بسم الله الرّحمن الرّحيم
مَدْخَل مهم لدراسة الفقه “تتمّة القِسم الأوَّل”
الأمر الثّاني:
أهم معضلات كتب الفقه الإسلاميّة الفتوائيّة:-
إلـهي كمِّن ظنٍّ حَسَنٍ حَقَّقْتَ، ومن كَسْرِ إمْلاقٍ جَبَرْتَ، ومنمَسْكَنَةٍ فادِحةٍ حَوَّلْتَ، ومن صَرْعةٍ مُهْلِكةٍ نَعَشْتَ، ومن مَشَقّةٍ أَرَحتَ، فاغفر لي يا إلهي ما بين الشِّركِ والإيمان ما يَصلُ بي إلى أَكملِ الكَمال، وأَحْسنِ الاعتدال، بحقِّ محمّدٍ وآله الطّاهرين، صلواتك يا ربِّ عليهم أجمعين، وعلى الخِيَرةِ من صحبهم المنتجبِين.
وبعد..
نقِف معكم هنا وقفةً متجدِّدة نستعرِض من خلالها مشكلة أخرى من المشكِلات الّتي تُحيط بالرّسائل العمليّة، وتساهم في تأخّرها، وتعمل بصورةٍ سلبيّةٍ مباشرةٍ في عدم تحقيقها للمستوى المطلوب منها على صعيد الانتشار والرّواج، والقراءة، والتّقدّم الفكري، والتّربوي، والتّنظيم الفردي والاجتماعي، وغير ذلك مـمّا يلي:
المعضلة الرّابعة:-
وهي تكمن في طريقة تعامل الفقيه مع الإفتاء عندما يقوم بتدوين الرّسالة العمليّة؛ حيث يَتعامل مع ذلك على أساس مجتمعه الّذي يعيش فيه، أو قُل:
يَتعامل مع ذلك على أساس مجتمع الفقهاء القائم في الكُتب، وبتعبير أدق:
يَتعامل مع ذلك على أساس مجتمع الرّواية الخاصّة بالـحُكم والظّروف الّتي صَدرت فيها! رغم أنَّ نفْس أهل البيت عليهم السّلام كان تعاملهم في الإفتاء مع بعض الأوساط والمجتمعات الإسلاميّة -حتَّى في بعض المسائل الجزئيّة- يَـختلف عن تعاملهم مع الأوساط والمجتمعات الإسلاميّة الأخرى، فمثلاً:
نجد أنَّ الإمام المعصوم عليه السّلام في بعض الأحيان تَدخل عليه امرأة “مسْلِمة” من “العراق” تَسأله سؤالاً ما، فيجيبها بجوابٍ معيَّن، ثمَّ بعد فترة تَدخل عليه امرأة “مسْلِمة” أخرى من “الحجاز” تَسأله بسؤالٍ مشابه تماماً لسؤال تلك المرأة العراقيّة المسلمة، فيجيبها بجوابٍ آخر غير جوابِه الّذي أجاب به سابقاً، بحيث يتعجَّب الرّاوي من أصحاب الإمام عليه السّلام، فيَسأله:
لماذا أجبتَ تلك بحُكمٍ يَـختلف عن الـحُكم في جواب هذه، مع أنَّ السّؤال واحد لم يَختلف، وكل منهما من المسْلِمات التّابعات لدينٍ واحدٍ وهو الإسلام؟! فيجيبه الإمام عليه السّلام: بأنَّ السّبب في ذلك هو وجود اختلاف بين ظروف هذه المرأة وتلك، ووجود اختلاف بين بلاد هذه وبلاد الأخرى.
وكذا بمثال آخر: نلاحظ أنَّ الإمام عليه السّلام يَدخل عليه مَن يَستفتيه عن سنِّ البلوغ بالنّسبة لـ“الصَّبيّة”، فيجيبه بأنَّ “الفتاة” تبلغ في “الثّانية عشر” من عمرها، بينما يسأله شخصٌ آخر بعد مدّة بسؤالٍ مماثلٍ لذلك السّؤال، فيجيبه الإمام عليه السّلام بأنَّ “الفتاة” تبلغ في سنِّ “التّاسعة” من عمرها، فيتعجَّب أصحاب الإمام من ذلك، فيَسأله الرّاوي:
لماذا اختَلف الجواب على سؤالٍ واحد طُرِحَ من شخصين؟! فيجيب عليه السّلام: بأنَّ السّبب هو اختلاف ظرف السّائل الأوّل عن ظرف السّائل الثّاني، فالسّائل الأوّل تعيش المرأة لديه في “بيئةٍ طقسها بارد”، ممّا يساهم في تأخّر بلوغها، وتأخّر علامات البلوغ في جسدها، بينما السّائل الثّاني فالمرأة تعيش لديه في “بيئةٍ طقسها حار أو معتدل”، ممّا يساهم في بلوغها مبكِّراً، وبروز علامات البلوغ لديها في وقت أسرع، أو قُل: في الوقت الطّبيعي.
وكذا بمثال ثالث: نجد في بعض الرّوايات المعتبَرة أنَّ امرأة دَخَلتْ على الإمام عليه السّلام تسأله عن فترة الحيض، فيجيبها بجوابٍ معيَّن، ثمَّ بعد فترة تَدخل عليه امرأة أخرى فتسأله بسؤالٍ مماثلٍ لسؤال المرأة السّابقة، فيجيبها بجوابٍ آخر، ثمَّ يبرِّر ذلك باختلاف ظرفيهما.
إذن؛ الإمام يراعي الظّروف، ويختلف إفتاؤه بحسب اختلاف العوامل والمتغيّرات “الشّخصيّة” و“الاجتماعيّة”، فهذا الأمر واضح في الرّوايات ولا ينكره الفقهاء، بل كلّهم يتّفقون على هذا المبدأ، لكن ما نجده في الرَّسائل العمليَّة يؤكِّد على عدم تعامل الفقيه في الإفتاء على هذا الأساس، حيث يَأخذ بعين الاعتبار ما يجده في مجتمعه فقط، أو ما يجده في عُرْف الفقهاء في الكُتُب، أو ما يجده في نفْس الرّواية أيضاً فيما إذا كانت هي الّتي تَتوافق مع ما في مجتمعه أو مجتمع الفقهاء ممّن قبْله، دون أن يشير إلى وجود بدائل وحالات مختلِفة لنفْس ذلك الـحُكم وتلك المسألة الشّرعيّة المعيَّنة، حيث يَغض نظره عن المجتمعات والحالات الأخرى! مع أنّه قد تَتوفَّر في مجتمعٍ مسلمٍ آخر يَرجع إليه في التّقليد تلك الظّروف الّتي يَتناسب معها الحكم الثّاني البديل لتلك المسألة، لا الحكم الشّرعي الّذي يَتناسب مع المجتمع الّذي اعتَمد عليه هذا المجتهد في الإفتاء تجاه تلك المسألة الشّرعيّة، وجَعَله مدار الإفتاء والتّقييم!
فمثلاً: نلاحظ أنَّ الفقيه عندما يقدِّم فتواه تجاه مسألة “حجاب المرأة” في بلدٍ ما؛ نجده يراعي في ذلك مجتمعه الخاص أو مجتمع مَن سبقه من الفقهاء حسب ما في فتاواهم وكُتبهم وإجماعاتهم مثلاً، أو حسب مجتمع الرّواية وظروفها الخاصّة الّتي اعتمَدها، دون أن يأخذ في عين الاعتبار ما في المجتمع الآخر من ظروف تحيط بمَن يقلِّده في المنطقة الإسلاميّة الأخرى أو غيرها، في حين أنّه هو شخصيّاً لو التفت لذلك لأقرَّ بحاجة تلك المنطقة لحكم آخر مختلِف.
وعليه؛ فإنّنا نلاحظ أنَّ مراعاة الدِّين من جهة “أحكامه القابلة للتّمدّد والتّقلّص” حسب الظّرف والمجتمع في قِبال الأمور والأحكام الثّابتة، غير متحقِّقة في الرَّسائل كما هو واضح لدى الجميع، حيث تَنتهج الرِّسالة العمليّة منهج الإفتاء الموحَّد والقِياس على مجتمع معيَّن لا بَديل فيه للحكم تجاه بعض القضايا المهمّة، رغم إقرار الفقهاء –كما قلنا- بهذه الميزة المتعالية في الدِّين الإسلامي، والّتي تمكّنه باستمرار من القدرة على التّواجد في كلّ مكانٍ ومواكبة كل الظّروف بلا حاجة للتّشنّج أو العُسْر.
نعم؛ من الإيجابي توحيد المجتمع الإسلامي في أحكامه وأفعاله ككل، لكن عندما لا يكون هناك توحُّد في العادات والتّقاليد والأعراف الاجتماعيّة في وسط المجتمع الإسلامي في مختلَف بلدان المسلمين، أو بين المسلمين في داخل الوسط الإسلامي والمسلمين ممَّن يعيشون في خارج هذا الوسط بفعل التّغرّب أو ما شاكل، فهذا لا يعني إجبار العُرف الآخر على التّوحُّد مع العرف المقابل في البلد الإسلامي المجاور أو مع المسلمين القاطنين في أوساط معيّنة، كما لا يعني نقْض قاعدة {واْمُرْ بِالْعُرْف}[1]، رغم إسلاميّة كلا البلدين أو كون جميع المقلِّدين من المسلمين، وإلا أَصبحَ ذلك تحميلاً لمجتمع على أساس مجتمعٍ آخر مختلِف، وإفتاءً بما لا يتناسب مع ظروف ذلك المجتمع الآخر، وهو –حسب العلم والوضوح- غير جائز، وممّا من شأنه أن يَأخذ بالقضيّة إلى ما هو أبعد من ذلك؛ إذ قد ينتهي بنا للوقوع في محاذير شرعيّة، فضلاً عن أنّ هذا النّحو من التّدوين يَتسبَّب في تضييع المصالح والأهداف الإلهيّة المتواجدة في تلك الأحكام الموجّهة لأُلئك الأفراد ولذلك المجتمع.
طبعاً نحن قلنا أنَّ الفقيه يَتعامل مع رسالته على أساس مجتمعه أو مجتمع الفقهاء السّابقين أو الرّواية، تبعاً لِـما سنشير إليه من نصوص يفتي فيها على غِرار ذلك، تماماً كاستعماله للعُملة القديمة الغابرة، كتعبيره بـ“الدِّينار الإسلامي” و“الدِّرهم القديم”! مع أنّ هاتين العُملتين وَلَّى زمانهما، ولا يوجِد استعمال لهما في الزّمن الحاضر، فاليوم كل بلد يَستعمِل عُملة أخرى، بينما الفقيه لا زال يَستعمل تلك العُملتين الإسلاميّتين في رسالته إلى الآن! تماماً -مثلاً- كما نجد في:
تعيينه لمقدار كفّارة الجِماع مع الزّوجة في فترات الحيض الثّلاث “أوّل الحيض ووسطه وآخره”، أو كما نجد في:
تعبيره بالدّينار القديم في تحديده لمقدار “اللُّقَطة” من الأموال أو الأشياء الضّائعة للآخرين، في الشّوارع أو الأماكن العامّة، والمقدار الّذي يَجوز لنا أن نأخذه أو يجب علينا أن نُعْلِن عنه بين النّاس، وما شابه.
فهذه أمثلة في اللفظ وما سَبق في مثال “حجاب المرأة” كان مثالاً في المضمون، وهذا بالتّالي يشير إلى أنَّ هذه المشكلة تقع في الرَّسائل العمليّة في كلا الحالتين على السّواء؛ أي في اللفظ تارة، وأخرى في مضمون الحكم القابل للتّغيّر حسب الظّروف.
المعضلة الخامسة:-
افتقار الفقه لمسائل المغتربِين ممّن يعيش خارج بلده أو يعيش في بلاد غير إسلاميّة، حيث تَقِل هذا المسائل، ولا تكاد تتوفّر في رسالة الفقيه.
طبعاً –إنصافاً- هنالك من الفقهاء مَن قام بتدوين فتاواه تجاه مسائل وأحكام المغترِبين، وعَمل على جعل هذه المسائل والأحكام في جهة مختصّة من التّدوين، بحيث عَزَلها في كتاب ورسالة فتوائيّة مستقلَّة، غير أنَّه وإن قام البعض منهم -أَجلَّهم الله- بمثل هذه المبادرات الجيّدة إلا أنَّ تلك المسائل ضئيلة ولا تَفِي بحاجيّات المغترِب من المكلَّفِين، بل وحتَّى أبنائهم الغير مكلَّفِين؛ ذلك تبعاً لتوجّه أحكام شرعيَّة –غير مباشرة- تختص بالطّفل الّذي يعيش في تلك البلاد أيضاً، سواء على صعيد تربيته من قِبَل ولي أمره المغتَرِب به أو ما شاكل ذلك من المسائل الأخرى.
فهذه المسائل –كما قلنا- قليلة في هذه الكتب الفتوائيّة، بل هي لا تَعْدُو عن أنّها كثيراً ما تَتكلّم في قضايا عامّة لربّما كان بعضها ممّا يَندر ويَقل الابتلاء به هناك، في حين أنَّ ما هو في مَعْرَض ابتلاء هذا النّوع من المكلّفِين لا يجد ما يسلِّط الضّوء عليه، ويقدّم الحكم الإسلامي تجاهه!
وعليه؛ فالرِّسالة العمليّة الّتي تخاطِب المكلَّف في أوّل مسائلها بـ“وجوب تحصيل الأحكام الإلزاميّة –الواجبات والمحرّمات- الّتي هي في مَعْرَض ابتلائه”، كيف لها أن تحقِّق له غاية ذلك، في حين أنّه لا يجد تلك الأحكام أساساً قد تمَّ تسليط الضّوء عليها؟!
وبالتّالي؛ هذا يعني أنَّه حتّى على مستوى الرّد بـ:
أنَّ المكلّف المغترِب وإن لم تتوفَّر كتب تُسلِّط الضّوء على هذه المسائل الإلزاميَّة “الواجبات والمحرَّمات”، إلا أنّه يجب عليه أن يسعى بنفْسه لتحصيل المسائل الّتي يحتاج إليها في حياته وشؤونه، وأن يَبذل جهده في تعلّمها والسّؤال عنها من أهل العِلم؛ كي تبرأ ذمّته ويَتمكَّن من امتثال أوامر ربِّه والاستفادة من تشريعاته سبحانه وتعالى العظيمة، فلو ردَّ قائل على هذا الصّعيد بمثل هذا الكلام فالرَّد عليه هو:
أنَّه حتَّى على مستوى القول بأنَّ المكلَّف المغترِب يجب عليه أن يتعلَّم تلك المسائل المختصّة به في بلد اغترابه، وأن يبذل جهده في التّعلّم من أهل العِلم، نَتساءل: يجب عليه أن يعود لأي أهل علم؟
وبعبارة أخرى: مَن المقصود مِن أهل العِلم؟ هل المقصود هو طلبة العِلم عموماً؟ أم وكيل الفقيه الخاص الّذي يقلّده ذلك المكلَّف المغترِب؟ أم نفْس الفقيه الّذي يَرجع إليه في التّقليد؟
فإن كان المقصود هو طلاب العِلم، فالجواب: مِن أين يَعرِف طلاب العِلم أجوبة تلك المسائل والفقيه أساساً لم يدوِّن فتاواه في هذا المجال؟! هل يجيبون على مسائل النّاس من كِيسهم الخاص؟! هذا غير ممكن وغير شرعي.
بل أساساً في أين يمكن لهذا المكلَّف المسكين أن يجد طلاب العِلم في تلك البلدان كي يسألهم عمّا يريد معرفته؟!
وإن كان المقصود هو الوكيل الخاص للفقيه الّذي يقلِّده ذلك المكلَّف المغترِب فالجواب نفْس الجواب السّابق.
صحيح قد يكون بعض الخاصّين من وكلاء المجتهد–بل حتّى بعض المتفوّقين من طلبة العلم- لديهم قدرة على استنتاج آراء هذا الفقيه بأنفسهم، دون الحاجة للسّؤال منه؛ وذلك من خلال معرفتهم بمبانيه وآرائه العلميّة العامّة، ومن خلال إحاطتهم العالية والكاملة بما يرتبط بالمسألة من أدلّة خاصّة، ومن ثمَّ الإجابة على أسئلة المكلَّف، إلا أنَّ هذا النّوع من الوكلاء وطلبة العلم نادر وجوده في الأوساط العامّة، ومن ثمَّ نتساءل:
لو فرضنا وجود وكلاء أو طلبة علم من هذا العِيار الثّقيل، فالإشكال كما هو لن يَتغيَّر؛ إذ سنَرجع من جديد ونقول: مِن أين للمكلَّف المغترِب أن يحصل على هذا الوكيل الجيّد أو ذلك الطّالب المتمكِّن في تلك البلدان؟!
بل والأمر أبعد من هذا المستوى؛ إذ أنَّ نفْس الوكيل الخاص أو طالب العلم لو أمكنه أن يجيب على بعض المسائل طبق آراء الفقيه المقلَّد عندما لا تكون لهذا الفقيه فتاوى في تلك المسائل، فإنَّ هذا الوكيل الخاص أو ذلك الطّالب المتفوّق قد لا يوفَّق للإجابة على جميع المسائل؛ لأنَّ عمليّة استنباط الحكم ليست بالأمر السّهل، واستحضار جميع أدلّة المسألة في وقت قصير ليس بالشّيء البسيط، فحتَّى الفقيه المجتهد -كما سنبيِّن- هو نفْسه ليست لديه القدرة بصورة دائمة على ممارسة هذه الطّريقة من الإفتاء، فالدِّين الإسلامي عميقٌ عميق.
وهكذا إن كان المقصود ليس طلاب العلم، ولا وكيل المجتهد، وإنّما نفْس الفقيه المقلَّد، فالجواب: أيضاً مِن أين لهذا المكلَّف أن يلتقي بذلك الفقيه في تلك البلدان؟!
فهذه بأجمعها عوائق كبيرة وشديدة التّأثير.
بل هنالك عائق أكبر من هذه العوائق بكثير، وأشد تأثيراً منها، وهو ينعكس بالضّرورة على جميع ما سبق، وهو أنَّ مجرّد الاستفتاء في بعض تلك المسائل، بلا شك يَتطلّب من الفقيه أن يَتريَّث في مجال بحثه عن فتْواه تجاهها من الدّليل المقرَّر؛ ذلك لِكون تلك المسائل –البعض منها- من المستحدَثات والمستجدّات الاغترابيّة الّتي لم يَسبق للمجتهد أن سُئل عنها مثلاً، أو لم تكن مصبَّ بحثه واهتمامه سابقاً، تبعاً للظّرف المحيط به والوسط الّذي يعيشه وقلّة الابتلاء بذلك، وكما تعلمون فإنَّ الفقيه العادل المستجمع لشرائط المجتهد والمرجعيّة لا يفتي من جَيبه الخاص، وإنّما يفتي طبقاً لما في الدّليل المتوفّر لديه، وهذا عين ما يحتاج في الواقع للتّريّث والبحث، كي يتم تحصيل حُكم الدّليل في تلك المسائل بصورة صحيحة ومطَمْئِنة، فالفقيه ليس نبيّاً من الأنبياء حتَّى يتمكّن من الجواب مباشرة على أي سؤالٍ شرعي يواجهه، بل يَحتاج لأن يَتقيّد بما لديه من أدلّة شرعيّة لـيَستنبط الحكم الإلهي منها.
وعليه؛ عندما يَبحث الفقيه عن تلك الأحكام ليجيب بها هو أو غيره على المكلَّف، فهذا يحتاج إلى وقت ليس بقصير، في حين أنَّ الانتظار من هذا المغترِب المسكين لربّما يُضيِّع عليه كلَّ شيء، ولا يُـمَكّنه من امتثال الأمر الإلهي في وقته المطلوب، فيكون قد فاتَ عليه الفَوت كما يقولون!
كل هذا ناهيك عمّا سنذكره من مصاعب وعوائق تلازم الحصول على الفتوى في أمثال هذه الموارد وما شابهها، ذلك تبعاً للقضايا الأخرى ممّا سيأتي عليه البيان، من قَبيل القول بالرّجوع للسّؤال عن طريق الهاتف أو الإنترنت وما شاكل.
نعم؛ قد يقال: على المكلَّف أن يتعلَّم قبل أن يسافر، أو أن لا يسافر من أساس كي لا يبتلي بهذه الأمور!
والجواب: كيف يتعلَّم قبل أن يسافر وهو أساساً لا يعرف ما الّذي سيُبتلى به وما الّذين لن يُبتلى به؟ خصوصاً إذا كانت حياته هناك طويلة، بل من أين يتعلَّم قبل السّفر؟! وبهذا سنعود للكلام السّابق.
وكذا كيف نقول له لا تسافر كي تتجنّب الوقوع في هذه الأمور؟! إذ كثيراً ما يكون التّغرّب بسبب دوافع ضروريّة، كالعلاج أو العمل الرّسمي للدّولة –كالسُّفَراء- أو النّفي بعقوبة أو ما شاكل، بل هل يُعقل أن نعطِّل شؤون النّاس عن السّفر بذريعة كهذه مع أنّ دِيننا الإسلامي كفيل بالعلاج وقادر على تقديم الحلول الجبّارة والقويّة، والفقه ليس هدفه إلا تنظيم شؤون الحياة والمكلَّفِين؟! بل هل المسألة متوقِّفة على المغترِب فقط؟! كلا، فكما قلنا في البداية قد يكون الشّخص أساساً من أهل تلك البلاد الغير إسلاميّة ومن مواطنيها المسلمين.
وبالتّالي؛ هل الصّحيح أن نقول لهذا المكلَّف الّذي أسلم وهو من مواطني تلك البلاد الغير إسلاميّة: إنَّ عليك ترك بلدك وأرضك وأهلك والمجيء للحياة في بلد إسلامي؟! أم الصّحيح أن نواجه هذه المشكلة وأن نعالجها ونقضي على سلبيّاتها؟
لا شك أنَّ الصّحيح هو مواجهة المشكلة وحل معضلاتها، وإلا لما دَخَلَ للإسلام بعد اليوم كافر! فالإسلام ليس دينَ تَغريبٍ وتهجيرٍ وقطعٍ للأواصر والأرحام والانتماءات، كما أنّه أيضاً ليس ضدَّ الوطنيّة، فهو ليس ديناً ضعيفاً لا يستطيع أن يَقوم في النّفوس المؤمنة به إلا بعد أن تجيء إلى دياره وبلدانه الّتي ينتشر فيها، كلا، فهو أقدر بكثير، وله لياقة ومرونة عظيمة في أن يَعْبر المحيطات، ويَتعالَى في مختلف البقاع مع الجميع، وأن يوجِد لكل المشكلات ما يناسبها من الحلول الرّائدة والقيّمة، فالفقه الإسلامي كفيل بتحقيق كل هذه القِيَم.
من هنا نستنتج: أنَّ المكلَّف المغترِب يجب أن يَتم الوَفاء له باحتياجاته الدِّينيّة كغيره قبل أن يقع في الحاجة إليها، بحيث تكون المسائل الاغترابيّة جاهزة ومعدَّة قبل الابتلاء بها؛ كي يَتمكّن مثل الآخرين من أن يستفيد من تعاليم الإسلام السّامية عندما يقع في ذلك، ويتربَّى هو ومَن معه عليها تربية متكاملة، لا أن يُترك حائراً تجاه متطلَّباته، ويَتم تأخيره في توصّله لجواب ما يريد من المسائل الشّرعيّة؛ لأنَّ الكثير من المسائل عند الابتلاء بها يحتاج المكلَّف فيها –كما أشرنا- لأن يَعرف الحُكم الشّرعي بسرعة، وإلا فَسَدَ عمله، ممّا يعني أنَّ مطالَبته بالبحث عن تلك الأحكام عند الوقوع فيها، واستغراق ذلك للوقت الكثير، من شأنه أن يُضيِّع عليه كثيراً من الأمور، في حين أنَّ هذا النّوع من المكلَّفين هو الأحوج بالرّعاية والتّحصين نظراً لما يواجهه من تحدّيات كبيرة.
والحمد لله، والصّلاة على رسوله المصطفى وآله الطّيّبِين الطّاهرين.
[1] من قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}؛ سورة الأعراف: الآية 199.
للتعلیق أو مطالَعة التعلیقات اضغط هنا