بسم الله الرّحمن الرّحيم
مَدْخَل مهم لدراسة الفقه “تتمّة القِسم الأوَّل”
اللهمَّ لا تفتنّي بالعِباد، وأوضِحْ لي طريقَ الرَّشاد، واكفني شرَّ يومِ المعاد، بحقِّ محمَّدٍ وآله الطّيّبين الطّاهرين، وصحبهِم الأخيار الأنجبِين، صلواتك يا ربِّ عليهم أجمعين.
وبعد..
الأمر الثّالث: الآليَّة المطروحة للعـــــــــــــــــلاج:-
تمهيد:-
تحدّثنا لكم في الحلقتين الأخِيْرتين عن طريقة علاج المنهج “التَّدويني” و“التّقسيمي” للرِّسالة الفقهيّة، فتناولنا في الفقرة (أ) منهج الفقهاء –الإخباريِّين والأصوليِّين- في عرْض الأحكام والفتاوى ضمن الأبواب الفقهيّة، ووضعنا له آليّة علاجيّة متكاملة.
كما تناولنا في الفقرة (ب) تقسيم العلماء للرِّسالة العمليّة إلى “أصول الدِّين وفروع الدِّين” أو إلى “فروع الدِّين فقط”، فوضعنا أيضاً لذلك آليّة متكاملة تُعيِّن التّقسيم المناسب والأمثَل.
كما تناولنا في الفقرة (ج) تقسيم الفقهاء للرِّسالة العمليّة على مستوى “فروع الدِّين” إلى “عِبادات” و“معامَلات”، أو بتعبير آخر إلى “تَعَبُّديّات” و”تَوَصُّليّات”، وغير ذلك من التّقسيمات الأخرى كالّذي قدَّمه السّيّد الشّهيد محمّد باقر الصّدر عليه الرّحمة، فقدَّمنا لذلك أيضاً آليّة كفيلة ببيان وتحديد التّقسيم الملائم والأمثل للرِّسالة، مع علاج الجهات الّتي تَحتاج للإصلاح فيه بما يَتناسب مع طبيعته.
وهنا نريد في الفقرة (د) أن نَدخل في الحديث عن “علاج المعضلات”، فنحن في الحلقات السّابقة وتحديداً في “الأمر الثّاني من هذا المَدْخَل” أشرنا إلى العديد من المعضلات الكبرى المحيطة بالرِّسالة العمليّة ومسائلها الفقهيّة بغضِّ النّظر عن قضيّة التّقسيم العام المرتبط بهذه المسائل.
لذا كان علينا أيضاً أن نَتناول هذه المعضلات المهمّة، وأن نقدِّم لها آليّة علاجيّة كغيرها، بحيث يكون علاجها كفيلاً برفع هذه الإشكاليّات عن عاتِق الرِّسالة، وأن يحرّرها ممّا من شأنه أن يضر بالمكلّفِين فيساهِم بالنّتيجة في إحراف الكتاب الفتوائي عن أهدافه الإلهيّة العظيمة؛ فهذا ما سنتناوله فيما يلي:
د- على صعيد المعضـــــــــــــلات:-
آلية علاج المعضلة الأولى (فصْلُ القانونِ عن جوهرِه):-
أوَّلاً:-
الحق؛ أنَّه كما أشرنا ليس كل ما في المدرسة الإخباريَّة مشين وغير نافع، فلا مدرسة الأخبار شرٌّ مطْلَق ولا مدرسة الأصول خيرٌ مطْلَق، بل لدى المدرسة الإخباريَّة قِيَم وفوائد عظيمة يمكن لنا أن نستفيد منها استفادة كبيرة إلى جانب المدرسة الأصوليَّة صاحبة الإبداع والتّقدّم، وخصوصاً الاستفادة من ذلك بالنِّسبة لمورد كلامنا المستهدِف لتطوير الرِّسالة الفقهيّة والكُتُب الفتوائيَّة.
وعليه؛ يمكن أن نقول بأنَّ المنهج الإخباري بفعل سلوكه المتّبَع لديه في التّدوين حافظ كثيراً على الخط التّربوي من هذه الجهة وإن لم يكن عن قصد، حيث عالَج مشكلة الفصل بين القانون وروحه بدرجةٍ ما؛ هنا لابدَّ أنّك تتساءل كيف تَمكَّن المنهج الإخباري من علاج نسبة من هذه المشكلة دون المنهج الأصولي؟
الجواب هو أنَّ المنهج الإخباري تمكَّن من ذلك نظراً لما تقدَّم بيانه من أنَّ فقهاءنا الإخباريِّين كان لديهم اهتمام كبير باستعراض الرّوايات في تدوينهم للرِّسالة العمليّة، بل كان هذا هو منهجهم، بخلاف منهج فقهائنا الأصوليِّين ممّن يقدِّم الفتوى دون التّعرّض للدّليل كما هو حال الغالبيّة من علمائنا اليوم إن لم يكن كلّهم.
لذا كان من الـمَناقب والـمَحاسن العظمى في المنهج الإخباري هو تفاديه لمشكلة الفصل بين القانون وأخلاقه، ومحافظته على الخطّ التّربوي من هذه الجهة بنسبةٍ معيَّنة؛ ذلك لأنَّ الكثير من الرّوايات عندما كان يَستعرضها هذا المنهج للحُكْم الّذي يريد الكشف عنه في كتابه، كان الكثير منها يحوي بذاته صبغة روحيّة وتربويّة في ذات كلام الإمام المعصوم صاحب الرّواية المنقولة عنه، سواء التَفتَ الفقيه لذلك وكان مستهدِفاً له أم لا، إذ أنَّ الرّواية هي الّتي قامت بأداء هذا الدّور تبرّعاً بدون معالَجة أو تدخُّل، ناهيك عن أنَّ نفْس كلام الإمام المعصوم عليه الصّلاة والسّلام بظاهره المونِق وباطنه المليء بالجذب والحُسن والجمال، وإن كان متمحِّضاً في الإفتاء، له تأثير روحي مختلِف حتّى في نفْس غير المعتَقِد، فكيف بمن يَعتقِد به كمعصوم وإمام إلهي؟!
لا شك عندها سيكون تأثير كلام الإمام فيه أشد وأقوى.
نعم؛ لم تُحَل المشكلة بهذا الإجراء كما ذكرنا؛ حيث بقيَتْ قائمة ونافذة المفعول.
أمّا المنهج الرّائد الّذي نأمل لهذه الكُتب أن ترقَى إليه فهو ذلك المنهج الذّي يحاكي هموم ووجدان المكلَّف وكافّة المقلِّدِين، بحيث نَجْمَع بين الخطوط الثّلاثة المتقدِّمة -من عَرْض للرّواية فقط دون الفتوى، أو عَرْض للفتوى إلى جانب الرّواية كتبيين لها، أو عَرْض للفتوى فحسب بلا ذِكر للدّليل- مع الإصلاحات الآتية.
فنحن لا نريد أن نقدِّم للمكلَّفِين كتاباً قانونيّاً كذلك الّذي يُقدَّم في دستور الدّول بصورة مواد فقط، ولا كتاباً روائيّاً منسلخ عن الآيات والبيان، ولا كتاباً استدلاليّاً مليء بالفتاوى وكافّة أدلَّتها الرِّوائيّة وغيرها؛ إذ ليس العامِّيُّ البسيط صاحب أنفاس متّسعة والتذاذ كبير بالفكر والقراءة، ولا رئيس دولة أو من القُضاة، ولا فقيهاً يَفهم مَقاصد الدّليل بصورة خاطفة، ولا شخصاً مهتمّاً بكلِّ التّفاصيل والأبعاد، ولا مجتهداً متسلِّطاً على القواعد ومفادات ألفاظ اللغة وأُسُسِها وقوانينها، بل وحتَّى لغة الفقه، فللفقه لغته المختصَّة، وللرّوايات مضامين تَحتاج للكشف عنها -في كثير من الأحيان- إلى مُرونة ولُطْف في الفهم، ممّا يعني أنَّ الشّخص الدَّارج على البساطة ليست لديه المُكْنة اللازمة لِــفهم المحاوَرات الاصطلاحيَّة، خصوصاً وأنَّ القراءة تُغتصَب منه اغتصاباً من شدّة تململه عن العِلم والتّعلُّم.
ثانياً:-
لا يَفهم أحدٌ أنّنا نقصد بهذا رفض طريقة التّدوين الحاليّة من جهتها القائمة على استعراض الرِّسالة العمليّة ككتاب فتاوى وقوانين مرشّحة وخالية من التّعليق المرتبط بروح القانون وأخلاقيّات الحُكْم، كلا فليس الأمر كذلك، فقد سبق أن بيّنّا بأنّه من الجيّد بل نقول هنا من المطلوب اتّباع كلا المنهجين في التّدوين، بحيث تُكتب الرِّسالة العمليّة بكلا الطّريقتين، كل طريقة في مدوَّن خاص بها، أي أن تُكتب الرِّسالة العمليّة بصورتها القانونيّة، ثمَّ تُترك لتدوينها مرّة أخرى بصورة قانونيّة تربويّة أخلاقيّة.
ثالثاً:-
من الوجيه أن تَتساءل: لماذا يَتم العمل وفق المنهجيَّتين معاً؟ الجواب لما يلي:
أ- لتيسير المراجعة على المكلَّف المضطر للمراجعة السّريعة.
ب- لجعل الرِّسالة القانونيّة حائزة على سِمة منهجيّة التّدريس ووضعها كمنهج دَرْسي للرّاغبين في دراسة فتاوى مرجعهم، أو دراسة الفتاوى بشكل عام، تماماً كما هو حال أهل التّخصّص؛ إذ أنَّ التّحْشية والتّعليق في الرِّسالة بقضايا تحليلية أو تعليلية خارجة عن الإفتاء بلا شك تعمل على سلب المنهجيّة الدّرسيّة من الرِّسالة، وإن كانت تساهم في إيجاد حالة من التّشويق فيها ورفع الفتور أثناء الدّراسة؛ وبالتّالي بإمكان المريد للتوسّع ومعرفة تلك القِيَم التّربويّة والفكريّة والدِّينيّة أن يراجعها من نفس الرّسالة المصاغة بالأسلوب الآخر.
ج- لفتح المجال واسعاً أمام المقتدرِين من الرّاغبِين في شرح الرّسالة وإثرائها بالمسائل العِلميّة والتّعليليّة وتقديم أفكار تحليليّة جديدة بما يجعل من الرّسالة حيّة دائمة التّجدّد والتّنامي.
رابعاً:-
أمّا مَن هو الّذي يجب أن يَكتب كلا الطّريقتين لرسالة المجتهد بدءً؟ فهو:
نفس المجتهد كما المعتاد، خصوصاً بالنّسبة للرّسالة بمنهجها القانوني التّربوي، فضلاً عن كتابتها بمنهجها المرشّح عن الجانب التّحليلي والتّعليل الفكري الدِّيني التّربوي؛ لأنَّ الفقيه في كلا المرحلتين هو الأقدر على الصّياغة الدّقيقة، والتّفكير، وتقديم النّظريّات والمعلومات الدّقيقة، والتّأثير بروحيّته العالية على مقلِّدِيه وغيرهم؛ نظراً لما يمتلكه من قِيَم روحيّة هائلة وعظيمة ومريدِين لعلمِه وعطائه.
طبعاً نحن لا نقلِّل من شأن عقول الآخرين بهذا الكلام، كلا، إنّما التّدوين في المجال التّربوي وتقديم النّظريّات الدِّينيّة للمسائل الفقهية هو الّذي ليس بالأمر السّهل كما يُتصوّر؛ إذ يَحتاج ذلك لمعرفة واسعة واطّلاع كبير على مسائل الدِّين ونَفَسِه العام وذوقه الخاص في التّشريع، فالدِّين الإسلامي له معالم مختصّة وخطوط ومبادئ وحِكَم وغايات مترابطة في تأسيسِه للأحكام، وهذا لا ينكشف إلا لكثير الاطّلاع وصاحب الصّناعة العلميّة والفهم الدّقيق، خصوصاً وأنَّ أغلب هذه التّبريرات والقِيَم التّربويّة ترتبط بالجهة العقائديّة، كما أنّها كثيراً ما تحتاج للمعرفة التّامّة بأدوات ووسائل البحث السَّنَدي والْـمَتْني للرّوايات، وغير ذلك كعلم التّفسير وما شاكل، بل وقد حتَّى لعلم القراءات فيما إذا ارتبطت الفكرة المقدَّمة بقراءة معيَّنة لآية من الآيات المطروحة في المجال؛ إذ قد نجد هنالك نكتة يمكن إثارتها تجاه تلك القراءات في موضوعِ مسالةٍ تربويّةٍ أو فكريّةٍ ما.
فمثلاً قد يَقرأ شخصٌ غير مطّلع بصورة كاملة شاملة على الفكر الإسلامي وأبعاده المختلِفة، قد يَقرأ الآية القائلة في مسائل الإرث: {للذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَينِ}[1]، ثمَّ يَقرأ الحديث المنقول عن الإمام علي عليه الصّلاة والسّلام القائل: “النِّساء قليلاتُ عقلٍ ودِينٍ ونصيب …”، فيَعمل على تبرير السّبب في جعل حظِّ الأنثى أقل من حظِّ الذَّكر في الميراث، فيَصِل في تدوينه لذلك إلى نتيجة مفادها: أنَّ السّبب هو قلّة عقل المرأة ودِينها مثلاً، ممّا ساهم في تقليل نصيبها الإرثي!
فهذا التّبرير والتّحليل بلا شك باطل وهزيل، ولا يستحق أي قيمة علميّة في دِين الله وشريعة أصفيائه؛ لأنّ نفْس الإمام عليه الصّلاة والسّلام أيضاً له كلمات أخرى في النّساء يقول فيهنَّ أنَّ بعض النّساء أفضل من عشرات الرِّجال، بل هو نفْسه في ذات الحديث يبرِّر سبب كونهنَّ قليلات عقلٍ ودِينٍ ونصيب، بما يشير إلى أنَّ القضيّة لا تَرتبِط بالجانب الظّاهري والعقلي والدِّيني والإرثي بالمعنى المباشِر، وإنّما تَرتبِط باعتبارات تشريعيّة تعود بذاتها لحِكَم أخرى تَتّصل بأصل التّشريع وحقيقته، ككون المرأة مثلاً أكثر عاطفة من الرّجل، ممّا يَغلب على مستواها الأدائي، لا لضعف حقيقي في عقلها ولا لنقص فيها، وإنّما لطبيعتها الفريدة الكاملة الفذّة؛ هذا في جنبة العقل.
أو ككون المرأة تَفترِق عن الرّجل بتركيبتها الدّاخليّة وجهازها التّناسلي الخاص وإنائها المستهدَف للحمل المانع لها من الصّلاة في زمانِ تَحقّق طهارتها الدّاخليّة بخروج دم الحيض والنِّفاس، رغم كون الصّلاة مفروضة عليها قَبل الرّجل بعدّة سنوات تعادل وتساوي تقريباً بين المدّتين الّتي يصلّي فيها نظراً لبلوغها قبله بأعوام؛ هذا في جنبة الدِّين.
وككون المرأة في الميراث وإن كانت ترث أقل من الرّجل حسب الآية، إلا أنَّ هذا من القوانين العامّة في باب الإرث الّتي يُرجَع لها حال عدم وجود دليل آخر في مورد من موارد الإرث، إذ قد يسقط هذا القانون في بعض الحالات فترث أكثر منه، فضلاً عن أنَّ المرأة أساساً وإن كانت بحسب الآية ترث أقل إلا أنّها بحسب القوامة وحق النّفقة تحوز أكثر المال، فهي مضافاً إلى أنّها ترث أيضاً تشارِك الرّجل في ماله لوجوب نفقته عليها، بينما لا يشاركها هو في مالها لعدم وجوب نفقتها عليه، ممّا يعني بالنّتيجة أنّها هي الأكثر حظّاً من الجهة الماليّة لا الرّجل، ناهيك عن عدم وقوع الزّكاة في بعض أملاكها، كالمهر وما شاكل، بخلاف الرّجل مثلاً؛ هذا في جنبة النّصيب المالي.
فكل هذا ينتهي بنا إلى نتيجة مفادها أنَّ المرأة ليست قليلة عقل بالمعنى الحقيقي، ولا قليلة دِين بالمعنى الحقيقي، ولا قليلة نصيب بالمعنى الحقيقي، غاية الأمر أنَّ الإمام عليه الصّلاة والسّلام في الحديث المذكور وإن بَرَّر قلّة عقلها بكون شهادتها نصف شهادة الرّجل، وقلّة دِينها بكونها تقضي الصّوم ولا تقضي الصّلاة فيما يفوتها منهما بسبب عادتها، وقلّة نصيبها بنفس قانون الآية بكونها ترث نسبة أقل من الذَّكر، فهو صلوات الله عليه وإن برَّر كلامه بذلك، إلا أنّه غير ناظرٍ لحِكَم القانون الإلهي وغاياته الجوهريّة الدّاعية لتأسيس أي حُكْمٍ من هذه الأحكام، وإنّما نظره عليه أفضل الصّلاة وأتم التّسليم متوجّه إلى جهة اعتباريّة تَرتبِط بشكل القانون الإلهي لا غير.
إذن ذلك التّفسير الهزيل لا قيمة له مطلقاً في دِين الله تبارك وتعالى، بل هو مَذَمَّة في الدِّين وإساءة إليه ولنفْس الإمام عليه الصّلاة والسّلام، مع أنَّ البعض قد يَتمسَّك ويقول به، وما ذلك إلا بسبب الغفلة عن الأبعاد الكاملة للإسلام، والاقتصار في الاستدلال على النّظر من جهة واحدة، والافتقار للاطّلاع الواسع الّذي عادةً يكون متوفّراً لدى الفقيه والمتخصّص المتبحِّث، فهذا الاشتباه هو نتيجة للتّصدّي دون امتلاك الأدوات والشّرائط المطلوبة في مجال التّدوين من هذا النّوع المتطلِّب للدّقّة والشّموليّة والمعرفة الواسعة.
وعليه؛ عندما نقول أنَّ مسألة التّدوين في مجال النّظريّات الدّينيّة والأبعاد الفقهيّة تعود بالدّرجة الأولى للفقيه، فنحن لا نستحقر بذلك عقول الآخرين، وإنّما نشير إلى أنَّ الخوض في مجال التّحليل والتّعليل ليس بالأمر السّهل، فهو يحتاج إلى مرونة واقتدار وسعة وشموليّة ومعرفة وإحاطة ودراسة وتدقيق و…، فإذا توفّرت هذه الشّرائط في الفرد فلا مانع من أن يخوض في هذه المجالات، بل عليه أن يخوض فيها ويَسد الفراغ تجاهها.
خامساً:-
أيضاً ليس المطلوب على مستوى ربط القانون بروحه وأخلاقيّاته أن يَتم شحن الرِّسالة العمليّة شحناً كبيراً بالنّظريّات والقضايا التّربويّة والمسائل الرّوحية بحيث تخرج عن شكلها الخاص، وإنّما يكفي توجيه بعض النّظريّات العامّة للباب الفقهي، وبعض التّوجيهات الخاصّة للمسألة المعيّنة القابلة لذلك، وغيره ممّا سنذكره في آليّة علاج المعضلة الثّانية، بحيث تكون هنالك حالة من التّوازن بين تعليم القارئ للمسائل الشّرعيّة وترسيخها لديه، واستغلال هذا الطّريق لتمرير القِيَم والتّعاليم الإلهيّة وتربيته على أساسها تربية تساهم في تعميقها لديه وتقوية إيمانه بها، خصوصاً تلك المسائل الّتي كثيراً ما تحتاج للتّوجيه والتّوعية، لا سيّما ما ذكرناه من مسائل وموضوعات مهمّة عند بيان هذه المعضلة، فلا نكرِّر.
علماً أنَّ من شأن التّوازن في العَرْض فتْحُ مجالٍ واسع للأشخاص الآخرين ممّن لديه قدرة أيضاً على تدوين تلك الرّسالة مجدّداً وعرْضها على المقلِّد وغيره، إذ من شأن هذا –حسب الإشارة- أن يكسب الرّسالة حالة من الحيويّة والتّجدّد، مضافاً لمعاصرة الجديد من الأفكار المستجدّة.
سادساً:-
أضف إلى ذلك أنَّه حال تقديم النّظريّات الدِّينيّة والقِيَم التّربويّة ينبغي أن تُقدَّم على أساس أنّها تحليلات شخصيّة وحِكَم فكريّة، لا على أساس أنّها عِلل إلهيّة فيما إذا أريد ذِكرُ علّةٍ لـحُكْمٍ ما وكانت تلك العلّة غير منصوصة في الدِّين، أو كانت علّة من باب تقديم الحكمة لا السّبب في تشريع ذلك الـحُكْم، فمثلاً:
لحم “الحمار” مكروه الأكل، لكن الدِّين لم يَقل لنا لماذا لحمه مكروه شرعاً، غايته أنّنا يمكن أن نقول بأنَّ كراهة هذا اللحم سببها هو وجود خشونة فيه، فهذه العلَّة ليست علّة منصوصة من الدِّين؛ أي لم نعثر عليها من نفْس الشّريعة، وإنّما عثرنا عليها من خلال التّحليل والتّفكير والتّجربة والبحث، وبالتّالي قد تكون هي العلّة الحقيقيّة الّتي على أساسها صار حُكْم لحم الحمار مكروهاً في الشّريعة، وقد لا تكون هي العلّة الرّئيسيّة، حيث قد تكون هنالك عِلل أخرى لا نعلمها هي الّتي جعلت المولى سبحانه وتعالى يَحكم بكراهيّة أكل لحم هذا الحيوان، فأمثال هذه العِلل هي عِلل تحليليّة نحن نستنتجها، فقد تصيب وقد لا تصيب، وقد تكون جزء من السّبب لا كل السّبب، وهكذا.
أمّا مثلاً بالنّسبة لـ“الخمر” فهو حرام في الشّريعة بسب كونه يُسْكِر الإنسان ويُذْهِب عقله، فهذه العِلّة نفْس الدِّين الإسلامي أَفْصَح عنها، فقال الخمر حرام لأنّه مُسْكِر، فهذه العِلَّة تسمَّى “علّة منصوصة شرعاً”؛ أي هي السّبب الحقيقي في تحريم هذه المادّة، وقد بيّنه الله تعالى لنا ونصَّ عليه بقول الرّوايات أنّ “الإسكار” هو السّبب الحقيقي في تحريم هذا الشّراب، وبالتّالي لو رأينا خمراً لا يُسْكِر فلا شك عندها يجوز لنا أن نقول بأنّه حلال الشّرب، كخمر الجنّة مثلاً على فَرض أنّه نزل لنا على الأرض[2]؛ والسّبب في جواز تحليله هو عدم وجود علّة تحريم الخمر المنصوصة شرعاً فيه وهي “الإسكار”.
وعليه؛ ينبغي حال تقديم نظريّات دِينيّة وقِيَم تربويّة في الرِّسالة أن تُقدَّم على أساس أنّها تحليلات شخصيّة وحِكَم فكريّة، لا على أساس أنّها عِلل إلهيّة فيما إذا أريد ذِكرُ علّةٍ لـحُكْمٍ ما وكانت تلك العلّة غير منصوصة في الدِّين، أو كانت علّة من باب تقديم الحكمة لا السّبب في تشريع ذلك الـحُكْم.
وهنا لابدَّ أنّك تتساءل: ما هو الدّافع في ضرورة تقديم النّظريّات الدِّينيّة والقِيَم التّربويّة على هذا الأساس عندما لا تكون لها عِلل منصوصة في الدِّين؟
ج: الدّافع في ضرورة ذلك هو أنَّ الغفلة عن هذا البيان تَفتح المجال أمام بعض المُتَسَّفِّهِين للطّعن في الـحُكْم فيما إذا لم تَقبل عقولهم أو أذواقهم تلك الحكمة التّحليليّة المقدَّمة لذلك الـحُكْم، بحيث ينفي على أساسها الـحُكْم مباشرة تبعاً لنفيه واقعيّة تلك العلّة، عملاً بقاعدة “الانتفاء عند الانتفاء”؛ بمعنى أنّه قد يقول: بما أنَّ الحِكمة المذكورة في تشريع الـحُكْم الفلاني لا أرى لها واقعيّة وتأثير فإذن لا يجب أن أعمل به؛ لأنّه إنّما شُرِّع على أساس تلك الحِكمة بينما هي لا وجود لها، فلحم الحمار مثلاً لو وضعنا له “مُلَيِّناً” فستذهب خشونته، وبالتّالي لا وجه للحكم بكراهته، فيتحوّل حكمه من الكراهة إلى الإباحة! فقد يقول سفيهٌ بهذا الكلام.
بل وحتّى بعض الواعين قد يصيبه شيء مِن رفْضِ ذلك التّحليل وما شاكل، فيَرفض الـحُكْم الشّرعي ويعلِّق ذلك على أساس انتفاء ذلك التّحليل في هذا الزّمان وذاك المكان أو عدم وجود واقعيّة له أو عدم مؤثّريّةِ مفاده بشكل كبير على حياة الإنسان وما شاكل، في حين أنَّ ما ذُكِرَ لم يكن أساساً علّة لتشريع ذلك الحُكْم، وإنّما كان مجرّد تحليل فكري صَدَرَ من الكاتب؛ لذا ينبغي عدم إغفال هذه القضيّة الّتي من شأنها أن تفتح مجالاً للموسوِسِين والمشكِّكِين للانحراف في نفوسهم أو ممارسة التّدليس على الضّعفاء وخِداعهم، بل ويجب التّدقيق والتّمييز حتَّى بين “الحِكَم الشّرعيّة” و“العِلل الشّرعيّة”؛ لأنَّ الدّين أيضاً يَذكر أحياناً الحِكَم من تشريعِ بعض الأحكام، لكن لا على أساس أنّها السّبب الرّئيسي الكامل في تشريع ذلك؛ فهذه من القضايا المهمّة والدّقيقة الّتي قد يُخْطئ فيها حتّى بعض العُلماء وبها يُعْرَف الفقيه المقتَدِر في الاستنباط من الفقيه الغير مقتَدِر.
سابعاً:-
كذلك من الوجيه أن تَتساءل: مِن أين يمكن العثور على كل هذه المعارف والقِيَم التّربويّة لوضعها في الرِّسالة؟
ج: هذا أيضاً بالإمكان تحصيله في العديد من الآيات، والرّوايات والمجاميع الحديثيّة، وكتب الأخلاق، والبحوث الاستدلاليّة الفقهيّة، وسِيَر الأئمّة عليهم الصّلاة والسّلام، وخطبهم، كنهج البلاغة، وكتب العِلل والآداب والسّنن، والمدوَّنات الأخلاقيَّة، والأدعية بما هي ينابيع معرفيّة مليئة بالكنوز الزَّاخرة واللآلِـئ العظيمة، وكتب التّأريخ، ومؤلّفات أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم، كرسالة الحقوق للإمام السّجاد عليه الصّلاة والسّلام مثلاً، وغير ذلك الكثير.
فهذا الأمر كذلك يَعتمد على نوعيّة الكاتب، وسعة اطّلاعه، ومنهجه الّذي يَتّبعه ويَرى أنّه الأنسب في ملئ هذه الفراغات، فالمادّة العلميّة في هذا المجال أيضاً متوفّرة ووافية تقريباً بالقدر المطلوب، غايته أنَّ بعض المسائل والنّظريّات الفقهيّة والتّربويّة تحتاج لتشغيل الفِكْر والكشف عنها، كما أنَّ الإشكاليّات المستحدَثة والمستجدّة المرتبطة بهذه الجهات هي الّتي بحاجة لنوع أكبر من البحث وتسليط الضّوء عليها وتصحيح مساراتها.
والحمد لله أوّلاً وآخراً، والصّلاة والسّلام على رسوله المصطفى، وآله الطّيّبِين النُّجباء.
للتعلیق أو مطالَعة التعلیقات اضغط هنا