«حادثة من الحوزة: آباؤنا ساهموا في تضييع يوم الغدير!»
في هذا اليوم الميمون ، استَوقَف الأستاذ -رعاه الله- الدرس للحديث عن الغدير وعيده الأغر ، فقال:
(جاء أحدهم إلى شيخٍ من الأصحاب الأفاضل ، فقال له مستهزئاً: ما بالكم أيها الشيعة شغلتم أنفسكم والعالَم بشهر محرم وما يليه؟! شهران في كل سنة تضيعونهما في البكاء واللطم والعزاء والتوزيع والإسراف بالطعام والوقت! لم كل هذا التكلف؟ ألا تكفيكم عشرة أيام من المحرم؟!
فأجابه الشيخ بجواب هادئٍ لطيفٍ حاذق ؛ قال:
إننا إنما نفعل ذلك مع عاشوراء كي لا تنكرون علينا حادثة كربلاء كما أنكرتم علينا حادثة الغدير وتنصيب وصي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خليفة من بعده.
● ثم اَتْبَع الأستاذ -حفظه الله- بقوله:
إن هذا الجواب القيّم يلفِت إلى ما قاله البعض من أن آباءنا هم بمثابة “جزء العلة وجزء السبب” في سلْب الخلافة من أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام ؛ ذلك لأنهم لم يحيوا هذه المناسبة كما أحيوا عاشوراء ، فعاشوراء خلدت ولم يستطع أحد إنكارها لأن آباءنا أحيوها بقوة على مر السنين والأيام وتمسكوا بها بشدة ، بينما لَمّا لم يَفعلوا ذلك مع حادثة الغدير -كون الاهتمام بها قليل وعابر كما نرى جميعاً- ساهَموا في تضييع هذا الحق الإلهي لوصي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دون أن يشعروا.
لذا؛ يجب أن نجتهد في إحياء هذه المناسبة الجليلة بقوة وحرارة وعقلانية ؛ لنَجبــِـر ونسد ولو القليل مما أخلَّ به مخالفونا بعمد ، وما ضيعه آباؤنا بغفلة وعن غير قصد) انتهى كلامُه رُفِعَ مقامُه.
● تَنضيد:
أقول: إنّ حادثة الغدير إذا لم تكن أهم من حادثة كربلاء ؛ فهي على الأقل ليست أدنى منها أهمية ؛ إنّ حادثة الغدير هي المحَك ، وما خروج الحسين عليه السلام ومقتله المفجع إلا زَفْرة ونَفْحة من زفَرات ونفحات مآسي الغدير وإنكار الوصية والخلافة الكبرى بما جرّه مِن المواجع الممتدة في جسد الإسلام وهذه الأمة والبشرية جمعاء ؛ فيجب إحياء هذه المناسبة وإبرازها للعالَم إبرازاً قوياً لا يقل عن عاشوراء ؛ فعيد الغدير العيد الأهم والأعظم من بين الأعياد الإسلامية الأربعة ؛ ولذا يسمى عيد الله الأكبر ويسمى في الروايات “أفضل الأعياد” و”أشرف الأعياد” ويسمى يوم إدريس ويسمى يوم يوشع ويسمى يوم المِحنة ويسمى يوم الصُّرَاح ويسمى يوم البُرهان ويسمى يوم النُّصوص على أهل الخُصوص ويسمى يوم السرائر .. كما تسمى حَجة الوداع لدى جميع طوائف المسلمين “حَجة البَلاغ” وهي الحَجة التي وقع فيها إبلاغ مناسك الحج والتنصيب ؛ فعن رسول الله صلى الله عليه وآله أنّه قال:
«يوم غدير خم أفضل أعياد أمتي وهو اليوم الذي أمرني الله تعالى ذِكره فيه بنصب أخي علي بن أبي طالب عَلماً لأمتي يهتدون به من بعدي وهو اليوم الذي أكمل الله فيه الدين وأتمّ على أمتي فيه النعمة ورضي لهم الإسلام ديناً»[الأمالي للشيخ الصدوق: ص125] ؛ فهو بنَص القرآن يوم الدِّين ويوم النعمة وقَبول الإسلام ديناً للعالَمين إلى أبد الدهر ، وعبَّر الإمام الصادق عليه الصلاة والسلام عن ذلك بقوله:
«أَعظم الأعياد وأَشْرفها يومُ الثامن عشر من شهر ذي الحجة وهو اليوم الذي أَقام فيه رسول اللَّه صلى الله عليه وآله أَميرَ المؤمنين عليه السلام ونصبهُ للناس عَلماً»[الوسائل للحر العاملي: ج5 ص224]؛ فكيف لنا أن نتهاون في معرفة فضله ونتثاقل عن إحيائه ونيل مواهبه الثمينة الكثيرة وأداء المسؤولية الجسيمة في إيصال نعمته للشعوب والأمم وجميع الناس كما يليق بشأنه! لنلاحظْ ماذا يقول الإمام الرضا سلام الله عليه وهو إمام معصوم يروي الخبر عن إمام معصوم بما يشير لشدة عناية المعصومين بالأمر ، لنلاحظْ ماذا يقول في بيان قدر هذا العيد وأهمية الرعاية الفائقة له ؛ ففي أمالي أبي عبد الله النيسابوري وأمالي أبي جعفر الطوسي في خبر عن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن الرضا عليه السلام أنه قال:
«حدثني أبي عن أبيه أن يوم الغدير في السماء أَشهرُ منه في الأرض»[الأمالي للشيخ الطوسي: ج 6 ص24 – المناقب: ج1 ص540] ، وقال مُقْسِماً:
«واللَّه لو عرف الناسُ فضل هذا اليوم بحقيقته لصافحتهمُ الملائكةُ في كل يوم عشر مرات»[تهذيب الأحكام: ج6 ص24] ، قال الراوي قلت: ما يجبُ علينا في ذلك اليوم؟ قال: «يجبُ عليكم صيامُهُ شُكراً لله وحمداً له .. ومن صامه كان أفضل مِن عمل ستينَ سنة»[الوسائل للحر العاملي: ج 10 ص443] ، وقد قرَنه أبو عبد الله عليه السلام بالأشهُر الحُرُم المعظَّمة في القرآن فقال: «.. إنّ صومه يعدل ستين شهراً من أشهر الحرم»[مصباح المتهجد: ص737] ، وقد اعتنى بإبرازه أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام بنفسه في الكوفة وقد اتفق فيه اجتماع يومين جليلين ، فخطب الناس خطبة شهيرةً كبرى حول منزلة عيد الغدير تضمنَتْ من الأوصاف الغزيرة ما يحتاج لكثير تدبُّر.
● كلامٌ لأمير المؤمنين عليه السلام:
كان في خطبته مما قال صلوات الله وسلامه عليه فيما رواه الفيّاض بن محمد بطوس سنة تسع وخمسين ومائتين وقد بلغ التسعين ، أنّه شهد أبا الحسن علي بن موسى الرضا في يوم الغدير وبحضرته عليه السلام جماعة من خاصّته قد احتبسهم للإفطار عنده ، فكان من قوله عليه السلام لهم:
«حدَّثني الهادي أبي قال: حدّثني جدي الصادق قال: حدّثني الباقر قال: حدّثني سيّد العابدين قال: حدّثني أبي الحسين قال: اتّفَقَ في بعض سنيّ أمير المؤمنين عليه السلام الجمعة والغدير ، فصعد المنبر على خمس ساعات من نهار ذلك اليوم ، فحمد اللَّه وأثنى عليه حمداً لم يُسمع بمثله وأثنى عليه ثناء لم يتوجّه إليه غيره ، فكان ما حفظ من ذلك:
.. ثم إنّ الله تعالى جَمع لكم معشر المؤمنين في هذا اليوم عيدين عظيمين كبيرين لا يقوم أحدهما إلا بصاحبه ليكمل عندكم جميل صنعته ويقفكم على طريق رشده ويقفو بكم آثار المستضيئين بنور هدايته ويشملكم منهاج قَصْدِه ويوفر عليكم هنيء رِفْدِه فجعل الجُمْعة مَجْمَعاً نَدَبَ إليه لتطهير ما كان قبْلَه وغسلِ ما كان أوقعتْه مكاسب السوء مِن مِثْله إلى مِثْله وذكرى للمؤمنين وتبيان خشية المتقين ووَهَبَ من ثواب الأعمال فيه أضعاف ما وهب لأهل طاعته في الأيام قبْله وجَعَلَه لا يَتِمُّ إلا بالائتمار لِما أَمر به والانتهاء عما نهى عنه والبُخُوعِ بطاعته فيما حَثَّ عليه وندب إليه فلا يَقبل توحيده إلا بالاعتراف لنبيه صلى الله عليه وآله بنبوته ولا يَقبل دِيناً إلا بولاية من أَمر بولايته ولا تنتظم أسباب طاعته إلا بالتمسك بعِصَمِه وعِصَمِ أهل ولايته فأنزل على نبيه صلى الله عليه وآله في يوم الدَّوْح ما بَـيَّن به عن إرادته في خُلصائه وذوي اجتبائه وأَمره بالبَلاغ وتَرْكِ الحَفْل بأهلِ الزيغ والنِّفاق وضَمِنَ له عِصمتَه منهم وكَشَفَ من خبايا أهل الرَّيب وضمائر أهل الارتداد ما فيه رَمَزَ فعقله المؤمن والمنافق فأَعَزَّ مُعِزٌّ وثَبَتَ على الحق ثابتٌ وازدادت جَهْلةُ المنافق وحَمِيّةُ المارِق ووَقَعَ العَضُّ على النواجذ والغمز على السواعد ونَطَق ناطق ونَعَقَ ناعِق ونَشَق ناشق واستمر على مارقَته مارق ووَقَعَ الإذعان من طائفة باللسان دون حقائق الإيمان ومن طائفة باللسان وصدق الإيمان وكَمَّل الله دِينه وأَقر عين نبيه صلى الله عليه وآله والمؤمنين والمتابِعين وكان ما قد شهده بعضكم وبلغ بعضكم وتمت كلمة الله الحسنى على الصابرين ودمر الله ما صنع فرعون وهامان وقارون وجنودهم وما كانوا يعرشون وبقيت حُثالة من الضلال لا يَألُونَ الناسَ خَبالا يقصدهم الله في ديارهم ويمحو الله آثارهم ويبيد معالمهم ويُعقِبُهُمْ عن قُرْبٍ الحسرات ويلحقهم بمن بسط أكفهم ومَد أعناقهم ومكنَهم مِن دِين الله حتى بَدَّلوه ومِن حُكمِه حتى غيروه وسيأتي نصر الله على عدوه لحينه والله لطيف خبير وفي دون ما سمعتم كفايةٌ وبَلاغ.
فتأملوا -رحمكم الله- ما ندبكم الله إليه وحثكم عليه واقصِدوا شرعه واسلُكوا نهجه ولا تَتَّبِعوا السُّبُل فتَفَرَّقَ بكم عن سبيله.
إنّ هذا يومٌ عظيم الشأن ، فيه وقَعَ الفرج ورُفعتِ الدّرَجُ ووَضَحَتِ الحجج وهو يوم الايضاح والإفصاح عن المقام الصُّرَاح ويومُ كمال الدِّين ويوم العهد المعهود ويوم الشاهد والمشهود ويوم تبيان العُقُود عن النِّفاق والجُحود ويوم البيان عن حقائق الإيمان ويوم دَحْرِ الشيطان ويوم البُرهان.
هذا يوم الفصل الذي كنتم توعَدون هذا يوم المَلأ الأعلى الذي أنتم عنه معْرِضون هذا يوم الإرشاد ويومُ مِحنةِ العباد ويوم الدليل على الرُّوّاد هذا يومٌ أَبْدى خفايا الصُّدور ومُضْمَرات الأمور هذا يوم النُّصوص على أهل الخُصوص.
هذا يوم شيث هذا يوم إدريس هذا يوم يوشع هذا يوم شمعون هذا يوم الأمن المأمون هذا يوم إظهار المَصون من المكنون هذا يوم ابلاء السرائر.
فلم يَزل عليه السلام يقول هذا يوم هذا يوم ، فراقِبوا الله عز وجل واتقوه واسمعوا له وأطيعوه واحذروا المَكر ولا تخادِعوه وفتِّشوا ضمائركم ولا توارِبوه وتَقربوا إلى الله بتوحيده وطاعة من أمركم أن تطيعوه ولا تَمَسَّكوا بعِصَمِ الكَوَافِر ولا يَجنَح بكم الغَي فتَضِلوا عن سبيل الرشاد باتباع أولئك الذين ضَلُّوا وأَضَلُّوا.
قال الله -عَزَّ مِن قائل- في طائفة ذكَرَهم بالذم في كتابه {إنّا أَطعنا سادَتَنا وكُـبَراءَنا فأضلونا السبيلَ * رَبَّنا آتِهِم ضِعفَينِ من العذابِ والْعنْـهُم لَعناً كَبيرا}[الأحزاب: ٦٧ – ٦٨] وقال تعالى {وإذ يَتحاجُّونَ في النارِ فيقول الضُّعفاءُ للذينَ استَكـبَرُوا إنّا كُنّا لكم تَـبَعا , فهل أنتم مُّغْنُونَ عَنّا من عذابِ اللهِ مِن شيء؟ قالوا لو هدانا الله لهَدَيناكم}[غافر: ٤٧ – إبراهيم: ٢١] أَفتدرون الاستكبار ما هو؟ هو ترك الطاعة لمن أُمِروا بطاعته والترفع على من نُدِبوا إلى متابَعته والقرآن يَنطق من هذا عن كثير إن تَدبره متدبرٌ زَجَرَهُ ووَعَظَه.
واعلموا أيها المؤمنون أن الله عز وجل قال {إنّ اللهَ يُحِبُّ الذينَ يقاتِلونَ فِي سبيلِهِ صَفّا كأنّهم بُنْيانٌ مَرصوص}[الصف: ٤] أتدرون ما سبيل الله ومن سبيله ومن صراط الله ومن طريقه؟ أنا صراط الله الذي من لم يسلُكْه بطاعة الله فيه هُوِيَ به إلى النار وأنا سبيله الذي نصبني للاتّباع بعد نبيه صلى الله عليه وآله أنا قسيم الجنة والنار وأنا حُجة الله على الفُجار ونُورُ الأنوار.
فانتبهوا مِن رقْدة الغفلة وبادِروا بالعمل قبل حلول الأجل وسابقوا إلى مغفرة من ربكم قبل أن يَضْرِبَ بالسُّوْرِ بباطن الرحمة وظاهر العذاب فتُنادُون فلا يُسْمع نداؤكم وتَضِجون فلا يُحْفَلُ بضجيجِكم وقبل أن تستغيثوا فلا تغاثوا سارِعوا إلى الطاعات قبل فوت الأوقات فكأنْ قد جاءكم هادم اللذات فلا مَناصَ نَجَاءٍ ولا مَحِيصَ تخليص .. ثم أَخذَ صلى الله عليه وآله في خطبة الجُمُعة وجَعل صلاة جُمُعته صلاة عيده ..»[انظر نهج البلاغة: خطبة الجمعة والغدير – مصباح المتهجد: ص752 – 758 – 843 ؛ الإقبال: ج2 ص254 – 259].
● سلوكيات أهل البيت في الغدير وآلية الأداء:
لا بأس بإحياء هذه المناسبة العظمى من حين خروج النبي صلى الله عليه وآله من مكة يوم الرابع عشر من ذي الحجة من السنة العاشرة للهجرة إلى غدير خم إلى حين وصوله إلى المدينة بما استغرقه الطريق للمدينة بثمانية أيام ، فهي مناسبة خالصة لقَوَام الدِّين والسعادات ، كما لا تقِل شأناً عن مناسبة العيدين الفطر والأضحى ، وأن تكون الثمانية ممهِّدة للطَّف ، وأن يتمثل الإحياء لها ببيان ارتباطاتها بالحج العبادة السنوية الجماهيرية ، الكبرى في عمر الإنسان الواجبة مرة واحدة في كل حياته ، وارتباط رحيل النبي صلى الله عليه وآله -بما كاد يكون إجماعاً- في نفس العام بربيع الأول التالي لحجة الوداع ، حيث عاش صلى الله عليه وآله بعد حجة الوداع -على المشهور- قرابة ثمانين يوماً أو أكثر بأيام قلائل على الخلاف في تدقيق يوم وفاته من يوم الإثنين بربيع مع أول ذي الحجة من السَّنة العاشرة للهجرة بكونه يوم الخميس .. وإخباره للناس قبل ذلك بأنه يوافيه الأجل ولن يحج غير هذه الحجة كما أفاد مثلاً مروي معاذ رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم لمّا بعثه إلى اليمن خرج راكباً والنبي صلى الله عليه وسلم يمشي تحت راحلته ، فقال:
يا معاذ ؛ إنك عسى ألا تلقاني بعد عامي هذا ، فتمر بقبري ومسجدي ..»[مسند أحمد: ج5 ص235] ، وبيان معاناة الإمام علي سلام الله عليه ومناقبه ودراسة المشروع الرسالي أكثر وبصورة أوسع وبث كنوز علومه وبيان مقام الخلافة ودوره التاريخي والأعراض التي نجمت عن إبطال خلافة آل البيت عليهم الصلاة والسلام إلى يومنا هذا .. ؛ وهاهو الإمام الرضا عليه الصلاة والسلام يصف لنا خصائص ومهام هذا اليوم إذ يقول:
هو «.. يوم مَرغمة الشيطان .. وهو يوم تنفيس الكرب ، ويوم تحطيط الوزر ، ويوم الحباء والعطية ، ويوم نشر العلم ، ويوم البشارة ، والعيد الأكبر ، ويوم يستجاب فيه الدعاء ، ويوم الموقف العظيم ، ويوم لبس الثياب ونزع السواد ، ويوم الشرط المشروط .. وهو يوم السبقة ، ويوم إكثار الصلاة على محمد وآل محمد .. ويوم طلب الزيادة ، ويوم استراحة المؤمنين ، ويوم المتاجَرة ، ويوم التودد ، ويوم الوصول إلى رحمة الله ، ويوم التزكية ، ويوم ترك الكبائر والذنوب ، ويوم العبادة ، ويوم تفطير الصائمين ، فمن فطّر فيه صائماً مؤمناً كان كمن أطعم فِئاماً وفِئاما –إلى أن عَدّ عَشْرا. ثم قال: أوتدري ما الفئام؟ قال: لا. قال: مائة ألف- وهو يوم التهنئة ، يهني بعضكم بعضا ، فإذا لقي المؤمن أخاه يقول: الحمد لله الذي جعلنا من المتمسكين بولاية أمير المؤمنين والأئمة عليهم السلام»[الإقبال: ج2 ص260] ، كما يبين لنا أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه -حسبما ورد في ذيل الخطبة المتقدمة- كيفية إحيائه بقوله:
«عُودُوا -رحمكم الله- بعد انقضاء مَجْمَعِكُم بالتوسعة على عيالكم والبِرِّ بإخوانكم والشكر لله عز وجل على ما منحكم واجمَعوا يَجمع الله شملكم وتَبارُّوا يصل الله أُلفتَكم وتهانوا [وتهادَوا] نِعَمَ الله كما هنأكم [مَنّاكم] بالثواب فيه على أضعافِ الأعيادِ قبْلَه وبَعدَه إلا في مِثله والبِرُّ فيه يُثْمِرُ المال ويَزيد في العمْر والتعاطُفُ فيه يَقتضي رحمةَ الله وعطْفَه وهَـيِّئوا لإخوانكم وعيالكم عن فضله بالجُهْد مِن جُودكم وبما تناله القدرة من استطاعتكم وأَظهِروا البِشْر فيما بينكم والسرور في مُلاقاتكم والحمد لله على منحكم وعُودوا بالمَزيد من الخَـيْر على أَهْلِ التّأميل لكم وساووا بكم ضعفاءكم في مأكلكم وما تنالُه القُدرة من استطاعتكم وعلى حسب إمكانكم فالدرهم فيه بمائة ألف درهم والمَزيد من الله عز وجل.
وصوم هذا اليوم مما نَدَبَ الله تعالى إليه وجَعَلَ الجزاءَ العظيمِ كَفالةً عنه حتى لو تَعَـبَّدَ له عبد من العبيد في الشَّبِيْبة مِن ابتداء الدنيا إلى تَقَضِّيها صائماً نهارُها قائماً ليلُها إذا أَخلص المخْلص في صومه لَقَصُرَتْ إليه أيام الدُّنيا عن كِفايةٍ ومن أَسعَف أخاه مبتِدئاً وبَرَّه راغباً فله كأجر من صام هذا اليوم وقام ليلته ومن فَطَّر مؤمناً في ليلته فكأنما فَطر فِئاماً وفِئاما يعدّها بيده عشرة.
فنهض ناهض فقال: يا أمير المؤمنين وما الفئام؟ قال: مائة ألف نبي وصِدّيق وشهيد فكيف بمن تَكَفل عدداً من المؤمنين والمؤمنات وأنا ضمينه على الله تعالى الأمان من الكفر والفقر وإن مات في ليلته أو يومه أو بعده إلى مِثله من غير ارتكاب كبيرة فأجره على الله تعالى ومن استدان لإخوانه وأعانهم فأنا الضامن على الله إنْ بقّاه قضاه وإنْ قبَضه حمله عنه.
وإذا تلاقيتم فتصافَحوا بالتسليم وتَهانَوا النعمة في هذا اليوم وليبلغ الحاضر الغائب والشاهد البائن وليعد الغني على الفقير والقوي على الضعيف أَمرَني رسول الله صلى الله عليه وآله بذلك.
ثم أَخذَ صلى الله عليه وآله في خطبة الجُمُعة وجَعل صلاة جُمُعته صلاة عيده وانصرف بولده وشيعته إلى منزل أبي محمد الحسن بن علي عليه السلام بما أعد له من طعامه وانصرف غنيهم وفقيرهم برِفده إلى عياله» ، وقد بَـيّن لنا الرضا سلام الله عليه نماذج وصور من الاحتفال به كما فعلوا عليهم الصلاة والسلام على مر السنين:
ففي تتمة خبر الفياض المتقدم أنه رأى أبا الحسن علي بن موسى الرضا عليه السلام في يوم الغدير وبحضرته جماعة من خاصته قد احتبسهم للإفطار ، وقد قدم إلى منازلهم الطعام والبر والصِّلات والكسوة حتى الخواتيم والنعال ، وقد غَيَّر من أحوالهم وأحوال حاشيته ، وجددت له آلة غير الآلة التي جرى الرسم بابتذالها قبل يومه ، وهو يذكر فضل اليوم وقِدَمِه[مصباح المتهجد: ص752 – إقبال الأعمال: ص773] ؛ فإنّ مما يؤسف له أن لا يجد الناس مناسبة مخصوصة لذِكر أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام إلا في مولده ووفاته وبصورة عابرة تُستهلَك غالباً في الفرح أو الحزن ، مع ما له من تراث زاخر يَترقَّب الإفاضة ورغم ما لذِكره من الشأن العظيم في القرآن والأخبار ورغم كونه لا يقاس به أي إمام من الأئمة كما نصوا سلام الله عليهم ، بينما هنالك مناسبات وأعياد مصنوعة تَنال من شديد العناية والتكلّف وامتداد الوقت حتى إلى الأسبوع والترويج لها والكتابة الكثيرة عنها وتسخير بالغ الجهود ما بات مبصوراً للجميع مع فقدِ استغلال فرصة الغدير لتسيير كنوز العلوم والآداب العالية والقِيَم النبيلة والـمَبرّات والصِّلات ومصالح المجتمعات والمؤمنين النافعة المغفولة.
أخشى بتضييعنا وتفريطنا وإهمالنا تطبيق سيرة أئمتنا في التعامل مع هذا العيد أن لا نكون ممتثلين ولا نقع مصداقاً في جُملة قوله سلام الله عليه «فتأملوا ما ندبكم الله إليه وحثكم عليه واقصِدوا شرعه واسلُكوا نهجه ولا تَتَّبِعوا السُّبُل فتَفَرَّقَ بكم عن سبيله .. هذا يوم المَلأ الأعلى الذي أنتم عنه معْرِضون هذا يوم الإرشاد ويومُ مِحنةِ العباد ويوم الدليل على الرُّوّاد .. ولا تَمَسَّكوا بعِصَمِ الكَوَافِر ولا يَجنَح بكم الغَي فتَضِلوا عن سبيل الرَّشاد».
أمين السعيدي
18 ذي الحجة 1434هـ
بمناسبة العيد الأكبر، عيد الغدير الأغر
للتعلیق أو مطالَعة التعلیقات اضغط هنا