بسم الله الرّحمن الرّحيم
مَدْخَل مهم لدراسة الفقه “تتمّة القِسم الأوَّل”
الأمر الثّاني:
أهم معضلات كتب الفقه الإسلاميّة الفتوائيّة:-
إلهي! لَقَدْ سُئِلتَ فأَعطيتَ، ولَم تُسأل فاْبتَدأتَ، واْسْتُميحَ بابُ فضلِكَ فَما أَكْدَيْتَ، فامنُنْ علينا بالصَّلاحِ الأبدي، والفلاحِ السَّرمدي، وأَدِمْ الصَّلاة على النّبيِّ الهاشميِّ الأَبطَحي، وعلى الميامِين من آله الطّاهرِين، وصحبه الأخيار المنتجَبِين.
وبعد..
نريد هنا أن نَتناول المعضلة السّابقة لكن لا من جهتها الّتي بيّنّاها، وإنّما من جهة أخرى تَرتبط بـ“حَجم” المسائل المقدَّمة للمكلَّف في مختلَف أبواب الرَّسائل العمليّة، بغضِّ النّظر عمّا يَختص بالمكلَّف “المغترِب” الّذي يعيش خارج بلاده، أو يعيش في بلاد غير إسلاميّة، ممّا أشرنا له في الوقفة السّالفة، بل وأيضاً بغضِّ النّظر عن الاختلاف الحاصل بين “العادات والتّقاليد” في المجتمعات والأعراف المختلِفة ممّا بَحثناه في المعضلة ما قبْل السّابقة.
المعضلة السّادسة:-
إذن؛ الكلام في الحلقة الماضية كان يَتحدَّث عن الجهة “الكيفيّة والمضمونيّة” للمسائل الفقهيّة في الرِّسالة العمليَّة، وكذا عن الجهة “الكمّيّة والـمِقدارِيّة” للمسائل المقدَّمة لخصوص “المغتربِين”، بينما الكلام هنا يَتناول معضلة من نوع آخر تَرتبط بالجهة “الكمّيّة والـمِقدارِيّة” للمسائل الفقهيّة في الرِّسالة بالنّسبة لـ“كافّة المكلَّفِين”، سواء كان المكلَّف منهم مغترِباً أم غير مغترِب؛ لذا نقول:
عندما نطالع الرَّسائل العمليّة؛ فإنّنا نجد فيها الكثير من النّقص بالنِّسبة لمسائل أبوابها المختلِفة، فهذا النَّقص وإن كان في بعض ملامحه وجِهاته طبيعيّاً؛ ذلك نظراً لكثرة شؤون الإنسان وتجدّدها، وسعة الحياة وتزايد مسائلها، وسعة الفقه المسؤول عن تقديم الأنظمة والتّشريعات، وتشعّبه، وكثْرة تفريعاته.
فهذا النَّقص في المسائل المقدَّمة وإن كان طبيعيّاً –كما قلنا- إلا أنَّه في الكثير من جهاته يُعتبَر نقصاً غير مبرَّر، خصوصاً وأنّه أصبح يسبِّب للمكلَّف الكثير من المتاعب والعوائد السّلبيّة الخطرة.
طبعاً الأمر هنا لا يَقتصر على نوعيَّة خاصَّة من المكلَّفِين، وإنّما يَتعدَّى ذلك إلى المبلِّغِين الدَّارسِين من طلبة العلم أيضاً، حيث يُسبِّب لهم حرجاً كبيراً على المستوى التّبليغي، المتّصل بوظيفتهم تجاه تعليمهم للنّاس، وتفقيهِهم لهم، والإجابة على أسئلتهم الفقهيّة وفق ما يَراه المجتهد المقلَّد لدى السّائل منهم، خصوصاً وأنَّ العديد
من تلك المسائل المفقودة تُعتبَر محل ابتلاء كبير لدى الكثير من المكلَّفِين، وممّا يقع فيه السّؤال كثيراً.
ثمَّ إنَّ ما في الرَّسائل من نقص ليس فقط لِـمَا قيل من أنَّ السّبب في وقوعه هو: “عدم وجود مجال في الرِّسالة لتلك المسائل؛ ذلك بفعل التّقسيم المتَّبَع في الكتب الفتوائيّة، حيث لم يَتم فتْح أقسام واسعة تَتمكّن من استيعاب جميع المسائل المطلوبة”.
فهذا السّبب الّذي تَفضَّل به بعض العلماء الأعلام كالسّيّد الشّهيد محمّد باقر الصّدر –رحمه الله- فيما سنذكره عنه من جهات قدَّمها في سبيل التّطوير، وحاوَل أن يعالجها عمليّاً في رسالته الفتوائيّة “الفتاوى الواضحة”، فهذا السّبب ليس هو العامل الوحيد الّذي ساهم في وقوع هذا النّقص الكبير في الرَّسائل العمليّة، وإنّما القضيّة أوسع من ذلك، مضافاً لما ذَكره رحمه الله وأعلى شأنه وتغمّده بواسع كرامته؛ إذ أنَّ النّقص الّذي نشير إليه هنا بالنّسبة لتلك المسائل المفقودة، والفروع المهْمَلة الكثيرة، المهمّة والابتلائيّة، يعود في بعض جوانبه إلى ما هو أبعد ممّا ذُكِر؛ ذلك لأنَّ النّقص المشار إليه واقعٌ حتَّى في ظل وجود أبواب فقهيّة مفتوحة لتلك المسائل المفقودة ضمن التّقسيم المتَّبَع.
أي: أنَّ الأبواب الفقهيّة المفتوحة في الرَّسائل العمليّة، قادرة على أن تَستوعِب الكثير من المسائل النّاقصة، ومع ذلك لا نجد الرِّسالة قد سلَّطت الضّوء على تلك المسائل.
وبتوضيح أكثر، نَتساءل أوَّلاً: لماذا الرَّسائل لم تسلِّط الضّوء على الكثير من المسائل الفقهيّة رغم أنَّ عدداً كبيراً منها محل ابتلاء للمكلَّف؟ فهل السَّبب في ذلك هو عدم وجود مجال مخصَّص لها في أقسام الرِّسالة العمليّة، أم أنَّه يوجد لها مجال في تلك الأقسام، لكن مع ذلك وَقع النَّقص وتمَّ إهمالها؟
فمثلاً بمصداق تَقريبي: لو قلنا أنَّ المسائل المفقودة تَختص بقضايا “البنوك” أو بمسائل “الصّلاة” أو بمسائل “الزّواج”، وكانت الرِّسالة العمليَّة –فَرَضاً- لا تحتوي على أبواب مخصَّصة لهذه الأنّواع المختلِفة من المسائل، بحيث لا يوجَد فيها –حسب الفرض- لا باب لمسائل البنوك، ولا باب لمسائل الصّلاة، ولا باب لمسائل الزّواج، فالسّؤال:
هل أنَّ النّقص الموجود في الرَّسائل وَقع بسبب عدم وجود أبواب مخصَّصة فيها لهذه المسائل، ممّا ساهَم في عدم التّعرّض لها، وعدم ذكرها، وعدم بيان أحكامها، نظراً لعدم وجود مجال مخصَّص لها؟
أم أنَّ هناك أبواب مفتوحة في الرِّسالة لهذه المسائل بعنوان “باب البنوك” مثلاً، و“باب الصّلاة”، و“باب النّكاح”، لكن مع ذلك وقع النَّقص في مسائل هذه الأبواب؟
الجواب: كِلا الأمرين واقعٌ، وكل منهما يشكِّل سبباً مستقلاً في حصول النّقص المشار إليه، لا أنَّ عدم وجود أبواب فقهيّه لمسائل معيّنة هو السّبب فحسب؛ وبالتّالي لا مفرَّ من الإقرار بالحاجة الماسّة إلى ملء هذا الفراغ المعْضِل من كلتا الجهتين.
ثمَّ إنّه من الجهة الّتي تَنعدم فيها بعض الأبواب الفقهيّة بشكل كامل من الرِّسالة العمليّة، نَتساءل:
لماذا لا تَتحدَّث الرِّسالة العمليَّة عن مسائل “السِّحر” و”الشّعوذة” مثلاً؟!
لماذا لا تقدِّم للنّاس صوَراً من الإيمان الحديدي بالله، ورَوادِع تُبْعدهم عن الاعتقاد بخرافات هذا الدّاء المستشري والمنتشر بصورة رهيبة في المجتمع، المستحوِذ على أبنائه، المبدِّد لثرواتهم، المستهلِك لسلامتهم وإيمانهم، القاضي على كيانهم، المدمِّر لـمُقَدَّراتِـهم؛ بفعل ما تقوم به الأوهام فيهم، وبفعل ما يوجِده ضعف الفهم، وقلّة اليقين في عقولهم وقلوبهم المتوجّهة للاستغلاليِّين والمشعوذِين والـمَرَدَة؟!
فلو أنَّ هذا الفراغ مُلِـئَ، وانتَشرتْ مسائله الشّرعيّة، وتَمَّ تبيين حقائقها في الكتب الفتوائيّة، هل كان من الممكن لهذا الدّاء الفتّاك أن يَنتشر في الأمّة بين أبنائنا بهذه الصّورة الرّهيبة؟! كَلا، بلا شك، فبَيان هذه الأمور دِينيّاً من شأنه أن يَقضي على ذلك بدرجة عظيمة.
بل والأهم من ذلك أين باب “الجهاد”؟!
أليس الجهاد فرعاً من فروع الدِّين العشرة الكبرى؟ أليست فروع الدِّين العشرة هي: الصّومُ والصّلاة، والحجُّ والزّكاة، والخمسُ والجهاد، والأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكَر، والولاية، والبراءة؟ أليست هذه هي الفروع العشرة الكبرى المشتهرة بين الفقهاء؟
أليس الجهاد من ضمنها؟ إذن ألا يحق لنا أن نَتساءل لماذا لا صلة للرِّسالة العمليّة به لا من قريب ولا من بعيد؟! فهذا الإقصاء الكبير لمثل هذا الفرع هو الّذي ساهم في ظهور تداعيات كبيرة، وانتشار الإرهاب والقتل والخنوع والذّل والهوان، وبروز تراكمات عويصة على السّاحة الإسلاميّة وخارجها، بعْد أن أصبح الفقيه لا يَلتزِم بتقديم نظريّته الشّرعيّة في مسائل هذا الباب، ولا يخصِّص في كتاب فتاواه مجالاً يبيِّن من خلاله رؤية الإسلام الحقيقيّة تجاه القضايا والمسائل الجهاديّة؛ فإن كانت بعض جهات هذه المسائل الجهاديّة تَتّصل بالبحث العقائدي والكلامي، فإنَّ هذا لا يَمنع من تقديم القواعد العامّة والمسائل الخاصّة ممّا له شأن بالإفتاء والفقه والعبادة والمعامَلة.
وكذا أيضاً من الجهة الّتي تَنعدم فيها بعض الأبواب الفقهيّة بشكل كامل من الرِّسالة العمليّة، كباب “الأحكام الجزائيَّة” مثلاً، نَتساءل:
هل وَضع لنا الكتاب الفتوائي قِسماً يَتناول ذلك؟
فعلى سبيل المثال هل تمَّ تقديم الأحكام اللازمة “للسَّجين أو المعتقَل”؟
هل حكا الكتاب الفتوائي ولو بصورة عابرة مع هذا النّوع من المكلَّفِين؟ أم ما عاد هذا من عَبيد الله مكلَّفاً عليه ما على غيره من الأحكام، وبحاجة للاستفادة من التّشريعات الإلهيَّة؟! أم يُنتظَر منه أن يَسأل بعد وقوعِه في هذا الظّرف، رغم ما في ظرف “السّجن” من عوائق ومصاعب كثيرة تَمنع -أحياناً أو غالباً- من القدرة على تقديم المسألة والاستعلام عنها؟!
هذا مضافاً إلى أنَّ تعلُّم المكلَّف للمسائل الإلزاميّة الّتي هي في مَعْرَض ابتلائه يجب أن يَسبق وقوعه فيها كما هو واضح، لا أن يقع في الابتلاء بها ثمَّ يتعلَّمها.
يعني: لو كانت وظيفتي مثلاً التّجارة، وأنا أعلم بأنِّي عندما أقوم بممارسة هذه المهنة سأبتلي بمسائل “الرِّبا” مثلاً، وسأَتعرَّض لمسائل “عقود البيع والشّراء”، فهذه كلّها أمور سأقع فيها؛ لأنَّ التّجارة متقوّمة ببعضها ومحفوفة ببعضها الآخر بشكل طبيعي، فالشّرع يقول لي:
يا فلان! أيّها المكلَّف الّذي يريد أن يتاجِر! عليك أن تَتعلَّم هذه المسائل قبل أن تقع فيها ما دمت تَعلم بأنّك ستَتعرّض للوقوع فيها، لا أن تقع فيها ثمَّ تذهب للسّؤال عنها، فالسّؤال عنها بعد الوقوع فيها قد يكون بعد فوات الأوان، وبعد الوقوع في الحرام وما هو ممنوع؛ نعم لو لم تَتعلّمها ثمَّ وقعتَ فيها فيجب عليك تعلّمها أيضاً؛ كي تتخلَّص من نتائجها السّلبيّة وتَمتثل التّكليف الإلهي وتصحِّح الخطأ، أو من أجل الحالات المستقبليّة المشابهة الّتي قد تواجهك؛ كي لا تكرِّر الخطأ والحرام والممنوع.
وكذا الأمر في الصّلاة مثلاً، حيث يجب تَعلّم مسائلها قبل الدّخول فيها؛ لأنّه كيف يمكن لك تَأديتها وأنت لا تعرف كيفيّتها وأحكامها؟!
وكذا الزّواج مثلاً، حيث يجب تَعلّم مسائله قبل الدّخول فيه؛ لأنّه كيف تعْقد على امرأة وأنت لا تعرف مسائل العقد وكيفيّة العقد؟ وبالتّالي كيف تحل لك وتحل لها، وكيف تقترب منها وتقترب منك، وكيف تَكون أولادكم أولاداً شرعيّة؟ بل كيف يقوم كل منكما بتأدية حقوق الآخر وهو لا يعرفها؟! ففاقد الشّيء لا يعطيه، والجاهل بالتّجارة لا يكون تاجراً، والجاهل بالصّلاة لا يكون مصلِّياً، والجاهل بالزّواج لا يكون متزوِّجاً.
كذا الأمر تماماً بالنّسبة “للسّجين والمعتقَل”، فهما كغيرهما يَحتاجان لـتَعَلُّم المسائل الخاصّة بهما –ممّا هو في مَعْرَض الابتلاء- قبل الوقوع فيها.
نعم؛ قد يَعترِض معتَرِضٌ فيقول: إنَّ هذه الحالة الخاصّة –السّجن- يمكن تبرير عدم تعلّم مسائلها قبل الابتلاء بها، بأنّها كثيراً ما تقع على نحو المفاجأة؛ أي أنَّ الكثير من السّجناء أو المعتقَلِين لا يَعلم بأنّه سيُسجَن، وبالتّالي هو لا يَعلم بأنّه سيُبتلَى بمسائل السَّجين، وبهذا لا يكون مطالباً بتعلّم مسائل السّجن قبل الوقوع فيها؛ وعليه يمكن لنا بهذا التّبرير التّخلّص من هذه المسائل، والقول بأنَّ المكلّف ليس بحاجة لأن نكتبها له في الرِّسالة العمليّة، بل يكفيه بعد الوقوع فيها أن يَسأل أهل العلم عنها، وبذلك يكون معذوراً أمام الله تعالى.
قد يَعترِض معتَرِضٌ بهذا الاعتراض من جهة وجوب تعلّم المكلَّف للمسائل الّتي هي في مَعْرَض ابتلائه قبل وقوعه في الابتلاء بها، وجوابه:
صحيح أنَّ السّجين كثيراً ما لا يكون له علم بأنّه سيُسجَن، وأنَّ السَّجن كثيراً ما يقع فجأة، بحيث لا يَتمكَّن المطلوب للسّجن من أن يَتعلّم المسائل الّتي سيُبتلَى بها في ظرف السّجن، لكن هذا لا يعني أن ننفي حاجة السُّجناء لمسائل السّجن ونلغي أهمّيّة توفّر تلك المسائل في الرَّسائل العمليّة، فالسّجين وإن فوجئ بالسّجن إلا أنّه يَبقَى مكلّفاً كغيره، وبحاجة للاستفادة من الأحكام الإلهيّة، هذا ناهيك عن أنَّ هنالك بالفعل من هو واقع تحت ظرف الابتلاء بتلك المسائل، إذ ما أكثر السُّجناء في عصرنا وفي مختلَف الأعصار، بحيث يصعب الوصول إليهم والنّظر في احتياجاتهم.
بل قضيّة استعراض مسائل السَّجين في الرَّسائل لا تَقتصر على السُّجناء فحسب، وإنّما لها صلة بكافّة المكلَّفين؛ لأنَّ المطلوب هو إيجاد حالة عامّة من الثّقافة والمعرفة بآراء الفقيه المقلَّد تجاه ذلك، سواء بالنّسبة للمبلِّغ أو غيره؛ حتَّى يَتمكَّن الفرد المسلم من ترويج الدِّين، وتعليم من هو بحاجة لمعرفة تلك المسائل عند القدرة على الوصول إليه، أو عند الوقوع في ظرفه لا قَدَّر الله تعالى، أو العمل بتلك الأحكام فيما لو كان هو المسؤول عن شؤون تطبيق الأحكام تجاه هذا النّوع من المكلَّفين.
طبعاً نحن لا نقول بأنَّ الرَّسائل لم تَتعرَّض لأحكام السَّجين مطلقاً، كلا، ولكن ما نقوله هو أنَّ الرَّسائل أهملت هذا النّوع من المكلَّفين إهمالاً شبه تام، ولم تَقم بتسليط الضّوء على المسائل الخاصّة به بالصّورة المطلوبة، فأنتم عندما تفتحون الرَّسائل –أي رسالةٍ كانت- هل تجدون فيها باباً أو مجرَّد عنوان عابر مخصَّص لهذا النّوع من المسائل؟
كَلا، لا يوجد بتاتاً، ولا حتَّى مجرَّد عنوان عابر، مع أنَّ أحكام السَّجين ليست مسائل محدودة بالصّلاة والصّوم من جهة كيف يَعرِف وقتهما، إذا كان مغيَّباً في سجنٍ بعيد، ولم يكن يَرى الضّوء، ولا يَستطيع أن يَسمع الأذان، كما أنَّ مسائله ليست محدودة أيضاً بكيفيّة تحديد القِبلة، عندما يكون مغيَّباً في مكان لا يَتمكَّن فيه من رؤية الخارج، ولا يستطيع أن يحدِّد فيه الجهات وما شاكل؛ فالرِّسالة العمليّة اهتمّت بهذه القضايا النّادرة فقط، وفي موارد متفرِّقة، وعملت على فتح المجال لها في صفحاتها دون غيرها ممّا هو مهم ومن الابتلائيّات الأكيدة والضّروريّة لدى السُّجناء.
ثمَّ إنَّنا على مستوى الأحكام “الجزائيّة” ونذرتها أو انعدامها في الرَّسائل نَتساءل أيضاً: لماذا نَنتظر من الجاني أن يقوم بالجريمة، ومن السّارق -مثلاً- أن يَسرق، ثمَّ نقول له حكمك كذا؟!
لماذا لا نقول له بدءً حكم السّارق كذا، وحكم من يَقطع إصبعاً كذا، وحكم من يَضرب أخاه أو جاره أو زوجته بلا حق كذا، أو حكم من يَسب عالماً أو شخصاً ما كذا؟
لماذا لا نقول للمكلَّفِين أحكام “الجنايات” بصورة استباقيّة قبل أن يَقعوا في الجنايّة ويَتم تطبيق الأحكام فيهم؟ لماذا لا نوضّح لهم ذلك بدءً؟ دون أن نَحصر هذه الأحكام بباب “القضاء” الّذي غُيِّب تماماً عن الرِّسالة العمليّة، واختصَّ بكُتب الفقهاء وبحوثهم المعمَّقة، وكأنَّه لا صلة للمكلَّف بمسائل هذا الباب إلا حينما يَطرِق أبواب الـمَحاكم، أو تَطرِق الجهات القضائيّة باب بيته لجنايةٍ ما!
فلماذا لا نقدِّم ذلك للمكلّف استباقاً في حين أنّه هو الأحوج لمعرفتها في ظلِّ الاستهتار، والـجُرأةِ الّتي نعاينها اليوم تجاه حقوق النّاس وأعراضهم بل وحق النَّفْس أيضاً، فضلاً عن انشغال الكتب الفتوائيّة بحكم اللائط بغلام –وبأحكام بعض القضايا القليلة المتفرِّقة- فحسب، وبيانها لاقتضاء اللواط بالغلام –مثلاً- نتائج تشريعيّة من قَبيل: حُرمة “أُم” و”أخت” الـمَلوط به على اللائط وفق الشّرائط، بحيث يَحرم عليه الزّواج بهذه النّساء.
فالرّسالة تهتم ببيان هذه النّتائج التّشريعيّة تجاه اللائط، وتبيِّن للمكلَّفين حكم زواج اللائط بأخت وأم الغلام الّذي فعل به هذه القذارة الشّنيعة، بينما تُهمِل التّعرّض للأحكام الجزائيّة، كما تُغيِّب باب القضاء بشكلٍ كامل!
هذا وهناك سؤالٌ آخر مهم يَطرح نفسه، وهو: هل كان على الكتب الفقهيَّة الاستدلاليّة أن تَتكلَّم في مسائل ومَباحِث “الغِيبة”، وتخوض في دقائقها الأخلاقيّة، لتصل في نهاية المطاف -وتحديداً حين تدوين الرِّسالة العمليّة- إلى تَرك ذلك لكُتب الأخلاق، بحيث يُغيَّب عن الرَّسائل الفتوائيّة تغييباً كاملاً، أو شبه كامل مع الاكتفاء بذكرٍ عابر لها في صفحات رسالة مَن ذكرها من العلماء رفع الله درجاتهم؟!
فأنتم عندما تطالعون الرّسالة العمليّة –أي رسالةٍ كانت- من أولها إلى آخرها، هل تجدون فيها مَبحثاً مخصّصاً للحديث عن موضوع “الغِيبة” بصورة متكاملة؟ كلا، لا يوجد أي شيء من هذا القَبيل، بينما في الكتب الفقهيّة الاستدلاليّة نجد أنَّ مسألة “الغِيبة” تُعتبَر من المواضيع المهمّة الّتي يَهتم بها الفقهاء هناك، بحيث يَطْول فيها البحث والتّحقيق منهم أعلى الله مقاماتهم، ثمَّ عند المجيء لتدوين الرِّسالة العمليّة نجد أنَّ الفقيه لا يَتعرَّض بشيء لهذه المسألة، أو يَتعرَّض لها بقوله فقط: الغِيبة من المحرَّمات! مع أنَّ مسألة “الغِيبة” من المسائل المهمّة والمتشعِّبة جدّاً.
ثمَّ هل أنَّ غير موضوع “الغِيبة” من القِيَم التّربويّة والأخلاقيّة الأخرى –كالحسد والكذب و…- لا صلة له بالأحكام والفقه؟ أم لأنَّ الظّرف فتَحَ المجال لموضوع “الغِيبة” في الرّوايات، وضَعُفَ عن المجيء بحظٍّ لتلك الأمور لتَحصل هي الأُخرى على الاهتمام الاستدلالي والرّعاية الفقهيّة؟! أم ليست مسألة “الغِيبة” ولا المسائل الأخلاقيّة الأخرى على صلة بالفقه أساساً؟
إن كان كذلك فلماذا لا يَتم تجنّب التّطرّق لـ”الغِيبة” في البحث الاستدلالي أيضاً، وإلا فلا معنى لأن نَبحث في “الغِيبة” هناك في الفقه الاستدلالي وندَعها هنا في الرِّسالة الموجَّهة للمكلَّفِين.
بل حتَّى على مستوى “المغترِب” لماذا لا نجد الفتاوى الموجّهة له لا تتضمَّن الأحكام من نوع “الآداب والسُّنَن” المختصّة به؟! إذ يَتم الاقتصار على ملاحَظة الأمور “الإلزاميّة” من واجبات ومحرَّمات فقط! مع أنّنا نَعلم بأنَّ “المغترِب” له في غربته “آداب شرعيّة وسُنَن إلهيّة من مكروهات ومستحبّات” تَختص بظرفه، ومع ذلك لا نرى الرِّسالة العمليَّة تسلِّط الضّوء على هذا النّوع من الأحكام الفقهيّة!
هذا ناهيك عن الكثير من مسائل “الـمَكاسب المحرَّمة” الّتي يبحثها الفقهاء -رَفع الله شأنهم- في كتبهم الاستدلاليّة، وبالتّالي هل أنَّ تلك المسائل تُبْحَث هناك من أجل المكلَّفين وتعليمهم، أم من أجل الفقهاء أنفسهم؟!
حقيقةً لماذا لا نقدِّم الفقه للعباد بصورته الشّاملة لجميع قضايا الحياة كما جاء وكما هو عليه وكما نزعم دوماً في ممهِّدات علم الأصول وبالطّريقة الملائمة؟
هذا، وممّا تجدر الإشارة إليه، هو أنّه عندما قلنا بأنّ فقدان الكثير من المسائل يوقِع المكلَّف وطلاب العلم من المبلِّغين في الحرج، عند بحثهم عن تلك الفتاوى الّتي لم تلقَ حظّاً في كتاب الفقيه الفتوائي -رغم وجود فتوى ورأي فقهي لدى هذا الفقيه تجاه تلك المسائل وفق أحسن التّقادير-؛ فنحن قلنا ذلك لأنَّ هذا الأمر كثيراً ما يَضطر المكلَّف للقيام بإهمال الـحُكم الإلهي، أو يدفعه للعمل بـ“الاحتياط” مثلاً، أو الجواب على السّائل وفق ذلك، في حين أنّ العمل بـ”الاحتياط” كما هو معلوم أمرٌ شاق ومتعب، بل وليس الكل بارعاً فيه، أو على أُهبةٍ وتعبئةٍ عالية للقيام بما يَقتضيه من مَشاق، خصوصاً فيما إذا استَلزم التّكرار في مسألةٍ ما، كما أنّه في بعض حالاته يكون عسيراً بدرجة يَمتنع فيها العمل دون الرّجوع للدَّليل الشّرعي والطّريق الاجتهادي، فضلاً عن أنَّ بعض أشكال “الاحتياط” ممنوعة شرعاً، وبعضها على كراهة، فليس كلُّ احتياطٍ محموداً، فالاحتياط الّذي فيه مشقَّة زائدة وحَرَج كبير على المكلَّف يُعتبَر احتياطاً مذموماً، لا يريده الشّرع بتاتاً، خلافاً لما يَتوهَّم البعض من أنَّ جميع أشكال الاحتياط محمودة وغير مذمومة في نظر الدِّين الإسلامي.
نعم؛ قد يقال كما في الحلقة السّابقة: إنَّ وسائل الاتصال والسّؤال عن الـحُكم المراد معرفته متوفرةٌ اليوم بما
يَرفع هذه المشكلة، ويَمنع العُذر.
وجوابه: ما هي تلك الوسائل المقصودة؟ طبعاً نريد هنا أن نُمثِّل بوسائل وعوائق أخرى غير الّتي تحدّثنا عنها في الوقفة السّالفة؛ لذا نقول: هل المقصود بتلك الوسائل “الإنترنت” مثلاً؟ إن كان كذلك فليس الكل يجيد استخدام هذه الوسيلة.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى ليس الكل يَثق بالإنترنت ويَطمئن إليه في تحصيل المسائل الفتوائيّة، وإن قَبِله البعض وفق سعة اطّلاعه على هذا المجال، ومعرفته لما هو موثوق فيه ويمكن الاعتماد عليه ممّا ليس بموثوقٍ به ولا يمكن الاعتماد عليه.
فأنتم مثلاً تقرؤون هذه “الحلقات” من الإنترنت، لكن الكثير من النّاس قد يَتخوَّف من وقوع تزوير فيها من قِبَل الآخرين؛ لأنَّ الإنترنت مليء بالاختراقات والتّصرّفات البليدة المنحرفة، إلا أنَّه بسبب متابعة الإخوة القائمين على نشر هذه الحلقات المتواضعة، ومراقبتهم المستمرَّة لها، واعتمادهم للمواقع المأمونة، كي لا يقع أي تصرّف خارجي فيها، كل هذا يَجعلكم تثقون بما فيها، بحيث تَتبدَّد مخاوفكم تجاه ذلك، ويَرتفع أي شكل من أشكال الشّك تجاه صحَّتها، فاطمئنانكم هذا ناتج عن معرفتكم بهذه الأمور، بينما الّذي لا يعرف هذه الأمور قد لا يحصل لديه الاطمئنان الكافي، ويَبقَى مرتاباً تجاه الإنترنت في خصوص هذه القضايا الّتي تَحتاج للوثوق التّام بـمَصْدَرها.
إذن؛ الإنترنت ليس دائماً هو الوسيلة العامّة الّتي يمكن لكافّة النّاس أن تَنتفع منها في هذه المسائل، إمّا بسبب عدم معرفتهم بكيفيّة استخدام هذه الوسيلة، أو بسبب عدم وثوقهم بها فيما إذا لم تكن لديهم خبرة بما هو موثوق وما ليس بموثوق.
وأمّا إن كان المقصود من وسائل الاتّصال ليس وسيلة الإنترنت، وإنّما المقصود هو “مراجَعة الفقيه أو مجلس استفتائه مباشرة” مثلاً، فهذا أيضاً غير مقدورٍ للجميع، خصوصاً وأنَّ الكثير من البلدان تَفتقِر لوجود مكاتب للفقهاء تبعاً للظّروف الجغرافيّة، واللغة، وما تفرضه الأوضاع السّياسيّة، وغير ذلك من الأسباب، فضلاً عن بُعد مقرِّ الفقيه وإقامته حتَّى عن الكثير ممّن يعيش في نفس بلد المجتهد الّذي يقلِّده.
وأمّا إن كان المراد هو استعمال وسيلة “الاتّصال الهاتفي”، فالمعلوم أنَّ مكاتب الفقهاء -كما قلنا- ليست متوفّرة في كل مكان، ففي الحجاز -السّعوديّة- مثلاً لا يوجَد حتّى مكتب واحد لمرجع من المراجع، على رغم طول تلك البقعة واتّساعها؛ وبالتّالي نلاحِظ بأنَّ استعمال هذه الوسيلة بالنّسبة لأهل البلدان المفتقِرة لوجود مكاتب الفقهاء فيها، أو بالنّسبة للّذين تمتاز بلدانهم بوجود ذلك في ظلِّ إقامتهم في أماكن بعيدة عن تلك المكاتب، سيكون من الجانب المادّي مكْلِفاً وباهظ الثَّمن؛ ذلك تبعاً لغلاء الاتّصال بالخطوط البعيدة، وهذا -بالنّتيجة- سيَمنع من الاقتدار على الاستفادة من هذه الوسيلة وسَدِّ الحاجة من خلالها، خصوصاً فيما إذا لاحظنا أيضاً استنكاف وتململ المكلَّف عن الاستفتاء والسّؤال بلا دفع مادّي وبَذْل مالي، فكيف بذلك مع البَذْل، بل مع الدَّفع الباهظ المكْلِف؟!
وهكذا قِس على المراسلة البريديّة وما شاكل، مع ملاحظة العامل الزّمني في الجميع، وإسفاره عن تأخير العلم بالمسألة المراد معرفة حكمها.
ثمَّ إنّه قال بعضهم: إنْ تَعسَّر هذا على العامّة فلا يوجَد في بعضه عُسر على طالب العلم، خصوصاً وأنّ المطلوب هو إيجاد صلة أو رابطة وحالة من التّواصل بين المبلِّغ أو الدّارِس والمرجعية أو أيضاً بين العامّة والمرجعّية!
ورَدُّه:-
أوَّلاً: –وإن كنّا نؤيِّد ذلك، ونؤكِّد على زيارة أهل الفَضْل والمعرفة، والاستفادة منهم بالمباشرة عن حِسٍّ ظاهر، كعلماء، وأهل سَيْر، وسلوك، وتطبيق عملي إسلامي حي، وعلى دَعم قيادتهم، وتَغليب نفوذهم في الأوساط على نفوذ غيرهم ممّن لا صلة له بالدِّين، فالعالِم دائماً في هذه الجوانب مقدَّم عند الله وعند كلِّ عاقل- فنحن وإن كنّا نؤيِّد ونؤكِّد على إيجاد هذه العلاقة المهمّة بين الطّالب والمرجعيّة، وبين النّاس والعلماء، نقول في المقابِل:
مَن قال بأنّ كل طالب علم متمكِّن من الوصول إلى مكتب المرجعيّة؟ بل وأي طالبِ علمٍ هذا الّذي يجب عليه أن يَقطع المسافات من أجل استفتاءٍ واحدٍ من هذا القَبيل أو من أجل خمسة استفتاءات أو عشرة لتتحقّق العلاقة والرّابطة المذكورة؟!
ثانياً: هل هذه الرّابطة رابطة إجباريّة؟ فقد يكون هنالك بعض الدّارسِين لا يَرغب في الوصول إلى أماكن ومواقع معيَّنة حتّى على فرض قربه منها وسَيْره على خطِّ أهلها، فدخول مكاتب المرجعيّات أمرٌ يجب أن يَتأتَّى من الذّات والرَّغبة الحقيقيّة، لا بالقسر والإجبار عليها.
ثالثاً: الـمَدار هو الإسلام والدِّين والحُكم الإلهي أوَّلاً أم الأفراد والمرجعيّة؟ إذن هذه حُجّة باطلة يجب أن لا تقدَّم في تبرير دواعي المشكلة وتوابعها السّلبيّة، وإن كنّا كما بَيّنّا نؤيِّد ونؤكِّد على زيارة العلماء وعلى أهمّيّة ذلك، تبعاً لطلب العقل والدِّين لها، كيف لا والعالم وارث الأنبياء، ونورٌ يُهتدَى به، والجلوس معه من الأفعال الحسنة، والنّظر في وجهه -كما في الـخَبر- عبادة.
إذن؛ لا مَفَر من إصلاح أصل المشكلة في نفس الكتاب الفتوائي، فالكتابة كما قلنا تمثِّل أهم وسيلة لإبراز العلم، وإيصاله إلى النّاس، ومحاوَرتِـهم، كما تُعتبَر من أبرز الأدوات للتّواصل بين الفقيه وعامّة المكلَّفِين.
وعلى أيٍّ فإنّنا -في مقابل كل هذا- على علمٍ ويقينٍ راسخ بأنّ “أرشيف مجالس الاستفتاء” في مكاتب الفقهاء مليء بالاستفتاءات المتنوّعة الكثيرة، وبالتّفريعات الهائلة من مسائل المستَفْتِين، ولَعَمْرِي لو رُشِّحتْ ونُظِّمتْ ودُسَّتْ في كتب الإفتاء؛ لأضْفَتْ عليها كماليّتها المطلوبة، ولسدّت نقيصتها من هذه الجهة.
نكتفي بهذا القدر، والحمد لله حمداً وافراً متزايداً، والصّلاة والسّلام على خير الأنام، محمّدٍ وآله الطَّيّبين الطّاهرين.
للتعلیق أو مطالَعة التعلیقات اضغط هنا