بسم الله الرّحمن الرّحيم
مَدْخَل مهم لدراسة الفقه “تتمّة القِسم الأوَّل”
إلهي شرِّفْنا بخدمةِ مولودِ هذه الأيّامِ المباركة، وعَجِّل له الفَرَجَ والنُّصْرَة، واجعلنا من أعوانه، والذّابِّين عن سلطانه، بحقِّ جدِّهِ المصطفَى وآبائِه الكِرام النُّجباء، صلواتك يا ربِّ عليهم أجمعين، وعلى صَحْبِهم الأخيرِين الأنجبِين.
وبعد..
الأمر الثّالث: الآليَّة المطروحة للعـــــــــــــــــلاج:-
تمهيد:-
تحدّثنا فيما سَبق من حلقات تَرتبِط بـ”الأمر الثّالث” – من القِسم الأوّل لهذا الـمَدْخل المهم السّابق على شرح المنهاج- عن علاج المنهج التّدويني والتّقسيمي للكتب الفتوائيّة، وهذا ما تناولناه في الفقرات (أ) و(ب) و(ج)، ثمَّ دَخلنا في الفقرة (د) المختصَّة بالحديث عن كيفيّة “علاج المعضلات” الّتي قدّمناها في “الأمر الثّاني” من القِسم الأوّل للـمَدْخَل، فتناولنا المعضلة الأولى “مشكلة الفصل بين القانون وجوهره واستعراض الرِّسالة العمليّة بصورة فتاوى مرشَّحة عن الدّليل وخالية عن البيان المرتبِط بالجانب التّربوي والأخلاقي للقانون“، وقدّمنا لهذه المشكلة ما نراه من طُرُق مفيدة وأُسُس يَلزم مراعاتها لعلاجها وتخليص الرِّسالة منها، فتوقّفنا عند الأمر السّابع، والآن نتم بقيّة حديث علاج المشكلة، فنقول:
ثامناً:-
مِن الجيّد في تطوير الرِّسالة وحل مشكلة “الفصل بين القانون وجوهره” أن نَستفيد أيضاً من الكَم التّجريبي الهائل الّذي أتحفتنا به “العلوم الطّبيعيّة الحديثة” ممّا أَبدع فيه الإنسان وبذل كل جهوده في استخراجه وتطويره، فالاستفادة من العلوم الحديثة تكون حتَّى بما هي عطاء متجدِّد بتجدّد الزّمان، متعدِّد بتعدِّد المجتمع والمكان، كعلوم الطّب والرّياضيّات والأحياء والكيمياء والفيزياء والنَّفْس…
وبالتّالي يمكن لنا أن نَعتبِر “العلوم التّجريبيّة الإنسانيّة” مَنبعاً آخر نستقي منه المعلومات النّافعة للفقه، ونضمّه للمَنابع الأخرى، لا أن نكتفي بالنّظريّات والقِيَم والمصادر الدِّينيّة فحسب، إذ أنّ كلاً مِن “نظريّات تلك العلوم” و”القِيَم الدِّينيّة” يُسانِد الآخر، ومقتدِر على المساهمة في علاج معضلة الفصل، كما يحاكي كل منهما مختلَف أنحاء النّظام والوجود وحركة التّطوّر الإنساني؛ لذا لابد من إيجاد حالة من المزاوَجة بين الفقه وبقيّة العلوم المتّصلة به، أخلاقيّةً كانت أم تجريبيّة.
إشكال جيّد يستحق النِّقاش:-
قد يوجَّه لهذه النّقطة إشكاليّة مهمّة ترتبط بتَغيُّر النّظريّات التّجريبيّة بين الحين والآخر، وسلبيّة وضْع هذه النّظريّات في كتب الفقه، حيث سيساهم ذلك في إكساب الرِّسالة حالة من الهشاشة والضّعف، كما سيقحمها في الانتقادات المستمرّة تجاه النّظريّات التّجريبيّة المتجدِّدة المصحِّحة لمضمون ومسار موضوعاتها السّابقة، فالنّظريّات التّجريبيّة الإنسانيّة التّابعة لعلوم النَّفس والرّياضيّات والأحياء وما شاكل علومٌ –كما هو واضح- تَتغيّر نظريّاتها من فترة إلى أخرى كلّما تقدَّم الإنسان واكتَشف شيئاً جديداً يرتبط بها ممّا كان غائباً عنه، فمثلاً:
كان القدماء من علماء الفلك والجغرافيا الطّبيعيّة قد ثبتَ لديه من خلال البحث أنَّ الأرض مسطّحة، وعلى هذه النّظريّة بَنوا جهات عديدة من العلوم، ثمَّ بعد مدّة من الزّمن وتطوُّر التّجربة الإنسانية جاء العالِم الفلكي (كوبرنيكوس) صاحب كتاب(De Revolutionibus Orbium Coelestium) الّذي نُشر عام 1543م بعد أن مَنعَه قادة الدِّيانة المسيحيّة مِن النّشر لمدّة، فأَثبتَ عكس ما كان يَعتقِد به النّاس والعلماء آنذاك، فانقلبت هذه النّظريّة رأساً على عَقِب بنسبة 180 درجة، حيث ثبتَ بعد ذلك لدى الفلكيِّين أنَّ الأرض مدوَّرة الشّكل وليست مسطّحة، وأنّها هي والكواكب تدور حول محور الشّمس، لا أنَّ الأرض هي الثّابتة والشّمس والكواكب تدور حول مركزها، ممّا اضطرّهم لتصحيح جميع معلومات العلوم الّتي اعتَمدَتْ على النّظريّة السّابقة، فطُبِع الكِتاب عام 1822م على أنّهيمثل الواقع الطبيعي بتصريح من الكنيسة المسيحيّة الّتي مَنَعتْ مِن نشْرِه في البداية.
فهذه النّظريّة كمثال كانت تُعتبَر من اليقينيّات عند العلماء قديماً، لدرجة أنّها عندما عرضها (جاليلو) ودافع عن نِظام ونموذج العالِم الفلكي (كوبرنسكوس)، وقال أنَّ الأرض كرويّة ضجَّت الكنيسة المسيحيّة، ممّا عرَّضه للحُكم عليه في قضاء الكنيسة عام 1933م بالزّندقة، بتهمة الاعتراض على ما جاء في الكتاب المقدّس (الإنجيل) والخروج عن تعاليمه، كما حُكِم عليه بالـمَنْع من البث في هذه المواضيع العِلميّة، ومَنْعِ نشْر كُتُبِه، ثمَّ نُفِيَ وسُجن في منزله تهدئةً (للقساوسة) علماء الدِّين في الكنيسة المسيحيّة –الكاثوليكية- بمدينة (روما)، إلى أن وافته المنيّة فيه عام 1642م بعد كل عطائه العِلمي؛ كل ذلك لأنّه خالف مسلَّمة من مسلّمات العلماء آنذاك، أو بالأحرى خالف ما هو موجود في (الإنجيل)، حيث أنَّ الإنجيل بكثرة أتباعه كان يروّج بين العلماء والعامّة من النّاس إلى نظريّة أنَّ الأرض مسطّحة وهي المركز للكون، بسبب وجود آية من آياته المحرَّفة تقول بذلك.
فجاليليو فينسينزو جاليلي، (Galileo Galilei)عالِم الرّياضيّات والفلكيالفيلسوفوالفيزيائي والمهندس الطّبيب، الإيطالي، الملقَّب “أبو العلم الحديث”، مخترع أوّل (ترمومتر) هندسي، الّذي كان ممّن اتَّبَعَ الطُّرُق التّجريبية في بحوثه العلميّة، فبحث في الحركة النّسبيّة، وقوانين سقوط الأجسام، وحركة الجسم على المستوى المائل، والحركة عند رَمي شيء في زاوية مع الأفق، واستَخدم البندول في قياس الزّمن، فجاليليو جاليلي محوّل (التّلسكوب) إلى (ميكروسكوب)، ومكتشِف أقمار كوكب المشتري الأربعة (القمر إيو) و(القمر أوروبا) و(القمر جاناميد) و(القمر كاليستو) المسمّاة باسمه، وصاحب كتاب “ديالوجو”، وكتاب (De motu antiquiora) المطبوع عام 1890م الّذي هاجم فيه بضراوة (أرسطو طاليس) ومَلأه بالتّجارب، وكِتاب “عِلمان جديدان” المهتم بعِلم حركة الغازات (الكينماتيكا) وعِلم “صلابة المادّة” الّذي مَدحه (أينشتاين) كثيراً، وكتاب “ساجياتوري” المشهور الّذي كتبه عام 1623م وبرهن فيه على أنَّ الطّبيعة تجري طِبقاً لقوانين يمكن صياغتها رياضياً، والّذي صاغ السّرعة والعجلة صياغة رياضيّة لأوّل مرّة بعد توصّلِه إلى أنَّ التّسريع والسّرعة شيئان مختلفان من خلال دراسة للتّسريع بالتّجربة على عدد من الكُرات المختلفة في موادّها، فهذا الباحِث المقتَدِر يُعتبَر بثقله الكبير من أبرز العلماء الّذين خاضوا في التّجربة، ودَلَّلوا على بطلان العديد من النّظريّات التّجريبيّة والطّبيعيّة الثّابتة لدى العلماء.
فجاليلو –كمثال آخر- هو صاحب نظرية (كوبرنيكوس)الّتي دافع عنها بقوة على أُسس فيزيائيّة، فقام بإثبات خطأ نظرية )أرسطو طاليس) حول الحركة عن طريق الملاحظة والتّجربة.
فنظريّة أرسطو في الحركة كانت تُعتبَر من يقينيّات ذلك العصر اليوناني المتقدِّم، وكانت العُمْدة في كثير من التّجارب والنّظريّات الأخرى، لكنَّ جاليلو من خلال تجاربه أَثبتَ لاحقاً لكلِّ العالَم فشل هذه النّظريّة وخطأها.
وكذا مثلاً كان علماء الفيزياء في ذلك الوقت قد ثبت لديهم أنّه لو أُلقي بجسمين مختلفي الوزن من ارتفاعٍ ما؛ فإنّ الجسم الأثقل وزناً يصل إلى الأرض قبل الآخر.
لكن
ما الّذي حصل فيما بعد؟
جاء جاليليو فأبطل هذه النّظريّة، وأَثبت بالنّظرية الرّياضية عكسها، ممّا أزال الاعتقاد الّذي كان شائعاً لدى العلماء آنذاك تجاه هذه المسألة العِلميّة.
بل لم يقف جاليلو عند هذا الحد، حيث أَبطلَ نظريّات تجريبيّة طبيعيّة أخرى، إذ اعتلى (بُرْج بيـزا) المعـروف في إيطاليا، ثمّ ألقى بجسمين مختلِفَي الوزن؛ فاصطدما بالأرض معاً في نفس اللحظة، فأَثبتَ على أساس ذلك بطلان عدّة نظريّات رياضيّة أخرى.
أضف إليه أنَّ نفس جاليليو جاليلي هو الّذي أَثبتَ عِلميّاً “بالعين والمِنظار” أنَّ الشّمس هي مركز الكون، وأنَّ الأرض وغيرها من الكواكب تدور حول مركز هذا الكوكب الـمُشِع، بعد أن كان من مسلَّمات ومعتقَدات علماء الفلك وأهل ذلك الزّمان أنَّ الأرض هي مركز الكون، وأنَّ الشّمس وغيرها من الكواكب هي الّتي تدور حول مركز الأرض، وليس حول مركز الشّمس، حيث قام جاليلو في سنة 1609م بصنع منظاره الفريد، الّذي فاق بكثير منظار العالم المعروف (ليبرشي)، فأَثبتَ من خلاله أنَّ الشّمس تتحرّك حول محورِها، كما أَثبتَ أنَّ القمر يدور حول الأرض أيضاً.
وكذا أيضاً استطاع جاليلو في تلك الأيام أن يبطل اعتقاد العلماء تجاه (الطّريق اللبني) الموجود كخط أبيض طويل في السّماء، حيث كانوا قد أَثبتوا أنَّ هذا الخط عبارة عن سحابة متكوّنة في حزمة من الضّوء، كما كانوا يَعتقدون بأنَّ القمر مسطّح الشّكل، لكن عندما نظر جاليليو إلى السّماء من خلال منظاره لم يجد شيئاً صحيحاً من كل ذلك؛ حيث رأى أنّ (الطّريق اللبني) ليس مجرّد سحابة من الضّوء، وإنّما هو خط يتكون من عدد لا حصر له من النّجوم المنفصلة وما شاكل، كما رأى أنّ القمر فيه مرتفَعات وليس بمسطّح.
فالنّظريّات المكتسَبة من خلال التّجربة الإنسانيّة قابلة للصّحة والخطأ، وللتّغَيُّر والتّجدّد، وإن كانت متيقَّنة عند العلماء في فترة من الفترات، بينما الفقه والعلوم الإلهيّة المرتبطة بدِين الله غير قابلة للخطأ؛ وبالتّالي فإنَّ الاستفادة من نظريّات العلوم الطّبيعيّة في الرِّسالة العمليّة من شأنه أن يُعرِّض الأحكام الإلهيّة للنّقد، وأن يَجعل من الرِّسالة هشّة وضعيفة، فيساهِم بنتائج سلبيّة على الدِّين والفقه، لا بنتائج إيجابيّة، حيث سيكلِّف ذلك في بعض الأحيان حمل أخطاء التّجربة على الدِّين ونَسْبها اشتباهاً إليه، وفي أحيان أخرى سيجبرنا على تصحيح ما بطل واكتُشِف خطأه في الرّسالة من تلك النّظريّات والتّجارب المتغيِّرة، ومن هنا كيف نضع مثل هذه الأمور في كُتب الفتوى خصوصاً وأنّها تجارب الإنسان، وهذه التّجارب لم تصِل لنا من خِلال الدِّين، والحال أنَّ الفقه أمرٌ متّصل بالدِّين؟!
ردُّه:-
إشكالٌ قويٌّ، في ظاهره، ضعيفٌ في محتواه؛ ذلك للإيرادات التّالية:
(الإيراد الأوّل):-
نحن لم نقل بوضع تلك النّظريّات للاستدلال بها على الـحُكْم الشّرعي، أو استعراضها في الكُتب الفقهيّة الاستدلاليّة، وإنّما قلنا بوضعها واستعراضها في خصوص هذا النّوع من التّدوين المرتبط بالرّسائل الفتوائيّة الموجَّهة للمقلِّدِين، ففرق بين الكِتاب الفقهي الاستدلالي وبين الرّسالة العمليّة الفتوائيّة، فالرّسالة إنّما نريد أن نَستعرض فيها النّظريّات التّجريبيّة لِربْط الـحُكْم بروحه الطّبيعيّة وأخلاقه وحِكمة تشريعه، وتحليل هذا الـحُكْم من جهة كونيّة وما شاكل، فالدِّين لا ينفصل عن الوجود، إذ إنّما يُشرِّع الله الأحكام طبق ما يراه من مصالح تتلاءم مع ما خلقه وكوَّنه في هذا العالَم.
(الإيراد الثّاني):-
إنَّ الالتزام بما قلناه سابقاً في عَرْض العِلل والنّظريّات الدِّينيّة والقِيَم التّربويّة من بيان أنّها أطروحات فكريّة وحِكَم احتماليّة لا علل نصّيّة إلهيّة، كل هذا من شأنه أن يدفع هذا الاستشكال الهزيل، فنحن بيّنّا في “رقم6” من الحلقة السّابقة هذه النّقطة وأوضحنا مفصَّلاً بأنّه ينبغي على المستفيد من هذه القِيَم والنّظريّات الدِّينيّة أن يشير للقارئ إلى أنّها ترتبط بتحليلات وتوجيهات جاء بها من عنده بتحليله الشّخصي وخبرتِه الدِّينيّة لا أنّها أتت من نفْس الدِّين، وكذا الأمر نفْسه نقوله هنا بالنّسبة للاستفادة من النّظريّات التّجريبيّة الإنسانيّة، فهذا بذاته يَدفع الاعتراض المذكور.
(الإيراد الثّالث):-
لقد بات معلوماً لدى الكثيرِين بأنَّ هذه النّظريّات الطّبيعيّة يَفتعلُها الفكر البشري، وتأتي بها التّجربة الإنسانيّة القابلة للتّجدّد والتّغَيُّر، وأنّها ليست من موارد الاعتماد في الدّليل والبرهان الشّرعي كما هو واضح وجلي في المباحث الاستدلاليّة.
هذا ومن الجيّد والمسدَّد ما تتناوله الرَّسائل العمليّة –تلميحاً أو تبييناً- لـمَصادر التّشريع والـمَدارك المقرَّرة لاستنباط الـحُكْم الشّرعي، إذ أنَّ الفقهاء اعتادوا على الإشارة في أوّل مسائل الرّسالة إلى الـمَصادر الّـتي يَتم من خلالها التّوصّل للأحكام الشّرعيّة، حيث لا يُذْكَر من بينها هناك أنَّ “التّجربة البشريّة” مصدر من مصادر التّشريع واستنباط الـحُكم الشّرعي؛ نعم التّجربة البشريّة قد تساهِم في تغيير “نتيجة الـحُكْم” لا أنّها طريق من طُرُق الاستدلال، وهذا أمر يَرتبِط بالفقيه ومدَى اطّلاعه على هذه التّجارب، ومستوى قدرته على توظيفها والاستفادة منها، فهذا الأمر بحد ذاته يعطي لهذه التّجارب فائدة مهمّة أخرى نعتبرها من الفوائد الكبرى، حيث يـمْكِن من خلالها فتْح المجال أمام الفقيه للاستفادة منها في “نتائج بعض الأحكام”، فالعِلم كلّما اتّسعتْ جهاته وقدراته كلّما اتّسع معه إدراك الإنسان وفهْمه وتشخيصه، سواء كان هذا الإنسان فقيهاً أم غير فقيه، كلٌّ بحسب معرفته وطاقته.
(الإيراد الرّابع):-
على العكس؛ فإنَّ استعراض النّظريّات التّجريبيّة في الرَّسائل العمليّة يَجعل من الكِتاب الفتوائي كِتاباً عصريّاً يحاكي التّقدّم الإنساني في فكره حسبما أوضحنا، ويزيل القطيعة الّتي أوجدها الكُتّاب والمحقِّقون بين الدِّين والعِلم الحديث، ويثْبت على الدّوام صلة التّرابط القويّة بين التّشريع الإلهي وحقائق التّكوين، ويَكشف عن السّرائر في هذا التّشريع الخالد الممتد العظيم باستمرار بما له من رؤية دقيقة منذُ بعيد الأزمان تُواكِب التّطوّر وتنسجم معه، ممّا سيساهِم بالنّتيجة في دفع الكثير من “الإشكاليات الكلامية والفكريّة” الموجَّهة إلى قِيَمه قبل ولادتِـها، ويَجعل منّا طرفاً مبتكِراً بدل أن نكون طرفاً مدافِعاً على الدّوام! فهذه عدّة فوائد إيجابيّة تنتجها هذه الفائدة.
(الإيراد الخامس):-
إنّ الكِتاب الفتوائي ليس على الدّوام مرجعاً للمقلِّدِين، ليقال هذا الشّيء ويوجَّه مثل هذا الإشكال الضّعيف الفاسد، فالمرجع بعد رحيله يقلَّد غيره، وبالتّالي ما أن تصدر رسالة جديدة للمجتهد الجديد إلا وقد غُيّرت تلك النّظريّات التّجريبيّة من الرِّسالة إلى ما هو حديث منها.
(الإيراد السّادس):-
إنَّ تلك النّظريّات لا تَتغَيّر بأجمعها، فالكثير منها يكون ثابتاً حسب ما أثبتته التّجربة نفسها.
(الإيراد السّابع):-
إنَّ الكثير من النّظريّات المتغيِّرة لا تتبدَّل بشكل جذري بالكامل، وإنّما تُطوَّر أكثر من السّابق مع الحفاظ على الجوهر المكتشَف فيها قَبْلاً.
(الإيراد الثّامن):-
إنَّ ما يَتبدّل من تلك النّظريّات لا يَتبدّل في يوم وليلة، بل قد يَحتاج بعضها لسنوات طويلة كما قد يَحتاج بعضها الآخر لقرون ممتدّة، ومنه سيكون الكِتاب الفتوائي متماشياً مع مقتضيات التّطوّر حتّى على هذا المستوى.
(الإيراد التّاسع):-
إنَّ هذا الاستعراض للنّظريّات الطّبيعيّة يُكْسِب الرِّسالة الفتوائيّة ميزة تَجعل منها مَصبّاً للبحوث المتعدّدة، كما يَفتح المجال أمام الكُتّاب لتدوين شروح عديدة لها بفعل سعة المجال التّجريبي الإنساني.
(الإيراد العاشر):-
إنَّ التّجدّد التّجريبي كما يَدْعَم ويُسانِد التّجدّد التّدويني باستعراض الرّسالة مجدّداً كذلك يساهِم في ترغيب المكلَّف بقراءة الرّسالة الجديدة الحاوية لما هو جديد على فكره ومستذوَق لدى نفْسه، ممّا سيَرفع حالة النّفور لديه تجاه المطالعة المتجدّدة للرّسالة الجديدة لمرجعه.
(الإيراد الحادي عشر):-
إنَّ التّجدد في التّجربة من شأنه أن يمرِّر الفتاوى الشّرعيّة المستجدّة والمختلِفة في النّظر عن فترة سابقة لدى نفْس الفقيه، بما سيَجعل من المكلَّف على ارتباط دائم بمرجعه وثقافة دائمة بما يضعه من فتاوى جديدة أو تصحيحيّة؛ فهذه من المزايا الكبرى لهذا النّوع من التّدوين.
(الإيراد الثّاني عشر):-
من شأن هذه المعاصَرة بين الفقه والتّجريبيّات أن تَستجذِب أنظار العالَم حتّى من غير المسلمين؛ ذلك بسبب اهتمام الكِتاب الفتوائي بكل ما هو حديث، وعنايته بإبداعات الإنسان، وعدم تهميش وتجاهل مشاقّه وقدراته؛ وهذا بالتّالي يَجعل من الرِّسالة العمليّة كِتاباً مثاليّاً.
(الإيراد الثّالث عشر):-
أضف لما سَبق أنَّ هذه المنهجيّة إذا التزم بها الفقيه؛ فإنَّ من شأنها أن تَجعل منه متكلِّماً باستمرار، ممّا يعني إيجاد رافد حيوي من روافد الحركة العلميّة أيضاً.
(الإيراد الرّابع عشر):-
كذا سيمكّننا ذلك من الحفاظ على الكتاب الفتوائي حتّى بعد رحيل المجتهد؛ لأنّه سيكون بمثابة مرجع ضروري ومهم لفهم مراحل التّجربة وما مرّت به من أفكار قديماً وحديثاً، كما سيساهِم في رسم مشوارها بصورة كبيرة، ممّا يعني حِفظ الكِتاب الفتوائي من الاندثار حتّى بعد موت الفقيه.
(الإيراد الخامس عشر):-
من شأن هذه المنهجيّة أن تُـحْدِث ثورة عُظمَى على مستوى تعليل الأحكام، وأن توجِد لدينا بعد زمن من التّدوين والتّحليل وفقها تعليلات كثيرة لكلِّ حُكْمٍ فرديٍّ فضلاً عن المجموع؛ وهو ما سينعكس بالضّرورة على أتباع “أصل القِياس” الآتي بيانه، ويساهِم في جعلهم أمام كم هائل من العِلل بما يَمنعهم ويَقْطع عليهم الطّريق عن التّمكّن من تطبيق هذا الأصل في الكثير من الموارد الشّرعيّة، ويجدّد لديهم وجهة النّظر تجاه هذا المسلك الخاطئ، ويبرهِن لهم بصورة أكبر مدَى بطلانه.
وغير ذلك من الفوائد الكثيرة الّتي تُشِير إلى أنَّ هذا الاعتراض هامشي وغير موضوعي.
(الإيراد السّادس عشر):-
ثم إنّ هذا الإشكال يُنْقَض عليه بأنّ نفْس الفتاوى بذاتها تتجدّد؛ فهل هذا يعني أن لا يفتي المجتهد بشيء هروباً من التّجدّد في النّظر؟! بل حتَّى النّظريّات الفلسفيّة رغم قيامها على البَدَهيّات العقليّة بِدءً إلا أنَّ بعضها متغيِّر؛ بدليل وجود الاختلافات الكثيرة الواقعة بين الفلاسفة، وإن كانت اختلافاتهم لا تطال الثّوابت وإنّما تطال روابط تلك الثّواب ونتائجها؛ وبالتّالي هل معنى هذا رفض علم الفلسفة وإبعاده عن التّدخّل في إثبات أصول القضايا العقائديّة والدِّينيّة من وجود للخالق والمعاد وما شاكل؟!
لا يوجَد منصِف يقول بذلك.
(الإيراد السّابع عشر):-
ألا نقول بأنَّ الفقه شامل لجميع جوانب الحياة؟
إذن العُهْدة في أن نثْبِت ذلك على هذا المستوى من الحياة المرتبط بإبداعات الإنسان، لا أن نثْبِت ذلك على مستوى حُكْم الحادثة فقط؛ لأنَّ الفقه إن كان شاملاً لذلك، فلا ريب في أنَّ جوانب الحياة شاملة له أيضاً ولو على المستوى المعنوي والتّبريري؛ وبالتّالي لا ضير في أن نعرف مدى الصّلة بين الإثنين باستمرار.
نعم اتّباع هذا النّوع من التّدوين يَتطلّب جهداً كبيراً قد لا يَمتلك له الفقيه وقتاً بسبب كثرة مشاغله -الآتي عليها الذِّكر- بما هي وظائف أكثر ضرورة وأهمّيّة، لكن يمكن علاج هذا الأمر بإيجاد لجنة متخصّصة تمارِس هذه الوظيفة، تماماً كما نجد لِـجاناً متخصّصة في الإفتاء لدى جميع مكاتب الفقهاء للإجابة على فتاوى المكلّفِين طبق رأي مرجعهم.
نكتفي بهذا القدر، ولله الشّكرُ والحمد، والصّلاة والسّلام على نبيّنا محمّد، وآله الطّيِّبِين الميامين.
للتعلیق أو مطالَعة التعلیقات اضغط هنا