بسم الله الرّحمن الرّحيم
مَدْخَل مهم لدراسة الفقه “تتمّة القِسم الأوَّل”
الأمر الثّاني: (أهم معضلات كتب الفقه الإسلاميّة الفتوائيّة):-
إلهي! أَلهِمنا طاعتَك، وجنِّبنا معصيتَك، ويَسِّر لنا بلوغ ما نَتمنَّى من ابتغاءِ رضوانِك، وأَحْلِلْنا بُحبُوحة جِنانِك، واقشعْ عن بصائرِنا سحابَ الارتياب، واكشفْ عن قلوبِنا أغشيةَ المِرْيَةِ والحِجاب، وأَزهِق الباطلَ عن ضمائرنا، وأَثبِت الحقَّ في سرائرِنا، فإنَّ الشّكوكَ والظّنونَ لَواقِحُ الفِتَن، ومُكَدِّرةٌ لِصَفوِ المَنائحِ والمِنَن[1]، وصلِّ على رسولك في العالَمين، محمّدٍ وآله الطّاهرين. وبعد..
(ملاحَظة: هذه الحلقة مهمّة ودقيقة قليلاً، فتحتاج التّركيز بعض الشّيء).
ذكرنا فيما سلف أنّنا سنقدِّم “مَدْخَلاً” مهمّاً لدراسة الفقه قبل الشّروع في شرح “فتاوى المنهاج”، وقد تكلّمنا في “القسم الأوّل” من المَدْخَل، فأنهينا الحديث عن “الأمر الأول” من هذا القِسم، والّذي تناولنا فيه منهج الفقهاء –رضوان الله عنهم- في تدوين وتقسيم الرّسائل العمليّة قديماً وحديثاً، حيث قدّمنا دراسة مقارنة تبيِّن سبب اختلاف الرَّسائل القديمة عن الرَّسائل الحديثة، كما تناولنا ذلك على ضوء منهج “مدرسة فقهاء الأخبار”، ومنهج “مدرسة فقهاء الأصول”.
وبعد أن انتهينا من “الأمر الأوّل” من هذا القِسم، دَخلنا في الحديث عن “الأمر الثّاني” منه، والّذي استعرضنا من خلاله ما نراه من “معضلات ومشكلات” متحقّقة في الرّسائل العمليّة، تساهِم بشكل مباشر في إحراف هذه الرَّسائل عن أهدافها العظيمة، وتَعمل بصورةٍ سلبيّةٍ في عدم تحقيقها للمستوى المطلوب منها على صعيد الانتشار والرّواج، والقراءة، والتّقدّم الفكري، والتّربوي، والتّنظيم الفردي والاجتماعي، وغير ذلك ممّا بيّنّاه.
وها نحن لازلنا نتكلّم في مجال “الأمر الثّاني” من هذا القِسم، على أمل الانتهاء منه في هذه الحلقة بحوله تعالى، وذلك من خلال استعراض بقيّة المعضلات والمشكلات المتواجدة في الرّسائل العمليّة، وهي كما يلي:
معضلات أخرى أشار لها بعض العلماء:-
أشار بعض العلماء الأعلام إلى مشكلات أخرى تحويها الرّسائل العمليّة غير المشكلات الّتي كشفنا عنها فيما سبق، ونحن هنا تحت هذا العنوان نَذْكر ما استعرضه المرجع الدِّيني، الشّهيد الرّاحل، السّيّد محمّد باقر الصّدر -عليه الرّحمة- في مقدّمة رسالته العمليّة “الفتاوى الواضحة”، حيث أشار فيها لمجموعة قضايا وإشكاليّات كان يَرَى أنّها تضر بالرَّسائل العمليّة، ويجب الابتعاد عنها كي لا تنعكس بصورة سلبيّة على المقلِّدِين.
فهذه القضايا والإشكاليّات الّتي أشار لها نذكرها نصّيّاً حسبما كَتبها تحت عنوان “الرَّسالة العمليّة، أهمّيّتها وتطويرها”، ونحن وإن أشرنا سابقاً لبعضها، إلا أنَّ إشارتنا لها كانت إمّا بهدف توسيع الكلام فيها، أو بهدف إيضاح بعض جهاتها الأخرى الغير مشار إليها، لذا نذكر ما قاله عليه الرّحمة حَرفـيّاً مع إضافة بعض الكلمات منّا بين قوسين هكذا ’…‘ بهدف تسهيل بعض العبارات الصّعبة، وتوضيحها للقارئ المعتاد على الكتابات البسيطة؛ ليَفهمها بسهولة ويُسر، وذلك كما يلي:
قال قدِّس سرّه: ((وقدكانت الرَّسائل العمليّة الّتي يكتبها المجتهدون لمقلِّدِيهم هي الأساس لـتَعَرُّف المقلِّدِين علىفتاوى مَن يقلِّدون ’من المراجع والفقهاء‘، وبالتّالي ’لـيَتعرَّف المقلِّدون‘ على ما يَحتاجون إليه من الأحكامالشّرعية.
وقد قامت الرّسائل العمليّة بدور مهم وجليل في هذاالمجال، ولكن على الرَّغم ممّا تمتاز به عادةً من الدّقّة في التّعبير، والإيجاز في العبارة،توجَد فيها على الأغلب ملاحظتان تَستدعيان التّغييروالتّطوير:
الملاحظة الأولى:-
أنَّ هذه الرَّسائل تخلو غالباً من المنهجيّة الفنّيّة ’والتَّنظيميَّة‘ في تقسيم الأحكام ’الشّرعيّة‘ وعَرْضها، وتصنيف المسائل الفقهيّة على الأبوابالمختلفة.
ومن نتائج ذلك حَصَل ما يلي ’من سلبيّات ومَضار، وهي‘:
أوّلاً: أنَّ كثيراً منالأحكام ’الشّرعيّة‘ أُعطيـَتْ ’وقُدِّمتْ‘ ضمن صوَر جزئيّة محدودة تبعاً للأبواب ’الفقهيَّة‘، ولم تعطَ لها صيغة ’وقاعدة‘ عامّة يمكنللمقلِّد أن يستفيد منها في نطاق واسع، ’بحيث يَستنبط من خلالها أحكام المسائل المشابِهة بنفْسِه، وبكل سهولة، دون الحاجة للرّجوع إلى الفقيه الّذي يقلِّده‘.
ثانياً: أنَّ عدداً من الأحكام دُسَّ دَسّاً ’ووُضِعَ‘ في أبواب أجنبيّةعنه لأدنى مناسبة ’وبدون أي وجه مقبول ومنطقي‘؛ ’كل ذلك‘ حرصاً على نفْس التّقسيم التّقليدي للأبوابالفقهيّة ’وحِفاظاً على الطّريقة القديمة الـمَورُوثة‘.
ثالثاً: أنَّ جملة من الأحكام لم تُذْكَر نهائيّاً؛ لأنّهالم تَجِد لها مجالاً ضمن التّقسيم التّقليدي ’القديم‘.
رابعاً: أنّه لم يُبدأ في كل مجال ’وكل باب فقهي‘ بالأحكام العامّة ’قبل الشّروع بالتّفاصيل، حيث أنَّ المفروض هو التَّمهيد أوّلاً وبيان الأحكام العامّة لكل موضوع ومن‘ ثمَّ’الشّروع في‘ التّفاصيل، ’لا أن تُذْكَر تفاصيل المسائل هكذا مباشرة فقط‘.
و’كذا’ لم تُربَط كل مجموعة من التّساؤلات ’والمسائل‘ بالمحور ’الأصل‘ المُثِير لها ’وبالموضوع الدّافع لطلب معرفة حكمها الشّرعي‘، ولم تُعْطَ المسائلالتّفريعيّة والتّطبيقيّة بوصفها أمثلة ’وعلى أنّها مسائل وتفريعات‘ صريحة لقضايا ’كُبرى’ أعم ’وأشمل‘ منها؛ لكي يستطيع المقلِّد أنيَعْرف ’من خلالها أيضاً‘ الأشباه والنّظائر ’من تلك القواعد العامّة، فيَتمكّن من معرفة المسائل المتشابهة في حكم واحد أو حكم متقارِب وما شاكل بنفْسه دون صعوبة، ودون الحاجة لحفظ التّفريعات الكثيرة‘.
خامساً: افتُرِض في كثير من الأحيان وجود صورة مسْبَقة عنالعبادة أو الحكم الشّرعي، ولم يُبدأ العرْض من الصِّفر؛ ’كل ذلك بسبب تدوين المسائل‘ اعتماداً على تلك الصّورةالمسْبقة.
سادساً: انطمسَت ’المشخِّصات و‘ المَعالِم العامّة للأحكام عن طريقنثرها بصورة غير منتظمة، وضاعت على المكلّف فرصة استخلاص المبادئ العامّة منها.
الملاحظة الثّانية:-
أنّ الرَّسائل العمليّة لم تُعَد تدريجيّاً بوضعها التّأريخي المألوف كافية لأداء مهمّتها، بسبب تطوّر اللغة والحياة؛ ذلك أنّ الرّسالة العمليّة تعبّر عن أحكامشرعيّة لوقائع من الحياة، والأحكام الشّرعيّة بصِيغتها ’وقواعدها وألفاظها‘ العامّة وإن كانت ثابتة، إلا أنَّ[2]أساليب التّعبير تَختلِف وتَتطوّر من عصر إلى عصر آخر، ووقائع الحياة تَتجدّد وتَتغيّر، وهذاالتّطوّر الشّامل في مناهج التّعبير ووقائع الحياة يَفرض وجوده على الرّسائل العمليّة بشكلوآخر.
فاللغة المستعمَلة تأريخيّاً في الرَّسائل العمليّة كانتتَتّفق مع ظروف الأمّة السّابقة، إذ كان قُرّاء الرِّسالة العمليّة ’في الأجيال القديمة الماضية منحصرين لدى أكثر الأحيان في الطّبقة الدّارسة من المجتمع، و‘ مقصورين غالباً على علماءالبلدان وطلبة العلوم المتفقّهِين؛ لأنّ الكثرة الكاثِرة ’أي الأغلبيَّة‘ من أبناء الأمّة لم تكن متعلِّمة، ’وكانت لا تُجيد القراءة والكتابة‘، وأمّا اليوم فقد أصبح عدد كبير من أبناء الأمّة قادراً على أن يَقرأ ويَفهم ما يَقرأ إذاكُتب ’له الكتاب الفتوائي‘ بلغة عصره، وفقاً لأساليب التّعبير الحديث، فكان لابدّ للمجتهد المرجع أن يَضع رسالتهالعمليّة للمقلِّدين وفقاً لذلك.
والمصطلحات الفقهيّة الّتي تَعتمد عليها الرَّسائلالعمليّة غالباً للتّعبير عن المقصود، قد كان من مبرّراتها تأريخيّاً اقتراب النّاس سابقاًمن تلك المصطلحات في ثقافتهم، بينما ابتعد النّاس عنها اليوم، وتضاءلت ’وقلَّت‘ معلوماتهمالفقهيّة، حتّى أصبحت تلك المصطلحات على الأغلب ’من النّاس‘ غريبةتماماً.
وعرْض الأحكام من خلال صوَر عاشها فقهاؤنا في الماضي، كان أمراً معقولاً، فمن الطّبيعي أن تُعرَض أحكام الإجارة مثلاً من خلال افتراض استئجاردابّة ’من الحيوانات‘ للسّفر، ولكن إذا تغيّرت تلك الصّوَر؛ فينبغي أن يكون العرْض لنفْس تلك الأحكام منخلال الصّوَر الجديدة، ويكون ذلك أكثر صلاحيّة لتوضيح المقصود للمقلِّدالمعاصر، ’فمثلاً اليوم يَستعمِل النّاس الطّائرة والسّيّارة مكان الجمل والحمار والخيل ممّا كانوا قد اعتادوا استعماله قديماً؛ لذا كان من الوجيه أن يمثَّل في مسائل باب الإجارة مثلاً، باستئجار سيّارة أو طائرة، لا أن يمثَّل للمكلَّف المعاصر بالوسائل القديمة من قَبيل الدّواب الحيوانيّة وما شاكل‘.
والوقائع المتزايدة والمتجدّدة باستمرار بحاجة إلىتعيين الحكم الشّرعي ’لها‘، ولَئِن كانت الرَّسائل العمليّة تأريخيّاً تفي بأحكام ما عاصرته منوقائع ’ومسائل‘، فهي اليوم بحاجة إلى أن تبدأ تدريجاً باستيعاب غيرها ممّا تَجدّد ’اليوم‘ في حياة الإنسان ’المعاصِر‘، والأحكام الشّرعيّة على الرّغم من كونها ثابتة ’لا تَتغيَّر، إلا أنّها‘ قد يختلف تطبيقها تبعاً ’لتَغيّر الأحوال ووجود اختلاف‘ للظّروف من عصرإلى عصر، فلابدّ لرسالة عمليّة تعاصر تغيّراً كبيراً في كثير من الظّروف أن تأخذ هذاالتّغيير بعين الاعتبار في تشخيص الحكم الشّرعي.
فمثلاً “الشَّرط الضِّمْني” -على حد تعبيرالفقهاء- واجب ونافذ ’ويجب الالتزام به‘، وهو ’أي يُقْصَد من الشّرط الضِّمْني:‘ كلُّ شرطٍ دلَّ عليه العُرف العام ’القائم بين النّاس أو بين مجموعةٍ ما أو بين متعاقدين‘ وإن لم يصرَّح به في ’لفظ‘ العقد ’بالكلام أو الإشارة وما شاكل، تماماً كما لو استَأجَر شخصٌ بيتاً لمدّة سنة مثلاً، وأجاز له مالك البيت أن يَستخدِم المصابيح الضّوئيّة الموجودة في ذلك البيت، ثمَّ بعد انتهاء السّنة أراد المستأجِر تسليم البيت لمالكه والخروج منه، فرَأى مالك البيت بعض المصابيح الضّوئيّة قد تَلفت وأصبحتْ لا تَعمل بفعل استخدامها، فهنا هل يجوز لمالك البيت أن يُطالِب بقيمتها؟ وهل يجب على المستأجِر أن يدفع القيمة أم لا؟
فالمستأجِر لم يَتعمَّد إتلاف المصابيح، وإنّما هي تَعطَّلت بفعل استخدامها، وصاحب البيت من البداية أجاز له أن يَنتفع بها ويَستعملها دون أن يقوله له: يا فلان! إذا فَسَدَت وتَعطَّلت المصابيح فعليك دفع قيمتها.
هنا قال بعض الفقهاء: يجب أن نَرجع للعرف القائم بين النّاس المجتمَع، فنسألهم عن نظامهم الّذي تعارفوا عليه في التّأجير، فإذا كان المعتاد بينهم هو أنَّ المستأجِر في مثل هذه الحالة هو الّذي يقوم بإصلاح الشّيء التّالف من البيت؛ فإنّه حينئذٍ يجب عليه إصلاح المصابيح، وإن لم يكن المالك قد اشتَرَط ذلك في عقد الإجارة؛ لأنَّ نفس أهل هذا المجتمَع قد تعارفوا على ذلك واعتبروه شرطاً والتزموا به فاشتهر بينهم، فما عادوا بحاجة لذِكره أثناء التّعاقد.
فهذا الشَّرط العُرفي يسمَّى بـ“الشّرط الضِّمْني”؛ لأنّه كما رأيت مشروط ضمن العقد ومتعارَف عليه ومن الأمور الّتي يَلتزم بها أهل ذلك المجتمَع في ضِمْن عقود الإجارة بالنّسبة لتأجير البيوت.
وهكذا الأمر مثلاً بالنّسبة لعمل الزّوجة في البيت، من طَهي للطّعام وكَنْس وما شاكل من الشّؤون البيتيّة الأخرى، فهذه الأعمال غير واجبة عليها شرعاً، ولكنّها قد تجب بسبب آخر، حيث قد تَكْون تلك الأعمال شرطاً في عقد الزّواج بفعل تعارف النّاس على وجوب قيامها بذلك في البيت.
فالدّين الإسلامي وإن لم يَقل بوجوب ذلك عليها، لكنّه وضع قاعدة عامّة تقول: المسلمون عند عهودهم، وكل شرط يَتم التّعاقد عليه فإنّه يجب الوفاء به فيما إذا لم يكن من الأمور المحرَّمة.
والمفروض أنَّ النّاس تعارفوا على أنَّ من حقوق الزّوج على زوجته أن تقوم بشؤون البيت، وبالتّالي أصبح هذا شرطاً؛ لأنَّ الرَّجل بالعادة يتزوّج المرأة ويريدها أن تعينه وتشاركه المسؤوليّة وتقوم بأمور المنزل، مثلما يقوم هو بتوفير المعاش، ويخدمها، ويَتكفّل بأداء الأمور الّتي خارج البيت، وكأنّه لـمّا جاء لخطبتها قال لها: يا فلانة! أتزوّجكِ بشرط أن تعينيني على الحياة وتقاسميني الوظائف الأسريّة وتقومي بشؤون المنزل، فقالت: قبلتُ شَرطك.
فالزّوج صحيح لم يَتلفَّظ بذلك في العقد، لكنّه أصبح شرطاً بسبب كونه من الشّروط العُرفيّة الجائزة الّتي تمَّ الاكتفاء فيها بتعارف النّاس عليها، والتزامهم بها، وإرادتهم الحتميّة لها، واشتهارها بينهم بحيث أغناهم ذلك عن الحاجة لبيانها في العقد.
فبعض الفقهاء –كما قلنا- يَعتبِر “الشّروط الضِّمْنيّة” إلزاميّة، يجب العمل بها، مثلها مثل الشّروط الّتي يَتم النُّطق بها أثناء العقد‘.
ولكننوع هذه الشّروط –لـمّا كان العُرف هو الّذي يحدّدها- ’فهو‘ يَختلف، فقد يكون شيءٌ ما شرطاً ضِمنيّاًمع العقد في عصر دون عصر، ’أو في بلد دون آخر، أو في مدينة ومجتمع دون المدينة والمجتمع الآخرَين، أو بين جماعة دون أخرى‘.
وهكذا ينبغي للرّسالة العمليّة أن تأخذ العُرف المتطوّر ’والعُرف المختلِف‘ بعين الاعتبار في تحديد ذلك القِسم من الأحكام الّذي يَرتبطبالعُرف.
وقد وُجِدَتْ محاولات منذ زمن للتّطوير والتّجديد فيالرَّسائل العمليّة، ولكن لكل محاولة أهمّيّتها وقيمتها.
وحينما صَدرَتْ تعليقتنا العمليّة على” منهاج الصّالحين” أحسستُ إحساساً واضحاً من خلال مراجعات القارئين، وأسئلة السّائلين، بماكنت على إيمان به من ضرورة الأخذ بالملاحظتين السّابقتين في وضْعِ رسالة عملّية تَتقيّد بمنهج سليم في العرْض من النّاحية الفنّيّة، وتَلتزم بلغة مبسَّطة حديثة، وتَبدأ في العرْض منالصِّفر، وتَحاول أن تَعرض الأحكام من خلال صوَر حيّة وتطبيقات منتزَعة من واقع الحياة، وتَتّجه إلى بيان الحكم الشّرعي لِما يَستجِد من وقائع، وهذه ’رسالتنا العمليّة‘ “الفتاوى الواضحة” تحقيق ’وتطبيق‘ لذلكبالقدر الّذي اتّسع له المجال، وأتاحته الفرصة، ونسأل المولى القدير سبحانه وتعالى أنيتقبّلها بلطفه، ويَنفع بها إخواننا المؤمنين))[3]؛ انتهى كلامه عليه الرّحمة.
قضيَّة أخرى ذات أهمّيّة لدى خصوص المكلَّف الدَّارس أو المثقَّف:-
قبل أن نبيِّن المسألة الّتي نريد الإشارة لها تحت هذا العنوان، نَذْكر في البداية مقدّمة من باب تحقيق اليقين بفهم القارئ لما نريد بيانه، والمقدّمة هي ما يلي:
تعلمون بأنَّ كلَّ لفظٍ فصيحٍ من الألفاظ له تعريف في الّلغة، وهذا التّعريف تَتكفَّل ببيانه المَعاجِم والقواميس اللُغَوِيّة، فمثلاً لفظة “الأَسد” في اللغة لها تعريف، حيث تُعَرِّفها اللغة بأنّها تعني “الحيوان المفترِس” أو هو “الليث” أو “الغضنفَر”، وهكذا، فهذا التّعريف لأنّه مأخوذ من نفْس اللغة يسمَّى “تعريفاً لُغَوِيّاً”.
وهناك تعريف آخر يسمَّى بـ“التّعريف الاصطلاحي”، ويراد به التّعريف الّذي اخترَعه أهلُ عِلمٍ معيَّن للفظٍ ما، ووضعوه من عندهم لذلك اللفظ وفق ما يَتناسب مع مجالهم العِلمي والتّخصّصي، سواء كانوا أطبّاء أو مهندسِين أو فلاسفة أو فقهاء أو فلاحِين أو خبّازِين، وما شاكل، فمثلاً كلمة “المرْبَط” لها معنى لُغَوِي في اللغة العربيّة، بينما لها معنى آخر عند المزارعِين، فالمعنى الّذي عند المزارعِين يسمَّى بـ“المعنى الاصطلاحي” كونه مختَرَع من عندهم ومختص بمجال عملهم.
هكذا الأمر بالنّسبة للفقه، فهو عِلم يَمتلِك مصطلَحات وألفاظ لها معاني خاصّة به، وضَعَها علماؤه وتَعارفوا عليها، تماماً كما رأيتم مثلاً في مثال “الشّرط الضّمْني” المذكور قبل عدّة سطور، حيث تمَّ تعريفه وفق ما تعارف عليه الفقهاء لا وفق ما هو موجود في اللغة والقواميس اللُغَوِيّة؛ إذن فالتّعريف من اللغة يسمَّى “تعريفاً لغويّاً”، والتّعريف من خلال ما تَعارف عليه أهل العِلم المعيَّن يسمَّى “تعريفاً اصطلاحيّاً”؛ فهذا أمر واضح للجميع.
أمّا القضيّة الّتي نريد أن نبيّنها هنا فهي مسألة تَرتبط بالجانب العِلمي للغة الفقه الضّروريّة، والمصطلحات الفقهيّة الّتي يَنجبِر الفقيه على استخدامها في كتابه الفتوائي، حيث لا مفر من استعمال بعض الألفاظ الفقهيّة الخاصّة في مختلَف أبواب الرِّسالة العمليّة؛ لذا من هذا المنطلَق نجد أنَّ الرَّسائل العمليّة كثيراً ما تَحتاج لتعريف تلك المصطلحات الخاصّة، وبيان معناها، سواء من الجهة اللغويّة المرتبطة بتعريف اللغة لتلك الألفاظ، أو من الجهة الاصطلاحيّة المرتبطة بتعريف العلماء لذلك حسبما تعارفوا عليه في مجال عملهم.
نعم؛ قد يَتعسَّر تعريف جميع تلك الألفاظ من جهة الاصطلاح وفق بيان يَشترك عليه جميع الفقهاء تبعاً لصعوبة التّعريف من هذه الجهة؛ حيث يَختلف الفقهاء فيما بينهم في تعرف الكثير من المصطلحات الفقهيّة، فاختلافهم الكثير في ذلك يَجعل من الصّعب القيام بتعريف جميع المصطلحات الفقهيّة ضروريّة الاستعمال الواردة في الرِّسالة العمليّة؛ لأنَّ هذا من شأنه أن يَخرْج بالرِّسالة عن وظيفتها وعن شكلها الخاص، كما من شأنه أن يُدْخِل المكلَّف في مَتاهات التّطويل بلا فائدة تنفعه.
وعليه؛ قد يَتعسَّر تعريف جميع تلك الألفاظ من جهة الاصطلاح وفق بيان يَشترك عليه جميع الفقهاء، إلا أنَّ هذا لا يَمنع من تقديم تعريفات توضيحيّة لبعض مصطلَحات تلك الأبواب ممّا يَحتاج للتّعريف به، أو على الأقل أن يَذْكر كل فقيه في رسالته المعنى الّذي يَرى صحَّته عنده هو فقط، وإن كانت المنهجيّة العصريّة في التّدوين قائمة على أساس الانطلاق من التّعريف اللغوي والاصطلاحي لكل عنوان يوضَع لباب أو قِسم معيّن، وما شاكل ذلك، إلا أنَّ هذه المسألة تَبقَى في غالب جهاتها مطلباً مختصّاً بالمكلَّف الدّارس وكذا المكلَّف المثقَّف، ممَّن لديه استعداد وقابليّة لاستذواق مثل هذا النّوع من العَرْض، وإلا فإنَّ المكلَّف الدّارج على البساطة تَنفر نفسه من الخوض في معاني اللغة ومصطلحات أهل العِلم الغير ضروريّة المعرفة لديه.
بالنّتيجة: لا بأس بتعريف ما يَحتاج للتّعريف، ولكن بصورة سهلة ومختصَرة نزولاً على رغبة الدّارس والمثقَّف.
استدراك وتعقيب:-
من خلال جميع ما سبق ضمن “الأمر الأوّل والأمر الثّاني” من “القِسم الأوّل” للـمَدخل، ومن خلال جميع ما ذكرنا من مشكلات حقَّ لنا أن نَتساءل: هل أنَّ الكتاب الفتوائي المقدَّم للمكلَّفين أدّى دوره الفاعل تجاه جميع هذه القضايا -من نقطة تقسيمه إلى معضلاته- وتصدَّى لعلاجها؟
أم يُقال: لا شأن للفقه بذلك؟ أو يعجز الفقه الإسلامي عن هذا؟
إذن مَن يعالِج تلك القضايا والبلايا والمشكلات؟ ومن ينظّمها؟ علم المنطق؟ أم علم قراءات القرآن؟ أم ندعها للأطبّاء وعلماء النّفس ممّن لا صلة لهم بالدِّين أساساً، وقوانينهم موضوعة من عند أنفسهم ومن نظام التّكوين “اليقيني والظَّنّي”؟! في حين أنَّ دين الله هو الطّبيب والمعالِج الحاذق والدّقيق.
أليس المسؤول عن كلِّ هذا هو علم الفقه؟ ألسنا نقول بأنَّ الفقه شامل لجميع قضايا الحياة؟ أليس الفقه هو النّظام وهدفه الكيان الدّاخلي والخارجي، الباطني والظّاهري؟ فهل حقَّق الفقه أهدافه وأَوجَد التّنظيم بكلِّ أبعاده في وجود الإنسان والكون والكائنات؟
ألا يَحتاج الفقه الإسلامي –والكلام في كتبه الفتوائيّة الموجّهة للمقلِّدين- إلى نَقْلة نوعيَّة تُـحَوّله من مجالٍ لاستعراض الرّؤى والفتاوى القانونيّة إلى الرّؤى والفتاوى القانونية والرّوحيّة معاً؟
هل من الصّحيح أن ندع فقهاءنا وأهل الفكر القويم يرحلون ونحن لم ننتفع من علومهم ومعارفهم في هذا المجال؟
فالفقيه يَمتلك البُعد الرّوحي والمعنوي بشكل هائل وعظيم كما يَمتلك البُعد العِلمي، فهو يَعي تماماً هذا البُعد وأهمّيّته، ولكن قد لا يَلتفت إلى أنَّ غيره من الفقراء للتّربية الباطنيّة بحاجة إلى نفحاته الرّوحيّة وعطائه المعنوي والعِلمي معاً، فما أكثر العلماء السّالكين ممّن يَرتحل عن الدّنيا دون أن ننعم بِرُآه الدِّينيّة المعنويّة، وبمعارفه في مختلَف الجهات، رغم سعة ما يقدِّمه من رُؤى على الصّعيد القانوني والتّشريعي، في حين أنَّ أجدر النّاس بالكلام في هذا المجال هم العلماء، كما أنَّ مهمّة الوفاء باستكمال جميع جوانب الرَّسائل العمليّة مهمّة الفقهاء.
فالمطلوب هو إقامة صلاح أهل العِلم في تابعيهم، فالمقلِّد إنّما هو مقلِّد للرّأي الاجتهادي لمرجعه، ولما يـمْكن أن يقدِّمه من سمو تربوي معاً، لا أنّه مقلِّد للفتوى فقط، ولعلَّ من وجوه اشتراط كون المرجع ورعاً في تجويز تقليده هو انعكاس وتأثير جوهره الباطني وروحه النّاصعة على مقلِّدِيه.
وكذا المقلِّد لا يقلِّد مرجعاً ما من أجل معرفة مسائل باب فقهي دون آخر، أو من أجل معرفة مسألة دون أخرى، كلا، فالمكلَّف كما أنَّه مخاطب بالصّلاة كذلك مخاطب بغيرها من أحكام الدِّين الموجَّهة إليه، وكذا كما أنّه ليس رجل قضاء ولا رجل قانون ولا رئيس دولة، كذلك لا يحق لنا –من هذا المنطلق- أن نقدِّم له الكتاب الفقهي بصورة دستور الدّول القائم في منهجهــــــــا
على أساس مواد وقوانين وتشريعات منسلخة عن المحتوى التّربوي والرّوحي، فإذا حاكيناه بمثله ذلك، فهل نقول له تَبعاً لهذا:
راجع ألفَ كِتابٍ وكتاب لتدرك حقائق ما بين يديك من أحكام وتشريعات، فراجع كُتُب العِلل، وموسوعة البحار، وكِتاب الكافي، ووسائل الشّيعة، وما إلى ذلك من المجاميع والمدوَّنات والكتب الرّوائيّة وغيرها؟!
وهل نقول له تَبعاً لما ذكرناه من نقْص المسائل الفقهيّة الابتلائيّة وعدم توفّر العديد منها في الرّسالة العمليّة: عليك أن تعطِّل وظائفك تجاه الأوامر الدِّينيَّة فيما حكمه ليس بحاضرٍ لديك، أو أن تجتهد بنفسك وتَتحمَّل مَتاعب ما يوجبه عليك الاحتياط وإن كلَّفك ذلك الامتثال لأكثر من حكم في سبيل الفراغ من حكمٍ واحد؟! وهل نقول له:
عليك أن تُـحَمِّل نفسك مجهوداً ماليّاً أو جسديّاً بصورة تَفُوق طاقتك في سبيل العثور على الحكم الإلهي المطلوب؟!
وهل نقول له تَبعاً لما ذكرناه من عدم مراعاة اختلاف الأعراف من بلد لآخر، وتأثير ذلك على اختلاف المسائل والأحكام الشّرعيّة لكل عُرف: عليك أن تعمل بوظيفة عُرف المجتمع الذي لست تعيشه، …؟!
إذن بهذا نعود لمحذور فساد النِّظام وعدم بقاء حالة من التّمايز في المَهام والوظائف بين الفقيه وطالب العلم المتخصّص والطّبيب والمهندس والـمُدرِّسة والمربِّيّة والمزارع والتّاجر وغيرهم؛ لأنّنا نطلب من الجميع التّوجّه لتحقيق الكمال وكذا ممارسة وظيفة الفقيه وطالب العلم المتخصّص! في حين أنَّ الفقه –كما قلنا سلفاً- جاء ليُنظّم وظائف هؤلاء ويُقِم الدُّنيا في ظل مطالبة الجميع بالوصول للكمال المطلوب، كما أنَّ الله تبارك وتعالى لم يُقدِّم نفسه على أنّه إله قانون فقط، ولم يقدِّم لنا كتابه الكريم على أنَّه دستور دولة وأُمّة وعِباد فحسب، وكذا الأمر بالنِّسبة للرّسل والأنبياء والأوصياء.
كما أنَّ كل ذلك –أيضاً- لم يُقدَّم بصورة تهتم بجانب دون آخر، أو نوعيَّة من المكلَّفين دون غيرهم، بل ولم يأتِ إلا بما هو يسير، فمَنَعَ عوامل العُسر، وتبذير الأموال، والإسراف في الوقت، وإيقاع المشقَّة بلا وجه شرعي، كما مَنَعَ من عدم مراعاة التّنظيم القويم في مختلف الشّؤون الكبرى المرتبطة بصلاح أمور الإنسان وعواقب أمره، وكذا جاء لتَنحية الأمراض والأسقام الجسمانيَّة والنّفسانيّة والرّوحيّة عن العباد لا إيقاعهم فيها، كما أنَّ العقل في مقابل كل هذا يدعو إلى تقديم الأهم على ما هو مهم، بعيداً عن التّذرّع بذرائع وأعذار لا تَصمد أمام الضّروريّات الكبرى.
فنحن نأمل من الفقه الإسلامي أن يَبني فرداً مسلماً على مستوى متكامل، وكذا على غرار قول الإمام عليه السّلام في الدّعاء المعروف: [إلهي! ما عبدتك خوفاً من نارك، ولا طمعاً في جنّتك، ولكن وجدْتك أهلاً للعبادة فعبدتك][4].
فالدِّين والعقل يطلبان منّا أشرف العبادة، بما يَرقَى إلى عبادة الأحرار، الـمُدْرِك صاحبها لأُسس التّشريع ومبادئه –الآتي بيانها- ومختلَف جهاته المتعلّقة به، وهذا كما هو واضح لا يَتحقّق من عَبَث، فهو يَحتاج لأُسس وإجراءات عمليّة حقيقيّة.
ولأنَّ علم الفقه هو المسؤول عن تقديم تلك الأُسس والإجراءات، كان عليه أن يَشمل ويعالِج جميع قضايا الحياة، وأن يحاكي الرّوح والوجدان، وأن يُنَظِّم كافّة تحرّكات الفرد والمجتمع في جميع الجهات بكل ما للكلمة من معنى، لا أن يُدَّعى له ذلك في حين أنّه بعيد عن هذا الواقع ولا يعالِـج إلا قِسماً منه، فالعِلم الّذي يَتدخَّل حتَّى في شكل لباس المكلَّف وآداب الطّعام وبيت الخلاء والعُطاس والجِوار ولا يغادر أدقّ التّفاصيل إلا بنظرة تامّة شاملة، يجدر به أن يقدِّم لنا ما به الكَمال كافّة، وأن يَمنح لنا طاقة هائلة من المعاني المعنويّة البنّاءة.
فلو أنَّ هذا الفراغ مُلِئَ في الفقه؛ لاجتاز الفقه مراحل كبيرة من التّكامل، ولامْتَدَّ منذُ زمنٍ بعيدٍ إلىأقصىالأرض امتداداً واسعاً، بل ولقَضَى على الإشكاليَّات والشّبهات المُثارة حول أحكام الدِّين قبل أن توْلَد، وتَلِد،ولَقُطِعَ الطّريق على المتربّصِين بالإسلام.
وفي المقابل لو قُدِّمت هذه التّعاليم للفرد المسلم منذ صغره على وجهها المطلوب؛ لَمَكَّننا ذلك من أن نحقِّق نجاحاً كبيراً في الآباء والأمّهات قبل أن يكبروا ويصبحوا في هذا المنصب الحسّاس الجسيم، فتَتعسر سُبُل الهِداية والإرشاد تجاههم، وتَضِيع مصائرهم، وتَنتهي بهم للخسران الأبدي الأكبر لا سمح الله.
نكتفي بهذا القدر، لِنَشرع في الحلقة القادمة بالدّخول في “الأمر الثّالث” من القِسم الأوَّل لهذا الـمَدْخل، والله ولي التّوفيق والإحسان، وله الحمد والامتنان، والصّلاة والسّلام على خير الأنام، محمِّدٍ وآله الهداة الأعلام.
[1] المِرْية: الشّك والجَدَل؛ لواقِح: مسبِّبات ومولِّدات؛ الـمَنائح: العَطايا. مَقطع من مناجاة من الصّحيفة السّجّاديّة للإمام علي بن الحسين عليه السّلام.
[2] في المَصْدر مكتوب: “ولكنَّ”، فأبدلناها إلى “إلا أنَّ”؛ كي تستقيم العبارة ويصح المعنى.
[3] الفتاوى الواضحة، للسّيّد الشّهيد محمّد باقر الصّدر أعلى الله مقامه: من ص107 إلى 110.
[4] الحدائق النّاضر، للشّيخ يوسف البحراني ره: ج2 ص178.
للتعلیق أو مطالَعة التعلیقات اضغط هنا