التهيُّؤ وأسرار الغِياب
سؤال وجواب مع سيد أمين السعيدي
● السائلة:-
نريد منكم سيدنا ان تتكلم عن عصر الظهورة
تميهد لعصر الظهور
التأهب النفسي للظهور
◀ جواب سماحة السيد أمين السعيدي:
التأهب النفسي للظهور يحتاج لإدراك فلسفة الغِياب؛ فـ(الظهور) فرْعُ الغِياب، ولا يُفهم إلا بفهم الغياب وحقيقته وأسبابه.
نحن الشيعة ظلمنا أهل البيت عليهم الصلاة والسلام؛ وهذه حقيقة أجدها من خلال تتبعي القاصر لكتب التاريخ.
لقد أتعبناهم وأجهدناهم معنا وظلمناهم ولم نفي لهم؛ فهاهو أمير المؤمنين علي سلام الله عليه أبو هذه الأُمة، بقي شهوراً طويلة في النُخَيْلة بِظَهر الكوفة ينادي المحبين والشيعة أن تَأهَبُّوا وتَجهَّزوا لحرب ابن حرب مرة أخرى؛ فلم يجبه أحد إلى أن صُرِّعَ في محرابه.
وهاهو الإمام الحسن عليه الصلاة والسلام سيد شباب البقعة الطاهرة، نادى في أحبائه وشيعته في الكوفة لقتال معاوية، وأضناه الإعياء والتعب، فلم يـَخْرج منهم إلا القليل، وقد بقي على أطراف الكوفة ينتظر الناس للجهاد بين يديه، وخانه قادة جيشه، وتركوه عند الوثبة واقتراب الأَسِنّة، إلى أن أُرْغِم على الصُّلح وحُمِل عليه عن غير رضاه، فلما صالح طعنه المنافقون في خاصرته، وأَسقَطوا منه رداءه وخَلعوا عمامته وشتموه وقالوا له: يا مُذِل المسلمين!
فصَعد في أحد الأيام المنبر فقال لهم: إنّ قولكم عني مذل المسلمين أَحب إلي من أن يقتلكم معاوية ولا يبقى منكم أحد؛ فيذهب دين الله ويفنى.
وهاهو الإمام الحسين صلوات الله وسلامه عليه خرج من مكة ومعه جمع من الشيعة وأحبابه، لكن ما أن وصل الطف، وتيقن بعض مَن معه أنه ليست هناك غنائم دنيوية في حربه مع يزيد وأنه ليس إلا الموت، تَسلَّلوا في الظلام والخفاء من بين أصحابه وذهبوا عنه وتركوه، بل منهم من تركه في الطريق، ومنهم من لم يـَخرج معه أساساً، لا من المدينة ولا من مكة، وقد خطب بهم في مكة وأعلن خروجه.
وسيدنا الكاظم سلام الله عليه بقي في السجون ٢٠ عاماً ينقل فيها من سجنٍ إلى سجن، وكان هارون يسجنه في أعماق الأرض في الظلام الحالك، حتى سَحل السجن بدنه، فصار إذا سجد كأنه قطعة ملقاة على الأرض من شدة ما نحل جسده، فلم ينجده الشيعة وخافوا على أنفسهم.
وهاهو ابنه الإمام الرضا صلوات الله وسلامه عليه يبيِّن لنا هذه الحقيقة بكلمة موجزة حينما جاءه الشيعة يتفاخرون عنده بكثرتهم وقوتهم ويطلبون منه الخروج على الطغاة؛ فقال:
من لي بأمثال العباس بن علي وبرير وحبيب وزهير..؟
وكان لـمّا طَلب عليه الصلاة والسلام أموال الخمس والزكوات والصدقات والحقوق التي كانت عند وكلاء أبيه الكاظم عليه الصلاة والسلام، لـمّا طَلب منهم ذلك بعد استشهاد أبيه عليه الصلاة والسلام رَفَضوا تسليمه الأموال، وأنكَروا إمامته وتصرَّفوا بها دون إذنه ورضاه.
ونحن اليوم ليس حالنا بأفضل من آبائنا وأسلافنا، وليس حال بقية المسلمين بأفضل منا، لا قديماً ولا حديثاً، فنفوسنا كلها وساوس، وعباداتنا قائمة على الظنون، وجهلنا مَلأَ الخافقَين، لدرجة أننا قد لا نعرف حُكم الشك بين الركعتين والثلاث في الصلوات الرباعية! مع أن الصلاة عمود الدين!
فنفوسنا مُنْكَـبَّة على الـمَظاهر، ومجالسنا تتنافس فيها ألسنة النجاسة والغِيبة التي هي أشد من ست وثلاثين زنية!
وقلوبنا مشحونة بالحسد، والوِشاية والفتنة لا تفارقنا؛ فلسنا نحفظُ سراً ولا نَحترم عِرضاً؛ فلا نتورع عن أعراض الآخرين وتسقيط هذا وذاك.
وبيوتنا شؤونها معطلة؛ لا نحترم زوجاً ولا زوجة، ولا نتعلم أصول التربية في الإسلام، والكذب لا تتنزه عنه ألسنتنا وهو من أشد صفات المنافقين، والجُبن والفِرار عند الوثبة والمواجَهة يحكمنا، لدرجة أننا نخاف دخول المقبرة بمفردنا في الليل، بل نخاف عند حصول الظلام في البيت، فكيف نكن حُماةً لإمام السماء ووصي الله!
فكل هذه حقائق لا مفرَّ من الإقرار بها، وتحريفها وتوجيهها بادعاءات سطحية هو بذاته معصية أخرى كبرى يتوجب أن لا نخادع أنفسنا ونظلمها بها!
إنّ حُكم مرتكب الكذب أو الغِيبة أو التبرج أو الغناء وجَعْل الصلاة قضاءً أو عدم احترام الناس في الوظيفة والعمل أو غير ذلك من كبائر الذنوب هو الفسق؛ فالواقع الذي لا مَفَر منه هو أن أغلبنا هم فساق!
ومَن لا يـَقْوى على جَمْح وقيادة نفسه في هذه الأمور كيف للعاقل أن يـَعتد به ويـَعتمده لمشروع إلهي عظيم خاتـِم لا يـَقبل الزَّلَل والخطأ؟!
فهل يُعقَل أن يكون أنصار صاحب هذا المشروع الإلهي الخاتم فسَقَة؟!
إنَّ الغَيبة تهذيبٌ لنا عسانا نتدارك أنفسنا.
إنَّ الغَيبة غضبٌ من الله وعقابٌ لنا وحرمان.
إنَّ الغيبة باعثٌ للتدبر والتفكر.
لذا؛ لنتهيأ لزمن الظهور يجب أن نتفكر ونتدبر؛ كي نَنْعَم ببركاتها وأسرارها وغاياتها التربوية والتهذيبية التي إنما يراد منها تكامل العباد.
فجهاد النفس مطلوب بحضور الإمام أرواحنا فداه أم في غيابه؟
لا فرق، بل الجهاد الأكبر في غيابه، والمؤمن يحب أشوس وأصعب ساحات جهاد نفسه؛ ليـَعْرف هل صَفِيـَت وكَمُلَتْ واستعدّتْ للقاء الله وعالم البرزخ المخيف وعقباته الصعبة الـمَهولة أم لا، وهل تهيأَتْ لعبور الصراط الذي يُنصَب على نار جهنم ويـَضِيْق إلى درجة أضيق من الخيط أم لم تتهيأ.
أسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم من المتفكرين والمتدبرين، ومن أهل الجهاد والاستعداد، وأن ينفعنا سبحانه بغايات غياب إمامنا صلوات الله وسلامه عليه، وأن يؤدبنا بلطائف تأديبه وتهذيبه.
نسألكم الدعاء
للتعلیق أو مطالَعة التعلیقات اضغط هنا