القِسم الأول من الرد على [الإشكالية العلمية العويصة في الذهاب لزيارة الحسين]
بسم الله الرحمن الرحيم
ملخـــَّص الإشكالية:
ذكرنا في الإشكالية أنّ المسَــلَّم بين علماء الأصول والفقهاء أنَّ الأحكام الشرعية الخمسة (الوجوب والحرمة والاستحباب والكراهة والإباحة) ، تَـعود لمبادئ وملاكات ومصالح واقعية ؛ فالواجب فيه مصلحة شديدة جداً ؛ لذا الشرع الحكيم العادل لا يتنازل عنه ، ويحث عليه بشدة ويلزم المكلف بامتثاله ، ويرتـــِّـب على فعله ثواباً كبيراً جداً تبعاً لشدة مصلحته ، وهذا أمر منطقي ، فعظيم المصلحة عظيم التعويض والثواب.
والمحرم فيه مفسدة شديدة جداً ؛ لذا الشرع يَردع العبد عنه بشدة ويلزمه بتركه ، ويرتــــِّـب على ارتكابه عقاباً كبيراً جداً تبعاً لشدة مفسدته.
بخلاف المستحب ؛ فهو فيه مصلحة شديدة لكن لا تصل لحد درجة مصلحة الواجب ؛ لذا الشرع يحث على امتثاله ، لكن أيضاً لا بدرجة حثه على الواجب ؛ لأن الواجب أشد مصلحة وأقوى ، فالمولى سبحانه يرتــِّـب على فعل المستحب ثواباً كبيراً تبعاً لدرجة أهميته ، وفي نفس الوقت يرَخـــِّص في تركه ، ولا يعاقِب المكلَّف على الترك ، ويدعه في خيار ، إن أراد كماله فسيفعله بلا تهديد ووعيد ، ولكن مع تشجيعٍ بالثواب.
والعكس في المكروه. ومما تقدم يتضح أمر المباح.
وقلنا هناك أنّ هذا التقسيم والتحليل من ابتكار العلماء ، وأنه لا يوجَد لا آية ولا رواية تقول بأن الأحكام الشرعية خمسة (واجب ومحرم ومستحب ومكروه ومباح) ؛ فالفقهاء لَمّا نظروا في الأحكام الشرعية وَجدوا هذا الشاخص وهذه الآلية للتمييز بين الأحكام الشرعية ، وعلى أساس هذه الآلية المنطقية الدقيقة وَضعوا هذا التقسيم الخماسي للأحكام الشرعية ، وساروا عليه في الفتوى ورسائلهم العملية بطول الشريعة وعَرْضِها.
بالتالي ؛ إذا كانت زيارة الحسين عليه الصلاة والسلام ثوابها أشد من ثواب الواجب كما رأينا في الروايات الكثيرة التي استعرضنا تسع روايات صريحة منها ، فإذا كانت الزيارة ثوابها والحث عليها يساوي -أو أشد من- ثواب بعض الواجبات الكبرى والحث عليها –كالحج مثلاً- ، وتعادِل (ألف حجة مقبولة وألف عمرة مبرورة) … ، مع أن الزيارة بإجماع الفقهاء مستحبة لا واجبة ، فهذا يستلزم عدة أمور:
الأمر الأول: (فساد الشاخص الفقهي للأحكام الشرعية الخمسة):-
أن يكون ملاك وآلية التقسيم الخماسي الذي ابتكره الفقهاء للأحكام الشرعية باطلاً ؛ لأنه انثـــَـلَـم في مورد حُـكم الزيارة ، ويكفي انثلامه في مورد واحد ليسقط ولا تعود له قيمة منطقية وفقهية ، فهو غير مُطَّرِدٍ ولا سَــيَّــال في كل المسائل الفقهية.
وبالتالي ؛ يجب التخلي عنه ، والبحث عن آلية وملاك آخر لتقسيم الأحكام الشرعية ، وإعادة صياغة منظومة الدين وكتب الفتوى من جديد.
الأمر الثاني: (وجوب الزيارة لا استحبابها):-
أن يكون ملاك وآلية التقسيم لا مشكلة فيه ، ونحكم بسلامته ، غاية الأمر أنّ الزيارة تكون واجبة لا مستحبة ، ونقول بأن الفقهاء هم الذين اشتبهوا في تشخيصها عندما حكموا عليها بأنها مستحبة.
الأمر الثالث: (اشتباه الرواة):-
أن نصر على استحباب الزيارة وعلى سلامة ملاك وآلية التقسيم الذي وضعه الفقهاء لتشخيص الأحكام ، غاية الأمر أن المشكلة تكمن في نفس رواة أخبار الزيارة ، فهم اشتبهوا في النقل رغم كونهم ثقاة ؛ وبالتالي يكون مضمون هذه الروايات ضعيفاً ؛ ومن ثم لا وجه لأن نعطي لزيارة الإمام الحسين صلوات الله وسلامه عليه هذا القدر من الاهتمام والتشريف في كل عام وفي كل يوم وفي كل حين.
الأمر الرابع: (ضعف الأسانيد):-
أن نقول بضعف أسانيد هذه الروايات ؛ بالتالي لا يبقى لهذه الزيارة قيمة شرعية وفتوائية.
الأمر الخامس: (اشتباه أهل البيت “ع” وعدم عصمتهم):-
أن نحكم بسلامة الأسانيد وسلامة مضامين الروايات وسلامة ملاك وآلية تقسيم العلماء ، ومن ثم نلتزم بعدم عصمة أئمة أهل البيت عليهم الصلاة والسلام ؛ إذ أنهم أرادوا:
إما أن يقولوا بأن الزيارة واجبة ، فاشتبهوا ورخــَّـصوا فيها مطلَقاً.
أو أرادوا أن يقولوا بأنها مستحبة ، فاشتبهوا في (الحث عليها بمستوى قوة الحث على الواجب) ، كما اشتبهوا في (جعل ثوابها مساوياً أو أكبر من ثواب الواجبات الكبرى) ، باعتبار أن المستحب الذي هو (حكم ترخيصي) يستحيل أن يكون مساوياً أو أقوى من الواجب الذي هو (حكم إلزامي) شديدٌ جداً.
فاختاروا أي هذه المخارج تريدون لحل المشكلة.
الجواب:
لا يــَـخفى متانة الإشكالية ودقتها ، وحاجتها للرد العلمي المنصف والعادل والمنشرِح ، بعيداً عن العجلة والتعصبات وشعائر الجهل ، كما أيضاً لا يـــَـخفى تَـضَـمُّــنها لعدة إشكاليات منطوية ؛ (أصولية وفقهية ورِجالية وحديثية) و(عَقَدية) ، فهي إذن بحاجة للرد في الجنبتين: الفقهية والعقَدية معاً ، فالاقتصار على جنبة دون أخرى لا يحل المشكلة.
لذا سنقسِّم الإجابة إلى عدة نقاط كما يلي:
النقطة الأولى: (النَّـقْضُ بالمستحبات الأخرى الثابتة):-
وهي (دليل نَـقْـضي) ؛ مفاده هو أن الزيارة إذا كان يستحيل (جَعل البعث والتحريك نحوها) و(جَعل ثوابها) بنفس درجة البعث والتحريك والثواب في الواجب ، في ظل التمسك بآلية التقسيم الفقهي للأحكام الشرعية الخمسة ؛ فهذا يَلزم منه تسرية الإشكالية للمستحبات المؤكَّدة الأخرى ، التي فيها حث شديد جداً وثواب كبير جداً ؛ كـ(صلاة الليل) مثلاً و(صلاة الجُمُعة).
فهاتان الصلاتان من المستحبات قطعاً ، وكل المسلمين مجْمِعون على شدة تحريك المولى سبحانه للعباد نحوهما ، وعِظَم فضلهما ، لا الشيعة وحدهم من يقولون بذلك في حق هاتين الصلاتين ، وإنما كافة المسلمين.
فهل معنى هذا أن نبطل أيضاً آلية التقسيم القائمة عليها الأحكام الشرعية الخمسة؟!
إن ألزمتمونا بهذا في الزيارة ، فنحن نلزمكم به في الصلاتين أيضاً ، ولربما في (صلاة التراويح) كذلك ، والتي هي عندكم وليست عندنا.
* طبعاً هذا (الجواب النَّــقْـضي) لا يكفي لعلاج الإشكالية كما هو واضح ؛ لأنه غاية ما يفعله هو الاحتجاج على المستشكل بمورد مماثل يقول به ويجري فيه الإشكال ؛ أي هو بمثابة الدليل الجَدَلي ، بينما الإشكالية تحتاج لعلاج يجيب عليها بصورة حَلِّــيّـة لا جَدَلية.
كما أنّ المستشكِل –أيضاً- لا يجب أن يكون من الفريق الآخر من مذهبٍ آخر ؛ إذ قد يكون من نفس مذهبنا أيضاً ، وقوله في محلّه ويحتاج بلا ريب لعلاج ، وإلا استلزم ذلك المحاذير السالفة ؛ لأن المشكلة تواجه المباني الأصولية التي يعمل بها الفقهاء ؛ لذا من الخطأ أن ننسب الإشكالية للفريق الآخر مباشرة ومن ثم مهاجمته ، فكلام العلم لا يَعرفُ فريقاً ولا جماعة ، وقد شُتمنا ونَزل علينا الإخوة والأخوات الأعزاء الكرام بالسُّباب ، بمجرد طرْحنا للإشكالية وقبْل الرد عليها ، وقبل قراءتهم لها –على ما أظن- بكاملها ، ودون الاطلاع على ما كان بآخرها ، ولعله صدر ذلك اعتقاداً منهم بأن الكاتب من النَّواصب ؛ فهذا لا ينبغي من الشيعة والمؤمنين ، قال تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ .. لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[1] ، فحسبنا الله ، وأصلح الجميع.
وعلى أيٍّ فالدليل والعلاج (الجواب الحَــلِّي) نقدمه في النقاط التالية.
النقطة الثانية: (سلامة ملاك التقسيم الفقهي):-
لا ريب في سلامة النكتة والآلية التي يقوم عليها التقسيم الفقهي للأحكام الشرعية الخمسة ، فهو آلية دقيقة ومنطقية لا يَعترضها شيء ، ويمكن تطبيقها على كافة الموارد ، فالأحكام إما واجبة أو محرمة أو مستحبة أو مكروهة أو مباحة ، ولا حاجة –أيضاً- لقسمٍ سادس ، فكل ما في الشريعة قابل للدخول تحت هذه الخمسة ، ووفق الآلية الموضوعة لها فقهياً بالصورة التي أوضحناها في أوائل الإشكالية.
النقطة الثالثة: (امتناع التخصيص في العقليات وجوازه في التقْـنيـنيات):-
انثلام التقسيم في مورد أو مسألة لا يعني سقوطه وعدم جدوائيته ؛ فآلية هذا التقسيم ليست من قبيل (القواعد العقلية) التي يستحيل تخصيصها ، فهي ليست مثلاً كالقضية العقلية القائلة بأنّ (النقيضين لا يجتمعان) ، فالنقيضان لا يجتمعان قاعدة عقلية لا يمكن تخصيصها ؛ لأن كل نقيضين لا يجتمعان ، سواء كانا في أميركا أم في روسيا أم في القطيف ، فلا يمكن القول بأن النقيضين اللذين في منطقة معينة لا يجتمعان ويتم تخصيص القاعدة العقلية بهما بالقول: النقيضان لا يجتمعان إلا النقيضين اللذين في تلك المنطقة المعينة.
فالتخصيص في القواعد العقلية ممتنِع ، ومورد كلامنا ليس من هذا القبيل ، فموردنا عبارة عن (تشريعات اعتبارية) ، والاعتبارات أمور نفسانية سهلة المؤونة وسهلة التقييد ، فالتخصيص والتقييد وغيرهما –كالحكومة والورود- في الشرعيات من الأمور الاعتيادية في المحاوَرات والتقنينات ، والشرع مليء بها كثيراً ؛ بالتالي يمكن التخصيص هنا ، كأن نقول:
كل ما كان البعث والتحريك فيه من المولى سبحانه شديداً جداً ، وكان ثوابه شديدٌ جداً ؛ فهو واجب ، وكل ما كان بدرجة لا تصل في البعث والثواب لدرجة الواجب ؛ فهو مستحب ، إلا –مثلاً- (صلاة الليل وصلاة الجُمُعَة والذهاب لزيارة الإمام الحسين صلوات الله وسلامه عليه) ؛ وذلك للدليل الشرعي ، وهو ما سنذكره في (النقطة الخامسة).
النقطة الرابعة: (التّمسّك بفكرة الاستحباب المؤكَّد):-
يمكن أن نستغني عن فكرة التخصيص ، التي -كما ترى- تعني ثَـلْم آلية التقسيم الفقهي ، والخروج عنها ، بتخصيصها في هذه الموارد ، وإن شئتَ قل: إجراء الآلية في كل الموارد عدا هذه الموارد (صلاة الليل وصلاة الجُمُعَة والذهاب للزيارة) وأشباهها ، فهي خارجة عنها ؛ أي (يمكن تصوير الخروج التخصيصي ويمكن تصوير الخروج التخصصي).
ففي هذه النقطة –الثالثة- نريد أن نطرح حلاً آخر يغْنينا عن فكرة التخصيص ، وهو حل يرتكز على فكرة (الاستحباب المؤكَّد) ؛ الذي يعني عند الفقهاء وجود شدة من الشرع في حث وتحريك المكلف نحو فعل شيء معيَّن (كالزيارة وصلاة الليل وصلاة الجُمُعة) ، وترتيب الثواب العظيم على ذلك.
و(الكراهة المؤكَّدة أو المشدَّدة) بعكس ذلك.
فهذان مصطلحان فقهيان أيضاً ، وهما مِن ضمن التقسيم الفقهي الخماسي ؛ أي كأن التقسيم الفقهي هكذا:
(وجوب ؛ حرمة ؛ استحباب ؛ استحباب مؤكَّد ؛ كراهة ؛ كراهة مؤكَّدة ؛ إباحة).
فنحن كما لا نَحسب (الإباحة بالمعنى الأعم) ، و(الإباحة بالمعنى الأخص) ، مع أنها عند الفقهاء من الأقسام ، فكما لا نقول الأقسام ستة: (وجوب ؛ حرمة ؛ استحباب ؛ كراهة ؛ إباحة بالمعنى الأعم ؛ إباحة بالمعنى الأخص) ، كذلك لا نقول الأقسام مثلاً سبعة بضم (الاستحباب المؤكَّد) و(الكراهة المؤكَّدة) ، وإنما نكتفي بـ(المَقْسَم) ؛ أي الأصل ، وهو:
أصل الوجوب ، وأصل الحرمة ، وأصل الاستحباب ، وأصل الكراهة ، وأصل الإباحة.
فلا مُشاحّة ولا تَحسُّس في الأرقام.
لكن فكرة (الاستحباب المؤكَّد) لا تَنفع بوحدها للحل ؛ لأننا لن نفلت بها من الإشكالية ، فالإشكالية تقول: كيف يكون المستحب أكثر ثواباً من الواجب ، والبعث والتحريك في هذا المستحب أيضاً يصل لدرجة البعث والتحريك الموجودة في الواجب؟! فهذا يبطل ملاك وآلية التقسيم الفقهي للأحكام الشرعية ، ولا يبقى هنالك مائز بين (الاستحباب المؤكَّد) و(الواجب).
لذا ؛ يجب أن نضم لفكرة (الاستحباب المؤكَّدة) قضية أخرى ، وهي ما نذكره في النقطة التالية.
النقطة الخامسة: (تمييز الاستحبابية بالترخيصية):-
إنّ (الاستحباب المؤكَّد) ، أو الاستحباب مطلَقاً بقِسمَيه (المؤكَّد واللامؤكَّد) ، فيهما مائز يميزهما عن الحكم الوجوبي ، وهو قضية (الترخيص) ، فالزيارة وصلاة الليل وصلاة الجُمُعة ورد الترخيص فيهم رغم شدة التحريك نحوهم وعظيم ثوابهم ، فالواجب يستحيل أن يكون فيه ترخيص ، وإلا ما عاد واجباً وإلزامياً ، فالترخيص خُلْفُ الإلزام ؛ بالتالي ورود الترخيص في هذه الموارد (الزيارة وصلاة الليل وصلاة الجُمُعة) يدلِّل على أنها مستحبة لا واجبة ، وشدة التحريك نحوها وشدة ثوابها يدلِّل على أنها مؤكَّدة ومصالحها شديدة جداً ، وهو عين ملاك (الاستحباب المؤكَّد).
إشكال:
(بطلان تَساوي وارتفاع “ثواب الاستحباب المؤكِّد” على “ثواب الواجب”):-
· نعم ؛ لك أن تقول:
وكيف كان ثواب الزيارة أكبر من ثواب الواجبات الكبرى؟! فهي –الزيارة- ثوابها أكبر من ثواب الحج ، حيث تَعْدل (ألف حجة مقبولة وألف عمرة مبرورة وكل ما أشرتم له في الروايات التي استعرضتموها فيما سبق).
فإذا أفلتّم من مشكلة قوة التحريك والبعث ، وحليتموها بـ(الاستحباب المؤكَّد) الذي فيه تحريك وبعث شديد جداً مثل الواجب لكن مع ترخيص ، فلم تفلتوا من مشكلة كون ثواب الزيارة التي هي من قبيل (الاستحباب المؤكَّد) ، لم تفلتوا من كون ثواب الزيارة يساوي بل أكبر من ثواب الواجبات الشرعية الكبرى التي منها الحج ؛ فالشيء الذي ثوابه عظيم ويصل لحد ثواب الواجب ، لابد أن يكون واجباً لا مستحباً ؛ لأن الواجب حكمٌ إلزاميٌ ، فهو أقوى ، وأكثر مصلحة ، وما هو أكثر مصلحة يجب أن يكون ثوابه اكبر مما هو أقل رتبة منه ، والحال أنكم تقولون بأن الزيارة من قسم المستحبات لا الواجبات ، والمستحبات بالاتفاق أقل رتبة من الواجبات والإلزاميات.
فالمشكلة باقية على حالها.
الجواب يتضح بالنقاط الباقية التالية.
النقطة السادسة:
(حلول مشكلة تساوي وارتفاع “ثواب المستحب المؤكَّد” على “ثواب الواجب”):-
نقر بأن الذهاب للزيارة من قسم المستحبات ؛ فهي من الاستحبابات المؤكَّدة في الشريعة الغَــرَّاء ، لكن زيادة ثوابها على ثواب الواجب يمكن أن نضع له عدة حلول ، بغض النظر عن أننا نستطيع أيضاً أن نحاجِج وننْقِض على المستشكل بطريقة (الجواب النقضي) المتقدم ، غايته أنَّ الدليل النقضي كما قلنا دليلٌ جدَلي لا ينفع لعلاج أصل المشكلة وحلِّها ؛ لذا يجب استعمال (الدليل الحَـلّي) ، خصوصاً وأنّ الإشكالية لم تأتِ فقط من خارج نطاق المذهب ، وإنما هنالك من هم من المذهب ربما يقولون بها ، وهي إنصافاً –كما قلنا- إشكالية علمية وليست مزاجية.
أما الحلول فهي:
الحل الأول: ( فكرة عدم بلوغ ثواب الزيارة درجة ثواب الواجب):-
أن نقول بأنّ الثواب الموجود في الزيارة ، القائل بأنها تعادِل (ألف حجة مقبولة وألف عمرة مبرورة و ..) ، لا يَستلزم كون ثواب الزيارة يساوي أو اكبر من ثواب الواجبات الكبرى كثواب الحج.
ذلك بالبيان التالي:
من المعلوم أنّ لدينا حجاً واجباً ، وحجاً مستحباً مندوباً ، وما ورد في الروايات لو حملناه على إرادة الحج المستحب المندوب ؛ فلن يبقى للإشكال وجه ، وسيَسقط من فوره ؛ لأن الزيارة بهذا لن يكون ثوابها أكبر من ثواب الواجب الذي هو (الحج الواجب) ، بل حتى لن تساويه فضلاً عن أن تكون أكبر أجراً منه.
فالزيارة بعبارة أخرى ستكون تعادِل (ألف حجة مندوبة مقبولة وألف عمرة مبرورة) ، وهذا لا يصل لحد ثواب (حجة الإسلام) التي هي واجبة.
لكن هذا الاستدلال يحتاج لدليل أو قرينة.
القرائن العلمية المصحِّحة لهذا الحل:-
القرينة الأولى: (وجود الشك الموجِب للعمل بالقدَر المتيقَّن):-
والدليل الذي يمكن أن نتلمّسه هو (وجود الشك) في أنّ الروايات هل تريد ثواب الحج الذي من قبيل (حجة الإسلام الواجبة) ، أم ثواب الحج الذي من قبيل (الحج المستحب)؟ فنَـقتصِر على (القدر المتيقَّن) ، وهو إرادتها للحج الذي من قبيل (الحج المندوب) لا الواجب.
القرينة الثانية: (نفس ملاك وآلية التقسيم الفقهي):-
أيضاً نفس ملاك وآلية تقسيم الأحكام يمثِّــل دليلاً آخر على إرادة الحج الذي من قبيل (الحج المندوب) لا الحج الذي من قبيل (الحج الواجب) ؛ ذلك لأن (ثواب المستحب) لا يكون أكبر من (ثواب الواجب) ؛ لأن المصلحة –وفق ما ذكرتم- إذا كانت أكبر فثوابها أكبر ، والواجب فيه مصلحة أكبر من المصلحة التي في المستحب ؛ بالتالي المستحب –كالزيارة- ثوابه أقل من الواجب ؛ فثبت المطلوب ، وهو كون (ثواب الواجب) أكبر ولا يتساوى معه (ثواب المستحب).
القرينة الثالثة: (إقران العمرة بالحج في عبارة واحدة):-
وأيضاً (إقران العمرة بالحج) في قول الروايات: (ألف حجة مقبولة وألف عمرة مبرورة) يمثِّــل دليلاً ثالثاً على إرادة ثواب الحج المندوب لا الواجب ؛ ذلك لكون (العمرة) منصرفة لـ(العمرة المستحبة) ؛ إذ لا يوجَد (عمرة واجبة) في قبال (الحج الواجب) ، فإقران (الحج والعمرة) في كلمة واحدة دليل على إرادة ثواب ألف حجة مستحبة لا ثواب ألف حجة واجبة.
فإن لم تقبل هذه القرينة الثالثة فدونك الأولى والثانية ، ففيهما الكفاية.
لكننا –حقاً- لا نَـقبل بأن يكون ثواب الزيارة من قبيل الحج المندوب ؛ لأن الدليل على ذلك غير تام ، فالدليل الأول يَفترِض (وجود شك وإجمال) بين أن يكون المراد في الروايات هو (ثواب ألف حجة مندوبة) أم (ثواب ألف حجة واجبة)؟
طبعاً دون أن يسقط وجوب حجة الإسلام.
بينما الدليل الثاني يَستنِد لنفس (ملاك وآلية التقسيم الفقهي للأحكام الشرعية).
والثالث يَستنِد لـ(الاقتران في الكلمة بين الحج والعمرة وعدم وجود عمرة واجبة في قبال الحج الواجب).
فالأدلة الثلاثة كلها غير مقبولة ، وهذا ما نوضحه إن شاء الله تعالى في التالي من البحث.
والحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد الخلق محمد وآله الطاهرين وصحبه المنتجَبين.
أمين السعيدي
20 صفر 1435هـ-قم المقدسة
إعداد مسؤول صفحة سماحة السيد أمين السعيدي حفظه الله في الفيسبوك: أبو منصور الحافظ
الرابط المباشر للمنشور على صفحته في الفيسبوك:
لمتابعة المنشور في صفحته على تويتر:
ولكم خالص التحية . نسألكم الدعاء
للتعلیق أو مطالَعة التعلیقات اضغط هنا