بسم الله الرّحمن الرّحيم
مَدْخَل مهم لدراسة الفقه “تتمّة القِسم الأوَّل”
الأمر الثّاني:
(أهم معضلات كتب الفقه الإسلاميّة الفتوائيّة):-
إلهي! كيف لي بتَحصيل الشُّكر؟! وشُكري إيّاك يَفتقرُ إلى شُكر، فكلَّما قُلتُ “لكَ الحمد”، وَجَبَ عليَّ لذلك أنْ أقول “لكَ الحمد”! فاْنشرْ علينا يا ربِّ رحمةً تَسدُّ بها ضعفَنا، وتؤدِّي بها حَمْدَنا، بحقِّ محمِّدٍ وآله الطّاهرين، صلواتك عليهم وعلى الصّالحِين مِن صحبِهم الأنجبِين.
وبعد..
نقِف معكم هنا وقفةً متجدِّدة نَستعرِض من خلالها مشكلتين أُخريَين من المشكِلاتالّتي تُحيط بالرّسائل العمليّة، وتساهم في تأخّرها، وتعمل بصورةٍ سلبيّةٍ مباشرةٍ في عدم تحقيقها للمستوى المطلوب منها على صعيد الانتشار والرّواج، والقراءة، والتّقدّم الفكري، والتّربوي، والتّنظيم الفردي والاجتماعي، وغير ذلك مـمّا يلي:
المعضلة السّابعة:-
وهي مشكلة تَرتبط بتدوين الأحكام الفقهيّة دون “تقديم قاعدة استنتاجيّة عامّة” أو“موجَز”للمسائل المشترِكة في حُكْمٍ واحد، بحيث يَستفيد منها المكلَّف بعد عرْض المسائل التّفصيليّة له، وقراءته لها، وتعلّمه إيّاها، وفهمه الجيّد لأحكامها؛ فالمسائل الفقهيّة عند ملاحَظتها؛ نجد الكثير منها يُشَكِّل مجموعات عديدة، كل مجموعة مستقلّة من هذه المجموعات تَلتقي في حُكمٍ شرعيٍّ واحد، بحيث تكون المجموعة الواحدة منها قابلة لتقديم قاعدة عامَّة لها.
لذا؛ كان من المفترَض أن تؤدِّي الرِّسالة العمليّة دورها على هذا المستوى، من خلال تقديم المسائل لكل باب أو موضوع فقهي معيَّن، ثمَّ تقديم موجَز أو خلاصة تَستعرِض المسائل المتفرِّقة في ذلك الباب والمشترِكة في نفْس الوقت في حُكم واحد، لتقول للمكلَّف:
من خلال ما تقدَّم اتّضَحَ أنَّ المسألة الفلانيّة الّتي تمَّ بيانها، والمسألة الفلانيّة الأخرى الّتي تمَّ استعراضها، لهما حُكمٌ واحدٌ مشترَك، وهو الحكم الفلاني الّذي تمَّ ذِكره في التّفصيلات.
طبعاً من الطّبيعي أن تَتساءل عن الغرض من ذلك، وتقول: لماذا نَعتبِر هذه القضيَّة من واجبات الرِّسالة العمليّة؟ ولماذا تمَّ اعتبارها من المعضلات رغم أنَّ الرِّسالة تَتكفَّل باستعراض المسائل بالتّفصيل؟ فاستعراض المسائل الفقهيّة بالتّفصيل يكفي لأن تكون الرِّسالة قد أدّت وظيفتها.
الجواب هو:أنَّ الـمُعاناة الّتي يَقع فيها المكلَّف بسبب كثرة المسائل والتّفريعات الفقهيّة الابتلائيّة، فيشعر بعوائق كبيرة تجاه حفظه لكل ذلك، هذه المعاناة وهذه العوائق هي الّتي تجعل من هذه القضيّة تُشَكِّل معضلة كبرى في الرِّسالة العمليّة.
لاحِظ حال المكلَّف حينما يَفتح رسالةً من الرَّسائل الفقهيّة، وهو يَرغب في حفظ أحكام دِينه ليُطَبّقها ويستفيد منها في حياته مباشرة عندما يحتاج إليها، ألا تجد أنّه يقع في معاناة كبيرة تجاه حفظه لهذا الكَم الهائل من المسائل؟
فالمكلَّف قد يَقرأ الرِّسالة ويَدْرسها ويتقنها جيّداً، ولكن ما أن يغلِق الكتاب إلا وقد تَبخَّر الكثير من الأحكام من ذِهنه، بحيث عندما يَبتلي بمسألة شرعيَّة درَسها ويريد أن يتذكَّر حكمها، كثيراً ما يجد نفْسه في عجز تام عن القدرة على استحضار ذلك إلا من خلال الرّجوع مرَّة أخرى للرِّسالة!
وبالتّالي؛ هل الخلل في الرِّسالة أم العَتَب على المكلَّف؟
لا شك في أنَّ الخلل في الرِّسالة، فالمكلَّف – حسب الفرض- دَرَس المسائل وأدَّى دوره وواجبه في التّعلُّم، بينما الرِّسالة لم تُعنه على الحفظ الـمُحْكَم والمطلوب.
فالرِّسالة عندما تَعمل –مثلاً- على تقديم “قاعدة استنتاجيّة عامّة” للمسائل المشترِكة في حكم واحد، فهذا من شأنه أن يَجعل المكلَّف يَتمكَّن بكل سهولة ويُسر من استرجاع الحكم الشّرعي عند عُرُوض مسألةٍ فقهيّةٍ ما على حياته، أو ابتلائه بشيء ممّا دَرسه سابقاً، وعند حاجته لاسترجاع ذلك الحكم من ذِهنه دون العودة للرِّسالة؛ ذلك من خلال تذكّره السّريع لتلك “القاعدة الاستنتاجيّة العامّة” القابلة للاستنتاج في الأبواب والموضوعات الفقهيَّة المختلِفة، فالفقه ليس عشر مسائل أو عشرين مسألة حتَّى نقول لكل مكلَّف عليك أن تحفظ ذلك، وتطبّقه عند الابتلاء به، كلا، فالفقه كما قلنا مليء بالتّفريعات والتّفصيلات، والرِّسالة العمليّة مليئة بالأحكام الشّرعيّة الكثيرة، لدرجة أنَّ نفْس الفقيه أحياناً عندما يسأله بعض المقلِّدِين له شخصيّاً عن مسألةٍ ما، يضطر لأن يفتح رسالته ويبحث عن فتواه في تلك المسألة ليجيب المستفتي، فكيف بعامّة النّاس؟
فالفقيه رغم كونه من أهل الممارسة والخبرة الطّويلة في هذا المجال، فهو بشكل طبيعي -مِثلَه مِثل بقيَّة البشر- يَنسَى ويحتاج للمراجعة من الـمَصدر، ممّا يعني أنَّ بقيَّة النّاس أيضاً هم معرَّضون للنِّسيان أيضاً.
نعم؛ من الجيّد أن يَتسلَّط المكلَّف على جميع المسائل الفقهيّة، وأن يحفظها حفظاً جيّداً إن أمكنه ذلك، أمّا إذا لم يتمكَّن من ذلك فما هو العلاج؟
هل نقول له: احملْ الرِّسالة معك في كل مكان تذهب إليه، وافتحها لاستخراج حكم كل مسألة تَبتلي بها؟ فلو مثلاً ابتليتَ في منتصَف الصّلاة بمسألة تعلَّمْتَ حُكمَها ثمَّ نسيتَها، افتحْ الرِّسالة وأنت في الصّلاة، وابحث عن تلك المسألة إلى أن تجدها، وتحل المشكلة! هل نقول للمكلَّف الغير خارق في الحفظ مثل هذا الكلام؟! هل يَليق بنا وبه فعل ذلك؟!
كلا، بلا شك لا يليق، فالقيام بهذا الفعل –أعني فتْح الرِّسالة- إن أمكن في بعض الموارد، فهو لا يمكن في البعض الآخر، تماماً كما في المثال الّذي ذكرناه بالنّسبة للصّلاة، هذه العبادة الشّرعيّة الّتي نمارسها كلَّ يوم.
أمّا لماذا لا يمكن ذلك في بعض الحالات؟
الجواب:لأنَّ البحث عن المسألة في مثال الصّلاة قد يسبِّب بطلانها؛ إذ قد يطول بحث المكلَّف عن المسألة الّتي يريد الحصول عليها من الرِّسالة، فتَسقط “الموالاة” المعتَبَرة في صحّة الصّلاة، فيخرج ذلك المكلَّف عن هيئة المصلِّي، خصوصاً فيما إذا كان غيرَ قادرٍ على تحديد موضع المسألة من الرّسالة بسرعة، ولم تكن لديه خبرة كبيرة بموضعها بين المسائل الكثيرة.
بينما لو دَرس المكلَّف المسائل الفقهيّة من الرِّسالة، وتمَّ مثلاً تقديم “قاعدة استنتاجيّة” تجاه أحكامها القابلة لذلك؛ فهذا من شانه أن يُسهِّل عليه استحضار الحكم بمجرَّد تذكّره لتلك القاعدة العامَّة.
وهنا يمكن لنا أن نمثِّل بـ“واجبات الصّلاة” وما يَسقط من أفعالها عند ضيق الوقت، أو عند وجود حَرَج كخوف أو مرض وما شاكل، فالقليل مَن هم على تمكّن من معرفة هذه الأفعال الصّلاتيّة الّتي يجب إسقاطها من الصّلاة رغم كونها من الأجزاء الواجبة فيها، كما أنَّ القليل مَن هم على قدرة تجاه جَمْعِ ذلك واستخلاصه من الفتاوى المتفرّقة، لدرجة أنَّ البعض مع ضيق وقت الصّلاة يجيء بأفعال صلاتيّة من المستحبّات أو الواجبات اللازم ترْكها لإيقاع الصّلاة أو جزء منها في داخل الوقت!
وبمثال آخر؛ قضيّة نيّة “بما في الذّمّة” للصّلوات الّتي لا يُعلم هل دَخلتْ في وقت “القضاء” وخَرجتْ من وقت “الأداء”، عند مشارفتها على نهاية وقتها الأدائي وبداية وقتها القضائي، فكما تعلمون هنالك صلوات يؤتَى بها بِنيّة “الأداء”، وهي الصّلوات الّتي تؤدَّى في وقتها، وهناك صلوات يؤتَى بها بِنيَّة “القضاء”، وهي الصّلوات الّـتي تؤدَّى بعد فوات وقتها، وكذلك هناك صلوات يؤتَى بها بِنيِّة “بما في الذِّمَّة”، لكن كم هم أُلئك الّذين يعرفون أي نوع من الصّلوات الّتي هكذا نيّتها؟
فهل تجدون في الرِّسالة “قاعدة استنتاجيّة عامَّة” توضّح للمكلَّف حالات هذه النّيّة، كما هو الحال بالنّسبة للقاعدة الاستنتاجيّة الواضحة المقدَّمة لحالات نيّة “الأداء” و”القضاء”؟ أم الموجود هو أنَّ الرِّسالة تعدِّد صلوات نيّة “بما في الذّمّة” في مواضع متفرِّقة، وتدع المكلَّف ليعتمد على حفظه واستخلاصه لهذه الحالات المتفِّرقة، ممّا يوقعه في العُسْر والمشقّة؟!
وبمصداق بَياني ثالث؛ يمكن لنا أن نقدِّم “أحكام الشّك في الصّلاة” كمثال بارز لهذه القضيّة، فأحكام الشّكهذه رغم كونها من المسائل الابتلائيّة، ورغم اجتماع الكثير منها في حكم واحد، إلا أنَّ الرِّسالة العمليّة لا تَستخلِص للمكلَّف ذلكالحكم الموحَّد الشّامللجميع تلك الحالات الشّكّيّة المشترِكة فيه، حيث تُلقِي الرِّسالة أحكام الشّك إليه، وتدَعه يَستقِل بنفسه في استنتاج القاعدة العامّة، واستخلاص الحكم المشتَرك لتلك الموارد المتعدِّدة، في حين أنَّ الكثير من المكلَّفين لا تَتوفَّر لديه القدرة على استنتاج ذلك، واستخلاصه بمفرده، والاستفادة منه بالسّهولة المطلوبة.
وكذا بمثال رابع نلاحظ نفس الأمر في “أحكام السّهو” مثلاً، فالرِّسالة العمليّة وإن تَسلسلتْ مع المكلَّف بصورة جيّدة ودقيقة من جهة ترابط مسائلها ببعضها البعض، إلا أنَّ تسلسلها مع المسائل بهذه الصّورة الإيجابيّة يكلّفها أن تَتعرَّض لعدّة قضايا مشترِكة في حكم واحد بصورة متفرّقة، يَجبر عليها التّسلسل المنطقي الدّقيق والملائم؛ لذا فالرِّسالة عند استعراضها لأحكام “الشّك والسّهو” هكذا تَفعل وتقول مثلاً:
أيّها المكلَّف! إذا شككتَ أثناء الصّلاة الرّباعيّة –صلاة الظّهر أو العصر أو العشاء- هل أنت في الرّكعة “الرّابعة” أم تجاوزتها إلى ركعة “خامسة”، وكان شكّك أثناء “القيام”، فوظيفتك كذا …، مع الإتيان بـ“سجدَتَي سهو”.
ثمَّ تَستعرِض الرِّسالة عدّة مسائل في “الشّك والسّهو” وتَذكر أحكامها، ثمَّ تقول:
أيّها المكلَّف! إذا شككتَ أثناء الصّلاة الرّباعيّة هل أنت في الرّكعة “الثّالثة” أم “الخامسة”، وكان شكّك – أيضاً- أثناء “القيام”، فوظيفتك كذا …، مع الإتيان بـ“سجدَتَي سهو”.
ثمَّ تَستعرِض الرِّسالة عدَّة مسائل في “الشّك والسّهو” أيضاً وتَذكر أحكامها، ثمَّ تقول:
أيَّها المكلَّف! إذا شككتَ أثناء الصّلاة الرّباعيّة هل أنت في الرّكعة “الثّالثة” أم “الرّابعة” أم “الخامسة”، وكان شكّك –أيضاً- أثناء “القيام”، فوظيفتك كذا …، مع الإتيان بـ“سجدَتَي سهو”.
والآن لاحِظْ معي هذه الموارد السّهويّة الثّلاث، فهي كما تَرى تشترِك في حكم واحد بالنّسبة لـ“سجدَتَي السّهو”، فكلّها يوجَد في ضمن أحكامها سجدتَي سهو، فالرِّسالة – حسب التَّمثيل- ذَكرتْ هذه المسائل في مواضع متفرِّقة مراعاةً للتّسلسل والتّرتيب المنطقي الدّقيق والملائم، ممّا يعني أنَّ مراعاتها لهذا التّسلسل الإيجابي اضطرَّها لأن تذكر هذه المسائل المشترِكة في حكم “سجدَتي السّهو” في مواضع متفرِّقة ومتباعدة.
وعليه؛ نقول: لو تركنا على عاتق كل مكلَّف أن يحفظ جميع هذه التّفريعات المتفرِّقة؛ فهذا من شأنه أن يجعل الكثير من المكلَّفين يقع في النّسيان، بينما لو استَخلصَت الرِّسالة للمكلَّف في نهاية مسائل كل باب أو كل موضوع فقهي قاعدة استنتاجيّة عامّة، أو جَمعَتْ له المسائل المشترِكة في حكم واحد، ثمَّ قدَّمَتْ له موجَزاً عن ذلك بعد ذكر التّفاصيل؛ لساهم هذا الأمر في تخفيف المعاناة والصّعوبة عليه، وتيسير المسائل من هذا النّوع، بحيث تقول له في نهايات التّفصيلات مثلاً:
إذن؛ سجدتا السّهو تَجِبان أو تُستحبّان في الموارد السّهويّة الفلانيّة.
وبالتّالي؛ ألا نكون بهذه الصّورة من التّدوين قد وفّينا بحاجة المكلَّف، واستَنتجنا له الموارد المتشابهة الّتي يَستعسر عليه جمْعها واستنباطها بنفسه؟ أليس هذا الغرض وهذه الغاية من الأغراض والغايات المهمّة الّتي تجعل من حقّنا أن نعتبر إهمال الرِّسالة لهذا السّلوك التّدويني من المشكلات الكبرى على المكلَّفين؟
نعم؛ هذه القضيّة تدخل ضمن مسألة “الأشباه والنّظائر” الآتي عليها الذِّكر.
المعضلة الثّامنة:-
ثمَّ إنّنا نلاحِظ في قِبال سعي الرَّسائل العمليّة لتدوين المسائل الفقهيّة بصورة متسلسلة من جهة ترابط المسائل ببعضها البعض، أنَّ هذا التّسلسل لا يتوفِّر طولاً وعرضاً فيها، حيث يَختل في بعض الأبواب، ممّا يوجِد حالة من عدم التّرتيب المتكامل في المسائل ذات الباب الواحد رغم وحدة بابها وموضوعها.
فمثلاً بينما تجد بعض الرَّسائل تَتحدَّث عن مسألة معيّنة، إذا بك تجدها قد انتقلت للحديث عن مسألة أخرى، لتعود بعد عدّة مسائل لتلك المسألة الأولى!
هذا هو مرادنا من عدم التّسلسل في خصوص الجهة المذكورة.
وبالتّالي؛ إذا لاحظنا هذه المشكلة وتَتبّعنا نتائجها؛ فسنجد أنَّ أبرز سلبيّاتها تَظهَر لدى مساهمتها في إرباك المكلَّف، وتشويش فهمه، وتشكيكه فيما ترمي إليه هذه المسألة، وجعْلِه يَتردَّد في أنَّ مرادها هل يَصب في موضوع تلك المسألة السّابقة عليها أم يختلف عنه؟!
هذا من جهة، ومن جهة أخرى ألا تَرى أنَّ المكلَّف عندما يريد أن يراجِع مسائل معيَّنة لجهةٍ من موضوع معيَّن، سوف يسبِّب له هذا الاختلال في التّسلسل والتّرتيب صعوبة في الحصول على تلك المسائل الّتي يريدها؟
ألا يوجِد له هذا الخلل فكرة مفادها: أنَّ مسائل هذه الجهة من الموضوع الّذي يريد معرفة مسائله، قد انتهت بمجرَّد دخول الرِّسالة في الحديث عن جهة أخرى من نفْس ذلك الموضوع، بحيث لا يدري أنَّ هنالك تكملة بعد عدَّة صفحات لمسائل الجهة الّتي يريدها؟
ألا يوجِد لديه هذا الخلل الواقع في التّسلسل كل تلك المشكلات والصّعوبات والإرباكات؟
بلا شك يوجِد له هذا الاختلال كل هذه العوائد والآثار السّلبيّة.
طبعاً هذه القضيّة أيضاً تختلف عمّا أشار إليه بعض العلماء الأعلام – ممّا سيأتي عليه الذِّكر- عند إشارته إلى إشكاليّات الرَّسائل العمليّة، والّتي عَدَّ في ضمنها وجود “مجموعة من الأحكام الّتي دُسَّت دسّاً في أبواب أجنبيّةعنها لأدنى مناسبة”[1]؛ ذلك لأنَّ كلامنا هنا إنّما يَتناول المسائل المتّحدة في موضوع واحد لِباب فقهي شامل لها جميعاً.
قد تَتساءل أيضاً فتقول: ما هي علّة وقوع هذه المشكلة في الرَّسائل العمليّة؟
الجواب:يمكن لنا أن نُرْجِع علّة وقوع ذلك إلى عدّة أسباب من أهمّها ما يلي:
1- حرْصُ الفقيه على اتّباع نفْس الطّريقة التّقليديّة القديمة في توزيع المسائل في الأبواب الفقهيّة.
2- عمل الفقيه في كثير من الأحيان على إثراء رسالته بمسائل أخرى جديدة، فهذه المسائل الّتي يضيفها إلى رسالته كثيراً ما لا تكون موجودة في رسالة مَن سبقه أو مَن عاصَره من الفقهاء، وإن اعتمد هو شخصيّاً في تدوين رسالته على رسالة فقيه آخر، وجَعَلَ منها مصبَّاً للتّعليق عليها، ومن ثمَّ كتابة رسالته الشّخصيّة لمقلِّدِيه بصورة مستقلّة لا على نهج التّعليق.
وليَتّضح لك هذا السّبب المهم بشكل جيّد عليك أن تَعرف أوَّلاً على ماذا يَعتمد الفقيه في كتابته لرسالته، وما هو برنامجه في ذلك؛ لذا نقول:
اعلمْ بأنَّ المجتهِد عندما يَبلغ درجة يجوز فيها تقليده، فيَطلب منه النّاس كتابة فتاواه لهم ليعملوا على طبقها ويستفيدوا من التّشريعات الإلهيّة في حياتهم ومختلَف شؤونهم، يقوم هذا المجتهد -نزولاً عند رغبة الجماهير المؤمنة بعلمه وورعه وتقواه وعدالته واقتداره- بكتابة فتاواه الّتي يَرى أنّها هي الموصلة لما يريده الله تعالى من تشريعات وأحكام في الشّريعة الإسلاميّة، لكنّه عندما يَعمل على كتابة ذلك لا يأتي مباشرة ليَكتب رسالته بصورة ابتدائيّة كيفما اتَّفَق، وإنّما يَعمل أوَّلاً على اختيار رسالة عمليَّة لفقيه آخر، بحيث تكون تلك الرِّسالة الّتي اختارها هي أضبط رسالة في نظره، وفتاوى صاحبها أقرب إلى فتاواه واجتهاداته، أو لكون ذلك الفقيه قد تَوفَّى وله كثير من المقلِّدين ممّن يريد أن يَنتقل في تقليده لهذا المجتهد الحي؛ كي يتم تسهيل مراجعتهم للمسائل في الرّسالة الجديدة لمرجعهم الجديد؛ ذلك نظراً لاعتيادهم على ترتيب المسائل في رسالة مرجعهم الرّاحل.
ثمَّ بعد أن يَختار هذا المجتهد تلك الرِّسالة من بين الرَّسائل الموجودة وفق الأسباب الّتي ذكرناها أو ما شاكل، يَعمل بعد ذلك على كتابة تعليقه عليها، بصورة يَكتب فيها فتواه إلى جانب كل فتوى يَختلف فيها مع فتوى رسالة ذلك الفقيه الآخر، بحيث يَبدأ معها بتسلسل من أوّل صفحة إلى آخر صفحة؛ هذا ما يسمَّى بين العلماء بـ “التَّعليقة”.
وعليه؛ من الطّبيعي أثناء التّعليق على رسالة الغير أن يَجد هذا المجتهد بعض المسائل الّتي يرى ضرورة إضافتها، وبيان أحكامها الإلهيّة ليستفيد منها المسلم الّذي يريد تقليده؛ لذا فإنّه بعد تعليقه على رسالة ذلك الفقيه، يقوم بكتابة فتاواه مرّة أخرى في رسالة مستقلَّة بنفس تسلسل تلك الرِّسالة الّتي اتّبع طريقتها وعَلَّق عليها، وفي نفس الوقت فإنّه في هذا الكتاب المستقل والمدوَّن من جديد والحاوي لفتاواه هو فقط، يَقوم بالعمل على إضافة ما يرى ضرورة إضافته من المسائل الغير موجودة في تلك الرِّسالة الّتي عَلَّق عليها واعتَمد منهجها ومشَى على تَسلسُل مسائلها، تماماً كما نجد مثلاً في كِتاب “منهاج الصّالحين” للمرجع السّيّد الخوئي -رحمه الله- الّذي هو نسخة مشابهة لرسالة المرجع السّيد محسن الحكيم –رحمه الله- من جهة التّنظيم والتّرتيب مع بعض الإضافات والتّغييرات، حيث اعتَمَد السّيّد الخوئي –قُدِّس سرّه- رسالة المرحوم السّيّد الحكيم في التّعليق وكتابة رسالته الشّخصيّة لمقلِّدِيه.
وكذا كما نجد مثلاً في كتاب “هداية العباد” للمرجع السّيّد الگلپايگاني-رحمه الله- الّذي هو نُسْخة مشابهة لرسالة المرجع السّيّد أبو الحسن الأصفهاني -رحمه الله- من جهة التّنظيم والتّرتيب، حيث اعتَمَد السّيّد الگلپايگاني–قُدِّس سرّه- رسالة “وسيلة النّجاة” للمرحوم السّيّد الأصفهاني في التّعليق وكتابة رسالته الشّخصيّة لمقلِّدِيه.
ومِثله أيضاً السّيّد الإمام الخميني –رحمه الله- الّذي كَتب تعليقته في رسالته “تحرير الوسيلة” على رسالة “وسيلة النّجاة” للسّيد الأصفهاني –قُدِّس سرّه-، وغيرهما الكثير من العلماء ممّن علّقوا على الرِّسالة العمليّة للسّيّد الأصفهاني.
وكذا كما نجد مثلاً في كتاب “منهاج الصّالحِين” للمرجع السّيّد السّيستاني -حفظه الله- الّذي هو نُسْخة مشابهة لرسالة المرجع السّيّد الحكيم -رحمه الله- من جهة التّنظيم والتّرتيب، حيث اعتَمَد السّيّد السّيستاني –أطال الله بقاءَه- رسالـــتَي المرحومَين السّيّد الحكيم والسّيد الخوئي في التّعليق وكتابة رسالته الشّخصيّة لمقلِّدِيه، ومِثله أيضاً كتاب“منهاج الصّالحِين” للمرجع السّيّد الرّوحاني رحمه الله.
إذا اتَّضحت لك هذه الطّريقة المتَّبَعة لدى الفقهاء عند تدوينهم لرسائلهم العمليّة في بداية الأمر بعد طلب النّاس منهم كتابة فتاواهم، نقول:
لاحظ ما قلناه من أنَّ الفقيه بعد كتابة “تعليقته” على رسالة فقيه آخر، ومن ثمَّ تدوين رسالته بصورة مستقلَّة وفق ذلك التّسلسل، وفي أثناء مرحلة تدوين فتاواه في كتاب مستقل يَعمل على إضافة مسائل أخرى ممّا يَرى ضرورة إضافته، بسبب حاجة المقلِّدين المعاصرِين لها وعدم وجود هذه المسائل في رسالة ذلك الفقيه الآخر؛ لذا نقول:
إنَّ ما نريد أن نبرزه من أسباب وقوع الخلل في تسلسل المسائل في الرِّسالة في بعض الأحيان والمواضع هو: هذه الإضافات الّتي تقع في الرِّسالة الجديدة للمجتهد الّذي يريد النّاس تقليده، بحيث يَتم في بعض الحالات إضافة بعض المسائل في مواقع غير مناسبة، وفي مواضع تساهم في اختلال التّرتيب والتّنظيم، مع أنَّ الرّسالة الّتي تمَّ اتّباع تسلسل مسائلها قد لا يكون فيها خلل من هذه جهة، فالخلل يقع في بعض الأحيان بسبب الإضافات الغير مراعية للتّرتيب الدّقيق والمطلوب.
3- أنَّ هذه المعضلة تَحْصل أحياناً بفعل الاختصار للرِّسالة العمليّة من قِبَل رِجالات حاشية الفقيه مثلاً؛ إذ قد يَتحقَّق هذا الخلل في بعض المسائل دون أن نجد له وقوع في مصدره الأصل الّذي تـمَّ اختصاره، أو تـمَّ تبسيطه مع الاختصار، فالرِّسالة قد يَـتم اختصارها وتبسيطها أحياناً من قِبل البعض، فمثلاً “منهاج الصّالحين” للمرجع الدِّيني السّيّد السّيستاني – حفظه الله- هو الرِّسالة الأصل لفتاواه، وهذه الرِّسالة الأصل يوجَد لها كتاب مختصَر ومبسَّط يسمَّى “المسائل المنتخَبة”، فكتاب “المسائل المنتخَبة” من أين انتُخِبَتْ مسائله؟ ولماذا سمِّيَتْ مسائله بالمنتخَبة؟
الجواب:انتُخِبَتْ من “منهاج الصّالحين” الّذي هو الرِّسالة الأصل، لذا سمِّيَتْ مسائل كتاب “المسائل المنتخَبة” بالمنتخَبة.
ومنه نقول: أحياناً عندما تمارَس عمليّة الاختصار والتّبسيط للرِّسالة الأصل، يقع خلل في تسلسل المسائل وتنظيمها، خصوصاً فيما إذا أُضيفَ للكتاب المختصَر مسائل أخرى أيضاً لا توجَد في الرِّسالة الأصل، فالرّسالة الأصل قد لا يكون فيها خلل من جهة تنظيم مسائلها وتسلسلها، لكن بسبب كتابة تلك المسائل من جديد في كتاب مستقل مختصَر ومبسَّط، وبسبب حذْف بعض المسائل الموجودة في المصدر الأصل، يحصل خلل من هذه الجهة.
هذه بعض الأسباب المهمّة الّتي تساهم في وقوع هذه المشكلة المهمّة والمؤثِّرة في الرَّسائل العمليّة.
نكتفي بهذا القدر، على أمل اللقاء بكم في حلقة قادمة، والحمد لله ربِّ العالمين، والصّلاة والسّلام على خير البريّة، محمّدٍ وآله الطّيّبِين الطّاهرين.
[1] يَقصد أنَّ هنالك مجموعة من الأحكام الفقهيّة تمَّ وضعها في الرَّسائل العمليَّة في أماكن وأبواب غير مناسبة ولا ربط لها بموضوعها.
للتعلیق أو مطالَعة التعلیقات اضغط هنا