بسم الله الرّحمن الرّحيم
مَدْخَل مهم لدراسة الفقه “تتمّة القِسم الأوَّل”
الأمر الثّاني:
أهم معضلات كتب الفقه الإسلاميّة الفتوائيّة:-
إلهي أَوزِعْني نِعمةً لا تَنْفَذ، وصَبراً مَديداً، وعملاً سَديداً، وصلِّ على نبيِّنا رسولِ الرّحمة، ومنارِ الهُدَى والاستقامة، وعلى آله الأطهار، وصحبِه الأبرار، ومَن وَالَى أهلَ بيتِه بصَفاءِ الولاية، واستنقَذَهُمُ الولاءُ من مُدْلَهِمّاتِ الغِواية.
وبعد..
نريد هنا أن نقِف معكم وقفةً أخرى نستعرِض من خلالها عدَّة مشكلات عويصة تُحيط بالرّسائل العمليّة الموجَّهة للمكلَّفِين، وعدداً مهمّاً من القضايا الّتي تفتقر إليها هذه الكُتب الفقهيّة، وتحتاج لتمكينها فيها، أو تحتوي عليها وتحتاج لتفريغها وتنقيتها منها، وذلك من خلال بيان أهم المعضلات الّتي ساهمت في تأخّر الكُتُب الفتوائيّة، وعَملَتْ بصورة سلبيّة مباشرة في عدم تحقيقها للمستوى المطلوب منها على صعيد الانتشار والرّواج، والقراءة، والتّقدّم الفكري، والتّربية، والتّنظيم الفردي والاجتماعي، وغير ذلك مـمّا سنوافيك به فيما يلي:
المعضلة الأولى:-
لا ريب في أنّنا نريد لعلم الفقه أن يأخذ موقعه الحقيقي في الأمّة وأبنائها، وأن يؤدِّي دوره الرّوحي والنّفسي تجاههم، لا أن يكون مجرّد أحكام فارغة من المحتوى، ميّتة ضعيفة عن أن تَتحرّك في العقل والقلب، وعن أن تكون لها فاعليّة فعليّة في وجدان الفرد والجماعة.
فالفقه اليوم ومنذ القِدَم فُرِّغ تماماً من محتواه الإلهي، وأصبح بصورة مختلفة جذريّاً عمّا رسمته تعاليم السّماء، وأراده رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، الّذي جاء بالقرآن ممزوجاً بالمسائل الفقهيّة وأبعادها الرّوحيّة معاً، دون أن يعتني بجانب التّشريع على حساب جانب الرّوح، أو بجانبٍ ما على حساب جانبٍ آخر، فالقرآن لم يأتِ مثلاً في شكلٍ مقسَّمٍ إلى بابين؛ باب مستقل للأبعاد الرّوحيّة، وآخر مختص بعرض الأحكام والقوانين والتّشريعات، وإنّما جاء دَامجاً ممازِجاً بين الإثنين معاً، وبدرجة متلائمة ووتيرة واحدة، كما جَعَلَ الغاية من الثّاني هو الوصول للأوَّل وتحقيقه، بينما فَصَل العلماء بين القوانين -أي الفتاوى- وروحِها التّربويّة، بجعل هذا في كتاب مستقل تَتكفَّل به كُتب الأخلاق، وذاك في كتاب مستقل تَتكفَّل به كتب الأحكام والرّسائل العمليّة!
فأنت عندما تطالع في هذا الكتاب الإلهي العظيم –أعني القرآن– وتَتأمّله؛ تجد أنّه ما أن تَرِد فيه آية تتكلَّم عن الأحكام والحدود ومسائل القضاء والجزاء، إلا وفي جانِــبَـيها -قبلها وبعدها- عشرات الآيات تتكلَّم عن الجانب المعنوي والتّربوي والإيماني لهذه الأحكام وهذه الحدود وهذه المسائل، بما يوجِد أثراً حراريّاً عالياً لدى القارئ، ويرسِّخ العقيدة عند المعتقِد، ويبهر غير المعتقِد، ويعطي للتّشريع أبعاده الحقيقيّة الكاملة الهادفة، على خلاف غير ذلك من الرّسالات السّماويّة الّتي نراها، وندرك كم هي فاقدة لهذه الأنفاس الخالدة الممتدَّة والمؤثِّرة.
ولعلّ هذا من أبرز الأدلّة المميِّزة للكتاب السّماوي عن غيره، ومن أَجْلَى البراهين على تحريف الكتب الأخرى أمثال التّوراة والإنجيل، بل هو كذلك؛ والسّبب يعود إلى عدم تحقّق هذه المنهجيّة الإلهيّة الرّائدة فيهما، حيث تَمَّ تقسيم الكتابين إلى أَسْفار وسوَر، عُزِلَتْ فيها الأحكام والتّشريعات ضمن أَجزاء خاصّة، أبعدتها عن لبِّها ومعناها وجوهرِها وقَوامِها، وأفقدتها صبغتها الرّبّانيّة، وآثارها العالية، فجَعلتْ منها مجرَّد إجراءات وقوانين فارغة المحتوى، ذات طابعٍ فتوائي فحسب، مـمّا أَكسب أتباعها نوعاً من الفتور وعدم الالتزام بتعاليمها تبعاً لعدم التّأثير وفقدان المؤثِّر، تماماً كما نرى لدى المجتمعات الغربيّة؛ حيث لا تلتزم لا بالتّوراة ولا بالإنجيل، رغم إيمان تلك المجتمعات بصحّة وسلامة هذين الكتابين، وإن كانا محرَّفَين حسبما نَعتقِد نحن.
أمّا المنهجيّة الإلهيّة، فمن أبرز معالمها وخصائصها أنّها تدمج بين الإثنين معاً؛ بين الحُكم وروحه، بين التّشريع وجوهره، بين التّنظيم وأهدافه، بين ما نسمّيه بـ“القانون وأخلاق القانون” أو “الحُكم وروح الحُكم”، تماماً كما نلاحظ في القرآن الكريم، هذا الكتاب الفريد في منهجيَّته، المليء بالتّنظيمات والإيمان، الشّديد في مؤثِّريَّته.
والسّؤال الجوهري يَسأل: هل أدَّت الكتب الفقهيّة الفتوائيّة مهمّتها ودورها المطلوب على هذا الصَّعيد؟
وبعبارة أوضح: هل الرّسائل العمليّة الّتي أنتجها الفقهاء -أعلى الله منازلهم- منذُ أوّل رسالة لأوّل فقيه خرجت إلى يومنا هذا، تَتحلَّى بالقانون والإجراءات مع محتوى هذه القوانين وروح تلك الإجراءات؟ أم هي مجرَّد كُتُب أحكام وفتاوى مَحْضة معزولة تماماً عن غاياتها المعنويّة وجوهرها وأَبعاد هذه الغايات؟
وهل فعلاً بإمكان هذه المنهجيَّة أن تولِّد إيماناً عالياً في الفرد والجماعة؟
من الواضح وبجلاء أنّها مُدوَّنات فتوى فقط لا غير، لها عوارض سلبيّة فتّاكة إلى جانب أهمّـيّتها وفوائدها العظيمة، حيث ساهمت منهجيّتها هذه في قَتل الكِتاب الفتوائي، وإماتة روحه، وتَقويض مسائله، وجَعْلِه كتاباً صامتاً جافّاً يعجز تماماً عن محاكاة المكلّف والتّحاور مع سرائرِه ووجدانِه، في حين أنَّ المطلوب هو:
أن يقدِّم كل فقيهٍ لمقلِّدِيه نسخةً فذّة ملتهِبة على مستوى البيان والعطاء القانوني والرّوحي المتمازِج، بما يجعل من كل مقلِّدٍ في حالات عالية مُستديمة، وحرارةٍ معنويّة متوهِّجة.
في الحقيقة إنَّ القرآن الكريم رغم ما له من مقدرة عالية على التّوفيق بين هذين الجانــبَين، إلا أنَّ العديد من أبناء المجتمع المسلم بسبب ما فيهم من الفتُور وتَكدّس مفاتن الدّنيا، يَقِلُّ فيهم تأثير هذا الكتاب الإلهي العظيم بدرجةٍ معيَّنة، كلٌّ بحسب حُجُبِه النّفسيّة، فكيف بالحال عندما تكون المادّة الفقهيّة مقدَّمة لهم -كما في زماننا- بصورة لا تَرقَى إلى ذلك المستوى من المنهج الفريد القائم على الممازجة بين الحُكم وأخلاق الحكم، وبين القانون وروح القانون؟
لا شك حينها سيكون الأثر في الفرد المسلم -سلبيّاً- أنزل وأقل بكثير من مستوى خطِّ الـخَطَر؛ ممّا سيَعمل على إشاعة الجهل والتّشنّج النّفسي في الأوساط الإسلاميّة!
ولعلَّ هذا من أهم وأبرز الأسباب الّتي جَعلت من التّربية في مجتمعاتنا تربية هشَّة، مليئة بالأوامر والتّشريعات -هذا واجب وذاك حرام، وذلك واجب وهذا حرام!- وبعيدة عن الواقع، لَـحتَّى خسِرَ المكلَّف تعاليم وقِيَم أزكى وأرقى ديانات الأرض والسّماء! فمجتمعاتنا رغم كونها مجتمعات دِينيّة، ورغم قوّة التّديّن والالتزام فيها بالمقارنة مع المجتمعات الأخرى، إلا أنَّ هذا المجتمع الدِّيني الإسلامي ليس إلا كومة ومجموعة من التّقاليد والطّقوس والالتزامات الـهَشَّة الفاقدة للمحتوى التّربوي، والكيان المتكامل؛ ممّا يجعله قابلاً للاهتزاز في أبسط ظروف القهر والبلاء والتّموّج، وبأبسط ما يوجَّه له من ضربات الانحلال والسّقوط؛ بدليل ما نراه من حالات مأساويّة تحمل طابعاً دينيّاً وباطناً استهلاكيّاً.
فمثلاً كم من أفراد مجتمعنا مَن يعرف أحكام الصّلاة، والزّكاة، والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، والزّواج، والطّلاق، و..؟
لا نشك في أنَّ الكثير منّا –بل أغلبنا– يعرف هذه الأحكام، بل كلّنا يعرفها على مستوى طابعها الإجمالي العام، وإن كان العارف بتفاصيلها هم أُناس قِلَّة، إلا أنَّه بالمستوى العام كلّنا يعرف أحكام الصّلاة، وأحكام الوضوء، والغُسل، والحَج، والصَّدقة، وغير ذلك من التّشريعات والقوانين الفقهيّة والأحكام الإلهيّة؛ ولكن كم من النّاس مَن يعيش هذه الأحكام بمحتواها وباطنها وأهدافها وغاياتها وينظِّم حياته بها؟
كم هم أُلئك الّذين تؤتي فيهم الصّلاة أُكُلها؟ والحَج قِيَمه؟ والزّكاة أبعادها؟ والوضوء والغُسل آثارهما؟ والدِّيات والكفّارات ثمارها؟ كم هم أُلئك وما هي حصيلة وجودهم؟
ألا تلاحظون كم هو عدد من يُقدِّم زكاته بحقٍّ عن وعي وفهم وإدراك دون أن يشعر بأنّها تُغتَصَب منه اغتصاباً، أو أنّها حقٌّ عليه يؤرِّقه ويقلقه، ويريد الخلاص منه فحسب؟
فمن أين بَرَزت هذه الظّاهرة الـمَقِيْتة وهذه الجاهليّة المتَفشِّية، الّتي لربّما هدمت العمل العبادي من رأس وفرّغته تماماً من النّيّة المطلوبة فيه؟!
هل من نفْس الدِّين؟ هل من نفس الفقه؟ هل في الأنبياء خلل حاشاهم؟ أم في باعث الرُّسل والرّسالات نقص وغفلة تعالى عن ذلك؟
من أين جاءت هذه الظّواهر؟ ومَن وَلَّدها؟ هل تساءلنا عن ذلك؟
متى كان المكلَّف رجل قانون حتَّى نقدِّم له كتابه الفقهي العملي الموجَّه لجميع أفعاله وقضاياه بصورة مواد صامتة جامدة كتلك الّتي يقدِّمها رجل القانون في دستور الدّولة ومحافل الفصل؟!
فهل المكلَّف البسيط رجل دولة أو رجل قضاء كي نقدِّم له الدِّين من أوَّل مسألة إلى آخر مسألة على طول الكتاب الفتوائي بهذه الصّورة؟!
فمن أين بَرَزت هذه الظّواهر الّتي جَعَلَتْ من الفقه يفتقد القدرة على تحقيق ملاكاته والـمَصالح الّتي أُسِّست عليها أحكامه؟
إنّها معضلة إفراغ القوانين واختزال الإجراءات عن محتواها، وتقديمها بصورة متمحِّضة في الفتوى فحسب، بالدّرجة الّتي جعلت حتَّى من تلك الأحكام والإجراءات العقابيّة الّتي نجدها في الدِّين من قصاص وحدود -مثلاً- مثاراً للنّقد والتّشفِّي بالأنبياء وأحكام الله -وإن كان عَرْضُها نادراً في الآونة الأخيرة في هذه الكُتب!-، فهذا النّقد والتّشفِّي بالأنبياء وأحكام الله من قِبَل المعاندِين كلُّه جاء بسبب تقديم هذه التّعاليم للمكلَّفين بصورة سلبيّة أثارت حول الإسلام -رغم عراقته وعمق أهدافه- آلاف الشّبهات والإشكاليّات، بالمستوى الّذي أصبحنا فيه نواجه في نفس المجتمع الإسلامي من نفس بعض المسلمين مَن يعترض عليها ويحاربها أشدَّ المحاربة، وبأساليب أعظم من تلك الّتي يجيء بها الكافر تجاه الإسلام.
أسألكم بالله؛ كم علاقة زوجيّة في مجتمعنا تعيش بسعادةٍ وهناءٍ وحُبٍّ ووئام؟ وكم منّا مَن يعرف أبعاد قوله تعالى: {وجَعَلَ بَيْنَكُم مَودَّةً ورَحْمة}[1] أو {هُنَّ لِباسٌ لكم وأَنتُم لِباسٌ لَـهُن}[2] أو {عاشِرُوهُنَّ بالمعروفِ فإن كَرِهْتُمُوهُنَّ}[3]، كم منّا مَن يعرف أبعاد الآية الثّالثة كحكم وقانون مع أبعاد الآيتين الأولى والثّانية؟ ثمَّ هل هنالك من يعرف كم معنى للبّاس؟ وكم حقيقة له؟ تلك المعاني والحقائق الّتي بَلَغَت في مجلسٍ من مجالس التّفكير إلى ما يقارب 20 معنى وحقيقة!
كم منَّا مَن يعرف حقّ الأخوّة وحقيقة رابطة الدّم والّلبن، في ظل معرفته لقوانين الـمَحارم المتكوِّنة بالنَّسَب أو بالرِّضاع مثلاً المستعرَضة في مسائل هذا الباب في الرّسائل العمليّة؟
كم طفل من أطفالنا يَتلقَّى تربية صالحة؟ وكم زوجة تدرك حقوق زوجها؟ وكم من الأزواج مَن يدرك حقوق زوجته؟
كم هم أُلئك الأفراد الّذين يدركون معنى: “السّلام علينا وعلى عباد الله الصّالحين” أو “السّلام عليكم” وما شاكل من هذه العبارات الّتي نَلْهَج بها عدّة مرّات في صلاتِنا يوميّاً؟
كم هو عدد المصلِّين العارفين بمعنى {اللهُ الصَّمَد}[4]، والفرق بين “الرّحمن” و”الرّحيم” بعد أن عرفوا من الرّسالة العمليّة وجوب قراءة القرآن في الصّلاة بالعربيّة، ووجوب البسملة، ووجوب سورة قصيرة بعد الفاتحة، وأنّه يُستحب أن تكون تلك السّورة هي الإخلاص، وأنّه عند الشّروع في هذه السّورة لا يجوز العدول لغيرها سواء تَجاوز القارئ النّصف منها أم لم يَتجاوزه؟
فإن قيل علم التّفسير يَتكفَّل ببيان معنى الآيات، فمَن الّذي يَتكفَّل ببيان معنى التّسليم مثلاً؟! علم التّفسير أيضاً؟ أم علم الأخلاق؟! أم الفلسفة أم الكلام؟! هل تجدون في الفقه ما يملأ هذه الفراغات ويعالجها؟ أم تجدون في كتبِه مجرَّد أحكام وفتاوى وإجراءات فحسب؟
فتاوى تُبيِّن كيف يكون العقد، وماذا للزّوجة وماذا للزّوج، وكم عدد أيّام الحيض، وكم عدّة المطلَّقة، وماذا لو شككت في الرّكوع أو السّجود، وهل يَبطل الحج بدون إحرام أم لا، وما حكم الصّوم على جنابة، وما هي العبارة الواجبة من جزء التّسليم في الصّلاة، وما هي أحكام الإرث، وكم هي زكاة الإبل والماعز، ومتى يكون العقد البنكي ربويّاً أو صحيحاً، وكم مقدار اللُّقَطة واجبة الإعلام وإلى مدّةِ كم يجب الإعلام عنها، وهَلُمَّ جرَّاً.
أليس هذا هو الموجود في الكتاب والرّسالة الفقهيّة؟
هل قدَّمَتْ لنا الكتب الفقهيّة ولو لمرَّة واحدة فلسفة الزّواج والعلاقة الزّوجيَّة الّتي هي منطلق الأسرة والمجتمع وكل بناء الأُمم؟
هل قال لنا الفقيه بعد غوصه وتبحّره في القرآن والسّنّة واقتداره العقلي على التّحليل رؤيته في مثل ذلك؟
هل قال لنا الكتاب الفتوائي في مرَّة من المرّات لماذا في الزّواج المنقطع يكون حق الأولاد قائم على شرطيّة رضا الطّرفين، وفي النّكاح الدّائم يكون الأمر بالعكس، بحيث تكفي رغبة طرف ليجب على الآخر الاستجابة؟
هل وَجدنا شيئاً من ذلك؟ بل هل وَجدنا هذا التّقسيم وهذا النّوع من الحقوق في باب النِّكاح؟ وهل تمَّ تقديم واستيفاء حدود النّوع الأوّل من الزّواج من النّاحية الاجتماعيَّة ومشخّصات الفرد؟
فهل هذا النوع من التّزويج تَشْريع مُهْمَل مُسيَّب هكذا بالصّورة الّتي يسيء فيها النّاس استفادتهم منه، أم له حدود وضوابط غير تلك الواقعة في مرحلة العقد وصيغته وما بعد العقد وصيغته ممّا يَكتفي عادةً الكتاب الفتوائي باستعراضه؟
ثمَّ هل تجدون في قِسم الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر في الرّسالات العمليّة رؤية حقيقيّة وافية بهذا الواجب المهم الّذي على دعائمه تقوم الشّعوب ويَعم الصّلاح، رغم كونه فرعاً من فروع الدِّين الكبرى والوظيفة الأُولى للأنبياء والرُّسُل الّتي كثيراً ما أَكَّد القرآن الكريم عليها بقوله {بَشِيْراً ونَذِيْرا}[5]؟
هل قدَّم لنا الكتاب الفقهي الفتوائي رؤية في هذا الواجب بما يرتبط بأُسس التّربية، وحدودها، وموارد دِياتها، والـمَعالم العامّة للدِّية، وحَد الأخ تجاه أخيه ودخالته في شؤونه، أو حَد العَم في مثل ذلك، أو صلاحيّات الأستاذ تجاه تلميذِه، …؟
هل قدَّم لنا الكتاب الفتوائي شيئاً أو بعضَ شيءٍ من ذلك؟ أم أنَّ قِسم الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر قِسم مختصَر جدّاً لا يَفي بتطلُّعات الدِّين والرُّسل والأنبياء؟ مع أنَّ هذا القِسم كان الأجدر به أن يكون أفضل مكانٍ يُستغَل لعرض أُسس التّربية، وحدودها، ومختلف جهاتها.
هل قالت لنا الرِّسالة العمليَّة لماذا يَخرج علي بن أبي طالب عليهما الصّلاة والسّلام بالسّجناء إلى السّوق مثلاً؟ أم هذا لا صلة له بالمكلَّف وتنظيم حياته وبنائه التّربوي؟ مضافاً إلى ما سنشير إليه عند الحديث عن باب القضاء والقصاص والحدود.
لماذا لا نفسِّر لأبناء الأمَّة سبب كون دِية قطع أربعة أصابع أقل من دِية قطع ثلاثة أصابع؟ لماذا لا نفسِّر لهم ذلك من جهة أخلاق الحُكم وإن كنَّا لا نَعْلم عِلَّة التّشريع؟ فاستغلال مثل هذه الموارد تجاه المؤمِن بالرِّسالة من شأنِه أن يوجِد في المكلَّف حالة إيجابيَّة، وأن يوظِّف فيه أثراً إيمانيّاً عالياً تجاه دِينه ورسالةِ مقلَّده.
أمّا فصل الحيض والاستحاضة فحدِّث ولا حَرَج، فكما يقول أحدهم: “لو كنتُ امرأةً لكَفرت”، والقصد طبعاً هو طريقة العرض لا أصل التّشريع والحُكم، فالحكم لـمّا يُعْرَض بروحِه التّربويّة ومبدئه الإلهي؛ فإنّه سيكون على العكس داعياً للتّشبّث به واعتناقه وامتثاله عن رغبة وإيمان مليء بالرّوحانيّة والعروج، فأمثال هذه الموارد بحاجة كثيرة للعَرْض التّربوي، ولا أدري لعلّه لو دَوَّنتْ هذا الفصل امرأة لجاءت فيه بكلِّ جميلٍ وبنّاءٍ ممّا تحبّه النّساء.
لماذا لا نقدِّم للمكلَّف كتاباً فتوائيّاً يمتزج بالحياة ويَطْفَح بالقِيم الحيّة، لتَحْمِل بِدَورِها الأحكام على عاتقِها وتَنفذ بها لقلب الفرد والمجتمع وعقلِهما؟!
ألا يَستحق الكتاب الفقهي الفتوائي بعضاً من الجهود في سبيل تحقيق ذلك؟ أليس هو الأَولى بالأهمّيّة؟ فإلى متى يَذهب المكلَّف في شَتات وجهل ودِيننا لا يفوقه دِين ولا يَسْتَعصي عليه أمر؟!
نعم؛ قد توجَد بعض الظّروف تحتاج لعَرْض الكِتاب بصورة أحكام مستقلّة بهدف تسهيل المراجَعة، كظرف الحاج في مكّة مثلاً وما شاكل، حيث يحتاج الحاج لمعرفة الحُكم من مكانه في الرّسالة بسرعة، إلا أنَّ هذا أيضاً لا يُعتبر عذراً وجيهاً تَقرُّ به العيون وتَلذُّ به الأسماع؛ حيث أنَّ نفس الحاج موجَّهة إليه الدّعوة في معرفة قِيم الحج وربطه بها باستمرار، بل وتَوجُّه ذلك له أكثر من غيره؛ نظراً لقلّة تَوفّق أغلب المكلَّفِين لـمَواقف هذا الفرع الدِّيني العظيم، وكذا قلَّة وقت هذه العبادة الإلهيّة المليئة بالتّعاليم العالية الكثيرة؛ ممّا يوجِب استغلال الفرصة في حاجة الحاج لمعرفة الحكم المضطر لمعرفته، والوصول به إلى مَدارج الكمال المترقَّبة من هذه الشّعيرة الإلهيّة الّتي قد لا يوفَّق لها مرّة أخرى في حياته، كل هذا مضافاً إلى إمكانيّة جَعْل مثل باب الحج في كتاب خاص بصورة قانونيّة فتوائيّة محضة، تماماً كما يُفعل في زماننا الحاضر، فهو من الأمور الجيّدة، والّتي بإمكانها أن تسجِّل حضورها جنباً إلى جنب السّلوك التّدويني التّربوي الآخر لمسائل هذا الباب، إذ لا ضَير بإقامة الطّريقتين فيه تماشياً مع الحاجة.
نكتفي بهذا القدر على أمل اللقاء بكم في الحلقة القادمة، والحمد لله ربِّ العالمين والصّلاة والسّلام على رسوله الأمجد وآله الطّيّبين الطّاهرين.
للتعلیق أو مطالَعة التعلیقات اضغط هنا