سنعمد فيه للوقوف على نقاط مهمّة من سلوكه الدّيني وعمله الرّسالي العبادي.
3- دفع التّباينات والتّناقضات الّتي قد توجّه لسيرته الخالدة في قِبال سِيَر الأوصياء عليهم السّلام ممّن سبقه وتلاه.
4- دفع التّباينات والتّناقضات الّتي قد توجّه لسيرته الواحدة بما هي سيرة انفراديّة خاصّة تتضمَّن العديد من الممارسات والسّلوكيّات.
منهجيّة التّباين في سيرة الإمام السّجّاد وفق المجموع الكلّي لسِيَر الأئمّة عليهم السّلام:-
تحت هذا العنوان نستعرض صورة عامّة من سِيَر الأئمّة عليهم السّلام، ومن ثمَّ نقدِّم هذه الدِّراسة في صورتها التّباينيّة لنستعرض على غرارها أبرز منعطفات سيرة الإمام علي بن الحسين عليهما السّلام، لننتهي من ذلك في الجهة الثّالثة باستخلاص المعالم العامّة لأدوار الأئمّة عليهم السّلام وسلوكيّاتهم على خط تحرّكاتهم المتعدّدة، وذلك كما يلي:
أوّلاً: سِيَر الأئمّة عليهم السّلام في ظل هذه الرُّؤية:-
سبق أن أشرنا للرّؤية –الشّكليّة- القائلة بأنَّ ملاحظة السّيرة التّجزيئيّة الانفراديّة لكل شخص من أئمّة أهل البيت الاثني عشر عليهم الصّلاة والسّلام ثمَّ عَرْض ذلك على الكل العام للحركة العمليّة الّتي مارسوها؛ يفضي للوصول إلى نتيجة تقضي بظهور أمارات ومعالم واضحة من التّضاد والتّناقض بين كل مسيرة جزئيّة ككل مع الأخرى، أو لا أقَل بين بعضٍ من ذلك مع البعض الآخر.
فمثلاً: عندما نتأمّل سيرة الإمام علي عليه السّلام من جهة المحنة الّتي مرّت فيها الأمّة والنّكسة الّتي تلقّتها بعد رحيل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، واختلاس حقّه، وانتزاع إرث زوجه الطّاهرة المطهَّرة، وميراث ابنيه، وإقصائه عن شأنه وعن خلافته الإلهيَّة، نجده في فترته التّأريخيّة من المرحلة المختصّة بما بعد تسنّمه لزمام القيادة بعد عرض الجمع مقتله عليه في خيار رفضه لها، فمن هذه الجهة نلاحظ جليّاً كيف جابه معاوية بن أبي سفيان بن حرب بحدِّ الصّارم دون أدنى هوادة.
وفي نفس هذه المرحلة وبنفس الخيار والطّريقة نجده قد واجه قبل معاوية زوج النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عائشة وجماعة الجمل من الصّحابة حين خرجوا عليه ونكثوا بيعتهم إليه.
وبذات الأسلوب –أيضاً- واجه بعد معاوية جماعة الخوارج وكتيبة الانحلال الّتي انجلت عن جيش المؤمنين المعاهدين في عَرَصات صفِّين، بما كانت تحمله من ثقل وعُبّاد وحشود من أولئك الّذين شهِدوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وحضروا محضره وسمعوا حديثه في مختلف الوقائع والأحداث، لا سيّما ما كان منها يرتبط بخلافة سيّدهم وأعلم النّاس فيهم بعد رسولهم وأشدّهم إيماناً وحرصاً على الدِّين والملّة، وهو عليٌّ عليه السّلام، الّذي نال منهم الويلات والـمُرُوق والشّتائم لحتَّى كفّروه وأخرجوه من دائرة الإسلام وجماعة المسلمين!
وعندما نتأمّل سيرة ابنه الحسن عليه السّلام الخليفة الثّاني من بعده بنصِّ الوصاية الوارد عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في حديث الاثني عَشَر المأثور عند أبناء العامّة قبل غيرهم، فعند تأمّل سيرة هذا الإمام الّذي عاش مرحلة أبيه السّابقة بكلِّ تفاصيلها؛ نجده قد هادن معاوية وقَبِل بالصّلح معه رغم شدّة كفاح أبيه علي عليه السّلام في حربيه وبعث برقيّات التّنكيل به، ورغم علمه بفساده، بل ورغم شدّة أذى جيش أبيه له وممانعة مَن معه له في ذلك للدّرجة الّتي سلبوا فيها عباءته ولباسه وشتموه ونكّلوا به ووصفوه بـ”مذل المؤمنين”!
بينما في الواجهة الأخرى نجد أخاه الحسين عليه السّلام -الخليفة الثّالث بنصِّ الوصاية- الّذي عاش المرحلتين بمختلف تفاصيلهما، مرحلة أبيه ومرحلة أخيه، بما تحملانه من قتال وصلح؛ فبينما نجد سلوك الإمام علي عليه السّلام قد جاء بارزاً في أداء دور الحرب في شدّة مواجهاته للنّاكثِين –مَن نكثوا البيعة وهم أهل الجَمَل- والمارقِين –وهم الخوارج أصحاب النّهروان- والقاسطِين –أي الجائرون وهم أهل صِفِّين- لا سيّما مع معاوية، وسلوك الإمام الحسن عليه السّلام قد جاء واضحاً بارزاً في أداء دور الصّلح والمعاهدة مع هذا الرّجل، نجد الإمام الحسين عليه السّلام في الوجهة الأخرى يستجيب لدعوة المسلمين في العراق وبالتّحديد في الكوفة مركز دولة أبيه والبقعة الأشد حساسيّة من بقاع الدّولة الإسلاميّة الشّاسعة، فيرفع صوته في وجه يزيد بن معاوية ناكراً للظّلم ويسل حسامه على فرض ما لو دعت نصرة المظلوم لذلك.
فمسيرة الحسين عليه السّلام للكوفة منطلق جيوش المسلمين آنذاك ومعسكرهم بما تحمله الكوفة من رجال كثر كانوا ممّن حارب معاوية مع أبيه علي عليه السّلام ونصر أخاه الحسن عليه السّلام، وبما لتلك الفترة من توتّر أموي تجاه أهل هذه البقعة، كل ذلك لا يفارق فرضيّة أن تدعوه عليه السّلام تلك الظّروف للسّلّة والقتال في قِبال الظّالم، كيف لا وقد أعلنها صراحةً بأنّه سيحاط به ويُقتل شرَّ قتلة.
وعندما نتأمّل سيرة الإمامين الباقر محمّد بن علي بن الحسين عليهم السّلام وابنه الصّادق جعفر بن محمّد عليهما السّلام؛ نجد أنَّ دورهما كان قريباً من دور أبيهما الإمام السّجّاد علي بن الحسين عليهما السّلام حسبما سنوافيك.
فالإمام الباقر عليه السّلام نلاحظ أنّه في الوقت الّذي سلك فيه سلوك أبيه علي بن الحسين عليهما السّلام قد غاير ذلك وباينه في عهده الّذي عرف بالعلم والمعرفة والانفتاح على الحضارات الأخرى وترجمة كتب الماضين من اليونان وغيرهم، حيث أخذ بنشر العلوم وإقامة المدرسة الإلهيّة المعرفيّة العظيمة في عِلْمَي العقيدة والفقه وغيرهما، إذ بثَّ من خلال ذلك زخماً كبيراً من علم جدّه صّلّى عليه وآله وسلّم وما أفاض به الوحي عليه، وواجه بريادته في طور مسيرته جنباً إلى جنب ابنه الصّادق كل مستَجَدٍّ عِلمي، فراح يبدِّد كل ما يستعصي على الأمّة من الرّد على أفكار الأقوام الأخرى الدّخيلة الفتيّة قِبال معتقدات أبناء الإسلام وعلمائه.
فالإمام الباقر عليه السّلام وإن كان له نحو من الممارسات العباديّة الواضحة المقاربة في سلوكيّاته لسلوك أبيه الإمام زين العابدين عليه السّلام الّذي عرف بهذا الجانب بصورة بيّنة، إلا أنَّ تلك الممارسات كانت في درجتها العمليّة أقرب للصّورة الّتي كان عليها بقيّة الأئمّة عليهم السّلام بما هم أفراد يشتركون في هذه الصّفة اشتركاً موحّداً، وتتفاوت درجاتهم من جهة ذلك بحسب ما يظهر للنّاس، لذا لم يكن مستوى العبادة في النّقل عن سيرة الإمام زين العابدين عليه السّلام بنفس مستوى ودرجة العبادة في النّقل عن سيرة بقيّة الأئمّة عليهم أفضل الصّلاة وأتم التّسليم.
وبالتّالي نجد التّباين في سيرة الإمام الباقر عليه السّلام في ظل المجموع الكلّي لسِيَرِهم عليهم السّلام يظهر في اعتزاله الواضح –بذات الفرضيّة والرّؤية السّطحيّة- للجنبة السّياسيّة على خلاف آبائه، واهتمامه في المقابل بنشر العلم والمعرفة، رغم حضوره –أيضاً- في يوم الطَّف ومعاينته وتذكّره لكافّة مجرياتها الأليمة.
ففي تأريخ اليعقوبي وغيره: “قال أبو جعفر –أي الإمام الباقر عليه السّلام-: قُتِل جدّي الحسين ولي أربع سنين، وإنّي لأذكر مقتله، وما نالنا في ذلك الوقت”[23].
ثمَّ إنَّنا في منهج الملاحظة والتّحليل بذات الوتيرة والرّؤية الشّكليّة نجد أنَّ دور الإمام الصّادق عليه السّلام كان أكثر بروزاً على صعيد الانفتاح العلمي والعطاء الفكري والمعرفي بالمستوى الّذي جعل منه أستاذاً للموالِف والمخالِف، وبالمستوى الّذي كان ينضم فيه لمجلس درسه ويلتزم بمراودته كبار علماء ذلك العصر من مختلف الأقطاب الإسلاميّة بما فيهم زعماء المذاهب المعروفة كأبي حنيفة النّعمان مؤسّس المذهب الحنفي وكتلميذ أبيه الباقر عليه السّلام المعروف زرارة بن أعين وأسرة أعين المشتهرة، وغير ذلك من الأعلام الّذين تتلمذوا على يديه ولم يشق لهم باع في مختلف العلوم الدّينيّة والطّبيعيّة والإنسانيّة.
فالإمام الصّادق عليه السّلام كانت له ممارسات على الصّعيد العلمي فقهاً وكلاماً و.. بمستوى بارز جعل منه زعيماً للمذهب، حتّى صارت الإماميّة تسمّى بـ”الجعفريّة” نسبةً إليه في مقابل المذاهب الأربعة الّتي كانت واضحة المعالم في عصره؛ وهذا بالتّالي يخرجنا بنتيجة كتلك الّتي سبقت في أبيه الإمام الباقر عليه السّلام رغم أنَّ فساد القادة في عصر هذين الإمامين لم يكن بأقلَّ منه في الفترات السّابقة، ورغم أنَّ حقَّ الخلافة كان موجّهاً إليهما كغيرهما من الأئمّة عليهم الصّلاة والسّلام، ورغم اشتداد المسؤوليّة واستياء الظّروف بابتعاد الأمّة عن الدّين أكثر فأكثر وعن الدّعوة بما أسفر عن بروز أشكال مختلفة من التّيّارات والمذاهب والفرق الّتي راحت تعطي لنفسها شرعيّةً وأُسساً وجذوراً صلبة وبناءاً شاسعاً في جسد الدِّين والأمّة.
وعندما نتأمّل السّيرة التّجزيئيّة للإمام موسى الكاظم عليه السّلام الّذي خَلَفَ أباه الصّادق عليه السّلام؛ فإنّنا نجده قد عاش دوراً غامضاً في حياته قد أسفر عنه سجنه المرير الّذي أخذ من عمره الشّريف ما يقارب 20 سنة متوالية يُنقل فيها من سجن إلى سجن ومن معتقَل إلى معتقَل، عشرون عاماً ذاق فيها أمرَّ الويلات وأنكل العذاب حتّى وصل إلى تلك الحال الأليمة الّتي طحن فيها السّجن جسده الشّريف لدرجة أنّه أصبح عندما يسجد كالقطعة الملقاة على الأرض المنبسطة على سطحها لتَجوّف باطنه وانحسار لحمه وشحمه، فقاسا ما قاساه حتّى قُضيَ عليه مسموماً غريباً في سرداب سجن حاكم عصره في الكاظميّة من بلاد العراق، في تلك الزّنزانة المظلمة الّتي شُقَّت لها الأمتار تحت الأرض ووضع عليها الأشد من العيون والحرس، فكان دوره عليه السّلام عباديّاً في معتقله، بما ضرب لنا أروع مثلٍ في ريادة السّجين المظلوم الصّابر المتعبِّد المحتسِب الرّاضي الّذي يرى سجنه ألذَّ عنده من الدّنيا وحُمْرِ نِعَمِها، لِـما فيه من الخلوة والجلوة مع ربّه، لدرجة أن يرفض خروجه من سجنه في حبس السّندي بن شاهد بعرضٍ من الحاكم في ظلِّ شرطٍ اشترطه عليه هارون الرّشيد بما لا يصب في أهدافه عليه السّلام الإلهيّة، وبما لا نفع فيه إلا لذلك الطّاغوت الظّالم رغم ما عرضه عليه من العروض المغرية في يد وزيره الرّبيع، فما كان جوابه عليه السّلام إلا أن اكتفى بكلمتين قال فيهما بكلِّ شموخٍ وعز:
لا حاضر مالي فينفعني، ولم أُخلق سؤولاً؛ ثمَّ كبَّر واسترسل في صلاته وعبادته يَصْل الرّكعتين بالرّكعتين لا ينقطع عن ركوعه وسجوده وتذلّله وخضوعه لربّه[24].
فالإمام الكاظم عليه السّلام في حين فترةٍ من الفترات يكون في نظر الحاكم قائد الجموع المعارضة للسّلطة، والشّخص المتّهَم من قِبَل أتباع وأعوان هارون الحاقدين عليه المتربّصين به على أنّه الموسوم بكلِّ تهمة تدور حول الجموع المستنكرة لظلم العبّاسيّين، وفي فترة أخرى يعتزل تلك الجموع في حبسه ويستقل بالعبادة ويعتزل الدّنيا ويصرّح بأن لا يوجد ما ينفعه ولا حاضر له رافضاً الخروج لأتباعه والمناهضين للجهاز الحاكم، أو قَبول عرض هارون الرّشيد له بالجلوس في مجلس حكمه إلى جانبه وتقويمه تماماً كما فعل ابنه المأمون مع ابنه الرّضا عليه السّلام.
ثمَّ إنَّ الإمام الرّضا عليه السّلام الّذي قُتِل كأبيه بالسّم النّقيع، نجده قد قبل ولاية العهد لطاغية عصره المأمون العبّاسي الّذي سفك من الدّماء –وأوّلها دم أخيه الأمين- ما لا يستهان به، وانتقل من مدينة جدّه إلى قصر عدوّ الله وعدوّه، وقَبِل عرض الحاكم خلافاً لأبيه الكاظم عليه السّلام الّذي امتنع بشدّة عن ذلك، فلم يَسِل –أعني الإمام الرّضا “ع”- سيفاً ولم يحرّك غِمداً رغم كثرة أتباع مذهب أهل البيت عليه الصّلاة والسّلام وناصريه الّذين صاغتهم تلك الفترة وفق ما أسفر عنه الجهاد الطّويل والشّوط الممتد من السّابقين من أهل البيت عليهم السّلام لا سيّما الإمام علي والحسين والسّجّاد والصّادق عليهم الصّلاة والسّلام.
بل كان في قِبال كل ذلك الضّجيج الّذي كان يدور من حوله من قِبَل شيعته وأنصاره المتباهين بكثرتهم واقتدارهم وملئهم للآفاق واستعدادهم للتّضحية وشوقهم لإقامة حكومة جدّه عليّ بن أبي طالب الّتي سمعوا بنزاهتها وأريحيّتها بل والّتي أبصرها العديد منهم بملء عينه بما سمح له امتداد عمره وطول السّنين فيه، فهو عليه السّلام رغم كلِّ ذلك ورغم الإلحاح الشّديد كان يردّ الجموع ويرفض عرضها فيختار في المقابل قَبول ولاية العهد لرجل يصغر عنه سنّاً ولا يريد به إلا بطشاً ونكلاً.
فعندما نتأمّل هذه السّلوكيّات الّتي مارسها الإمام الرّضا عليه السّلام نجدها على طرف النّقيض تماماً لما كان عليه أبوه الإمام موسى الكاظم الّذي رفض في أحلك ظروفه أزهى عروض السّائس، وجدّه الحسين الّذي قاد حركة علنيّةً مناهضة قدّم فيها دمه وأطفاله ونساءه ورجاله، وجدّه علي بن أبي طالب الّذي وقف موقفاً معارضاً وصريحاً في وجه الغاصبين لحقّه والمحرّفين للدِّين والمفسدين للدّنيا، بما تَشكّل أحياناً في حركة الرّجل المعتزل المتظلِّم المتألِّم، وأحياناً أخرى في حركة الرّجل المواجه لتلك الجماعة بكلِّ صفات البأس والإنكار والمنعة، بالحد الّذي كان يقف فيه في المسجد رادّاً على عمر بن الخطّاب في فترة خلافته على سؤالٍ وجّهه لمن حضر خطبته:
لو صرفناكم عمّا تعرفون إلى ما تنكرون ما كنتم صانعين؟ بقوله عليه السّلام له:
إذن نضرب الّذي فيه عيناك.
أي لو قمت بذلك فإنّنا سنواجهك بالأَحَدِّ من صواقلنا وسنقوّمك بالأَقْطَع من سيوفنا، فكان رداً رادعاً حاسماً في ظرف ذلك السّؤال الّذي كرّره عمر على الحاضرين ثلاث مرّات فلم يرد عليه أحد، فجاء ردّ عليٍّ عليه السّلام بالّتي هي أشدُّ بأساً وأقوى وقعاً، ممّا جعل من الخليفة الثّاني يُعرض عن مقولته لينتقل بها للمدح والثّناء؛ فراراً ممّا أوقع نفسه فيه من الحرج ليقول:
الحمد لله الّذي جعل في هذه الأمّة من إذا اعوججنا أقام أودنا[25].
هذا من جهة، ومن جهة أخرى نجده عليه السّلام في مجموع المرحلة الّتي عاشها بعد رحيل ابن عمّه رسول الله صّلى الله عليه وآله وسلّم وقبل تسلّمه لزمام السّلطة أخذ يعيش بين القوم حياته المريرة في قِبال الانحرافات العلنيّة الّتي كان يبصرها بأمِّ عينه ويعيشها عن كثب، نجده وهو في اعتصار شعوره بكلِّ وجوده بأنّه المسؤول عن تصحيح مسار الأمّة وتوجيهها لم يبايع للحظة واحدة لزعماء الخلافة في عصره، ودون أن تكون لأحد الثّلاثة ممّن سبقه للخلافة أي بيعة في عنقه وإن زعم البعض مبايعته قسراً وبلا قسر، إلا أنّه حتّى في حالات الجبر على البيعة هم من بايعوه ولم يبايِع، إذ وضع الواضع يده في يد علي وعليها، ولم يضع عليٌّ يده في يد الواضع ولا فوقها، وبالتّالي ما علامة هاتين الحالتين وهاتين الصّفتين إلا كون عليّاً هو المبايَع على أعلا التّقادير في فرض أنّه بايع أو أُقْسِرَ على البيعة، بحيث يبقى الاستنتاج ثابتاً على عدم مبايعته للحظة واحدة لألئك الزّعماء.
فأين كلا السّلوكين من بعضهما البعض؟
وعندما نتأمّل دور الإمام الجواد عليه السّلام الّذي كانت سيرته هو الآخر غامضة مكبّلة بالقيود والمتاعب، نجده قد تزوّج بنت المأمون بن هارون الرّشيد العبّاسي قاتل أبيه كما تزوّج أبوه بنتاً من بنات هذا الحاكم الظّالم أو أخته على رواية أخرى! فقد ورد في أوثق المصادر الشّيعيّة كما ورد في مصادر غيرهم ما نصّه:
“فلمّا وصل علي بن موسَى عليه السّلام إلى المأمون وهو بمَرْو ولّاه العهد من بعده، وأمر للجند برزق سنة، وكتب إلى الآفاق بذلك، وسمّاه الرّضا، وضرب الدّراهم باسمه، وأمر النّاس بلبس الخضرة وترك السّواد، وزوّجه ابنته أم حبيب، وزوّج ابنه محمّد بن علي عليهما السّلام ابنته أم الفضل بنت المأمون”[26].
فإذا عاينّا دور الإمام الجواد عليه السّلام ثمَّ الإمامين علي الهادي عليه السّلام وابنه الحسن العسكري، نجدهما في الوقت الّذي ذاقا مرارة السّجن وشدّة التّعذيب، انشغل هو وابنه العسكري عليهما السّلام بتهيئة الأمّة لظرفها الأصعب المكتنف لغَيبة الأوصياء، وبنائها على أساس ذلك وتحصينها من الاختراقات المختلفة ومن مختلف أنواع التّشكيك والرّيب الّتي قد تعتريها في أمرهم في أيِّ حين، لا سيّما أمر ابنه المهدي عجّل الله فَرَجَه الشّريف الخليفة من بعده الّذي نحظى بشرف العيش تحت رايته وفي ظلِّ بيعته وألطافه وعناياته المستفيضة.
وهكذا عندما نلاحظ عهده عجّل الله فَرَجَه الشّريف؛ فإنّنا نجده قد مرّ بمراحل مختلفة يمكن أن نختصرها في قِسمةٍ ثلاثيّة يبرز فيها أوّل أقسامها على صعيد مرحلة وجوده في ظلِّ زعامة أبيه، وثانيها في مرحلة غَيبتِه الصّغرى، وثالثها في ظلِّ غَيبتِه الكبرى الواقعة فعلاً.
فنحن رغم اختلاف كل مرحلة من هذه المراحل نلاحظ عليها كافّة سلوكاً عامّاً يشملها بأجمعها، وهو أنّه أفضل صلوات الله وأتم تسليمه عليه كان يمارس دور المثبِّت لإيمان قلوب شيعته والمجيب على مسائلهم جنباً إلى جنب قضاء حوائجهم وردِّ الأعداء عنهم.
فهو -مثلاً- في زمن أبيه في زمن سفيره الأوّل عثمان بن سعيد العمري –الأب للسفير الثاني- رضي الله عنه كان يمارس هذا الدّور وإن كانت درجة انكشاف ووضوح ممارسته له بسيطة؛ بحكم شدَّة ملاحظة الأعداء مضافاً إلى وجود أبيه عليه الصّلاة والسّلام الّذي كان يواجه تلك الوظيفة بشكل مباشر؛ فكل من هذين العاملَين كان له الأثر الكبير في تحجيم نسبة بروز هذا الدّور منه سلام الله عليه، لا سيّما العامل الأوّل حيث كانت السّلطة الحاكمة آنذاك تفرض عليه طرداً شديداً من الملاحقة وبثّ العيون في كلِّ مكان وزاوية، لدرجة أنَّ سفيره العمري الأوَّل –الأب- رضي الله عنه تعرَّض للعديد من المداهمات ولمرّات متكرّرة من تفتيشه وتفتيش بضاعته الّتي كان يقتات عليها وكشف بيته وستره بحثاً عن الإمام أرواحنا فداه، كما تعرَّض لذلك بعض سفرائه عليه السّلام الأربعة الآخرين، كسفيره الثّالث الحسين بن رَوح الّذي قاسا الويلات في سجن دار المقتدر العبّاسي، بل إنَّ المنع في الرّوايات من النّطق صريحاً باسمه –محمّد- لدليل جلي على هذه الحقيقة.
إلا أنّنا بملاحظة المرحلة الثّانية -الغيبة الصّغرى- نجد أنَّ هذا الدّور قد تضاعف وجوده وظهر بجلاء ووضوح؛ حيث كانت مكاتيبه عليه الصّلاة والسّلام لسفرائه وتوقيعاته للمؤمنين عن طريق ألئك السّفراء لا سيّما منهم الحسين بن رَوح والرّابع –الأخير- علي بن محمّد السَّمري، قد بلغت –أعني التوقيعات والمكاتيب الصّادرة من الإمام لأبوابه السّفراء- حدّاً متزايداً، في الوقت الّذي كان فيه عليه الصّلاة والسّلام يشكِّل الكاشف الأوّل لتدليسات وتلاعبات وأكاذيب الدّجّالِين والمخلِّطِين والمسترقين لأموال الله ورسوله والخمس ومطلق الزّكوات ولقلوب وعقول المسلمين -خصوصاً الشّيعة- زوراً وافتراءً، تماماً كما حصل من “الشَّريعي” –أو السّريعي- و”النّميري” و”الهلالي”، وكما حصل من “العبرتائي” الّذي كان من كبار العلماء ومن المشتهرين بكثرة العبادة ومن ذوي المعرفة،
وكذا “البلالي” و”الصّوفي” الحسين بن منصور المعروف بـ”الحلاج” الّذي جاء بأراجيف كثيرة كان من أشدّها سعيه الحثيث وراء تأليف وصياغة أوزان آيات القرآن وتفعيلاتها وفق القوالب الشّعرية ضمن كتاب مختص، للمستوى الّذي انتهى به إلى إفتاء العلماء فيه آنذاك بالكفر، حتّى قُتِل وقطِّع وعلِّقت جثّته أيّاماً أمام مناظر النّاظرين.
وكـ”ابن أبي العزاقر الشّلمغاني” الّذي كان من كبار عظماء الشّيعة وفطاحل علماء الطّائفة ووجهاً من وجوه المذهب، بما له من ثقل علمي وباع معرفي يقل نظيره وكثرة تأليف في التّشيّع والفقه وغيرهما، لَـحتَّى امتلأت المكتبات والبيوت بكتبه، فخَلَّطَ وظهرت منه أراجيف وانحرافات غريبة، وكـ”أبي بكر البغدادي” و”أبي دلف المجنون”، وغيرهم من المفسدين المضلِّلين ممّن زعموا الإلوهيّة أو النّبوّة أو الإمامة، أو المهدويّة خصوصاً، أو بعضاً من ذلك أو كل ذلك، فكان دور الإمام في فضحهم من خلال أبوابه وسفرائه وتوقيعاته الشّريفة لا يقاس به دور، بسبب شدّة ما مرّت ووقعت فيه الأمّة من محن وتخليط وخدع وأباطيل، فمارس الإمام أرواحنا فداه وظيفته في حفظها وتثبيتها على الدِّين والإيمان.
نعم؛ تراجَعَ ذلك الدّور في المرحلة الثّالثة –الغَيبة الكبرى- أذاناً بوقوع الخطب الجليل بما يحقِّق مصداق الغَيبة الكبرى الكبيرة والانقطاع بشكل ملحوظ وإن لم يكن انقطاعاً تامّاً، حيث نجد هنا وهناك من الحوادث والوقائع الجمّة والكثيرة المحدِّثة عن هَديه –عجَّل الله تعالى فَرَجَه الشّريف- للمؤمنين والتقائه بالصُّلحاء وعونه للمجاهدين من ذوي الإخلاص والإيمان، بالدّرجة الّتي تحقّق ما ذَكرَتْه وأكَّدَتْ عليه الرّوايات الكثيرة في شأن رؤيته في هذه المرحلة العصيبة في مواسم الحج وغيرها.
ثانياً: سيرة الإمام علي بن الحسين عليهما السّلام في ظل هذه الرّؤية:-
وهكذا إذا تأمّلنا سيرة الإمام زين العابدين عليه الصّلاة والسّلام على مستوى هذه الرّؤية؛ نجده قد اتّخذ سلوكاً مغايراً تماماً لسلوك أبيه الإمام الحسين وجدّه أمير المؤمنين عليهم السّلام وغيرهم من الأئمّة الأطهار، حيث اتّجهت حياته لممارسة الدّعاء والعبادة بما جعله مشتهراً بذلك بين كافّة المسلمين حتَّى سمٍّي “زين العابدين والسّجّاد وسيّد السّاجدين…” وغير ذلك ممّا ذكرنا لك سابقاً في أقوال الجمهور وممّا ورد في غيرها، فهذه المسمّيات كلّها إنّما جاءت جرّاء الواقع العملي الّذي كان مُعاشاً بوضوح في حياته عليه السّلام، وكما في الخبر عن أمير المؤمنين عليه السّلام:
“مَن أَكْثَرَ مِن شيءٍ عُرِفَ به”[27]، وإنَّ الصّحيفة السّجّاديّة خير شاهدٍ على ذلك؛ نظراً لما تحمله من زخم عبادي ودُعائي ومناجاتي عظيم تحار له عقول ذوي الألباب وتخشع عنده قلوب السّالكين، ونظراً للقدر الدُّعائي الكبير الواقع منه بما يتطلّب مدّة طويلة تستغرق كلّ عمره الشّريف.
بل ونجده قد ناقض ذلك السّلوك الّذي اتّخذه أبوه الحسين عليه السّلام وغيره من الأئمّة تجاه حُكّام بني أُمَيّة، فبينما الحسين الّذي قُتِل بأبشع أشكال القتل يمتنع امتناعاً شديداً عن مبايعة يزيد بن معاوية ويقدّم الغالي والنّفيس لمبدئه هذا، يبايع ابنه الإمام زين العابدين يزيد بن معاوية في المدينة بعد فترة قصيرة من مقتل أبيه وتشريده وسبيه مع حرم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ويقدّم نفسه للنّزول بكل إرادته في المدينة وعلى رؤوس الأشهاد وبين الجموع المحتشدة على حكم هذا الطّاغية مقدِّماً كل التّنازلات لمبعوثه مسلم بن عقبة الّذي أوقع بأهلها وقعة الـحَرَّة، كما ساهم في تثبيت سلطان الحاكم الأموي عبد الملك بن مروان –الّذي حكم الدّولة الإسلاميّة لاحقاً- في قِبال تهديدات ملك الرّوم كما سنبيّن فيما سيأتي!
ثالثاً: الخطوط العامّة في سلوكيّات الأئمّة (ع) المتغايرة:-
إنّنا بمقاربة كل دور جزئي من سِيَرهم عليهم الصّلاة والسّلام ككل وفق الرّؤية السّابقة؛ نجد أنّها رغم ريادتها بالنّظر لها بمفردها واحدة واحدة وعِظمها وعلو ما تحمله من تعاليم وقيم إلهيّة، نجدها بمجموعها الكلّي بالمقارنة لا تتناسق مع بعضها البعض، فهي في أدوارها السّتّة الّتي يمكن أن تمثّلها وفق منطق: “السّيف” و”المعارَضة السِّلميّة” و”المهادنة” و”العبادة” و”نشر العلم” و”تثبيت الأمّة ورفع الحيرة والشّك عنها”، نجدها في هذه الأدوار متغايرة متخالفة، بل نجد بعضها يصل لحد التّناقض مع مقابله، فمنطق السّيف مثلاً لا يقبل منطق المصالحة والمهادنة، وكذا العكس.
منهجيّة التّباين في سيرة الإمام السّجّاد (ع) وفق المجموع التّجزيئي لمسِيرَتِه الخاصّة:-
بل لو لاحظنا السّيرة الواحدة لبعض هؤلاء العمالقة الأجلاء فسنجدها بنفسها تحمل شيئاً من التّغاير والتّناقض بين مراحلها المتعدّدة؛ فمثلاً عند مطالعة سيرة الإمام علي عليه السّلام نجده في الوقت الّذي كان فيه يمانع من الحرب الدّاخليّة ويحمي الخليفة الثّالث عثمان بن عفّان من القتل ويذود عنه بنفسه وبالحسنين وبقيّة أبنائه وبني هاشم في أحلك الظّروف وأشدّها مواجهة رغم استلابه لحقوقه ولخلافته الإلهيّة، نجده في الوقت نفسه يعلن براءته من الشّيخين أبي بكر وعمر ويعارض تنصيبهما وتنصيب عثمان بعدهما، ونجده عليه السّلام في ذات الحين في قِبال كلِّ ذلك، وفي قِبال الانحرافات العلنيّة الّتي كان يبصرها بأمِّ عينه ويعيشها عن كثب رغم شعوره بكلِّ وجوده بأنّه المسؤول عن تصحيح مسار الأمّة وتوجيهها، نجده رغم كل ذلك لم يحرّك غمداً ولم يدشِّن حركةً لحرب هؤلاء بسلِّ السّيف.
هذا من جهة، وهي جهة تختص بما بعد رحيل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وما قبل اندلاع جماعات النّاس حوله كرَبِيْضة الـغَنَم تطالبه بالاستخلاف وبحكمها يوم أن وطئوا الحسنين عليهما السّلام من شدّة اصطكاكهم ببعضهم البعض واحتشادهم الغفير ومحاولة ابنيه عليهما السّلام للحفاظ عليه من القتل على فرض الرّفض بعمق التّوصيف الوارد في نهج البلاغة[28].
ومن جهة أخرى، وهي تختص بما بعد تنصيبه، نلاحظ جليّاً –وفق ما سبق بيانه- كيف شَدَّ حزامَه وسَلَّ سيفَه وقد ناهز عمره ما يزيد على الخمسين عاماً، فانشغل بخوض العديد من الحروب الدّامية في داخل الأمّة، فقاتل من نصبهم عثمان على الأمصار، والجماعات الّتي أخذت تلتف حول تشريعات الخلفاء الثّلاثة بما فيهم بنت الخليفة الأول عائشة زوج النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وجموع الصّحابة والتّابعين الّتي اصطدمت به في صفِّين والجمل والنَّهْرَوان.
وكذا الإمام الحسن عليه السّلام، فهو عاصر عهد أبيه وجميع ما دار عليه عصره بعد رحيل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وعاين ما مارسه أبوه في تلك المرحلة لحظة بلحظة وخطوة بخطوة وأقامها معه مدماكاً فوق مدماكٍ، فكان المدافع الأوّل عن عثمان كما كان المحارب الأوّل والسّبّاق في الحروف الدّامية الّتي خاضها أبوه عليه السّلام، لَحتَّى قال فيه وفي أخيه في إحدَى معاركه:
“امسكوهما عنّي” بهذا التّعبير أو بتعبير آخر باسمهما، لِما قدّماه من تضحيات وشجاعة قتاليّة فريدة أبهرت كل من في الجبهتين، إلا أنّه رغم حربه لمعاوية مع أبيه طوال تلك المدّة العصيبة الّتي راحت فيها الآلاف من النّفوس والأرواح واصطكّت فيها الجراح بالجراح، اختار المصالحة مع هذا الرّجل ومهادنته عندما تسلّم زمام القيادة بعد استشهاد أبيه الّذي التزم أرض الكوفة ليكون أقرب لعنق معاوية وجيَّش الجيوش ليُكوِّن قاعدة عسكريّة صلبة تحمي بوّابة الدّولة الإسلاميّة من جيش الشّام وللإغارة عليه في أقرب فرصة، فأضاع الإمام الحسن عليه السّلام كلَّ تلك الجهود وكلَّ ذلك الجهاد ببضع من البنود في صلحٍ مع رجلٍ أقل ما يعرفه عنه بأنّه ماكر لا عهد له ولا ذِمام، ممّا أثار غضب قومه للحدّ الّذي اندفعوا فيه لإهانته وإيذائه وتسميته بمذل المسلمين!
وأيضاً الإمام الحسين عليه السّلام –مثلاً- فهو رغم مروره بجميع المراحل السّابقة بما فيها صلح أخيه الحسن عليه السّلام وارتضائه بذلك القرار بل والتّأسيس له ولكلِّ بندٍ ورد فيه، إلا أنّه أعلن معارضته الصّريحة لمعاوية مباشرة–تقريباً- بعد رحيل أخيه، وسلَّ السّيف مقاتِلاً بصحبه وبنيه إلى أن بلغ منزلة الشّهادة.
فكل هذا يعطي لنا مؤشّراً على التّغاير والتّناقض في المرحلة الواحدة والسّيرة التّجزيئيّة المفردة من سيرة كل واحد من هؤلاء الأئمّة الأطهار بغضِّ النّظر عن سيرة غيره منهم صلوات الله وسلامه عليهم.
وليس حال السّيرة الشّريفة للإمام زين العابدين عليه السّلام بمنأى عن ذلك، فهو الّذي حضر حرب أبيه الحسين عليه السّلام مع يزيد بن معاوية وشاهدها بأمِّ عينه وعاين مجازر أصحاب أبيه مَصرَعاً بمَصرَع ومَقاتل أطفال الحسين عليه السّلام ويدي عمّه العبّاس المقطّعتين ونحر أبيه المحزوز من وريده إلى وريده وصدره المتناثر قطعاً تحت حوافر الخيول وكل الفجائع والويلات الّتي حلّت بأهل بيته من رجال ونسوة وأطفال وجميع ما أسفرت عنه كربلاء وما بعدها من آلام ومحن السّبي وشتائم أهل الشّام وتشريد لذرّيّة رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم الطّاهرة.
وهو الّذي خرج يوم أن وقف أبوه وحيداً أمام السّيوف المشرّعة بين الألوف المؤلّفة من جيش ابن زياد وعمر بن سعد ينادي صارخاً بصوته المتقطّع وشجاه المؤلم:
“أما من ناصر؟!” فخرج مجيباً وهو يتّكئ على سيفه صارخاً:
“لبّيك يا ابن رسول الله” بما يصوّر لنا حرارة الموقف وشدّة ميله في أن يقف على أرض الجهاد ويقدّم روحه الزّكيّة فداءً للدِّين وحاملِه.
فهو لو لا ما أعاقه من علّة المرض وإلمامها به، ولولا تمثّل بقاء نسل الذّرّيّة الصّالحة فيه وامتدادها به لكان أوَّل المجاهدين إلى جنب أبيه على أرض الطَّف، وأوّل من يشهر سيفه في وجه عدوّ الدّين وحامله وحاميه، ففي الخبر:
“روي عن علي بن الحسين أنّه قال: إنّي لجالس في العشيّة الّتي قُتِلَ أبي الحسين بن علي في صبيحتها، وعمّتي زينب تمرّضني…، فإنّي لمريض مُدْنِف”[29]؛ والمدنف هو المشرف على الموت.
“وكان للحسين من الولد –يريد ممّن تُرِكوا ليعيشوا هُنَيْئة وإلا فله غير ما ذَكَرَ المؤرِّخ هنا وقد ذَكَرَ طفله الرّضيع مثلاً في مقلته (ع)- : علي الأكبر، لا بقيّة له، قُتِل بالطَّف، وأمّه ليلَى بنت أبي مرّة بن عروة بن مسعود الثّقفي، وعلي الأصغر، وأمّه حرّار بنت يزدجرد”[30].
فهو عليه السّلام في مقابل السِّلّة اختار ذلك السّلوك العبادي الّذي طغَى على مجمل حياته الشّريفة، على الرّغم من حرارة الألم الّتي كانت تراوح قلبه وروحه، ورغم آلاف الذّكريات الأليمة الّتي تجول في خاطره عن كربلاء المفجعة بالدّرجة الّتي جعلت منه مصوِّراً حيّاً لتلك الفجائع في كل موقفٍ كانت تعرض له فيه ذكرى منها.
وهو الّذي كانت تُعرَض عليه الرّايات ويجوب حوله الثّوّار بصولاتهم يميناً وشمالاً بحثاً عن قاتلي أبيه وهاتكي حرم جدّه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ومروّعي نساءه ومشتِّتي أولاده وممزِّقي شمل الإسلام وأتباعه.
فرغم كل ذلك؛ رغم سلّه للسّيف في آونة ألماً واحتراقاً، ورغم صرخات الثّوّار وكثرة الرّايات من حوله الطالبة لنفس الحقّ الّذي سلَّ لأجله السّيف في تلك الآونة، نجده قد سلك طريقه الّذي سمِّي به زين العابدين بدل أن يسمّى –مثلاً- “زين الثّائرِين” من خلال مقاصّة الجاني وإقامة الحد على المعتدي وإيقاف المتجرّئ عند حدّه.
بل –وكما ذكرنا سابقاً- نجده قد قدّم التّنازلات، ودخل في بيعة يزيد بمحض إرادته، ودفع أهل المدينة لقبول يزيد وخلافته والنّزول على حكمه وطاعته كما سنبيّن، فهو تارة يحارب يزيداً وأتباعه ويمارس حركة واسعة من الاعتراض والرّفض للحاكم وولاته وأفعالهم، وتارة يبايعه عن طريق مرسوله للمدينة مسلم بن عقبة، كما ساهم في تثبيت سلطان بني أميّة بفعله المعروف مع عبد الملك بن مروان تجاه الرّوم!
وبالتّالي نجد أنفسنا أمام هذا الكم وأمام هذا النّوع من التّغاير في المواقف والأدوار ليس على مستوى المضمون الكلّي لمجموع السِّيَر الجزئيّة لهم عليه الصّلاة والسّلام فحسب، بل حتّى على مستوى المجموع والمضمون الكلّي للسّيرة الواحدة، فهذان شكلان ونوعان من التّناقض ممّا تصوّره هذه الدّراسة.
وسنتناول في المقال الآتي –إن شاء الله تعالى- هذه الرّؤية بالمناقشة والتّحليل على ضوء المجموع الكُلِّي للسّيرة التّجزيئيّة للإمام علي بن الحسين عليه السّلام، حيث سنبيِّن في ضمن ذلك نقطتين مهمَّتين؛ الأولى منهما ترتبط ببيان منهجيّة التّقييم الصّحيح للحوادث التّأريخيّة وسلوكيّات الأفراد، والثّانية ترتبط بتحليل وتقييم سيرة الإمام عليه السّلام وفق هذه المنهجيَّة، حيث سنقسِّم قراءتنا لسيرته المباركة –حسب أبرز مفاصلها- إلى فترتين؛ الأولى منهما تَعْنَى بمرحلة ما بين كربلاء والسّبي، والثّانية تتعلَّق بمرحلة ما بعد السّبي والرّجوع للمدينة.
بينما سنتكلَّم في هذه الثّانية في خمس جهات، ثلاث جهات ستقع منها في هذا المقال، وهي كما يلي:
الجهة الأولى: سنتكلّم فيها عن الغايات الفكريَّة لسلوكيّات الإمام عليه السّلام في هذه المرحلة.
الجهة الثّانية: سنعمد من خلالها لقياس درجة التّطابق بين تلك الغايات والواقع العملي الّذي مارسه الإمام عليه السّلام.
الجهة الثّالثة: سنتناول على إثرها الخيارات الأخرى -سابقة الذِّكر- المقابِلة لدور وسلوك الإمام عليه السّلام في هذه المرحلة بالنّظر والفَرض والتّحليل، وتقييمها على أساس الأكثر موافقة وتناسقاً مع الواقع والمجريات القائمة آنذاك، وهذا ما سنَعْمَد له في ضمن فرض الخيارات الخمسة المتبقّية، والّتي –أيضاً- سيقع منها الخيار الأوّل في هذا المقال كالتّالي:
1- خيار السّيف ومنطق القوّة؛ وفيه سيدور الحديث عن شكلين من التّحرّك، وهما: أ- الحِراك الجمعي الواسع. ب- الحِراك الفردي على غرار حركة أبيه الإمام الحسين عليه الصّلاة والسّلام.
وفيهما سنستعرض -في هذا الوقفة- أحد عشر مانعاً على الفرض والشّكل الأوّل، وسبعة على الفرض والشّكل الثّاني.
أمّا بقيّة الخيارات الخمسة والجهات الخمس فنرْجِؤها لوقفة ثالثة بمشيئته تعالى، والحمد لله والصّلاة على رسوله المصطفى وآله وسلّم.
أمين حبيب السعيدي
4 محرّم الحرام 1432هـ-قم المقدَّسة-نيكوئي
الهوامش:
[1] تأريخ اليعقوبي، لأحمد بن أبي يعقوب الكاتب العبّاسي المعروف باليعقوبي: ج2 من ص247.
[2] التّوبة: 55.
[3] الشّورَى: 23.
[4] قوله عليه الصّلاة والسّلام (وبهم يلحق التّالي): يقصد به أنَّ المقصِّر في عملِه المتباطئ في سَيْره الّذي أصبح وقد سبقه السّابقون إنّما يتسنَّى له الخلاص بالنّهوض واللحوق بآل النّبي صلَّى الله عليه وآله وسلّم والحذو بحذوهم.
[5] نهج البلاغة، خُطَب الإمام علي عليه السّلام، جمع الشّريف الرّضي ره، شرح الشّيخ محمّد عبده: ج1 ص30.
[6] صحيح البخاري، لمحمّد بن إسماعيل: ج8 ص127- صحيح مسلم، لمسلم النّيسابوري: ج6 ص3- وأيضاً راجع المعجم الكبير، للطّبراني: ج22 ص120.
[7] راجع تأريخ اليعقوبي، لأحمد بن أبي يعقوب: ج2 ص303.
[8] حيث استنكر أفعال أبيه يزيد وجدّه معاوية، وخطب باكياً في النّاس بكلام ما سبق ولا لحق في بني أميّة، فاعتزل الحكم بكل جرأة رغم خطر ذلك على حياته بما خَطَبَ به، وتَرَكَ النّاس ليختاروا إماماً لهم، فقال فيما قاله من روائع الكلام الّتي تستحق أن تخط بما الذّهب والله:
“أمّا بعدَ حمْدِ الله والثّناء عليه، أيّها النّاس فإنّا بُلينا بكم وبُليتم بنا، فما نجهل كراهتكم لنا وطعنكم علينا، ألا وإنَّ جدِّي معاوية ابن أبي سفيان نازع الأمر من كان أولى به منه في القرابة برسول الله –يعني عليّاً عليه السّلام- وأحق في الإسلام، سابِق المسلمين، وأول المؤمنين، وابن عم رسول ربِّ العالمين، وأبا بقيّة خاتم المرسلين، فركب منكم ما تعلمون، وركبتم منه ما لا تنكرون، حتَّى أتته منيّته، وصار رهناً بعمله، ثمَّ قَلَّدَ أبي، وكان غير خليقٍ للخير، فركب هواه، واستحسن خطأه، وعظم رجاؤه، فأخلفه الأمل، وقصر عنه الأجل، فقلَّت منعته، وانقطعت مدّته، وصار في حفرته، رهناً بذنبه، وأسيراً بجرمه.
ثمَّ بكَى، وقال: إنّ أعظم الأمور علينا علمنا بسوء مصرعه وقبح منقلبه، وقد قتل عترة الرّسول، وأباح الحرمة، وحرَّق الكعبة، وما أنا المتقلِّد أموركم، ولا المتحمِّل تبعاتكم، فشأنكم أمركم، فوالله لئن كانت الدّنيا مغنماً لقد نلنا منها حظّاً، وإن تكن شرّاً فحسب آل أبي سفيان ما أصابوا منها”. فقال له مروان بن الحكم –وقد طرده عبد الله بن الزّبير يوم ذاك من الحجاز بعد أن كان فيها فلجأ للشّام- : سُنَّها فينا عُمَريّة! –أي اجعلها كالسّقيفة- قال: “ما كنتُ أتقلّدكم حيّاً وميّتاً –أي ما كنت لأحمل تبعات وآثامكم بهذه السُّنّة إن فعلتُ ذلك حيّاً وميّتاً، فهو ينكر على مروان هذه السُّنّة وأن يكون هو المتحمّل لانحرافاتها وضلالاتها- ومتَى صار يزيد بن معاوية –يعني والده- مثل عمر، ومن لي برجل مثل رجال عمر؟!”. راجع تأريخ اليعقوبي، لأحمد بن أبي يعقوب: ج2 ص254.
[9] راجع تأريخ اليعقوبي، لأحمد بن أبي يعقوب: ج2 ص305 و306.
[10] نفس المصدر.
[11]المصدر السّابق: ج2 ص303.
[12] البداية والنّهاية، لابن كثير: ج9 ص122 – وفيض القدير في شرح الجامع الصّغير، لمحمّد عبد الرّؤوف المناوي: ج6 ص454.
[13] تأريخ أسماء الثّقاة ممّن نقل عنهم العلم، لعمر بن أحمد المعروف بابن شاهي، المتوفَّى سنة 385هـ: ص141.
[14] كنز العمّال، للمتّقي الهندي: ج3 ص641.
[15] راجع شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد المعتزلي: ج15 ص274.
[16] الجُلَب: جمع جلبة: وهي القشرة تعلو الجرح عند البرء؛ والجلبة أيضاً: جلدة تجعل على القتب.
[17] تأريخ اليعقوبي، لأحمد بن أبي يعقوب، تحقيق عبد الأمير مهَنّا: ج2 ص228 و229.
[18] فتح الأبواب، لابن طاووس: ص170.
[19] تأريخ اليعقوبي، لأحمد بن أبي يعقوب: ج2 ص305.
[20] المصدر السّابق: ص304.
[21] مناقب آل أبي طالب، لابن شهر آشوب: ج3 ص299 – وكنز العمّال، للمتّقي الهندي: ج4 ص255.
[22] راجع الأغاني، لأبي الفَرَج الأصفهاني: ج10 من ص378 إلى 380.
[23] تأريخ اليعقوبي، لأحمد بن أبي يعقوب: ج2 ص320.
[24] راج الأنوار البهيّة، للشّيخ عبّاس القمِّي: 194.
[25] راجع المناقب، للموفّق الخوارزمي: ص98 و99.
[26] نقلاً عن عيون أخبار الرّضا “ع”، للشّيخ الصّدوق ره المتوفّى سنة 381هـ: ج1 ص159 -وراجع البداية والنّهاية، لابن كثير المتوفَّى سنة 774هـ: ج10 ص295 – وأعيان الشّيعة، للسّيد محسن الأمين ره المتوفَّى سنة 1371هـ: ج2 ص23.
[27] خطبة الوسيلة، للإمام علي عليه السّلام.
[28] قال عليه السّلام في خطبته المعروفة بالشّقشّقيّة: (فما رَاعَنِي إلا والنّاس كعُرْفِ الضَّبع إلَيَّ يَنْثالُون عليَّ من كلِّ جانبٍ حتَّى لَقَد وُطِئَ الحَسَنان وشُقَ عطْفايَ مُجتمعِينَ حولي كرَبِيْضة الغَنَم)؛ *عرف الضّبع: ما كَثُر على عنقها من الشَّعر وهو ثخين، يُضرب به المثل في الكثرة والازدحام. *ينثالون: يتتابعون مزدحمين. *الحسنان ولداه الحسن والحسين، فقد داسهما النّاس من شدّة ازدحامهم على بيعته عليه السّلام. *شُق عطفاه: خدش جانباه من الاصطكاك. وفي رواية شق عطافي: والعطاف الرّداء وكان هذا الازدحام لأجل البيعة على الخلافة. *ربيضة الغنم: الطّائفة الرّابضة من الغنم يصف ازدحامهم حوله وجثومهم بين يديه خاضعين خاشعين له يطلبون قَبوله!. نهج البلاغة، خُطب أمير المؤمنين عليه السّلام، جمع الشّريف الرّضي ره، شرح الشّيخ محمّد عبده: الخطبة الشّقشقيّة ج1 ص35 و36.
[29] تأريخ اليعقوبي، لأحمد بن أبي يعقوب، تحقيق عبد الأمير مهَنّا: ج2 ص156 و157.
[30] تأريخ اليعقوبي، لأحمد بن أبي يعقوب: ج2 ص246 و247.
للتعلیق أو مطالَعة التعلیقات اضغط هنا