بسم الله الرّحمن الرّحيم
مَدْخَل مهم لدراسة الفقه “تتمّة الأمر الأوّل من القِسم الأوَّل”:-
“اختلاف تقسيم الرّسائل العمليّة عمّا كانت عليه عند الفقهاء القدماء”:-
بسم الله قاصِمِ الجبَّارِين، مُبِيْرِ الظّالمِين، مُدْرِكِ الهاربين، صَريخِ المستصرخِين، ناصرِ الضُّعفاءِ والمساكين، والصّلاة والسّلام على رسولِ الخصالِ الرّحمانيّة، ونبراسِ الكرامةِ الإنسانيّة، وعلى آلهِ الميامِين، وصحبِهِ المنتجبِين.
وبعد..
لا شكَّ في أنّه عند مطالعتكم للرّسائل العمليّة، وكُتب الأحكام الّتي دَوّنها فقهاؤنا قديماً وحديثاً، ووجَّهوها للمكلَّفِين؛ فإنَّ الكثير منّكم يَتساءل: لماذا تختلف هذه الكُتب عن بعضها من جهة التّقسيم؟
فعلماؤنا -أعلى الله مقاماتهم- وإن اختلفوا في منهجهم تجاه تدوين الرّسائل العمليّة من جهة مضمونها، هل يعني ذلك أن يَختلفوا أيضاً في تقسيمها؟
بل البعض منّا عندما يسمع هذا الكلام يَتساءل: كيف وقع الاختلاف بين الفقهاء من جهة تقسيم الرّسائل العمليّة، وما هي طبيعة هذا الاختلاف وهذاالتّقسيمأساساً؟
طبعاً هذا الاختلاف – التّقسيمي– مهم جدّاً، ومؤثِّر بدرجة كبيرة وجذريّة على مستوى ما تقدِّمه الرِّسالة العمليّة للمكلَّف والمقلِّد.
أمّا جواب هذين الاستفسارَين الكبيرَين والمهمَّين فنبيِّنه تحت عنوان القضيّة التّالية:
ب- الاختلاف بين الفقهاء من جهة تقسيم كُتب الأحكام والفتوى:-
بعد أن تَبلوَر واتّضح لدى فقهائنا -رضوان الله عنهم- المنهج الّذي يجب عليهم سلوكه، في طريقة “كتابة” مضمون الرّسائل العمليّة، والفتاوى الشّرعيّة الموجَّهة للأمّة وكافّة أبنائها، أخذوا -بعد ذلك- يَتساءلون:
كيف نُقَسِّم مسائل هذه الرّسائل؟
وفي مجال بحثهم عن الحل، اختَلف الجواب والتّصنيف لديهم من هذه الجهة، فهم – أعلى الله مقاماتهم- بعد أن اختلفوا في المنهج العِلمي، وفي كيفيّة كتابة الرّسائل العمليّة، أَثَّرَ اختلافهم هذا – بصورة طبيعيّة وبشكل كبير- على تقسيمهم لهذه الكتب أيضاً، إلا أنَّ الاختلاف بينهم تجاه “تقسيمها” وقع في جهتين مهمَّتين، هما:
1- منهجهم رضوان الله عنهم في التّقسيم للتّعاليم الدِّينيَّة ككُل:-
طبعاً فقهاؤنا لـمّا اختلفوا في تقسيم كُتب الأحكام، لم يقع الاختلاف بينهم من جهة واحدة فقط، وإنّما من جهتين، فأنتم تعلمون بأنَّ الإسلام له تعاليم غير التّعاليم الفقهيّة والتّشريعيّة، حيث يحتوي على تعاليم عقائديّة أيضاً، فالتّعاليم العقائديّة كتوحيد الله والعدل والنّبوّة، تختلف عن التّعاليم المختصّة بأحكام الصّلاة والصّوم والحج والحيض والنِّفاس والزّواج والطّلاق ومسائل البنوك والقضاء…، إلى آخره.
فكلّنا يعلم بأنَّ في الإسلام شيء يسمَّى “أصول الدِّين”، وشيء آخر يسمَّى “فروع الدِّين“؛ وبالتّالي يجب أن يكون السّؤال هكذا:
هل اختلف علماؤنا في تقسيم الرّسائل العمليّة، وكُتب الأحكام من جهتَي “أصول الدِّين” و“فروع الدِّين” فقط، أم حصل بينهم اختلاف آخر في تقسيم هذه التّعاليم الإسلاميَّة؟
وجوابه: في الحقيقة لقد سار علماؤنا القدماء رحمهم الله تعالى – وبعضٌ قليل ممَّن لحق بهم من الفقهاء المتأخِّرِين- في تقسيمهم لرسائلهم العمليّة بطريقة تمَّ فيها تقسيم هذه الكُتب إلى قِسمين؛ هما:
1- قِسمٌ يَستعرِض فيه الفقيه آراءه العقائديّة والفكريَّة المرتبطة بـ“العقيدة وأصول الدِّين”، بحيث يقول لنا رأيه تجاه توحيد الله، وهل أنَّ الله عادل أم لا، وهل يجب أن يبعث الله أنبياء أم لا يجب، وهكذا.
2- قِسمٌ آخر يَستعرِض فيه الفقيه الأحكام والفتاوى المتعلِّقة بـ“فروع الدِّين ومسائل الفقه”، بحيث يقول لنا ما هي أحكام الإسلام القانونيّة الّتي تنظِّم حياتنا، وسلوكيّاتنا وأخلاقيّاتنا، وما هي تشريعات الله تعالى تجاه مسائل الصّلاة والصّوم والحج والزّكاة، وما هي حقوق الأب والأم والزّوجة وزوجها والأبناء، وما هي مسائل الرِّضاعة وقوانين الطّلاق، وما عقاب من يَعتدي على النَّاس بضربهم أو شتمهم أو سرقة أموالهم، وما هو حد الزّاني والزّانية واللائط، وكيف نتعامل مع مسائل البنوك…، وهَلُمَّ جَرَّاً.
فالـفقيه قديماً كان يُبــوِّب كتابه ورسالته العمليَّة ضمن جزءين؛ جزءٌ يُخصِّصه للكلام عن “أصول الدِّين”وبيان رأيه واعتقاداته تجاه ذلك، وجزءٌ آخر يُخصّصه للكلام عن “فروع الدِّين ومسائل هذه الفروع“.
هذا بالنّسبة لطريقة فقهائنا القدماء في تقسيمهم للرِّسالة العمليّة، أمّا الآن فأنتم لا تجدون هذا التّقسيم متحقِّق في كُتب الفقهاء اليوم، حيث أَصبح الفقيه اليوم في رسالته العمليّة يَنطلق مباشرة ليخاطب المكلَّف ومن يقلِّده بأحكام “فروع الدِّين” فقط، دون أن يَتكلَّم له قبل ذلك عن “أصول الدِّين“، حيث يبدأ معه من البدء بالقول: يجب على كلِّ مكلَّف أن يتعلَّم أحكام دينه، فيتحدَّث له عن أحكام باب الاجتهاد والتّقليد، ثمَّ عن الطّهارة، ثمَّ عن الصّلاة، ثمَّ عن الصّوم، ثمَّ عن الحج، ثمَّ عن الزّكاة، ثمَّ عن الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وهكذا.
وكما تلاحظون فهذه جميعها هي “فروع الدِّين“، ممّا يعني أنَّ الفقيه في العصر الحالي ما عاد يَعتمد على تقسيم العلماء القدماء لهذه الكُتب، بل يكتفي بالكلام مع المكلَّف عن القِسم الثّاني فحسْب، وهو قِسم القوانين والأحكام الفقهيّة؛ أي قِسم “فروع الدِّين“.
نعم؛ هنالك علماء حاولوا في الآونة الأخيرة أن يعيدوا تقسيم الرّسائل العمليَّة إلى ما كانت عليه قديماً، بحيث يَتحدَّثون لمقلِّدِيهم عن مسائل “أصول الدِّين” أوَّلاً، ثمَّ عن فتاواهم تجاه مسائل “فروع الدِّين“، فمن أمثال هؤلاء العلماء الفقهاء: السّيّد الشّهيد محمّد باقر الصّدر رحمه الله، والمرجع الدِّيني السّيّد صادق الشّيرازي، والمرجع الدِّيني الشّيخ مكارم الشّيرازي، حفظهما الله ورعاهما، وغيرهم من العلماء الأعلام.
طبعاً هنالك حقيقة مهمّة يجب أن نعرفها، وهي أنَّ اختلاف علمائنا في منهجهم تجاه كتابة مضمون الرّسائل العمليّة، وكُتب الأحكام، أَثَّــرَ كثيراً على منهجهم في تقسيم هذه الكُتب؛ وذلك للسّبب التّالي:
من أهم الأسباب الّـتي أَوجدَت اختلافاً في تقسيم الرّسائل العمليّة:-
عرفتم في الحلقة السّابقة ما وقع بين “المدرسة الفقهيّة الإخباريّة“، الّتي تَعتمد على الرّوايات وترفض العمل بالعقل والاجتهاد والتّقليد، و“المدرسة الفقهيّة الأصوليّة”، الّتي تَعتمد على العمل بالعقل والاجتهاد والتّقليد، كما تَعمل كذلك بالأخبار والرّوايات، كما عرفتم – أيضاً- كيف أنَّ فقهاءنا من أتباع “المدرسة الإخباريّة“ كانت لهم طريقتان في تدوين كُتب الأحكام؛ حيث كانت تُكْتَب لديهم بصورةٍ تُعرَض فيها الرّوايات فقط، وتُجعَل فيها الرّواية تَنطق بنفسها عن الحكم الشّرعي، دون أن يتدخّل الفقيه في بيانها أو شرحها؛ هذه طريقة.
وطريقة أخرى كانت كتابتهم فيها لهذه الكتب بصورةٍ تشبه السّابقة؛ أي بجعل الرّواية بنفسها تَنطق عن الحكم الشّرعي وعن المسألة الشّرعيّة، ولكن مع قليل من شرح الفقيه وبيانه للرّواية فيما إذا تطلَّب الأمر ذلك.
وهذا بخلاف فقهائنا من أتباع “المدرسة الأصوليّة” المؤمنة بالاجتهاد والتّقليد، حيث يَكتبون رسائلهم العمليَّة لمن يقلِّدهم بصورةِ فتاوى محضة فقط، دون ذكر الرّوايات والأدلّة مع تلك الفتاوى.
وكذا عرفتم – أيضاً – بأنَّ “المدرسة الإخباريّة” وُجِدَت في الحوزات والمراكز العِلميّة قبل “المدرسة الأصوليّة”.
لاحظوا هذه الأمور الّتي بيّنّاها في الحلقة السّابقة، فهي لها يدٌ كبيرة في جعل الفقهاء يختلفون في تقسيمهم لهذه الكُتب؛ فالفقيه “الإخباري” التّابع لأفكار “المدرسة الإخباريّة“، كان يَرى أنَّ الرِّسالة العمليّة (عبارة عن كتاب تُـجْمَع فيه روايات أهل البيت والأئمّة المعصومين عليهم السّلام)، وتعلمون بأنَّ أئمّتنا عليهم السّلام لم تكن رواياتهم تتكلّم عن مسائل “فروع الدِّين” وأحكامها فقط، بل كانت لهم روايات تتكلَّم عن مسائل “أصول الدِّين” أيضاً.
فمثلاً الإمام الصّادق عليه السّلام كما كان يُبيِّن لنا أحكام الله، وقوانينه تجاه حياتنا، وتنظيم تصرّفاتنا وعباداتنا، في الوضوء والغُسل والتّيمّم، والصّلاة، والميراث، والموتَى، والسَّفر، والتّجارة، والمزارَعة، والـهَديّة، والذِّباحة، والصَّيد، والحج، والوصيّة، والكفّارات…، كذلك كان يُبيِّن لنا وجهة نظرِه كفردٍ من أفراد البشر العقلاء تجاه “أصول الدِّين الرّئيسيّة” وما شاكل ذلك.
وعليه؛ فإنَّ الفقيه التّابع لـ”المدرسة الإخباريّة“، لـمّا كان يَرى أنَّ الرِّسالة العمليّة (عبارة عن كِتاب يَـجْمَع روايات الأئمَّة عليهم السّلام، ويَجعل هذه الرّوايات تَنطق بنفسها عن الحكم الشّرعي، وعن الرّؤية الإلهيَّة تجاه القضايا “العقائديّة” و”الفقهيّة“)، راحَ يَجمع الرّوايات ويضعها في كتابه، بحيث يَضع الأحاديث الّتي تتكلَّم عن “أصول الدِّين” في قِسم مستقِل، والأحاديث الّتي تتكلَّم عن “فروع الدِّين” في قِسم آخر؛ هذا عين ما عمله الفقيه التّابع لأفكار “المدرسة الإخباريّة“. والآن هل لاحظتَ كيف أَثَّر المنهج على طريقة التّقسيم؟
أمَّا “مدرسة فقهاء الأصول” فلأنّها جاءت بعد “مدرسة فقهاء الأخبار“، اضطرَّت لأن تسير على هذا التّقسيم الثّنائي القديم أيضاً؛ أي تقسيم الرّسالة العمليّة إلى قِسمين؛ قِسم للحديث عن “أصول الدِّين”، وقِسم آخر للحديث عن “فروع الدِّين“، ثمَّ عملتْ بعد هذا على تطوير البحث في كلا القِسمين؛ لكن ماذا حصل بعد ذلك؟!
انظر معي ما الّذي حصل:
لـمّا انتشرت “المدرسة الأصوليّة” في المراكز العِلميّة، وسيطرت على الحوزات، بدأت ترى أنَّ الرِّسالة العمليَّة ليست عبارة عن كتاب يجمع روايات المعصومين عليهم السّلام، وإنّما هي (عبارة عن كتاب فقهي وقانوني؛ أي كتاب أحكام شرعيّة يَجْمَع فتاوى المجتهِد ويقدِّمها لمن يقلِّده)، ممّا يعني أنَّ هذه الكتب ليس فيها مكان للرّوايات والأدلّة؛ لأنّها مخصَّصة – بحسب هذه الرّؤية – للإفتاء فقط، وبيان الحكم الشّرعي للمقلِّد.
لاحظ كلمتَي “إفتاء” و“مقلِّد”، فهذا يعني أنَّ ما لا تقليد فيه ليس مكانه في هذا النّوع من الكُتب؛ لأنَّ هذه الكُتب عبارة عن رسائل عمليّة للإفتاء، وبيان وظيفة المقلِّد تجاه عباداته وشؤون حياته فحسْب، وأنتم تعلمون بأنَّ “أصول الدِّين الرّئيسيّة” –كما سنبيِّن- لا يجوز فيها التّقليد، وبالتّالي هذه الكُتب لا شأن لها بتلك الأصول الدِّينيّة وما يَلحق بها، وإنّما مكان “أصول الدِّين” يجب أن يكون في مجال آخر يتم فيه تناولها وبحث مسائلها، لا أن تُبْحَث في الرّسالة العمليّة، هذا الكتاب الفقهي المختص بالإفتاء ومخاطَبة المقلِّد كما تقول هذه النّظرة الجديدة.
لذا راحَ الفقيه الأصولي يُخصِّص رسالته العمليَّة لفتاواه فقط، دون أن يعطي لنا وجهة نظره تجاه “أصول الدِّين” ومسائل هذه الأصول، كل ذلك بسبب المنهج الّذي اعتمده وأخذ يسلكه، وبما أنَّ أكثر علمائنا المعاصرين ومن مضَى منهم مؤخَّراً يؤمِن بالمنهج الأصولي، ويَتبع أفكار “المدرسة الأصوليّة”، لذا فأنتم تَرَون أكثر الرّسائل العمليّة الحديثة اليوم لا تعتمد على التّقسيم القديم، وإنّما تكتفي بالكلام مع المقلِّد عن خصوص القِسم الثّاني، وهو قِسم “فروع الدِّين“، تاركةً الحديث عن “أصول الدِّين” لمجالات أخرى.
والآن دعوني أضرب لكم مثالاً توضيحيّاً؛ لتَسْتبين لكم الصّورة أكثر فأكثر، وهو ما يلي:
أغلبُنا – إن لم يكن جميعنا- سمع بكتاب “الكافي”، الّذي ألَّفه الشّيخ الكليني رحمه الله في زمن الغيبة الصّغرى للإمام المهدي عليه الصّلاة والسّلام، فهذا الكتاب تمَّ تصنيفه في زمن علمائنا القدماء، وهو من أُمّهات كتبنا “العقائديّة” و”الفقهيّة” الرّئيسيّة، ولا يستغني أي عالِـمٍ عنه.
فمثلاً الشّيخ الكليني رحمه الله، لـمّا كَتب كتابه “الكافي” كفقيه، وأراد تقديم رؤية الإسلام وتشريعاته للنّاس، قام بتقسيم كتابه كـ”رسالة عمليّة” إن صحَّ التّعبير إلى قِسمين؛ قِسم استَعرَض فيه “أصول الدِّين”، وقِسم آخر استَعرَض فيه “فروع الدِّين“، وفي كلا القِسمين لم يَذكر إلا الرّوايات فقط، فهو لم يعلِّق عليها بشيء أبداً، رغم كونه فقيهاً ومتكلِّماً مقتدِراً؛ هكذا كان الفقيه يقسِّم رسالته العمليَّة قديماً.
إشكالٌ مهم: لا ريب في أنَّك بعد هذا الكلام سوف توجِّه لنا إشكالاً عقائديّاً شديد الأهمّيّة، وهو أنّه كيف قلتم بأنَّ الفقيه التّابع لـ”مدرسة الإخباريِّين“، كان يَعمَل على استعراض الرّوايات عند كلامه عن “أصول الدِّينالرّئيسيّة”؟! في حين أنّه لا يَجوْز تقليد أحد في هذه “الأصول الأساسيّة”، حتَّى لو كان هذا الأحد هو نفس المعصوم عليه السّلام، حيث يجب على كل شخص أن يقلِّد نفسه ويجتهد بنفسه للوصول إلى ذلك، بحيث يكون مجتهداً في هذا المجال، سواء كان إخباريّاً أم أصوليّاً أم شخصاً عاديّاً.
فهل معنى هذا أنَّ الفقيه الإخباري يُقلِّد المعصوم في “أصول الدِّين الرّئيسيّة” الّتي لا يجوز فيها التّقليد أبداً؟!
جوابه: كلا، فالفقيه الإخباري التّابع لـ”المدرسة الإخباريّة“، يؤمِن أيضاً كغيره من العلماء بعدم جواز التّقليد في “أصول الدِّين الأساسيّة”، بل هو أساساً لا يؤمِن بالتّقليد، ليس فقط في “أصول الدِّين”، بل حتَّى في “فروع الدِّين” أيضاً، وقد أوضحنا لك ذلك، غاية الأمر أنَّ الفقيه الإخباري كما يَستَعْرِض الرّوايات في قِسم “فروع الدِّين” ويجعلها تتكلم عن الحكم الشّرعي بنفسها، كذلك يَستعرِض الرّوايات في قِسم “أصول الدِّين”، ليقُل لنا:
هذا هو رأي الإمام المعصوم عليه السّلام تجاه “أصول الدِّين”، وقد توافق مع رأيي الشّخصي تجاه ذلك بعد البحث والتّفكير المستقِل، فأنّا لا أُقلِّد المعصوم في “أصول الدِّين”، وإنّما أَسترِض كلامه من باب التّبرُّك فقط.
علماً أنَّ نفس “أصول الدِّين” لها مسائل تَلحق بها، وهذه المسائل الّتي تَلحق بها، لا مجال لمعرفتها إلا من القرآن والمعصوم، وتقليدهما في الإيمان بذلك، وهذا ما سنبيّنه لك لاحقاً؛ فلا تَتعجَّل.
وعليه؛ فالفقيه وإن كان “قديماً” يضع الرّواية وكلام المعصوم عليه السّلام في مجال بيان وجهة نظره في “الأصولالدِّينيّة“، إلا أنَّه لا يعتمد عليها من باب التّقليد لها والخضوع لما تقول، وإنّما من باب جعلها تتكلَّم عن وجهة نظره الّـتي تَوصَّل لها، ليقول: هذه هي وجهة نظري في “أصول الدِّين”، وهي نفس ما في الرّواية الفلانيّة الواردة عن المعصوم الفلاني من الأئمّة عليهم الصّلاة والسّلام؛ وبهذا فَسَدَ الإشكال المذكور، فالفقيه الإخباري مثل غيره من العلماء يحرِّم التّقليد في “أصول الدِّين الرّئيسيّة”: التّوحيد، والعدل، والنّبوّة، والإمامة، والمعاد يوم القيامة.
الآثار السّلبيّة الّتي أَوجَدها التّقسيم الجديد:-
قد تقول: ما المشكلة في أنّ يَختلف تقسيم الفقهاء للرّسائل العمليّة، كي يَتم البحث في ذلك والحديث عنه؟
والجواب هو: أنَّ هنالك إيجابيّات للتّقسيم القديم لا يمكن للتّقسيم الجديد أن يحقِّقها؛ هذه هي المشكلة؛ فالفقيه قديماً ب[1]عد أن كان في كتابه يَتحدَّث مع المكلَّف كمتكلِّم أو فيلسوف، ثمَّ كفقيه، أصبح الآن يَتحدَّث كفقيه فحسب، ولعلَّ هذا أحد أهمّ الأسباب الجوهريّة الّتي دعت لفتور البحث الفلسفي، وضعف البحث الكلامي، حيث ما عاد الفقيه يرى نفسه ملْزَماً بالحديث عن أفكاره العَقَدِيَّة، وتدوين آرائه المرتبطة بـ“الأصل الدِّيني”، خلافاً لما كان عليه سابقاً، رغم حاجة كلا العِلمين – علم الكلام وعلم الفلسفة1 – اليوم وخصوصاً عِلم الكلام إلى الكثير من الوقفات والرّدود، لا سيّما في ظل بروز تداعيات كلاميّة جديدة، وإشكاليّات فكريّة معقَّدة، تتهافت من هنا وهناك، من هذا المتكلِّم الغربي، وذاك الفيلسوف المستشرِق، وتلك المسيحيّة، وهذا البوذائي، وذلك اليهودي، بل وحتَّى من المسلمِين!
فالنِّقاش في المسائل الإلهيَّة من قِسم الفلسفة، وإن أصبح أمراً ضئيلاً بعد تضاؤل وتَناقص وجود الملْحِدِين واللادِينيِّين، ممّن ينكر وجود الله تعالى، وبعد انتشار الإيمان به عزّ وجل في أغلب الأرجاء لدى أكثر الدِّيانات في العالم البشري، إلا أنَّ ما يثار من إشكاليّات وشبهات معقَّدة تختص بالنّبوّة، وتنفي وجود أنبياء، وتَعتبر الدّعوات الإلهيَّة وليدة لميول الإنسان والفكر البشري، بأساليب وحُجج جديدة، وكذا ما يُثار من مسائل حول القضايا الأخرى، مثل:
الحرّيّة الفرديّة “تفكيراً وتَديُّنـاً”، ونطاق الكلام الدِّيني وحدوده، والتّعدّديّة الدِّينيّة، والمعرفة البشريَّة في قِبال المعرفة الدِّينيّة، وآفات الدِّين، والحداثة الدِّينيّة، وحدود ثوابت الدِّين ودائرة متغيّراته القابلة للتّمدّد والتّقلّص حسب المجتمع، بل حتَّى معنى الدِّين وحقيقته، وغير ذلك الكثير، فما يثار تجاه هذه الأمور وغيرها لم يتوقَّف إلى الآن، وهو بحاجة ماسّة للتّناول والدّفع والإجابة، وتنمية الفقه به في موارده، كتلك الموارد المهتمّة بمسائل المغتربِين، المستعرَضة في فقه المغتربِين.
فعند ملاحظة هذا التّغاير المنهجي في كتاب العالِم، ندرك مدى ما تَكبَّدَته وتَتكبّده الأمّة من خسارة كبيرة في معرفة آراء هذا الفقيه أو ذاك في هذا المجال، إذ قد يرحل الفقيه العالِم دون أن تَنعم الأمَّة بأفكاره السّديدة ومعارفه العالية، في حين أنّه هو الأجدر بالكلام والتّفكير في هذه المجالات؛ نظراً لسعة اطّلاعه ومعرفته بآراء الدِّين فيها، وإن كان التّفكير – في بعض هذا المجال كما سنبيِّن- مسؤوليَّة الجميع بلا استثناء.
حقيقةً من الغريب أنَّ “المدرسة الأصوليَّة” المؤْمِنة بالاجتهاد والتّقليد في “فروع الدِّين“، لـمّا وَجدَتْ نفسها في فترة من الزّمن القديم مجبورة ومُلزَمة على أن تسير وفق منهج العلماء الأوائل، ووفق منهج “المدرسة الإخباريّة” في تقسيم الرّسائل العمليّة، أصبحت في الفترات اللاحقة لا تهتم بذلك التّقسيم، وتكتفي بالكلام في الرّسالة العمليّة عن أحكام ومسائل “فروع الدِّين“ فحسب، رغم أنَّ نفس العلماء الأوائل كانوا في الوقت الّذي يتم عندهم استعراض المسائل العقائديّة في مؤلَّفات خاصَّة، والمسائل الفلسفيَّة في مؤلَّفات فلسفيّة منفردة، كذلك كانت الرِّسالة العمليَّة عندهم يتم تقسيمها إلى قِسمين كما بيّنّا، كل ذلك من أجل التّماشي مع المكلَّف، فالمكلَّف لا شأن له بكتبهم البحتة المختصَّة بالعلوم المحضة، وإنّما يكتفي بمطالعة الرِّسالة العمليَّة الموجَّهة إليه، بحيث يَطلب أن يَجِد في كتاب واحد للفقيه الّذي يتّبعه كل ما يريده عن الدِّين، بما يلبِّي طموحاته، ويتسلسل معه في تقديم تعاليم الإسلام ونظريّاتِه وأحكامه.
نسأل الله العلي القدير أن يعيد أمجاد هذه العلوم إلى حرارتها المعهودة، ووجودها الأصيل.
نعم؛ من المهم أن تنفصل العلوم عن بعضها، فيكون لعلم الفلسفة مجاله، ولعلم الكلام مجاله، وللإفتاء مجاله، إلا أنَّ ما نقصده غير ذلك، حيث ستلاحِظ الفرق بينه وبين ما سنوضّحه عند الكلام عن آليَّة العلاج المقترَحة.
هذا بالنِّسبة لتقسيم الرّسالة العمليَّة من جهة أصول الدِّين وفروعه، وقد عَرفت باشتمال الكِتاب الفتوائي قديماً على كلا الأمْرين معاً، واستقلال الكتاب الفتوائي في الأزمان المتأخِّرة بالأمر الثّاني – مسائلفروع الدِّين– فحسب.
2- منهجهم رضوان الله عنهم في التّقسيم للمسائل التّشريعيَّة بالخصوص:-
ثُمَّ إنَّكَ إذا فَتحتَ الكتاب الفقهي فستجده أيضاً عند تعرّضه لبيان أحكام “فروع الدِّين” ومسائلها، مقسَّم إلى قِسمين؛ قِسم يُسمَّى بـ”العِبادات”، وآخر يسمَّى بـ“المعامَلات”؛ وسيأتيك أيضاً بيان الفرق بينهما؛ فارتَقِب.
أمّا على هذا المستوى فنقول: إنّ نفْس ما وقع من اختلاف في التّدوين والتّقسيم تجاه التّعاليم الدِّينيّة ككل –أصولاًوفروعاً– في كتب الأحكام، كذلك وقع الأمر تجاه التّقسيم في خصوص “فروع الدِّين“؛ حيث سَلك بعض الفقهاء في ذلك طريقاً يختلف عن البعض الآخر، إلا أنَّ التّقسيم الأساسي العام الّذي اتّخذته – غالباً – رسائلهم العمليَّة، هو تقسيم المسائل الفقهيَّة إلى “عبادات” و“معامَلات”.
نعم؛ ظهرتْ تقسيمات أخرى في هذا المجال تختلف عن التّقسيم المذكور، وتهدف لتطويره، إلا أنّ جميع هذه التّقسيمات – تقريباً – هي تقسيمات حديثة الولادة، ولم تَأخذ في الرّسائل العمليّة مجالاً واسعاً من التّطبيق، بل قد لا يتوفَّر لها أكثر من تطبيق واحد في الكُتُب، وهذا ما نلاحظه – مثلاً – في كتاب “الفتاوى الواضحة” للسّيِّد الشّهيد محمّد باقر الصّدر رضوان الله عليه، الّذي هو مثال مبدئي لمنهج مختلف في تقسيم “الفروع والمسائل الفقهيَّة“، حيث قسَّمها تقسيماً رباعيّاً في أبواب متتالية كما يلي:
1- العبادات. 2- الأموال، ويشتمل على الأموال العامّة والخاصّة. 3- السّلوك الخاص. 4- السّلوك العام[2].
فهذه بعض النّماذج المطروحة، المختلفة في تقسيمها لأحكام “فروع الدِّين” عن التّقسيم الغالب وجوده في الرّسائل العمليَّة “عبادات ومعاملات”، غير أنَّ المحاولات الّتي قامت هنا وهناك للتّطوير والإصلاح، فهي رغم ما جادت به من أفكار جبّارة وتطبيقات رائدة وأهمّيّة تختص بها، لم ترقَ للمستوى الّذي يعالج كافّة مشاكل التّصنيف والتّدوين في هذه الرّسائل.
نكتفي بهذا القدر، إلى أن نلقاكم بحوله تعالى وقوّته في الوقفة القادمة، والّتي سنتناول من خلالها الأمر الثّاني من القِسم الأوَّل لـمَدْخَلِ شرح المنهاج، والحمد لله حمداً كثيرا، والصّلاة والسّلام على رسوله المصطفى وآله الطّاهرين.
للتعلیق أو مطالَعة التعلیقات اضغط هنا