بسم الله الرّحمن الرّحيم
مَدْخَل مهم لدراسة الفقه “تتمّة القِسم الأوَّل”
إلهي! أَحمدُكَ وأُثْني عليك، وأنتَ ربُّ العالمين؛ إلهي أتذلُّلُ إليك وأسألك وأنت أرحمُ الرَّحمين، اللهمَّ بحقِّ نبيِّكَ الكريم، وشهرِكَ العظيم، مُنَّ علينا بقَبولِ صيامِه وقيامِه، يا جوادُ يا حليم، وصلِّ على رسولِكَ المصطفى، وإمامِكَ المرتضى، وآله الطَّيِّبِين وصحبه المنتجبِين.
وبعد.. ::{ملاحظة: هذه الحلقة تحتاج إلى تركيز}::
الأمر الثّالث: الآليَّة المطروحة للعـــــــــــــــــلاج:-
تمهيد:-
تحدّثنا فيما سَبق من حلقات تَرتبِط بـ“الأمر الثّالث” -من القِسم الأوّل لهذا الـمَدْخل المهم السّابق على شرح المنهاج- عن علاج المنهج التّدويني والتّقسيمي للكتب الفتوائيّة، وهذا ما تناولناه في الفقرات (أ) و(ب) و(ج)، ثمَّ دَخلنا في الفقرة (د) المختصَّة بالحديث عن كيفيّة “علاج المعضلات” الّتي قدّمناها في “الأمر الثّاني” من القِسم الأوّل للـمَدْخَل، فتناولنا المعضلة الأولى “مشكلة الفصل بين القانون وجوهره واستعراض الرِّسالة العمليّة بصورة فتاوى مرشَّحة عن الدّليل وخالية عن البيان المرتبِط بالجانب التّربوي والأخلاقي للقانون”، وقدّمنا لهذه المشكلة ما نراه من طُرُق مفيدة وأُسُس يَلزم مراعاتها لعلاجها وتخليص الرِّسالة منها، فتوقّفنا عند الأمر الثّامن، والآن نتم بقيّة حديث علاج المشكلة، فنقول:
تاسعاً:-
وفيه نريد أن نقدِّم آليّة منضبطة ودقيقة للتّعامل مع التّعليلات والتّحليلات المراد تقديمها لموضوعات الرِّسالة المختلِفة عند إرادة الاستفادة من التّحليل والتّعليل –بما لهما من أهمّيّة كبرى- لرفع المشكلة، وذلك كما في النِّقاط التّالية:
النّقطة الأولى:-
ينبغي بدايةً معرفة أنَّه بين العقل والشّرع تطابق وثيق، خلافاً لما تَعتقِد به بعض “المذاهب الإخباريّة” كما سبق أن أشرنا في مذاهبهم الثّلاثة تجاه العقل.
طبعاً هذه المسألة من “المسائل الكلاميّة” المهمّة والمرتبطة بموضوع قضيّتنا ارتباطاً كبيراً ومباشراً، لذا نقول:
إنَّ العقل مفطورٌ على قَبول العِلل والبراهين الواقعيَّة، بحيث عندما يَتوصَّل لها يؤْمِن بصوابها ويَتقبّل تبريراتها، وحتَّى تلك الأمور الّتي يُخْطِئ فيها فهو عند اكتشافه للخطأ لا يَحْكُم به إلا بعد أن تَتواجد لديه رؤية أخرى مقابلة لذلك الخطأ؛ ذلك كي يَجعل من هذه الرّؤية الأخرى حُكماً بديلاً لما تَوصَّل إليه، ويضعها محل الرّؤية السّابقة الّتي أسقطها واكتَشَف خطأها.
ولأنَّ الشّرع المقدَّس لا يُشرِّع أحكامه إلا وفق الواقعيّات والحقائق والعِلل الصّائبة بلا اشتباه؛ كان لابدَّ من وجود تطابق بين العقل والشّرع، بحيث عندما يدرِك العقل تلك العِلل الملاحَظة والمعتبَرة في الـحُكم المشرَّع من الله تعالى؛ فإنَّ العقل مباشرة يَتّفِق مع الشّرع في تلك العِلل وفي ذلك الحكم المشرَّع على أساسها، فيؤْمِن بدليل الشّرع وحجّته.
نعم؛ العقل لا يدرِك كلَّ شيءٍ كما سنبيِّن، وكثيراً ما يدرِك عندما يَتوجَّه للشّيء الّذي يريد إدراكه، وبالتّالي من منطلق ذلك الإدراك -عند حصوله- يصدر العقل أحكامه وتقريراته، ممّا يعني أنَّ عدم إدراك العقل لبعض الأمور واشتباهه في بعض الأشياء لا يلازمه وجود اختلاف حقيقي بينه وبين الشّرع، ولا يعني عدم وجود تطابق بين أحكامه وعِلل التّشريعات الّتي يضعها الدِّين؛ ذلك لأنَّ الاشتباه وقع من نفْس العقل، فلو تمَّ توجيه العقل لِـمَا هو الصّواب تجاه اشتباه أو تجاه ما يَجهله؛ لأَقرَّ بخطئه وجهْله وآمن بالصّواب، ومن ثم سنجد أنّه يتوافق مع الدِّين في جهة الاختلاف الّتي وقعت بينهما بسبب الاشتباه والجهل.
إذن؛ عند توهُّم العقل في بعض المراحل لشيءٍ ما، ومخالفته في الحكم مع تشريع الدِّين، بلا شك عند تصحيح ذلك التّوهّم الّذي تمَّ الوقوع فيه؛ ينكشف عدم وجود اختلاف بين الإثنين.
فمثلاً عندما يَنظر العقل في طبيعة “شراب الخمر”، ثمَّ يَتوصَّل إلى أنَّ الخمر لا يَحْمِل في خصائصه ما يضر، فيَنظر بعد ذلك في أحكام الشّريعة، فيجد أنّ الشّريعة تحرّم الخمر، فهو –أي العقل- بسبب اشتباهه في الحكم على الخمر سوف يقول بأنَّ الشّريعة اشتبهت في الحكم على الخمر بالحرمة، بينما إذا تمَّ تصحيح هذا الاشتباه الّذي وقع فيه العقل تجاه هذا الشّراب، بحيث يتم بيان حقيقة الخمر الواقعيّة له بتبيين أنَّ الخمر يَعمل على إسكار الإنسان وإذهاب عقله وإدراكه، وإقاعه في الفواحش، وكذا إصابته بالأمراض العضويّة الخطيرة المؤدّية للموت، فالعقل إذا تمَّ تصحيح اشتباهه الّذي وقع منه تجاه الخمر، فتَوصَّل إلى قناعة بأنَّه مضر، وأنَّ له مفاسد كبيرة جدّاً على الإنسان؛ عندها سيقول: نعم، يجب المنع من تناول هذا الشّراب المفسِد المضر.
لاحِظ كيف أنَّ العقل بمجرَّد تصحيح خطئه ووقوعه على الحقيقة قام بتغيير حكمه، فتطابق رأيه مع رأي الشّريعة؛ فهذا دليل على أنَّ عدم إدراك العقل لبعض الأمور لا يَلزم منه وجود اختلاف حقيقي بينه وبين الشّرع، ولا يعني عدم تطابقه في الـحُكم مع عِلل التّشريعات الّتي يضعها الدِّين؛ ذلك لأنَّ الاشتباه –كما قلنا- وقع من نفْس العقل، فلو تمَّ توجيه العقل لِـمَا هو الصّواب تجاه اشتباه وجهله؛ لأَقرَّ بخطئه وآمن بالصّواب.
أضف إليه أنَّ الشّارع المقدَّس -كما يعبِّرون- هو “سَيِّد العُقلاء”، وسيّد العقلاء يجب أن يوافق عمله وتشريعه للعقل، وإلا لا معنى لهذا التّعبير في حقِّه؛ بل هذا التّعبير أساساً لم يأتِ إلا بعد الإيمان بالتّطابق بين الجهتين “العقل” و”الشّرع”.
ثمَّ إنّه في حالات عدم إدراك التّطابق بين الجهتين –بين العقل والشّرع- في بعض الأحكام، فإنّ سبب ذلك يعود دائماً إلى عدم وصول عِلل تشريع ذلك البعض من الأحكام الإلهيّة إلينا، فالعقل أساساً يَحتاج لبيان العلّة الواقعيّة الّتي على أساسها شَرَّعَ الله سبحانه الحكم المعيَّن، وإلا فإنَّ العقل –مبدئيّاً- لا يَجزِم بأنّ تعليلاته لـ”الأحكام الشّرعيّة” تعليلاتٌ واقعيّة، وإنّما يَحتملها ويقول: “أظنُّ أنَّ علّة تشريع الحكم الفلاني هي كذا”؛ علماً أنَّ احتمالات العقل لتلك العِلل تارة يَشتد ويضعف، بحيث تَتفاوت الدّرجات في احتمالاته تجاه الموضوعات المختلِفة، وإلا لو كان العقل –مبدئيّاً- يدرك تلك العِلل الّتي على أساسها شرَّع الله الأحكام؛ لَـمَا احتجنا –بتقدير من التّقديرات- لأن يشرِّع الله تعالى لنا الأحكام ويضع لنا القوانين.
وعليه؛ فالعقل يَتطابق مع الشّرع بمجرَّد معرفته للعلّة التّشريعيّة، ويقر “بحكمة الله تعالى” بناءً على ذلك.
هذا؛ وبسبب وجود التّطابق بين الجهتين، كان العقل قادراً على تقديم نظريّات دِينيّة متماسكة وقويّة بالاستفادة من الدِّين والتّجارب، كما بإمكانه تحليل الأحكام الإلهيّة تحليلاً متيناً، وبيان أهدافها الاجتماعيّة والفرديّة، وهو –أي العقل- حتَّى على مستوى الأحكام الممتنِعة عن التّعليل لديه ممّا لا يَقْدِر على استنباط علّته بنفسه كما سنبيِّن، يستطيع أيضاً أن يقدِّم لتلك الأحكام رُؤى ونظريّات مُرْضية ومقْنِعة بدرجة كبيرة حول بعض جهاتها الأخرى الغير مختصّة ببيان العلَّة من وراءِ تشريعها.
النّقطة الثّانية:-
لقد أجمع علماؤنا على حرمة العمل بـ”القِياس” في الدِّين؛ ذلك نظراً لعدم حُجّيّـة ما لم تَثْبت له الـحُجّيّة في الدِّين، وتبعاً لما جاءت به روايات أهل البيت عليهم أفضل الصّلاة والسّلام المشدِّدة على المنع من العمل بـ”القِياس” والـمُذِمّة لِمن يَعمل به.
هذا رأي علمائنا في “القِياس”، بينما خالف بعض علماء أهل السّنّة في ذلك، كأبي حنيفة النّعمان مؤسِّس وإمام المذهب الحنفي، حيث خالف في ذلك أستاذه الإمام الصّادق عليه أفضل الصّلاة والسّلام، إذ ذَهب للقول بجواز العمل بالقياس في الأحكام الدِّينيّة.
فمثلاً: عندما يواجهك شيء لم تجد له حكماً شرعيّاً في الآيات والرّوايات وما شاكل، فأنت عند مواجهتك لهذا الشّيء إن كنتَ على مذهب أبي حنيفة فستَخرج بنتيجة على أساس التّمهيد لها بالقول:
ما الّذي يشبه هذا الشّيء من الأشياء الأخرى الّتي وصل لنا حكمها الشّرعي؟
فتَبحث عن شيء مشابه له، فتنظر في طبيعة ذلك الشّيء المشابه، فإذا كانت الحرمة –مثلاً- هي حكم هذا الشّيء المشابه لذلك الشّيء الآخر الّذي تريد أن تستنبط له حكماً، عندها تقول:
لماذا حرَّم الله هذا الشّيء، وما السّبب في منْحِه هذا الحُكم؟
فتستنبِط -من خلال التّبرُّع الشّخصي– علّةً تَستنتجها بتحليلاتك الشّخصيّة وتنتزعها من خلال اجتهادك الخاص[1]، ثمَّ تقول: الشّيء الفلاني لم يصل لنا فيه حُكم معيَّن، ولكنَّه مثل ذلك الشّيء المشابِه له من جهة العلّة الفلانيّة الّتي استخرجتَها أنت شخصيّاً وأبرزْتَها باجتهاداتك وتحليلاتك الشّخصيّة التّبرّعيّة، فتَقوم بعد ذلك بمنح حكم ذلك الشّيء المشابِه إلى هذا الثّاني الّذي تبحث له عن حُكم، فتقول بما أنَّ هذين الشّيئين متشابهان، وبما أنَّ ذلك الشّيء المشابِه حرام، إذن هذا الثّاني حرام أيضاً.
دعني أضرب لك مثالاً تبسيطيَّاً:
فمثلاً عندما تأتي إلى “لحم الأرنب” فتجد أنَّ حكمه الشّرعي لم يصل لنا، فتنظر في طبيعته وخصائصه، فتجد –مثلاً- أنّه لحمٌ خشن، فتقول: “لحم الحِمار” أيضاً خشن، وقد حكمَت الشّريعة على أكل لحم الحمار بالكراهة، وبما أنَّ لحم الأرنب مثله خشن؛ إذن أكله مكروه أيضاً؛ لأنّه يشبه لحم الحمار وإن لم تَقل الشّريعة ما هو سبب الحكم على أكل لحم الحمار بالكراهة!
فأنت إن كنت على مسلك أبي حنيفة ومذهبه العامل بـ“القِياس” والقائم على اعتبار التّبرّع بالعِلل وإعطائه ذلك الحُجّيّة الشّرعيّة؛ فستَفعل هكذا مع الشّيء المجهول حكمه في الشّريعة، بحيث تقيسه على شيءٍ آخر فيه شبه منه.
أمّا إن كنتَ جعفريّاً تسير على مذهب أئمّة أهل البيت عليهم أفضل الصّلاة والسّلام؛ فستَخرج بنتيجة أخرى لذلك الشّيء المجهول في حُكمه، ذلك على أساس التّمهيد له بالقول:
هذا الشّيء ليس حراماً ولا مكروهاً، فهو وإن كان مثل ذلك الشّيء الآخر من الجهة المذكورة، إلا أنّه يَختلِف عنه في جهات كثيرة، ولا عِلم لي لعلّه حلال في علم الله، فتَرجع للقوانين المعتبَرة في الاستدلال والقواعد الشّرعيّة العامّة –غير القياس وما ليس بحُجّة- لتَتوصَّل إلى حكم ذلك الشّيء الّذي تَجهل حُكمه، فقد تقول مثلاً:
بما أنَّ “لحم الأرنب” كان حلالاً قبل الإسلام، ولم يصل فيه تحريم من القرآن أو من سنّة النّبي وأهل بيته صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أو منهما؛ فهو إذن على حكمه السّابق حلال.
فأنت هنا تكون قد استدللت بـ“أصل الاستصحاب” أو “أصل الحِلِّيَّة” مع مراعاة الفارق بين هذين القانونين، بعد أن ثبت لك أنَّ دليل “الاستصحاب” أو دليل “الحِلِّيَّة” حُجَّة في الإسلام، ولم تَستدِل بـ”القِياس التّبرّعي” الّذي مَنع الشّرع عن العمل به، وقال أنَّه ليس بحجَّة، وأَنْزَلَه منزلة ما لا تدليل فيه وإن كان –أي القياس- ممّا قد يصيب الواقع أحياناً.
وعليه؛ نَفهم ممّا تقدَّم أنَّ “القياس” إنّما هو ممنوع في حدود معيَّنة لا دوماً في جميع الأحكام الشّرعيّة، فهو كما رأيت ممنوع في: 1– “خصوص ما لم يصلنا فيه دليل شرعي خاص”، 2- وفي خصوص ما يقاس على حكم آخر لم تصل لنا “علّة نصّيّة في سبب تشريع الله له”؛ فذلك الشّيء الثّاني “لحم الحمار” لم يصل لنا عنه دليل يقول بأنَّ الله تعالى حَكم عليه بالحرمة بسبب العلّة الفلانيّة “خشونة لحمه” مثلاً، والشّيء الأوّل “لحم الأرنب” لم يصلنا حُكم شرعي خاص به؛ لذا منعنا القياس تجاهه.
أمّا لو اختلَّ أحد هذين الأمرين؛ كأن وصلنا حكم خاص لذلك الشّيء المجهول حكمه؛ فإنّنا عندها سنَسير على حكمه ولن نلجأ للقِياس أو غيره؛ لأنّه لا حاجة لنا بذلك، فنحن إنّما نقيس أو نستعمل القوانين الأخرى من أجل أن نَستخرج حكماً لشيء لا يوجد عندنا حكم شرعي تجاهه، ولكن عندما يصلنا حكم شرعي خاص له؛ فإنّه لا تَبقى لدينا حاجة للبحث عن حكمٍ له بالقوانين الأخرى.
وكذا الأمر فيما لو اختلَّ الأمر الآخر، فتَوفَّر لدينا حُكم علَّله الله وذَكَر سبب تشريعه فقال فيه:
لقد حرّمتُه بسبب كذا، فوُجِد لدينا شيء معيَّن لم يصل إلينا فيه حكم شرعي، وكان هذا الشّيء تتوفَّر فيه علَّة وسبب تحريم ذلك الشّيء الأوَّل، فهنا يمكن لنا القياس، بل يجب أن نقيس ولو احتياطاً، فنَمنح للثّاني نفس حكم الأوّل، ونقول عنه بأنَّه حرام أو محتاط الحرمة؛ لأنَّ علَّة تحريم ذلك موجودة في هذا، ولا يُعقَل أن يحرِّم الله سبحانه شيئاً على أساس هذه العلَّة، ولا يحرِّم شيئاً آخر فيه نفس تلك العلّة، فهذا غير معقول، فما هو ضار هناك ضار هنا، ويجب تحريمه كي لا نتضَّرر به ولا تفوتنا مصلحته، فالعادل الّذي يَبحث عن مصالحنا ويريد إبعاد المفاسد عنّا، يجب أن يَبحث عن ذلك ويريده دائماً في جميع الأمور، لا في شيء دون آخر، وإلا لم يكن عادلاً ولا باحثاً على الدّوام عن صلاحنا وقيام النِّظام فينا. وإليك هذا المثال التّبسيطي:
فمثلاً الخمر جاء فيه أنّه شرابٌ حرام؛ لأنَّه مُسْكِر، يُذْهِب عقل الإنسان.
فهذا الحكم – حرمة الخمر- معلَّل من قِبَل الله تعالى، حيث نَصَّ الشّرع بنفْسه على علّة تحريمه، إذ ذَكَر الإسلام سبب تحريم هذا الشّراب، والعلّة هي كونه مُسْكِراً، وبالتّالي إذا رأينا “البيرة” في هذا الزّمان، فبحثنا عن حكمها في الآيات والرّوايات فلم نجده مثلاً بسبب عدم وجود “بيرة” في زمن النّبي وأهل بيته عليه وعليهم أفضل الصّلاة والسّلام، فسنقول:
بما أنَّ البيرة تُسْكِر، فهي مثل الخمر، فنقيسها على الخمر ونعطيها حكمه؛ ذلك بسبب توفّر علّة تحريم الخمر في البيرة، وهذه العلّة نصَّ عليها الشّرع بنفسه، فنقول البيرة حرام أيضاً.
الزّبدة: القياس ليس ممنوعاً دائماً، وإنّما يمنع في حال عدم وجود علّة نصيّة من الشّرع في الشَّيء المقاس عليه كما بيّنّا.
النّقطة الثّالثة:-
إنَّ التّعليل في الأحكام الشّرعيّة من قِبل الله تعالى قليل جدّاً، وهذا ما يمكن أن نُرْجِع أسبابه إلى ما يلي:
1- عدم التفات العقول في زمان وجود النّبي وأهل بيته عليهم الصّلاة والسّلام لهذه الأمور؛ لذا لم يكن النّاس آنذاك يطلبون من النّبي وأهل بيته توضيح سبب الحكم على الشّيء الفلاني بالحرمة، والشّيء الآخر بالوجوب، والشّيء الثالث بالكراهة، والشّيء الرّابع بالاستحباب، وهكذا.
2- الانشغال عن السّؤال وعدم الاهتمام بالدِّين وقلّة السّائل في زمن التّشريع وفي زمن وجود المعصومين عليه السّلام حتَّى من الشّخص الملتفِت.
3- عدم وجود كفاءات عالية آن ذاك تؤهِّل لطرح المعصوم مثل هذه التّعليلات والاستفادة منها.
4- وهو من أهمّ الأسباب الّتي ينبغي الالتفات إليها وعدم الغفلة عنها، إذ ليس ما سبق هو يمثِّل الأسباب الوحيدة في قلَّة التّعليل كما يَتصوَّر الكثيرون، حيث أنَّ جزء السّبب يكمن في تخوّف المعصوم عليه السّلام من توسعة هذه الجهة في التّشريع؛ ذلك نظراً لانجراف البعض وراء استعمال “القِياس الممنوع” والعمل بالرّأي الشّخصي من الكِيس الخاص؛ ممّا دفع بالأئمّة عليهم الصّلاة والسّلام لمواجهة التّعليل؛ بهدف مواجهة أصل العمل بالعلّة، سواء كانت العلّة منصوصة من الشّرع أم غير منصوصة، حيث نلاحظ أنَّ المعصوم عليه السّلام كان يسعى للحد من عمل هؤلاء بالعِلل؛ بهدف إبعادهم عن الوقوع في “القياس الممنوع” الّتي رَوَّج له البعض، والحفاظ على الأمّة من الانزلاق وراءهم في ذلك.
لذا نلاحظ كيف وُجِدَ نحو من الصّعوبة لدى حتَّى بعض علمائنا سابقاً في تشخيص القياس والمنع منه؛ ذلك نظراً لمجيء الرّوايات والأخبار النّاهية عن العمل بالقياس في صورةٍ كأنّها تَمنع من استعمال العلّة مطلقاً، ولعلَّ هذا عين ما دَفع بالبعض لأن يقوم باتّهام بعض فقهائنا الكبار من القدماء بالعمل بالقياس الممنوع، مع أنّهم كانوا يعملون به لكن ليس بقِسمه الممنوع.
النّقطة الرّابعة:-
هنالك ثوابت وأحكام شرعيَّة لا نستطيع تحليلها، ويَعجز العقل عن تفسير سبب تشريعها، وهذا تماماً كما في رواية “قَطْع الأصابع” القائلة بأنَّ دِية قطع ثلاثة أصابع أكبر من دِية قطع أربعة أصابع، ودِية قطع أربعة أصابع تساوي دية قطع اصبعين، ففي هذا الحكم الشّرعي مثلاً لا نستطيع بيان سبب كون دِية الثّلاثة أكثر من دِية الأربعة، والشّرع لم يقل لنا أيضاً ما هو السّبب.
وفي المقابِل هنالك أحكام شرعيَّة قابلة للتّحليل وتفسير علل وأسباب تشريعها بالعقل، وهي كثيرة فوق حدِّ الإحصاء.
النّقطة الخامسة:-
المطلوب على مستوى علاج مشاكل الرِّسالة هو أن يَتم العمل والتّطبيق على مستوى المرحلة الثّانية، أي مرحلة الأحكام القابلة للتّحليل والتّعليل، فهي مرحلة مطّاطيّة بإمكانها أن تواكب كل زمان ومكان، كما بإمكانها أن تقدِّم الجديد تلو الجديد وفق مستجدّات التّقدّم العِلمي، بما يَجعل من هذه المساحة مساحة حيويّة نشطة باستمرار، ولعلَّ هذا من أبرز ما يعطي للدِّين جاذبيّة؛ كونه على اقتدار دائم لأن يثبت نفْسه ضمن جميع التّغيّرات، وأن يكون دائماً صاحب تشويقٍ واستقطاب.
وفي قِبال هذا ليس المطلوب أن يَتم العمل وفق دائرة الأحكام الشّرعيّة الممتنعة عن التّعليل عند إرادة تقديم تحليلات وعلل احتماليّة لتشريعها، وإنّما يكفي استعراض هذا النّوع من الأحكام مع بيان امتناعها عن التّحليل والتّعليل، وكذا العمل على تقديم تحليلات عامَّة لهذه الأحكام بحيث لا تختص تلك التّحليلات بجهة التّشريع الخاص لكل حكم منها بمفرده، فهذا النّوع من الأحكام وإنْ عجز العقل عن المجيء بعلل احتماليّة وتحليليّة تجاه تشريع كل حكم منها بمفرده كما في دِية قطْع الأصابع، إلا أنَّه لا يَعجز عن تقديم تحليلات عامّة لها؛ لذا لا بأس في التّفكير والسّعي وراء استنباط تعليلات وتقديم تحليلات عامّة لذلك.
النّقطة السّادسة:-
من الوجيه أن نبرِّر بصورة علميّة متكاملة سبب تحدّثنا عن “القِياس” في المقام، لذا نقول:
طبعاً نحن تكلّمنا في المقام عن “القِياس” لتبيين عدَّة أُمور مهمّة والتّأكيد عليها، وهي كما يلي:
أَلِف:-
يجب أن نَعْرف بأنَّ التّحليل غير القياس، فالتّحليل للأحكام الشّرعيّة، والخروج بتبريرات ونظريّات اجتماعيّة وفكريّة وكلاميّة بصورة عامّة لهذه الأحكام الشّرعيّة، ليس أمراً ممنوعاً كالقياس الممنوع في الموارد الممنوعة، بل يمكن ممارسة التّحليل دائماً، وتفتيح العقل تجاهه، وإن لم يكن الممارِس لذلك فقيهاً مجتهداً عالماً بقواعد الاستنباط وما شاكل، إذ يكفي -على أقلِّ التّقادير- أن يكون القائم بذلك صاحب اطّلاع واسع على العقائد والفتاوى الدِّينيّة لدى الفقهاء، وممّن لديهم قدرة على التّحليل الوجيه وفْقَ المعلومات المتعدِّدة المتوفِّرة، بعيداً عن الضّعف والسّطحيّة.
وبالتّالي؛ فإنَّ تشبيع الأبواب والمسائل الفقهيّة بالتّحليلات الدِّينيّة أو الفكريّة أو التّجريبيّة القيّمة، لا مانع منه بتاتاً، وجميع الفقهاء والعلماء يُجْمِعون على جوازه، بل ونرى ضرورة هذا –وفق الأسس والضّوابط- تبعاً لما أشرنا له من أهمّيّة ومنافع عظيمة؛ هذا من جهة.
باء:-
ومن جهة أخرى كان هدفنا من الحديث عن القياس هنا هو بيان أمرٍ مهمٍّ يرتبِط بالكلام المتقدِّم عن تطابق أحكام العقل مع أحكام الدِّين، حيث يختص هذا الأمر بالرّوايات القائلة بأنَّ “الدِّين لا يصاب بالعُقول” في قِبال قولنا بأنَّ الدِّين والعقل دائماً متّفِقان، فنقول:
إنَّ أمثال رواية الدِّين لا يقاس بالعُقول مختصّة بـ”القِسم الأوَّل” من أشكال الأحكام بلحاظ عِللها، وهو قِسم الممتنعات عقلاً عن التّعليل ممّا أشرنا إليه، مثل دِية قطْع الأصابع.
أضف إليه إرادة هذه الرّواية –رواية الدِّين لا يصاب بالعقول- لأنْ تشير إلى عدم جواز قياس حكم على حكم آخر من خلال علّة غير منصوصة شرعاً، فالمعرفة البشريَّة مهما تكلَّمَتْ وتقدَّمتْ فهي قاصرة وناقصة؛ ذلك لكونها تتجدَّد ونظريّاتها تتغيَّر بين الحين والآخر، بل حتَّى النّظريّات الّتي تكون مقطوعاً بها بين علماء الطّبيعة مثلاً على أنّها ثابتة ويقينيّة، فإنّها كثيراً ما تتغيّر لدى العلماء في الطّبقات والأجيال اللاحقة كما سبق أن أوضحنا.
لذا مَنَعَ الدِّين من القياس وفق الأحكام الغير مبرَّرة والغير معلَّلة من نفس الدِّين، في الوقت الّذي سَمح بالقياس في نفس تحليل ذلك النّوع من الأحكام وتبريره وتقديم نظرّيات اجتماعيّة واقتصاديّة وفكريّة وكلاميّة وفلسفيّة له.
تاء:-
أيضاً تحدّثنا هنا عن القياس لأنّنا نريد أن نقدِّم آليّة دقيقة ومتكاملة للتّفريق بين “النّظريَّة الفقهيَّة” في مجال فقهي معيَّن، وبين غيرها، لا سيّما التّفريق بين “الرّؤية الفقهيَّة” و”القياس”، وهذا ما سنتناوله تحت الفقرة التّالية.
ثاء:- (ملاحظة: هذه النّقطة خاصّة بالمتّخصّص)
بقي أن نبيِّن آليّة التّفريق بين الرّؤية الفقهيَّة وغيرها، لذا نقول:
الفرق الواقعي الفارق بين “الرُّؤى الفقهيَّة” المطلوب تقديمها باستمرار في الأبواب والفصول والمسائل الفقهيَّة تختلف عن غيرها أو عن “القياس” مثلاً؛ ذلك لأنَّ “الرّؤى الفقهيّة” تدور في مدار إعطاء نظرة عامَّة حول الموضوع المراد تقديم رؤية فقهيَّة له، أو إعطاء نظرة خاصَّة تكون في حقيقتها قريبة من معنى ومفهوم النّظرة العامَّة، بخلاف “القياس” فهو يدور في مدار إعطاء رؤية خاصَّة جدّاً ومحصورة بمسألة فرديَّة.
وبالتّالي؛ “الرّؤية الفقهيَّة” ليست مهمّتها أن تقول هذا حلال وهذا حرام، بخلاف “القياس” فمهمَّته أن يقول ذلك، حيث يلاحِظ شيئاً فيَستخلص منه بصورة شخصيّة تبرّعيّة علَّته الّتي على ضوئها حُكِمَ بحُكمٍ ما عليه، ثمَّ يعطي ذلك الحكم لمثيله المتحقِّقة فيه علَّة تحريم ذلك الشّيء؛ فالقياس مهمّته أن يقول –بالنّتيجة- هذا حلال وهذا حرام.
وعليه؛ نلاحظ أنَّ من أهم الفوارق الجوهريَّة بين “الرّؤية الفقهيَّة” وغيرها، هو أنَّ الرّؤية الفقهيَّة مَحَط اهتمامها هو المسائل والقضايا الدِّينيَّة، والحديث عن مبرِّراتها بعد تجاوز مرحلة أحكامها، بخلاف “القياس” مثلاً، فهو مَحَط اهتمامه المسألة وتأسيس حُكمٍ لها، فشغله مع الحكم، فهو مؤسِّس له، أمّا “الرُّؤية الفقهيَّة” فهي لا عمل لها مع الحُكم من جهة تأسيسه، وإنّما عملها مع الحُكم بعد أن يقع ويثبُت.
أو قُل: الرّؤية الفقهيَّة تريد أن تبرِّر الحُكم وأن تعطي نظريَّة معيَّنة لمسائل مختلفة تصب في موضوع واحد، أو أن تعطي نظريّة لقضيَّةٍ فقهيّة ما ترتبط بمسائل الفقه الفتوائيّة، لا أنّها تخوض في الحُكم كالقِياس.
وببيان أدق أيضاً قُل:
“القياس” –مثلاً- يَتكلَّم ضمن خطوتين طوليَّتين؛ خطوة استكشاف شخصي واستنباط ذاتي واستنطاق واستلهام لعلَّة تبرّعيّة شخصيّة من شيء لديه حكم شرعي، والثّانيةإعطاء حكمٍ لشيء آخر بملاحظة ما قلناه، بينما “الرُّؤية الفقهيَّة” تَتكلَّم ضمن خطوتين عرْضيّتين، هما؛ خطوة ملاحظة المسائل أو القضيّة الدِّينيّة الفقهيّة في مجال معيَّن بعد ثبوت أحكام تلك المسائل أو حكم تلك القضيَّة، فهي لا شأن لها في إبراز الحُكم من العدم أو الخفاء، وخطوة أخرى تلاحِظ في عَرْض ذلك ما يمكن أن تقدِّمه من مبرّرات ذلك الحكم إلى جانب مبرِّراته الدِّينيّة الموجودة، أو بحيث تَعمل على إعطاء نظريَّة توفِّق فيها بين معطيات العقل والشّرع والتّجربة معاً، وهكذا.
نعم؛ قد بعد استلهام نظريَّة متكاملة في جهة معيَّنة من خلال “الرّؤية الفقهيَّة” نَتمكَّن من استنطاق حُكم معيَّن يدور في مجال التّنظيمات العامَّة –لا الخاصَّة- المرتبطة بمورد تلك النّظريّة، وذلك فيما لو تَمكّنّا من تفعيل منهجيَّة “الاستقراء التّام” في موردها، أو حتَّى “الاستقراء الجزئي النّاقص” الّذي يفيد الاطمئنان أو اليقين وفق حساب الاحتمالات، أو حتَّى المفيد للظّن حال إرادة سد الفراغ في زاوية عامَّة ترتبط بالقضايا الدّائرة في نطاق المتغيّرات، تماماً كما في المجالات الاجتماعيَّة، والاقتصاديَّة، والمهام العامَّة للدّولة الإسلاميَّة وما شاكل.
إلا أنَّ هذا المستوى يعود للفقيه وتشخيصه واجتهاداته؛ لأنَّ هذه الخطوة تُعتبَر خطوة طوليَّة للرّؤية الفقهيَّة، وبمثابة استنطاق لحكمٍ ما لقضيَّة عامَّة، أمّا هنا – ضمن الكتاب الفقهي الفتوائي- فنريد المرحلة الأسبق فحسب، وهي تلك المرحلة العرْضيَّة الّتي تختص بتقديم المبرِّرات الخاصَّة والعامَّة، والرّؤى المقابِلة لذلك، لا ما هو أشبه بالاستدلالات العلميّة الخاصّة بأهل العِلم، وإن أمكن أيضاً تنشيط وتنمية الكتاب الفتوائي -عند تقديم الحكم المستنبَط- باستعراض تلك النظريَّة ودعائمها بصورة إجماليّة بعيدة عن صور الاستدلال العميق القائم في الصّروح العِلميّة المتقدِّمة والبحوث العالية.
نكتفي بهذا القدر، والحمد لله ربِّ العالمين، والصّلاة والسّلام على نبيّنا المصطفى وآله الطّيّبِين الطّاهرين.
[1] القِياس في علم الأصول يُقابل الاجتهاد، فالقياس منهج برهاني في مقابل منهج الاجتهاد، فإذا عبَّرنا بالاجتهاد هنا فلا نقصد المسلك الاجتهادي المصطلَح، وإنّما نقصد ما يقوم به القائس من جُهد وتفكير واستنطاق في مقام عمله بـمَسْلَك القِياس، وبتعبير آخر نريد هنا من كلمة الاجتهاد: المعنى اللغوي لا المعنى الاصطلاحي.
للتعلیق أو مطالَعة التعلیقات اضغط هنا