بسم الله الرّحمن الرّحيم
مَدْخَل مهم لدراسة الفقه “تتمّة القِسم الأوَّل”
اللهمَّ احملْنا في سُفُنِ نَجاتِك، ومتِّعْنا بلذيذِ مناجاتِك، وأَوْرِدْنا حِياضَ حُبِّك، وأَذقْنا حلاوةَ وِدِّك وقُرْبِك، واجعلْ جِهادَنا فِيك، وهَمَّنا في طاعتِك، وأَخلِصْ نيَّاتنا في معاملتِك، فإنَّا بكَ ولك، ولا وسيلةَ لنا إليكَ إلا أنت، وصلِّ على نبيّك الأمجد، ورضيّك الأحمد، سيِّد العالمِين، محمِّدٍ وآله الطّيّبِين الطّاهرِين.
الأمر الثّالث: الآليَّة المطروحة للعـــــــــــــــــلاج:-
تمهيد:-
تحدّثنا لكم في الحلقة السّابقة عن طريقة علاج بعض جهات المنهج “التَّدويني” و“التّقسيمي” للرِّسالة الفقهيّة، فتناولنا في الفقرة (أ) منهج الفقهاء –الإخباريِّين والأصوليِّين- في عرْض الأحكام والفتاوى ضمن الأبواب الفقهيّة، ووضعنا له آليّة علاجيّة متكاملة، كما تناولنا في الفقرة (ب) تقسيم العلماء للرِّسالة العمليّة إلى “أصول الدِّين وفروع الدِّين” أو إلى “فروع الدِّين فقط”، فوضعنا أيضاً لذلك آليّة متكاملة تُعيِّن التّقسيم المناسب والأمثَل.
وهنا نريد في الفقرة (ج) أن ندخل في الحديث عن تقسيم الفقهاء للرِّسالة العمليّة على مستوى “فروع الدِّين والمسائل الفقهيَّة”، حيث أشرنا إلى أنّهم -رضوان الله عنهم- بعد أن قسَّموا الرِّسالة بشكل عام إلى “أصول الدِّين وفروع الدِّين”، أو إلى “فروع الدِّين فقط”، كل جماعة بحسب ما أَسَّسَتْ إليه وعملتْ به، فهم بعد هذا التّقسيم العام، أخذوا في تقسيم القِسم الثّاني منها، وهو قِسم “فروع الدِّين والمسائل الفقهيَّة”، حيث قسَّموه إلى “عِبادات” و“معامَلات”، أو بتعبير آخر قسَّموه إلى “تَعَبُّديّات” و”تَوَصُّليّات”، إذ جعلوا المسائل العِباديّة كالصّلاة والصّوم والحج والزّكاة في قِسم “التّعبّديّات”، بينما جَعلوا المعامَلات الغير عباديّة كـ:
البيع والتّجارة، والوكالة والإجارة، والمضارَبة والمزارَعة، والحَوَالة والرَّهن، والضَّمان والكفالة، والوديعة والهِبة، والنِّكاح والرِّضاعة، والطّلاق والغَصْب، والصَّيد والذِّباحة، وأحكام الأطعمة والأشربة، والنّذر والعهد واليمين، والوقف والإرث والوصيّة، فهذه الأمور وأمثالها ممّا لا عبادة فيه جَعلوها في قِسم “التَّوَصُّليّات”، أو كما قلنا بتسمية أخرى: قِسم “المعامَلات”؛ عِلماً أنّنا سنبيِّن لاحقاً ما هو المراد بالتّوصّليّات، ولماذا أُطلِقَ عليها هذا الاسم.
فنحن في الحلقات السّابقة أشرنا إلى هذا الشَّكل من التّقسيم لـ“فروع الدِّين”، كما أشرنا هناك إلى تقسيمات أخرى قام بتقديمها بعض العلماء الأجلاء لهذه الفروع، وعَمل في توزيع المسائل الفقهيّة “مسائل فروع الدِّين” في رسالته وفق التّقسيم الجديد الّذي وضعه، تماماً كما هو الحال بالنِّسبة لتقسيم المرجع الدِّيني السّيّد الشّهيد محمَّد باقر الصَّدر رضوان الله عنه، الّذي طَرح تقسيماً جديداً لفروع الدِّين في رسالته العمليّة المسمّاة بـ“الفتاوى الواضحة”، وسار عليه في استعراضه للمسائل الفقهيّة والفتاوى الّتي قدَّمها لمقلِّدِيه.
لذا كان علينا أيضاً أن نَتناول هذه التّقسيمات المرتبطة بمسائل هذه “الفروع الدِّينيّة”، وأن نحلِّل منهجها بصورة دقيقة كغيرها؛ كي نقدِّم آليّة متكاملة تكون كفيلة ببيان وتحديد التّقسيم السّليم من التّقسيم السّقيم، أو قُلْ: لتحديد التّقسيم الملائم والأمثل، مع علاج الجهات الّتي تَحتاج للإصلاح فيه بما يَتناسب مع طبيعته، وهذا ما سنتناوله فيما يلي:
ج- آليَّة العلاج على صعيد التّقسيم الثّاني (ضمن الفروع والمسائل الفقهيَّة):-
أمّا على صعيد هذا النّوع من التّقسيم -“عِبادات ومعامَلات” أو”عِباديّات وتَوَصُّليّات”- فلا نجد بأساً في اتّباعه، فهو تقسيم حيوي ومتناسب جدّاً مع الرِّسالة فيما إذا لاحظناه في قِبال ما قُدِّم من تقسيمات أخرى؛ إذ نجد فيه المرونة والقدرة الكافية على تنظيم المسائل الفقهيّة ضمن أبواب الرِّسالة المختلفة، وقد لاحظنا مثلاً –وبكل إنصاف- كم كان تقسيم السّيّد الشّهيد الصَّدر –أعلى الله مقامه وأسكنه فسيح جنّته– الّذي سبق أن استعرضناه مَعقّداً نوعاً ما، كما أَبصرنا كيف تَداخَلت المسائل في أبوابه مع بعضها البعض، من قَبيل دخول بعض أبواب العِبادات -كباب الزّكاة وباب الخمس- في باب الأموال العامّة وفق تقسيمه، رغم كون هذين البابين من العِباديَّات الّتي ذَكرها في باب العِبادات، هذا ناهيك عن أنّه اعتَرف شخصيّاً –رحمه الله- بهذا التّداخل كما رأيت، فلا نُعِيد.
نعم؛ لا شكَّ أنَّك قارئ فَطين، لذا يمكن أن يأتي في ذِهنك السّؤال التّالي فتقول:
هل أنَّ التّداخل بين بعض الأبواب وبعض المسائل مع بعضها البعض يُعتَبر مشكلة في التَّقسيم؟
فهذا السّؤال من الأسئلة الجوهريَّة والمهمّة في مجال حديثنا، وجوابه كما يلي:
في الحقيقة إنَّ تَداخل بعض الأبواب أو بعض المسائل مع بعضها البعض لا يُعتَبر دائماً من الأمور السّلبيّة، إذ قد تتداخل –مثلاً- المسائل مع بعضها في بعض الأحيان ويكون ذلك حالة عاديّة مقبولة، ومن الأمور الطّبيعيّة الّتي يَضطـرُّنا القانون المتكامل والمترابط للوقوع فيها، وقد أوضحنا لك هذا سابقاً أيضاً.
فالقانون الإلهي من القوانين المتكاملة، ومسائله مترابطة مع بعضها بصورة قويّة جدّاً لا توجَد في القوانين الأخرى، ذلك نظراً لكونه متخصّصاً في إرشاد الإنسان وتقويم سلوكيّاته وتصرّفاته وكافّة أفعاله وتحرّكاته، وأنت –كما تَعلَم- تصرّفات وسلوكيّات الإنسان مترابطة ببعضها، ممّا يعني أنَّ تقنين ذلك يجب أن يكون مترابطاً أيضاً.
فهذا التّرابط القوي والوثيق هو الّذي يجبرنا في بعض الأحيان –أو في كثير من الأحيان- على الوقوع في جعل المسائل والفتاوى متداخلة مع بعضها عندما نَعمل في الرِّسالة على ترتيبها وتنظيمها، عِلماً أنَّ هذا التّداخل حاصل في جميع التّقسيمات الّتي تمَّ تقديمها إلى الآن، وليس فقط في التّقسيم الجديد الّذي قدَّمه السّيّد الشّهيد الصَّدر رحمه الله تعالى.
لكن ما نريد قوله في مقام الرَّد على هذا السّؤال هو: أنّنا على مستوى ما طُرح وقُدِّمَ من تقسيمات لقِسم “فروع الدِّين”، نجد أنَّ “التّقسيم الثّنائي القديم (عِبادات ومعامَلات)” المتَّبَع في أكثر الرّسائل العمليّة هو الأفضل، وإن لم يكن هو الأمثل في نظر البعض؛ لذا لو تمَّ تقديم تقسيم آخر أنسب وأقدر منه فلا مانع أبداً من استعماله واتّباعه، بشرط أن يفوق قدرة التّقسيم القديم من جهة الاستيعاب والبساطة والمرونة، وهذا ما لا نَرَى له وجود إلى حدِّ الآن، ممّا يَفرض علينا أن نرجِّح العمل -في تقسيم فروع الدِّين من الرِّسالة- على أساس الطّريقة القديمة المعتادة “عِبادات ومعامَلات”، والبقاء عليها؛ ذلك لكونها هي الأفضل والأنفع من بين ما هو موجود بين أيدينا حتّى الوقت الحاضر.
وبجواب عِلمي أدق وأوضح نقول:
ليست المشكلة في تقسيم الرِّسالة العمليّة إلى “عِبادات” و”معامَلات”، ولا في أن يَتداخل بعض قليل من “مسائل التَّوَصُّليّات” مع بعض قليل من “مسائل التّعبّديّات” والعكس؛ إذ أنَّ التّداخل – حسب المؤشّرات القائمة حاليّاً- يستحيل تفاديه استحالة تامّة كما هو واضح، فالمشكلة أساساً إنّما تَرتبِط بفقدان الرِّسالة لبعض الأبواب وبعض المسائل الّتي لم تلقَ حظّاً ونَصيباً من الاستعراض فيها، لا بسبب التّقسيم القديم “عِبادات ومعامَلات”، فهذا التّقسيم يَشمل تلك الأبواب والمسائل ويَسع لها بلا أدنى ريب؛ حيث أنَّ المفقود منها إمّا أن يكون معامَلات أو عبادات، توصّليّات أو تعبّديّات، ولا قِسم ثالث له؛ إذ أنَّ القِسم الثّالث يعني الخروج عن أصل التّشريع، والحال أنّنا في مقام تناول ما هو مُشَرَّع دِينيّاً وتقديم الفتاوى قِبال ذلك.
وعليه؛ لو تمَّ –نؤكِّد وفق هذا التّقسيم الثّنائي القديم– تَضمين الرِّسالة العمليّة للأبواب والمسائل المفقودة فيها؛ فقد لا نُشْكِل على هذه النّاحية من التّقسيم.
وكما قلنا لو بَرزتْ تقسيمات أخرى أكثر تألّقاً من هذا التّقسيم فلا مشكلة في اتّباعها، غير أنَّ المفضَّل هو الثّبات على التّقسيم الموجود حاليّاً في معظم الرَّسائل “عِبادات ومعامَلات”، والتّماشي مع الطّريقة المعتادة تجاهه؛ ذلك كي لا تُـحْدِث التّقسيمات الجديدة قطيعة سلبيّة في “المنهجيّة الدّرسيّة” بين المدوَّنات والرّسائل السّابقة مع المدوَّنات والرّسائل الآتية، وكذا حتّى لا يحصل نوع من العُسر على المكلَّف الّذي اعتاد على تقسيم الرِّسالة بهذا الشّكل، وتَرسَّختْ لديه مواقع مسائلها.
نعم؛ نحن لا نقدِّم هذين التّبريرين بنحو الإقناع، وإنّما نقدّمهما بهدف دعم قولنا في أنَّ التّقسيم القديم لا زال إلى الآونة الأخيرة هو الأفضل، أو بتعبير آخر نقول:
نحن لا نقدِّم “التّبرير الأوَّل” القائل بأنَّ تغيير التّقسيم سيسبِّب حصول قطيعة سلبيّة في “المنهج الدَّرسي” بين الرّسائل السّابقة والآتي، فنحن لا نقدِّم هذا التّبرير على نحو الإقرار التّام به، وإنّما “التّبرير الثّاني” المرتبِط بالتّبسيط على المكلَّف هو الّذي نقر به وبأهمّيّة مراعاته بصورة كبيرة؛ ذلك تبعاً لكون الرّسالة من مختصّات كافّة المكلَّفِين، كما أنَّهم هم المعنيّون بها لا خصوص المتخصّص القادر على التّماشي مع الصّعوبات؛ لذا كان يجب من منطلَق ارتباطها بهم مراعاة أضعفهم بالدّرجة الأولى، خصوصاً وأنَّ المراد لهم هو إبعاد العُسر عنهم.
هذا ونضيف بالقول:
إنصافاً ما قام به السّيّد الشّهيد الصَّدر -عليه الرّحمة والرّضوان- على مستوى تقسيم “فروع الدِّين” قد يكون طريقة إيجابيّة ملائمة في نظر الدّارس المتخصّص، وليس بالنّسبة للعامّي، هذا المكلَّف الّذي تعقِّده حتَّى البسائط؛ لذا من الوجيه أن يقال: إنَّ ممّا يُعترَض به على تقسيمه -تغمّده الله بالرّحمة الواسعة- هو ما يمكن أن يـحْدِثه من إرباك وعُسر لدى المكلَّف، ويُصعِّب عليه من رَسْم الصّورة الذّهنيّة العامّة لهيكليّة هذا التّقسيم، وكذا هيكليّة توزيع المسائل والفتاوى فيه، فنحن كما أشرنا كلامنا هنا عن عموم المكلَّف لا عن الدّارس.
وعموماً هذا لا يقلِّل من شأن تجربته -رحمه الله- وقدرته الفريدة على الإبداع، وتفوّقه الكبير في المحاولة، ورغبته الرّشيدة في إحداث العلاج لأمرٍ كان يرى فيه مشكلة تتطلّب الإصلاح والتّصحيح، فقد أجاد بقدر عطائه المتفوّق، ولو أنّه لم يقل بأنَّ رسالته في قِسمها الفقهي مقدَّمة للعامّة وكافّة المقلِّدين؛ لدفعنا إشكال الصّعوبة في التّقسيم عنه، وقلنا بأنَّ تقسيمه كان يستهدف أهل العلم وشريحة المثقَّفين، وبالتّالي هو جيّد تماماً من هذه النّاحية وفي محلّه وكامل الإصابة، أمّا أن يقدَّم للمقلِّدِين الدّارجين على البساطة فلا.
وعلى أيٍّ فإنَّ اختيارنا لرسالة السّيّد الشّهيد –أعلى الله مقامه- وتسليط الضوء عليها هنا بصورة كبيرة ليس إلا لأنّها من التّجارب المعاصرة، الرّائدة من بين كافّة التّجارب المستجدَّة الأخرى، وإن كنّا أيضاً لا نقلِّل في شأن غيرها من التّجارب، خصوصاً وأنّنا أشرنا إلى أنَّ لكل تجربة أهمّيّة ومزايا معيَّنة تختص بها، كما أنَّ جميع التّجارب تساهم في حركة التّطوير.
فمثلاً رسالة “وسيلة النّجاة” للفقيه الأصولي السّيّد أبو الحسن الأصفهاني عليه الرّحمة يمكن لنا أن نعتبرها من الرّسائل والتّجارب العُظمى الّتي مرَّت بشوط فقهي طويل، حيث ساهمتْ في تطوير الرَّسائل، وتَزايدَتْ جهود العلماء متَّحِدةً في تطويرها، حتَّى بلغتْ أعلا مراتب الكمال في الإبداع والدِّقّة، فهذه الرِّسالة الرّائدة –وقبْلها “كتاب الشّرائع” و”كتاب تبصرة المتعلّمين”- تمثِّل تجربة لها قيمتها ومزاياها، فكثْرة كتابة المجتهدين تعليقاتهم عليها لهو خير دليل على ذلك، حيث علَّق عليها مجموعة من كبار العلماء الأعلام، كالسّيّد الگلپايگاني رحمه الله الّذي أَنتج عن ذلك رسالته العمليّة المسمّاة “هداية العباد”، والسّيّد الإمام قُدِّس سرّه الّذي أَنتج عن ذلك رسالته المسمّاة “تحرير الوسيلة”، وغيرهما.
وأيضاً مثلاً “منهاج الصّالحِين” للسّيّد محسن الحكيم أعلى الله مقامه، فهذه الرِّسالة يمكن لنا أن نعتبرها من أرقى الرَّسائل العمليّة، والأكثر نضوجاً على مستوى التّقدّم التّدويني لكُتب الفتاوى في العصر الحالي، خصوصاً وأنّها مرَّت بشوط طويل من التّطوير على يد أعلام النّجف وفقهائها، شرحاً وتعليقاً، حيث كَتب السّيّد الخوئي -قَدَّس الله نفسه الزّكيّة- تعليقته عليها، وأَنتج منها “منهاجه” العَريق بما ضَمَّنه من إضافات وتعديلات ابتكرها وساهم بها هو شخصيّاً، أو بمعيّة تلميذه السّيّد الشّهيد محمّد باقر الصَّدر رحمه الله المشهود له بما له من الاقتدار والعمق، فضلاً عن خبرة هذا التّلميذ الممتدّة في رسالة السّيّد الحكيم رحمه الله، الّتي اكتسبها من خلال شرحه لها.
وهكذا استمرَّ تطوير هذه الرِّسالة وطال بها المشوار التّقدّمي، حيث كَتب –مثلاً- المرجع الدِّيني السّيّد علي السّيستاني أدام الله بقاءه تعليقته على رسالة السّيّد الحكيم المطوَّرة على يد أستاذه السّيّد الخوئي، فأضفى عليها هو الآخر أيضاً صبغة من التّجربة في التّطوير المستمر، فأَنتج من ذلك رسالته “منهاج الصّالحِين”، وهكذا مثلاً الأمر بالنّسبة للشّيخ الميرزا جواد التّبريزي رحمه الله تعالى، حيث سلك نفس السّلوك.
كذا في المقابِل تُعتبَر رسالة “الفتاوى الواضحة” الّتي هي رسالة السّيّد الشّهيد محمّد باقر الصَّدر قَدَّس الله نفسه، تُعتَبر هذه الرِّسالة تجربة جديدة لازالت تعيش بداية مشوارها التّطوّري، خصوصاً وأنّها حَوَت سِمات وصفات تختلف جذريّاً عمّا في التّجارب السّابقة كما أوضحنا مفصّلاً، فهي اليوم في ابتكاراتها وأطروحتها التّقسيميّة الجديدة مثلها مثل أي رسالة بدأت جديدة بالأمس، تمر بظروف التّقييم والتّطوير والتّعديل، فقد تقاوِم مع ما يعاصرها أو يَقْوَى عليها غيرها من الرّسائل المطروحة فيَتصدَّر ويَتقدَّم في التّدوين، والتّقدير بالنّتيجة يعود لأهل الخبرة والمعرفة، فـ“الشّرائع” كرسالة رائدة عريقة أنتجتها أنامل المحقَّق الحلّي الباهرة رحمه الله، و“تبصرة المتعلّمين” للعلامة أعلى الله مقامه، وما ذكرنا من رسائل انطلقت بصورة جذريّة ابتدائيّة، ثمَّ نالت عناية على يد الفقهاء، كل ذلك مرَّ بما سمحت له الفرصة على صعيد ما قدّمه.
إذن الّذي نريد قوله هو أنّه ليست المشكلة في هذه الجنبة هي أن نقسِّم الفروع وأبوابها أو لا نقسِّمها، وإنّما المشكلة أساساً تكمن في كيفيّة علاج مشكلة قائمة في ظل ما هو موجود، والبحث لها عن حلول.
وبعبارة ثانية: ليست القضيّة أن نجيء بتقسيم جديد أو لا نجيء، وإنّما القضيّة هي أنَّ هنالك معاناة على صعيد عَرْض المسائل الفقهيّة المختلِفة، وهذه القضيّة طريق علاجها يكمن في صياغة تقسيم مناسب لتلك المسائل، بحيث ينظّمها ويستوعبها جميعاً، ومن ثمَّ بعد التّقسيم نتساءل هل وفَّى هذا التّقسيم المقدَّم بالمتطلّبات المذكورة أم لا؟
وبعد طرح هذا التّساؤل عندما تجئ الإجابة بالسّلب نطرح سؤالاً آخر يقول: ما هي مشكلة هذا التّقسيم؟
وبعد تحديد المشكلة والوقوف عليها، نعود لتوجيه سؤال آخر يقول:
هل يمكن علاج نفس ذلك التّقسيم لتخليصه من الشّوائب ومن هذه المشكلة المثارة حوله أم لا؟
هذا هو الطّريق الأصح للعلاج، لا أن نذهب مباشرة لوضع تقسيم آخر في حين أنَّ ذلك التّقسيم قَيِّم وقادر على أن يكون متماسكاً وفاعلاً بصورة كبيرة جدّاً بعد إدخال الإصلاح عليه.
فنحن عندما نمتلك آلة نافعة وقيّمة جدّاً ولا يوجد لها نسخة أخرى، ثمَّ وجدنا بعد مدّة أنّ في تلك الآلة القيّمة عيباً ما، فهل معنى هذا أن نضعها جانباً ونستبدلها بآلة أخرى من نوع آخر، أم يتوجّب علينا تفحّص طريقة العلاج الإيجابيّة لتلك الآلة؟
بلا شك يتوجَّب علينا أن نواجه ذلك العطل ونعالجه في نفس كيانه الشّخصي لا أن ننتقل للاستبدال مباشرة، خصوصاً فيما إذا كانت خصائص وفوائد الآلة الأخرى لا تَرقَى إلى مستوى خصائص وفوائد تلك الّتي نمتلكها؛ فهذه هي الخطوات المنطقيّة.
وإلا عندما نعمل على الإصلاح في خصوص مشكلة التّقسيم هذه باختيار الطّريق الآخر وطرح تقسيم جديد، فهذا سيولِّد لدينا سلبيّات جديدة قد لا نتمكَّن من علاجها، والّتي منها أنَّ التّقسيمات ستكثُر؛ لأنَّ هذا لن يعجبه ذلك التّقسيم وسوف يأتي بجديد، وذلك الآخر أيضاً، وهكذا؛ عندها سنجد أنفسنا أمام كم هائل من التّقسيمات، وهذا له سلبيّات كبيرة واضحة؛ أوّلها أنه سيساهم في إفقاد الرَّسائل العمليّة للمنهج العِلمي الموحَّد الّذي دائماً تَسعَى جميع العلوم إلى تثبيته في مسيرتها، فالتّطوير وإن كان في بعض المراحل يضطر أهل العلم للانتقال إلى منهجيّة أخرى بشكل طبيعي، إلا أنّنا على مستوى مرحلة الرَّسائل العمليّة لا نجد حالة من الاضطرار بعدُ قد توفَّرت كي نحاول الانتقال إلى تقسيم آخر في مسائلها الفقهيّة؛ هذا شكل مطوَّر لـ“تبريرنا الأوَّل”، وبه يكون تبريراً وجيهاً ومقْنِعاً، وله قابليّة لتقديمه علميّاً والإقرار به مضافاً للتّبرير الثّاني.
طبعاً المسألة هنا تعود للتّشخيص الشّخصي، ولا أدري لعلَّ السّيّد الشّهد رحمه الله وغيره من الأفذاذ المطوِّرين لهذه الجنبة، بل هو وهم كذلك، قد رأوا أنَّ حالة الاضطرار متوفِّرة، ممّا دفعهم بالنّتيجة لتقديم أشكال أخرى من التّقسيم.
نكتفي بهذا القدر على أمل اللقاء بكم في حلقة قادمة إن شاء الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمِين، والصّلاة والسّلام على أشرف الأنبياء والمرسلِين، محمَّدٍ وآله الطِّيِّبِين الطّاهرِين.
للتعلیق أو مطالَعة التعلیقات اضغط هنا