بسم الله الرّحمن الرّحيم
مَدْخَل مهم لدراسة الفقه “تتمّة القِسم الأوَّل”
إلهي! يا غِياثَ المستغيثِين، يا وَلِيَّ المستضعَفِين، أغثنا برحمتِك، وانشر علينا عافيتَك، يا جوادُ يا كريم، يا منّانُ يا رحيم، أرحمنا بحقِّ الأنجبِين من عترةِ نبيِّكَ الطَّاهرِين، صلواتك يا ربِّ عليه وعليهم أجمعين.
الأمر الثّالث: الآليَّة المطروحة للعـــــــــــــــــلاج:-
تمهيد:-
لا ريب أنَّكم بعد قراءة المشكلات والمعضلات الّتي ذكرناها في الحلقات السّابقة عن الرّسائل العمليَّة تَتساءلون عن كيفيّة علاج كل ذلك، فالرِّسالة العمليَّة –بلا شك- تهم الجميع، فهي تَرتبط بكل واحدٍ منّا ارتباطاً وثيقاً، خصوصاً وأنّها من أهم طُرُق تحصيل الفتوى، ومعرفة آراء الفقهاء، وتَعلُّم أحكام الدِّين، كما أنّها تمثِّل مَدْرَسة أبنائنا الشّرعيّة الإلهيّة؛ فمَن منّا مَن لا تهمّه الرِّسالة العمليّة؟ نعم؛ كلّنا تهمّنا وبصورة وثيقة ومباشِرة.
وعليه؛ من منطلَق هذه الأهمّيّة الكبرى كان من الضّروري أن نَبحث عن سُبُل علاج جميع هذه الإشكاليّات، وأن نبذل كافّة الجهود في سبيل تطوير هذا النّوع من الكتب الرّبّانيّة؛ لذا نقول:
سبق أن بَيّنّا لكم منهج علمائنا قديماً وحديثاً بالنّسبة لتدوينهم وتقسيمهم لرسائلهم العمليّة، حيث قارنّا هناك بين الكُتب الفتوائيّة الّتي كان ينتجها “علماؤنا الإخباريِّين من أتباع مدرسة الأخبار” الرّافضة للاجتهاد والتّقليد، والكُتب الفتوائيّة الّتي كان ينتجها “علماؤنا الأصوليِّين من أتباع مدرسة الأصول” العاملة بالاجتهاد والتّقليد، ففي الحلقة الأولى وما تلاها تحدّثنا عن أسباب وجود اختلاف بين رسائل علمائنا في “تدوينها” و“تقسيم” مَسائلها.
هذا ما فصّلناه في “الأمر الأوّل” من “القِسم الأوَّل” لهذا الـمَدْخَل المهم بالنّسبة لكل من يريد دراسة الفقه بصورة جيّدة، ويَتعرَّف على الطّريقة الّتي سنسلكها في شرحنا لـ”منهاج الصّالحين” فيما بعد.
كما تعرَّضنا بعد ذلك للكشف عن العديد من المعضلات والمشكلات السّلبيّة الّتي نراها متواجدة في كُتب الفتوى الموجَّهة للمقلِّدِين، هذه الكتب المهمّة الّتي تهم كل مكلَّف مقلِّد وغيره.
وهذا ما فصّلناه في “الأمر الثّاني” من “القِسم الأوَّل” لهذا الـمَدْخَل.
وهنا نريد في “الأمر الثّالث والأخير” من هذا القِسم أن نقدِّم آليّة متكاملة لعلاج كافّة تلك المشكلات والمعضلات، مضافاً لمناقشة منهج العلماء -رضوان الله عنهم- في كتابتهم وتقسيمهم للرَّسائل العمليّة، وتحديد المنهج السّليم والمنهج السّقيم من ذلك، وهذا ما سنتناوله فيما يلي:
أ- آليّة العلاج على صعيد منهج الفقهاء في عرْض الأحكام والفتاوى ضمن الأبواب الفقهيَّة:-
أوَّلاً:-
عندما نتحدّث لكم عن “المنهج” في المقام، ونَعمل هنا على تقديم آليّة علاجيّة لذلك، فهذا لا يعني أنّنا نتكلَّم على صعيد التّأسيس لمنهج جديد في قِبال تلك المناهج من جهة النَّظريّات والـمَباني العِلميّة الّتي تذهب لها وتَتبنّاها كل من الـمَدْرَستين “الإخباريّة” و”الأصوليّة”، كلا، فنحن إنّما نتكلّم هاهنا على صعيد صياغة منهج “تدويني” يَتلاءم مع وظيفة الرِّسالة العمليّة ومتطلَّبات المكلَّف، بما يَتناسب مع الـمَدْرَستين دون المساس بـمَبانيهما ونظريّاتهما الخاصّة؛ إذ أنَّ الكلام في المقام لا يَرتبط بالمنهج من جهة مَباني العلماء ونظريّاتهم، وإنّما يَرتبط بالمنهج من جهة الكتابة والتّدوين، فنحن نتحدَّث حول محيط دائرة تلك النّظريّات والمباني وليس داخل دائرتها.
ثانياً:-
ذَكْرنا بأنَّ علماء “المنهج الإخباري” رضوان الله عنهم كان لهم سلوكان في تدوين كتب الأحكام، وتقديمها للمكلَّفين، ذلك تبعاً لمبانيهم المختلفة تجاه العقل والمنع من الاجتهاد والتّقليد، حيث ساروا في “السّلوك الأوّل” على أساس ذِكر الرّواية مكان الفتوى، وجَعْل الرّواية هي نفس الفتوى، بحيث يتم انتخاب رواية معيَّنة تكون هي حصيلة الاستدلال، وإن كان الاستدلال منعدماً في بعض مذاهبهم.
بينما كانت الفتوى في “السّلوك الثّاني” عند بعض اتّجاهاتهم، تقوم على أساس تقديمها إلى جانب “دليلها وبرهانها اللَفْظي”، سواء كان هذا الدّليل اللفظي روايةً، أم آية قرآنيّة مقرونة برواية تفسّرها تبعاً للقول بأنَّ الآية القرآنيّة لا تكون مفهومة ولا يمكن معرفة الحكم منها إلا ببيان المعصوم عليه السّلام لها؛ كونه الشّخص الوحيد القادر على معرفة مرادها وتفسير معناها حسبما يَرَى أتباع هذا الرَّأي.
فهذا “السّلوك الثّاني” يَختلِف عن “السّلوك الأوّل” بوجود معالَجة إيجابيّة فيه، وخطوة إضافيّة تطويريّة في طريقة الكتابة؛ ذلك نظراً لمنحه الفقيه مجالاً للتّعبير عن النّتيجة الّتي تَوصَّل لها من خلال الدّليل وفْق مَبانيه وقَناعاته العِلميّة، فهو هنا يَذْكر الرّواية ويستطيع أيضاً أن يَذْكر معها فتواه ويعلِّق عليها بذلك، لا أن يَذْكر الرّواية فقط بدون أي سماح له بالتّعليق عليها، وذِكر فتواه إلى جانبها، كما في السّلوك الأوّل الّذي يَلتزم فقط بذكر الرّواية.
وفي المقابل –كما عرفتم- كانت تُعتَبَر الكتابة بصورة فتاوى مرشَّحة عن الدّليل، ومعزولة عنه عزلاً تامّاً بمنزلة الضّلال والانحراف؛ لذا كان يُنْكَر ويُشنَّع على الفقيه عندما يَستعرِض الأحكام الشّرعيّة مفصولة عن الدّليل وخالية منه، بحيث يكون أمام أحد خيارين؛ إمَّا أن يَسلك السّلوك الأوّل في تدوين المسائل، أو أن يسلك السّلوك الثّاني المعالَج والأكثر تطوّراً.
والعكس بالعكس اليوم؛ حيث صار تقديم تلك التّعاليم للمكلَّفين بالصّورة السّابقة هو الخطأ ومـمّا يَنبغي الابتعاد عنه؛ لذا نجد الرَّسائل في هذا العصر تَنتهج أسلوب تدوين الفتاوى بصورة مرشّحة عن الدّليل ومعزولة عنه عزلاً تامّاً؛ فهذه أشكال ثلاثة من كتابة الكُتب الفتوائيّة طوال التّأريخ الفقهي.
وعليه؛ من هنا يَنطلِق في أذهانكم استفسار جوهري ومهم يقول:
أيُّ شكلٍ من هذه الأشكال التّدوينيّة الثّلاثة هو السّليم القادر على حل مشكلات الرِّسالة العمليّة المرتبطة بهذه الجهة؟
ج: من خلال ما تقدَّم بدا واضحاً أنَّ حل المشكلات الّتي تواجِه هذه الأشكال الثّلاثة من التّدوين يَتحقَّق بتركها جميعاً؛ إذ لا التّدوين بصورة استعراضيَّة للرّوايات يَنفع المكلَّف؛ ذلك نظراً لعدم كونه مجتهداً قادراً على استنباط الأحكام منها، فضلاً عن افتقاد هذه الطّريقة التّدوينيّة لآيات الأحكام؛ ذلك تبعاً لكون كُتُب الإفتاء وفق النَّظر الإخباري العامل بهذه الطّريقة (عبارة عن مدوَّنات تُـجْمَع فيها روايات أهل البيت والأئمّة المعصومين عليهم السّلام)، بينما الآيات كما تعلمون تقدِّم لنا الكثير من الأحكام الشّرعيّة، كل هذا ناهيك عن التّطويل الّذي تُسبِّبه هذه الطّريقة تجاه المكلَّف بما يَبْلُغ بالرِّسالة العمليّة لعدد كبير من المجلَّدات، في حين أنَّ المقلِّد –غالباً- لا يَمتلِك رغبة كافية في قراءة الكُتب الاستدلاليّة المطوَّلة.
وكذا الأمر بالنّسبة للتّدوين المعالَج من الشَّكل الثّاني، فهو أيضاً لا يَنفع المكلَّف؛ كون هذا الشّكل من التّدوين شبيه بالشّكل الأوَّل كثيراً.
وكذا الأمر نفْسه بالنّسبة للتّدوين وفق الشّكل الثّالث، فهو كذا لا يَنفع المكلَّف؛ ذلك نظراً لما فيه من جفاف، وابتعاد عن الخصائص المانعة من الوقوع فيما ذكرناه من معضلات ومشكلات تَرتبط بهذه الجهة.
لذا؛ كان لابدَّ من وضع آليَّة تَمتاز وتَشترك مع جميع العناصر الإيجابيَّة المتوفِّرة في جميع هذه المناهج الثلاثة، مع إدخال بعض الإصلاحات الّتي من شأنها أن تَعمل على التّخلّص من كافّة العناصر السّلبيّة قدر الإمكان، وهذا ما سيتّضح من خلال الآتي.
ب- آليّة العلاج على صعيد التّقسيم الأوّل (إلى أصول وفروع):-
أوَّلاً:-
بالنّسبة لـ“تقسيم” الرِّسالة إلى الكلام في “أصول الدِّين” من توحيد وعدل ونبوّة وإمامة ومعاد، ثمَّ الكلام في “الفروع والمسائل الفقهيَّة” من صلاة وصوم وحج و..، أو تقسيم الرِّسالة بشكل آخر إلى الكلام في “فروع الدِّين” فقط من دون التَّعرّض لـــ”أصوله”، فقد أشرنا عند الكلام عن هذين النّوعين من التّقسيم إلى فوائد عدّة يَستقل ويَمتاز بها النّوع الأوّل منهما، ذلك من قَبيل دَعْم وتقوية الحركة العلميّة وإنعاشها في بعض المجالات الفكريّة، فلا نعيد ما قلناه، كما أشرنا هناك أيضاً إلى أنَّه من المهم أن تَنفصل العلوم عن بعضها، فيكون لعلم الفلسفة مجاله، ولعلم الكلام مجاله، وللإفتاء مجاله، إلا أنّنا نقول في قِبال ذلك:
من المهم أيضاً أن يقدِّم الفقيه أوّلاً نفسه لمقلِّديه وللأمَّة على أنّه عالم فيلسوف ومتكلِّم، لديه بناء فكري وعقائدي صلب، وأن يحاكي مقلِّديه في أصول دِينهم، ويُهيِّئ لهم الأُسس وطريق الفهم تجاه مَصادر الفتوى ودعائم الاعتقاد، وأن يبيِّن لهم بِدْئاً من أين جاء الفقه، تماماً كما يبيِّن لهم أحكامه؛ ذلك لكي يعمِّق في ذواتهم الإيمان بهذا العِلم، ويعالج ما في نفوسهم من تساؤلات تَسْبق الرّغبة في معرفة القانون، فالمقلِّد ليس دائماً على فراغ وتوجّه لمطالعة الكتاب الفلسفي أو الكلامي للفقيه الّذي يقلِّده، فضلاً عن أنَّ هذين العِلمين لا تكاد تجدهما في مجاليهما إلا بلغة الصِّناعة والاصطلاح والرّياضة الفكريّة العِلميَّة الدّقيقة والصّعبة على أكثر المكلَّفِين، بما يَسد على المقلِّد البسيط باب الفهم والإدراك تجاه الأمور المطلوب معرفتها قبل كلِّ شيء، وبما يخِل -كما قلنا- بالنِّظام الاجتماعي عند مطالبة الجميع بالتّخصّص في هذه المجالات.
نعم؛ ليس الكلام أنّه على الفقيه أن يَكتب تعليقاته وحواشيه على كُتب الفلسفة والكتب الكلاميَّة العقائديّة، وإنّما يكفي أن يحاوِر الأمّة ومقلِّدِيه بصورة تفي بتأسيس دعائم الفكر الصّلب، والإيمان القوي، وحفظ حرارته المتولِّدة عند الإنسان بالفطرة، تلك الحرارة الّتي نجدها لدى الطّفل منذُ أن يَرى والدَيه في محراب الصَّلاة فلا يَتساءل عمّا يمارسانه، وكأنّه مُدرك تماماً للفعل الّذي هما عليه، مع أنّه في الأمور الأخرى كثير السّؤال!
فالتّقليد في “الأصول الدِّينيّة” وإن لم يكن جائزاً إلا أنَّ هذا لا يَمنع من المحاوَرة وإرشاد المكلَّف فيها سَيْراً على سجيّة الدِّين والخالق سبحانه في شرائعه مع عباده، فالله صاغ لنا مبدأً تجاه التّعليم لهذه الأصول، وكان الـمَثَل الأعلى في التّطبيق والتّدوين؛ حتَّى نسير نحن أيضاً على مسيرته مع الضّعفاء وقليلي القدرة في التّفكير، والبسطاء في الفهم ومواجهة المشكلات؛ كل ذلك استهدافاً لتنشيط قِواهم وتنمية إدراكاتهم إلى حالة أبعد من الإيمان الفِطري السّهل، القابل للتّزلزل في ظلِّ الإشكاليّات المضَلِّلة والتّشكيكات الكثيرة، فـ“الأصول الدِّينيّة” وإن امتَنَع التّقليد فيها إلا أنَّ الحوار وإرشاد المكلَّف تجاهها أمر مطلوب بمستوى الطّلب على المسائل الشّرعيّة؛ هذا فضلاً عن أنَّ الممنوع في التَّقليد هو التّقليد في الأصول العامّة، أي:
التّقليد إنّما لا يجوز في المسائل العامّة الكبرى من “أصول الدِّين”، كتوحيد الله والإيمان بعدله وبالنّبوّة والإمامة والمعاد، فهذه العقائد الكبرى لا يجوز التّقليد فيها، ويجب على كل مكلَّف أن يكون مجتهداً بنفسه تجاه التّحقيق عنها، وهذا –كما تَرَى- بخلاف التّقليد في فروع هذه العقائد وفي مسائلها التّفصيليّة، حيث يجوز التّقليد في ذلك، بل لا يمكن للمكلَّف العامِّي معرفة تفاصيلها الفرعيّة إلا بالتّقليد، ففرْقٌ بين التّقليد في المسائل العقائديّة الكبرى، وبين التّقليد في فروع وتفاصيل تلك المسائل.
وعليه؛ نحن لا نقول للفقيه اكتبْ لنا –هنا في رسالتك العمليّة- تعليقتك على كُتب الفلسفة مثلاً، أو على كتاب كُتب الكلام، ليشْكِل علينا أحد فيقول: (ما ربْط أصول الدِّين بالرِّسالة العمليّة؟! فليس المجال في الرِّسالة مجالاً فلسفيّاً ولا مجالاً كلاميّاً ليَتم طرح هذه الأمور فيها، فالمجال فيها هو مجال مخصَّص للفتاوى الفقهيّة فقط).
فنحن لا نقول ذلك ولا نقصد هذا الشّيء، فلا أحد يُشْكِل علينا بهذا الكلام؛ لأنّنا إنّما نقول المطلوب هو الكتابة للمقلِّدين البسطاء والمثقّفين منهم وللأمَّة بما يُدَعِّم أُسس الانطلاق عندهم تجاه الفقه، وفَهْم المدار الّذي يدور حوله؛ كي يَتمكّن الفقه من أن يحقِّق أهدافه.
وبهذا تكون الحُجَّة لِـما قلناه لا لقول القائل بأنَّ هذا خَلْط للعلوم مع بعضها البعض؛ لأنَّ مَن يحقِّق أهداف الفقه ليس هو علم الكلام ولا علم الفلسفة، حتَّى يُقال ليس المجال مجالهما، ففرق بين أن نقول كن فقيهاً متكلِّماً أو متفلسفاً، أو كلاهما معاً، لتحقِّق أهداف الفقه كاملة وتقدِّم للمقلِّد كتاباً جامعاً هادفاً، وبين أن نقول هذا كتاب فلسفة أو كلام أو فقه وإفتاء، إذ المهمّة هنا في الرِّسالة -في مجال الحديث عن الأصول الدِّينيَّة- ستكون مهمَّة تمهيد فحسب، وليس مهمَّة تفصيل لا متناهي.
وبكلام آخر: عندما يَتكلَّم العالِم في مجال بحثه في “عِلم أصول الفقه” عن بعض المسائل الكلاميَّة العقائديَّة، وبعض آراء المذاهب المختصّة بالعقيدة، هل نقول له: لقد أصبح مجال بحثك بحثاً كلاميّاً عقائديّاً فأنت الآن تَتحدَّث خارج “عِلم أصول الفقه”؟
وكذا عندما يَتحدَّث الفيلسوف عن بعض الآيات والرّوايات بعد أن يثبت النّتيجة من بحثه العقلي، أو حتَّى عندما يَنقل بعض أقوال الفلاسفة الآخرين، هل نقول له: لقد خرجتَ عن إطار البحث العقلي والفلسفي ودخلتَ في مجال النّقل ومجال الرّوايات والآيات؟
وكذا مثلاً عندما يَتكلَّم المنطقي أو الفقيه عن بعض المطالب اللُغَويَّة النَّحويَّة في مجال المنطق أو مجال الفقه، كلٌّ بحسب تخصّصه، هل نقول له: لقد خرجتَ عن مجال بحثك وتخصّصك؟
كلا، لا نقول لهم ذلك.
كذلك الأمر هنا، فالتّمهيد للمكلَّف، وبيان منطلَق الفقه ومداره ومحيط مسائله، لا يُعتبر خروجاً عن مجال الفقه ومتطلَّبات الرِّسالة العمليَّة، خصوصاً إذا لاحظنا ما أشرنا وسنشير إليه من أمور.
هذا و –أيضاً- حُكْمُ العقل يقول أنَّ تقديم المهم أوجب من تقديم ما هو أقل درجة منه في الأهمّيّة، فإذا كانت الغاية من العلوم صلاح البشريّة، وكان صلاح العامّة يَرتبط بـجَعْل الرِّسالة مزيج متناسب من العلوم الّتي تَصب في غاية الإصلاح وأهداف نفس هذه الرِّسالة، وفي حدود ما هو مرسوم لها من خصائص، فلا ريب في أنَّ الأهم جعْلها بهذه الصّورة من الممازَجة، وإن كلَّف هذا الأمر إفقاد العلوم صبغتها الانفصاليّة، مع أنَّ هذا ليس مورداً للوقوع أساساً حتَّى يُخاف منه.
ففصل العلوم عن بعضها –على فرض اختلاله بسبب تدوين وتقسيم الرِّسالة بهذا الشّكل “أصول وفروع”- ليس بأهم من ترويج العِلم وتحقيق الصّلاح كغاية كبرى لا تَتقدَّم عليها غاية، وبالتّالي كان الأهم غضّ الطَّرْف عن قضيّة فصل العلوم على الفرض المذكور؛ مع أنّنا نؤكِّد على أنّه مجرَّد فرض لا غير؛ لأنَّ العلوم منفصلة فعلاً، وليس ذِكربعض مسائل وفوائد تلك العلومفي الرِّسالة العمليّة يَـجَعْل من هذه العلوم ذات صفة تخصّصيّة في الرِّسالة، فالجزء المتناثر والقليل من مسائل وفوائد تلك العلوم في الرِّسالة لا يحقِّق التّخصّصيّة لهذه العلوم في هذا الكتاب الفتوائي، كما أنّه لا يخرج الرِّسالة عن صبغتها الفقهيّة؛ وبالتّالي لا ضرر في ذِكر تلك المسائل والفوائد العَقَدِيّة في الجزء الأوَّل من أجزاء الرِّسالة العمليَّة.
ثم ماذا لو صارت الرِّسالة مزيجاً من القِيَم وفوائد العلوم الأخرى مع كونها ذات طابع فقهي غالب؟! ما المشكلة أساساً في ذلك؟! ليكن هذا، فلا ريب فيه ولا مشكلة.
واقعاً لا توجد أي إشكاليَّة في جَعْل هذا الكتاب الفتوائي الموجّه للمكلَّف بهذه الخصوصيّة وهذا الشّكل من التّقسيم في التّدوين بالتّحدّث أوّلاً في “أصول الدِّين” ثمَّ في “فروعه”، خصوصاً وأنّنا قلنا أنَّه بالإمكان تقديم الرِّسالة بأسلوبين؛ أسلوب فتوائي تخصّصي يقدَّم في كتاب مستقل، وأسلوب آخر يقوم على هذه الطّريقة من الممازَجة يَتم توجيهه للمكلَّفين في كتاب آخر.
أضف إليه أنَّ العلماء قديماً لـمّا ساروا في العرْض على المنهج الّذي ذكرناه؛ أي الحديث في “أصول الدِّين” ثمَّ في “فروعه”، لا شك أنّهم لاحظوا ما لذلك من أهمّيَّة كُبرى وارتباط وثيق بالرِّسالة الفقهيّة الفتوائيّة، وإلا كان عليهم أن يفصلوا بين الإثنين، بين أصول الدِّين والكتاب الفتوائي؛ تفادياً للخلط بين العلوم، فتلك العلوم كانت مفصولة في زمانهم، وكانت لها مجالاتها الخاصَّة، ومع ذلك ساروا على هذه الطّريقة في تدوينهم وتقسيمهم لكتبهم الفتوائيّة، كل ذلك مراعاة منهم للمصالح الكبرى ولِـما هو أهم.
نعم؛ كان استعراضهم رضوان الله عنهم للمسائل العقائديّة لا يرتقي للشّكل المطلوب تحقيقه في الرَّسائل العمليَّة بما هي مدوَّنات فتوائيّة موجَّه للمقلِّدين؛ لذا قلنا بحاجة هذه المناهج لدراسة جديدة وتطوير متكامل.
ثانياً:-
من المؤكَّد أنّك أيضاً تَتساءل: من أين يمكن الحصول على كل هذه المعارف التّمهيديّة الّتي يجب وضْعها في الجزء الأوّل من الرِّسالة؟
ج: هذه المعارف التّمهيديّة بالإمكان الحصول عليها في العديد من الآيات والرّوايات والمجاميع الحديثيّة والدُّعائيّة وكتب الفلسفة والكلام وغير ذلك الكثير، فالأمر في الوفاء بذلك يَعتمد على نوعيّة الكاتب وسعة اطّلاعه، وعلى طبيعة منهجه الّذي يريد أن يَتّبعه ويَرَى أنّه الأنسب في ملئ هذه الفراغات، فالمادّة العِلميّة في هذا المجال متوفّرة ووافية تقريباً بالقدر المطلوب، غاية الأمر أنَّ بعض المسائل الفكريّة المستجدّة والإشكاليّات العقائديّة المستحدَثة هي الّتي بحاجة لنوع أكبر من التّفكير والبحث.
نعم؛ أيضاً عدم جواز التّقليد في خصوص “أصول الدِّين الكبرى” لا يَمنع من مراجعة تلك الكتب والاستفادة من أفكار أصحابها على نحو لا يَقترن بالتّقليد؛ لذا لا يُشْكَل بأنّه كيف يُحال الكاتب على هذه المصادر؛ هذا وكما قلنا لا مَفرَّ من معرفة “فروع وتفاصيل مسائل أصول الدِّين” –كالملائكة وصفات النّار والجّنة…- إلا من خلال القرآن والأنبياء وأوصيائهم، ممّا يعني لزوم مراجعة الآيات والمجاميع الحديثيّة في هذا المجال فيما إذا أُريدَ استعراض بعض تلك المسائل في قِسم “أصول الدِّين” من الرِّسالة العمليّة.
ثالثاً:-
بقي أن نشير إلى وجوب تجنّب التّطويل الكثير في هذا القِسم، والحفاظ على الشّكل الخاص للرِّسالة العمليّة، وكذا تَجنّب الاستدلال الدّقيق الممِل والمستصعَب، والابتعاد عن استعراض العضلات الفكريّة والعقليّة، إذ ليست الغاية من تضمين الرِّسالة لهذا القِسم إلا تهيئة المكلَّف للأحكام الشّرعيّة، والانطلاق به بعد تأسيس الأُسس العامّة لديه ودعمها بالإيمان القوي لا غير، وإلا فالمسائل العقائديّة محل بحثها في مكان آخر، والفهيم للمستصعَبات قادر على مراجعتها هناك، وليس بحاجة ضروريّة لمطالعتها في الرِّسالة كي يُخاطَب شخصيّاً بها ويَتم إغفال حاجة القارئ العامِّي للتَّمهيد والاستفادة والتّبسيط ، كما أنّه –أيضاً- ليس من الصّحيح ملئ الرِّسالة العمليّة بهذه المسائل كثيراً بمثل ما كان يَفعل “المنهج الإخباري”، حيث كان يَستعرِض جميع الرّوايات العقائديَّة في الجزء الأوَّل من الكِتاب، ويَسْردها سرداً مطوَّلاً تبعاً لمنهجه الّذي أَسَّسه وبنَى عليه في التّدوين.
إذن المطلوب هو حالة من الاعتدال والتّوازن بين “المنهج الإخباري” و”المنهج الأصولي”؛ أي بحيث يَتم تجنّب العَرْض المطوّل للتّفاصيل وما أشرنا له، وكذا الابتعاد عن إفراغ الرِّسالة العمليّة بالكامل من هذا القِسم الّذي هو بمثابة المقدِّمة والقاعدة للبناء التّنظيمي والتّشريعي تجاه المكلَّف.
هذا وقد أجاد السّيّد الشّهيد -رحمه الله- وغيره من كبار العلماء، كالشّيخ مكارم الشّيرازي والسّيد صادق الشّيرازي وغيرهما -أَيَّدَهم الله- خير إجادة عندما عادوا لاستعمال التّقسيم الثُّنائي القديم على هذا المستوى، وإن كنّا نأمل أن يكون العرْض في القِسم الأوّل منه أكثر عطاءً، بما يَشمل ويعالج المشكلات الأخرى الموجّهة لنوعيّة التّدوين ضمن مسائل هذا القِسم، خصوصاً الابتعاد عن اللُغة الصّعبة على المكلَّف، وتَجنّب فتح الموضوعات الخارجة كثيراً عن صفة التّمهيد للمسائل الفقهيّة.
نكتفي بهذا القدر، والحمد لله أوّلاً وآخِراً، والصّلاة على نبيّنا محمّدٍ وآله الطّاهرِين، وصحبه المنتجَبِين.
للتعلیق أو مطالَعة التعلیقات اضغط هنا