بسم الله الرّحمن الرّحيم
مَدْخَل مهم لدراسة الفقه “تتمّة القِسم الأوَّل”
(الحلقة الأخيرة من هذا القِسم)
إلهي! طالَ وقوفي على بابِكَ وأنتَ الجوادُ الحليم، العطوفُ الكريم، اللّطيفُ الرَّحيم، فاقضِ حوائجنا بعفوِك وصَفحِك، وإن كانت فِعالنا لا تَستوجِبُ مَنَّكَ وكريمَ عطائِك، فإنَّك غنيٌّ عنّا، وفاقتنا إلى فضل إحسانك معلومة، وإلى لطيف جودك موسومة، وقد أَمرْتنا بالمسألةِ منك، ومنعتنا عن اليأس والقنوط، فاستجب لنا كما وعدتنا، وأجبنا كما سألناك وامتنعنا، بحقِّ الطّاهرين، محمّدٍ وآله الميامين، صلواتكَ وسلامكَ يا ربِّ عليهم أجمعين، وعلى صحبِهم الطيبين المنتجبِين.
وبعد..
الأمر الثّالث: الآليَّة المطروحة للعـــــــــــــــــلاج:-
تمهيد:-
تحدّثنا فيما سَبق من حلقات تَرتبِط بـ”الأمر الثّالث والأخير” -من القِسم الأوّل لهذا الـمَدْخل المهم السّابق على شرح المنهاج- عن علاج المنهج التّدويني والتّقسيمي للكتب الفتوائيّة، وهذا ما تناولناه في الفقرات (أ) و(ب) و(ج)، ثمَّ دَخلنا في الفقرة الأخيرة (د) المختصَّة بالحديث عن كيفيّة “علاج المعضلات” الّتي بيّنّاها في “الأمر الثّاني” من القِسم الأوّل للـمَدْخَل، فقدَّمنا ما نراه من طُرُق مفيدة وأُسُس يَلزم مراعاتها لعلاجها، وتخليص الرِّسالة من سلبيّات المعضلات “الأولى، والثّانية، والثّالثة والرّابعة، والخامسة، والسّادسة، والسّابعة”، الّلاتي هُنَّ كل من:
“مشكلة الفصل بين القانون وجوهره واستعراض الرِّسالة العمليّة بصورة فتاوى مرشَّحة عن الدّليل وخالية عن البيان المرتبِط بالجانب التّربوي والأخلاقي للقانون“، و”مشكلة قلّة المشوِّقات والفنون الجاذبة للقارئ“، و”مشكلة تحقيق الوساوس والأمراض الرّهيبة في المكلَّفِين“، و”مشكلة التّعامل مع الإفتاء على أساس مجتمع الرّواية والعُرْف الخاص“، و”مشكلة معاناة المغتربِين وسلبيّاتها الوخيمة“، و”مشكلة النّقص الكَمّي في الفتاوى ومعاناة كافّة المكلَّفين“، و”مشكلة الصّعوبة والغموض في التّعبير“.
والآن نتم بالدّخول في علاج ما تبقَّى من معضلات.
آليّة علاج المعضلة الثّامنة (ندرة الاستنتاجيّات العامّة والمستخلَصات):-
ولعلاج هذه المشكلة الكبرى ينبغي:
أوَّلاً:-
وضْع “موجَز” في خاتمة كل باب أو موضوع فقهي يتطلَّب تسهيله ذلك، وكذا تقديم “قواعد استنتاجيّة عامّة” للمسائل “المشترِكة في حكم واحد”، أو حتَّى المتقاربة في أحكامها، بحيث يصبح الوضوح في هذه المسائل بمستوى وضوح موارد “نيّة الأداء” و”نيّة القضاء” في العبادات مثلاً.
فالمكلَّفِين كما نرى لا توجَد لديهم صعوبة في معرفة متى تكون الصّلاة “بنيّة القضاء” ومتى تكون “بنيّة الأداء”، فهذه المسألة من المشترَكات في الحكم، والمكلَّف يفهمها بسرعة؛ ذلك لأنَّ القاعدة الاستنتاجيّة العامّة لها قد تمَّ توضيحها له بصورة جيّدة في الرّسالة، إذ قيل له هناك في الرِّسالة: كل ما خَرج عن وقته من الصّلوات فإنّه يكون “بنيّة القضاء”، وكل ما لم يخرج عن وقته من الصّلوات فإنّه يكون “بنيّة الأداء”.
وعليه؛ إنَّ المطلوب على مستوى حل هذه المشكلة هو وضع “ملخّص موجَز” لكل باب أو موضوع فقهي يَحتاج للتّبسيط، وتقديم “قواعد استنتاجيّة عامّة” للمكلَّف في كل مورد يتطلَّب تسهيله ذلك، بحيث تقدَّم موارد تلك القواعد الاستنتاجيّة العامّة في الرّسالة بوضوح بمستوى وضوح موارد نيّة الأداء ونيّة القضاء في العبادات.
ثانياً:-
التّطبيق للمكلَّف على عدَّة مسائل مشابهة قدر الإمكان وفق “القاعدة الاستنتاجيّة العامّة” المقدَّمة إليه؛ ذلك كي يَتمرَّس على استعمالها بتوجّه والتفات، ويطمئن من اقتداره السّليم على تطبيقها، وتترسَّخ في ذهنه “القاعدة العامّة” وموارد تطبيقها على الدّوام.
ثالثاً:-
تبيين حرمة استعمال “القياس الممنوع” في الشّرع الإسلامي للمكلَّف كما بيّنّا مفصّلاً في (الحلقة13)؛ ذلك كي لا يقع فيه ويمارسه بفعل معرفته للقاعدة الاستنتاجيّة العامّة وجهله بموارد تطبيقها، فالمكلَّف قد يفهم القاعدة العامّة بعد إيضاحها له، وفي نفس الوقت قد يسئ استعماله لها، فيطبّقها في موارد لا يصح تطبيق تلك القاعدة العامّة عليها.
لذا ينبغي تفهيم المكلَّف بأنَّ تطبيق هذه القاعدة الاستنتاجيّة المقدَّمة له يكون في الموارد الّتي تمَّ التّطبيق عليها والموارد المماثلة تماماً لها، لا أن يقوم هو باستعمال تلك القاعدة في موارد مختلِفة لم يجرِ عليها التّطبيق.
رابعاً:-
استحضار جميع موارد القاعدة الاستنتاجيَّة المقدَّمة قدر ما هو متمكَّن؛ حفاظاً على المكلَّف من الوقوع في القياس الممنوع.
** فإنَّ اتّباع جميع هذه الأمور من شأنه أن يسهِّل على المكلَّف، وأن يقضي كذلك على جزء كبير من حالات النّفور الّتي توجِدها وتُحْدِثها الرّسالة العمليّة في نفسه بفعل تتطلّبها للكثير من التّركيز والحفظ.
** هذا وممّا تجدر الإشارة إليه هنا هو مراجعة منهج الشّيخ الطّوسي -رحمه الله- في كتبه “النّهاية” و”المبسوط” و”رسائله العشر”، فهم من الكتب العمليّة التّطبيقيّة والفنّيّة في الكثير من جهاتها، حيث يمكن الاستفادة منها في مجال معالجة هذه القضيّة، وإن كان -حسبما أشرنا عند بيان هذه المعضلة- قد استَهدَف في ذلك المصنّف -قدّس سرّه- البيان والتّسهيل على مستوى حاجات عصره، وبأسلوب يتلاءم مع الدّارس والمحصِّل المتخصِّص، ممّا يعني خروج المكلَّف العامّي المقلِّد عن غايته وهدفه.
لذا فالاستفادة من منهجه رحمه الله يجب أن يكون بلحاظ المكلَّف الغير دارس والغير متخصّص لتحصل الفائدة المرجوّة ويتحقّق الهدف المطلوب.
آلية علاج المعضلة التّاسعة (اختلال التّرتيب المنطقي في مسائل الرّسالة):-
أوَّلاً:-
ينبغي في صدد علاج هذه المشكلة مراعاة التّسلسل المنطقي والتّرابطي؛ بحيث يَتم الابتعاد عن الدّخول في مسألة قبل الانتهاء من جميع ملحقات وفروع المسألة السّابقة؛ كي يَتم تَجنّب العودة لتلك المسألة السّابقة مجدَّداً، وإيقاع المكلَّف في الخلط بين المسائل.
ثانياً:-
تَجنّب الحرص على اتّباع نفس التّسلسل القديم لمسائل الأبواب الفقهيّة إذا كانت تسبِّب الوقوع في مشكلة البعثرة في التّسلسل المتناسب المحافظ على المكلَّف من التّشويش وتشكيكه تجاه مراد المسألة بعد ذِكر ملحقاتها الأخرى والعودة لموضوعها العام مجدَّداً.
ثالثاً:-
عند إرادة إثراء الرِّسالة بمسائل أخرى غير موجودة في رسالة سابقة يراد التّدوين وفقها، وجَعْلها مَصبَّاً للتّعليق عليها ومن ثمَّ كتابتها للمقلِّدِين بصورة مستقلّة لا على نهج التّعليق، يَلزَم عند ذلك الالتفات إلى عدم الوقوع في تدوين تلك المسائل بصورة عشوائيّة في بابها المختص بعيداً عن تنظيمها ووضعها في الرِّسالة إلى جوار أخواتها.
رابعاً:-
عند إرادة اختصار أو تبسيط الرِّسالة العمليّة، ينبغي الاقتداء والتّقيّد بالتّرتيب القائم في المصدر الأصل إن كان محقِّقاً للتّسلسل المطلوب، وعدم إرفاق مسائل أخرى غير موجودة فيه بصورة مختلطة فاقدة للتّنظيم.
آليّة علاج ما أشار له العلماء وما ذكرناه من اهتمامات الدّارس والمثقَّف:-
أمَّا على صعيد ما استعرضناه من معضلات أخرى ذكرها الأعلام، وتحديداً ما أشار له السّيّد الشّهيد أعلا الله مقامه، فنجد أنَّ ما أفاده عليه الرّحمة يكفي في المقام، مع ملاحظة ما علَّقنا به ضمن بيان المعضلات تجاه بعض القضايا الّتي ذكرها.
وأمَّا على صعيد تقديم تعريفات للمصطلَحات الفقهيَّة والألفاظ اللُّغَويَّة المستعمَلة في الرِّسالة بنحو علمي دقيق سيراً على آليّة التّدوين المعاصر، فقد قلنا باختصاص هذه الرّغبة – عادةً – بالمكلَّف الدَّارس المتخصِّص والمكلَّف المثقَّف في ظل نفور الفرد المتساهل مع العبارة والبيان.
كما أشرنا لصعوبة الوفاء بتعريف جميع تلك المصطلَحات تبعاً لطبيعة كثرة الاختلاف فيها وطبيعة تعسّر إيجاد حالة من الاتّفاق على التّعريف، إلا أنَّه كما أشرنا يمكن تقديم بعض التّعاريف العامّة الأكثر صلة بالصّواب شريطة الابتعاد عن التّعريفات المستصعَبة وتَجنّب الإكثار من ذلك، بل وتَجنّب ما من شأنه أن يُحْدِث لدى البعض مَللاً ونفوراً، أو الاكتفاء بالتّعريف في هوامش الصّفحات، أو إرجاع هذين الصّنفين من القرّاء إلى مصادر لُغَويَّة وكتب فقهيّة استدلاليّة تَتكفّل ببيان ذلك، ولو بوضع أسماء تلك المصادر والكتب في الهامش المرتبط بتلك المصطلَحات في الصّفحات الواردة فيها إن أَمكن، أو كما يَفعل البعض اليوم مِن جَعْل ترقيمٍ على الألفاظ المراد تعريفها، وإفرادها في الكتاب بجزء خاص من آخره.
خاتمة:-
أخيراً نأمل أن نكون قد قدّمنا في شرحنا الآتي على “المنهاج” تجربة تطبيقيّة للآليّة الّتي طرحناها قدر ما تَوفَّرتْ لدينا الفرصة وتوفّرت عندنا الوسائل، وإن كنّا لا نفاخِر بأنَّ شرحنا على “المنهاج” قد حقَّق المستوى الأعلى من طموحاتنا في النّهوض بهذا العِلم الـخَلَّاق العظيم، كما نأمل في بروز كتابات ومدوَّنات وشروح داعمة أرقى وأكثر تطوّراً، تقوم على أساس معالَجة جميع هذه المعضلات، والوفاء بحاجيّات الفرد والأمّة، والسّعي وراء تتميم نواقص هذا المجهود المتواضع، والرُّقي بالفقه الفتوائي بمستوى أهمّيّته ومكانته.
هذا ونعتذر لآبائنا العلماء على كافّة البيانات الصّادرة من ابنهم الصّغير وتلميذهم المبتدِئ، فهي ليست أوامر ولا نواهٍ، وإنّما من باب: {وَذَكِّرْ؛ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الـمُؤْمِنِينَ}[1]، إذ لا شكّ في أنّهم أعلا الله مقاماتهم على التفات تام لجميع هذه القضايا، بل ولِـما هو أَبعد من فهمنا القاصر وإدراكنا الضّئيل المحدود.
نستودعكم العلي القدير إلى أن نشرع معكم في “القِسم الثّاني” من هذا الـمَدْخَل المهم السّابق على شرح المنهاج، حيث سيَختَص –القِسم الآتي– ببيان أمور في “العقيدة” و”علم الفقه” ترتبط ارتباطاً مباشراً بكل مكلَّف بلا استثناء، فـ“القِسم الأوَّل” من هذا الـمَدْخل إن كان يهم شريحة دون أخرى، فإنَّ “القِسم الثّاني” الآتي يهم الجميع، وهو في الأساس شروع في التّطبيق، ودخول في صِلب مسائل الرِّسالة، وتدوين لأبوابها الأولى الّتي تَفتقر لها وتَحتاج لأن تحتوي عليها، والّتي يجب على كل مكلَّف أن يَتعلّمها وأن يَتَعرَّف على مسائلها قبل دخوله في تعلُّم الفتاوى.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين حمداً لا يضاهيه حمد، ولا تَرْقَى إليه هِمم الحامدِين، والصّلاة والسّلام على سيِّد المرسلين، ومقتدى المؤمنِين، وعلى آله الطّيِّبِين الطّاهرين، وصحبه المنتجبين.
أمين حبيب السّعيدي
6ربيع الثّاني1432هـ-قم المقدَّسة
فهرس المصادر الّتي ذكرناها في الحلقات
الكتاب، المؤلِّف، تحقيق، طبعة، سنة الطّبع، المطبعة، النّاشر
ألف حديث في المؤمن، الشّيخ هادي النّجفي، ط1، س: 1416ق، م ون: مؤسّسة النّشر الإسلامي التّابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة.
بحار الأنوار، العلامة المجلسي ره، ط2، س: 1403ق-1983م، م: مؤسسة الوفاء-بيروت، ن: دار إحياء التّراث العربي.
تأريخ التّشريع الإسلامي، للدّكتور الشّيخ عبد الهادي الفضلي، ط1، س: 1427ق-2006م، م: ستار، ن: دار الكتاب الإسلامي.
جواهر الفقه، للقاضي ابن البَرّاج، ت: إبراهيم بهادري، ط1، س: 1411ق، م ون: مؤسّسة النّشر الإسلامي التّابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرَّفة.
الحدائق النّاضرة، المحقّق البحراني ره، ت وتعليق: محمّد تقي الإيرواني، ن: مؤسّسة النّشر الإسلامي التّابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة.
الرّسائل العشر، للشّيخ الطّوسي ره، ن: مؤسّسة النّشر الإسلامي التّابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرَّفة.
عوالي اللئالي، ابن أبي جمهور الأحسائي ره، ت: الحاج مجتبى العراقي، ط1، س: 1405ق-1985م، م: سيّد الشّهداء-قم.
الفتاوى الواضحة، السّيّد الشّهيد محمّد باقر الصّدر ره، ط1، س: 1423ق، م: شريعت-قم، ن: مركز الأبحاث والدّراسات التّخصّصيّة للشّهيد الصّدر ره.
الكافي، الشّيخ الكليني ره، تصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري، ط5، س: 1363ش، م: حيدري، ن: دار الكتب الإسلاميّة–طهران.
المبسوط، للشّيخ الطّوسي ره، تصحيح وتعليق: السّيّد محمّد تقي الكشفي، س: 1387ش، م: المطبعة الحيدريّة-طهران، ن: المكتبة المرتضويّة لإحياء آثار الجعفريّة.
المحاسن، أحمد بن محمّد بن خالد البرقي ره، ت : السّيّد جلال الدِّين الحسيني المشتهر بالمحدّث، ط1، س: 1370ق-1330ش، م: رنگين- طهران، ن: دار الكتب الإسلاميّة-طهران.
مستدرك الوسائل، الميرزا النّوري ره، ت: مؤسّسة آل البيت عليهم السّلام لإحياء التّراث، ط2، س: 1408ق- 1988م، ن: مؤسّسة آل البيت عليهم السّلام لإحياء التّراث-بيروت.
معاني الأخبار، الشّيخ الصّدوق ره، تصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري، س: 1379ق-1338ش، ن: مؤسّسة النّشر الإسلامي التّابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة.
منية المريد، الشّهيد الثّاني ره، ت: رضا المختاري، ط1، س: 1409ق-1368ش، م ون: مكتب الإعلام الإسلامي.
المهذّب، للقاضي ابن البَرَّاج، إعداد: مؤسّسة سيّد الشّهداء العلميّة وإشراف: الشّيخ جعفر السّبحاني، س: 1406ق، ن: مؤسّسة النّشر الإسلامي التّابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرَّفة.
ميزان الحكمة، محمّد الرّيشهري، ت: دار الحديث، ط1، س: 1416ق، م ون: دار الحديث.
للتعلیق أو مطالَعة التعلیقات اضغط هنا