شرح منهاج الصالحين – المقدمة
●سماحة السيد أمين السعيدي حفظه الله:
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
مقدِّمة (في بيان العلّة وراء تقديم هذا الشّرح):- وبعد.. إنَّ لكلِّ عِلمٍ يقدِّمُ للإنسانِ نفعاً، ما يُتَوِّجه بتاج السّمو، وخير العلوم ما كان نفعها يشمل الجميع ويهدف لإقامة الصّلاح والسّعادة لهم، وليس علم الفقه بمعزلٍ عن هذه الحقيقة، كيف ذاك وهو الصّرح الأوّل الّذي يتجلَّى فيه هذا الواقع؛ حيث يكتنف بين طيّاته جميع ما يحتاج إليه الإنسان في كافّة حركاته وسكناته، وفي مختلف روابطه وعلاقاته، فالعِلم الّذي لم يمر بحادثة من حوادث الدّهر إلا أعطَى لها قيمةً وقدَّم لها حُكماً، لا شكَّ في أنّه علمٌ مقدَّس لا يستغني عاقلٌ عنه بحالٍ من الأحوال، سواء كان هذا العاقل ممتهِناً أم غير ممتهِنٍ، متزوِّجاً أم غير متزوِّجٍ، مُعيلاً أم غير معيلٍ، بل وسواء حتّى غير العاقل من البشر، سواء كان بالغاً أم غير بالغ، بل وأكثر من ذلك ما يوليه الفقه للموجودات الأخرى من الجمادات والعَجْماوات من أهمّيّةٍ ونَظْمٍ لا يرقَى إليه غيره. فهذا المنار الرّبّاني قام على أساس المعرفة الإلهيّة، والرّشاد إلى كلِّ خيرٍ وكلِّ صالح، ممّا يضفي عليه خصوصيّة لا تتوفّر في غيره من العلوم الإنسانيّة المقابِلة. لذا لـمَّا كان هذا العِلم يرتبط بمعرفة أحكام وتشريعات الله تعالى، الخالق لجميع كائنات هذا الوجود من أصغر ذرّاتِه إلى أعظم مَجرّاتِه؛ كان حريّاً بالإنسان أن يقف أمامه وقفة تأمُّلٍ وعناية، ليستلهم ما فيه، ويُديره على حياته ومختلف أشكال فِعاله وشؤونه. وفي الحقيقة إنَّ هذه المعارف الإلهيّة الفضيلة، رغم جلالة قدرها ورفعة منزلتها، لَفَّها نحوٌ من الضّبابيّة والصّعوبة والغموض، بحيث عندما يطالعها المكلَّف من عامّة النّاس في الكتب الفقهيّة؛ يجد نفسه أمام كمٍّ هائلٍ من المصطلحات والعبارات المغْلَقة المحيِّرة، ممّا يُعْجزه عن تفكيكها، وفهم معانيها، ومقاصدها الّتي –كما هو واضح- لا يصل إليها إلا المتخصّصِين في المجال الدِّيني، الدّارسِين لمصطلحات الفقهاء وأهل العِلم والصِّناعة، رغم أنّها جاءت عن رائدها صلَّى الله عليه وآله وسلَّم سهلة ميسورة للجميع، معقولة لكافّة ذوي الألباب، ففي الخبر: (نحن معاشر الأنبياء أُمِرنا أن نخاطِب النّاس على قدرِ عقولِـهم). وعلى أيٍّ فإنّنا في هذا الصّرح لسنا بصدد الحديث عن أسباب نشوء هذه الظّاهرة، وتحليلها، ونقدها، وتقييمها، وإسباغ الأعذار والمصالح العِلميّة والعمليّة على حيثيّاتها، وإنّما الّذي نهدف إليه هو الوقوف على بيان هذه المسائل، وتقديمها للجميع بصورةٍ جديدةٍ فريدة، سَلِسةٍ ومبسَّطة، في سبيل خدمة طلاب المعرفة والباحثين عن العلم، إلا أنَّ هذا لا يحول بيننا وبين الوقوف على ذكر بعض الأسباب المهمّة الدّاعية لفتح هذا الصّرح والدّخول في مَشاقِّه بشيءٍ من البيانِ والإيضاح. وهنا يحضرني أنَّه في أحد الأيّام عندما كنّا نَـحْضر لدى أحد العلماء الأعلام، والفقهاء الأفاضل من ذوي العِلم والمعرفة، في قمٍّ المقدَّسة، يومها كان يجتمع حوله لفيفٌ من المجتهدين، وجمعٌ هائلٌ من المفكِّرِين، وكان المجلس –آنذاك- قد عُقِدَ للمُباحَثة والمذاكَرة في بعض المسائل الفقهيَّة، كما هي العادة في الحوزات الدِّينيّة، حيث يَفتح العلماء والمجتهدون وطلاب العلم بيوتهم ومجالسهم في مختلف الأوقات لـمُدارسة العلم، ومناقشة آراء أهله، وتمحيص المسائل، والتّدقيق في مستنداتِها وأدلّتِها وبراهينِها. المضمون: أثارَ العالمُ مسألةً، وكانت هذه المسألة مُدْرَجة في أحد كتب المرجع الدّيني الرّاحل السّيّد الخوئي رحمة الله تعالى عليه، وتحديداً في كتابه المسمَّى بـ”المسائل المنتخبة”، وتعرفون أنَّ كتاب المسائل المنتخبة هو عبارة عن بعض المسائل الفقهيَّة، الّتي تمَّ انتخابها من منهاج السّيّد رضوان الله عنه، الّذي كتبه وفق آرائه ومبانيه الأصوليّة والفقهيَّة، بما يراه حُجَّةً بينه وبين ربِّه، وفيه العذر وبراءة الذِّمّة لمقلِّديه. أضف إليه؛ أنَّ المسائل المنتخبة عبارة عن فتاوى مبسَّطة من كتاب المنهاج، بما يعني أنّها أقل تعقيداً في التّعبير والبيان ممّا هو في ذلك الكتاب الفقهي الزّاخر بالعلم والفوائد، بل ويُعتبر كتاب المسائل المنتخبة محاولة لدرء وإبعاد الغموض الّذي تكتنفه عبارات المنهاج، بهدف تسهيل فهمها وهضمها للقارئ البسيط من المقلِّدين وغيرهم. ولكن. كان النِّقاشُ أشبه بمناقَشات بحث الخارج، هذه المرتبة العالية الّتي يرقَى إليها طالب العلم في الحوزة بعد دراسته لـ”المقدّمات” و”السّطوح الدُّنيا” و”السّطوح الوسطى” و”السّطوح العُليا” ؛ لأنَّ الحضور كانوا في هذا المستوى، إلا أنَّ القضيّة ليست هنا، وإنّما في تلك المسألة الّـتي أشار إليها ذلك الفقيه بين طلابه وغيرهم من الحاضرِين، وما دار حولها من نقاش اِلْتَهَمَ وأَفنَى وقت كل تلك الجلسة! نعم؛ احتدَّ النّقاش، و(تعدّدتِ الآراء وحُسْنُكَ واحدُ**كلٌّ إلى ذاكَ الجَمال يُشِيرُ)، فهذا يقول المراد من عبارة الكتاب -وهو كما قلنا كتاب المسائل المنتخبة المبسَّط- هكذا، والآخر يقول بل أرى أنَّ العبارة لا تستقيم فالمراد هكذا، وثالث يقول: كيف ومبنَى السّيّد في المسألة الأصوليّة الفلانيّة لا يَتَّفق مع ما تفضّلتم به من تفسير، ورابع يقول: سمعتها بأذني من السّيّد يقول مراده منها كذا، وخامس يقول: لربّما في العبارة سقط، فلنعد إلى المنهاج، وسادس…، والفقيه الجليل يستمع، إلى أن حَسَم الأمر في نهاية المطاف، وقدَّم المراد بالبرهان. والكلام: هو كما قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم: فهؤلاء الأفاضل يَتلقّون معارفهم من العلماء، فهم على معرفة ودراية ونجاة، ولكن ما يواجهه العامِّي الغير مضطلع في شؤون هذا العلم، وما تدور عليه أدوات صناعته، هو أنَّه كيف له أن يصل لمعرفة أمور دِينه؟! وبعبارة أخرى: ليس الكلام في معرفة طالب العلم الـمُريد للتّخصّص في هذا المجال، وإنّما في إيصال حصيلة العلم، وأحكام الدِّين لهذا الموظَّف في المجتمع، وذاك الفلاح، وتلك الـمُدرِّسة، وهذه المربِّية، وذلك الجامعي، وهذه العروس، وذاك التّاجر، وتلك المتغرِّبة، وهذا الطّبيب، و… إلخ. فهؤلاء بأجمعهم أصحاب شؤون ومشاغل تمنعهم عن التّخصّص في هذا المجال، في حين أنَّ النّظام في الحياة قائم على التّبادل في الوظائف، فهذا يحتاج للخبز، وذاك للتَّمر، والثّالث للطَّبيب، والمهندِس، والبنَّاء، وهَلُمَّ جَرّاً، ممّا يعني أنَّ نظامَ النّاس وقوام معايشهم متوقِّفٌ على التّعدّد الوظيفي؛ تحقيقاً لتكامل الإنسان، وتلبيةً لمتطلّباتِه وحوائجِه المختلِفة، فإذا قلنا للجميع اطلبوا العِلم على نحو التّخصّص؛ فَسَدَ النِّظام، وتخلخلتْ أركانه، في الوقت الّذي نجد فيه أنَّ نفْس الدِّين إنّما جاء للحفاظ على ذلك؛ بإقامة التّنظيم المثالي، وليس علم الفقه في كافّة مسائله إلا في صدد تحقيق هذا الواقع المتكامل. نعم؛ عَرْضُ العِلم على أهلِه شيءٌ لابدَّ منه، فالعالم يحتاجه إليه الجميع، والكِتاب هو نحو آخر من العَرْض، عندما يكون فيه استرشاد من العالم وطلاب العلم، فليست الغاية إلا فهم المسألة الدّينيّة وحُكمها، وإن كان الدِّين يحب للمؤمن أن يُكْثِر من مجالسة العلماء، ففي الحديث عن الصّادق عليه السّلام: (جالِس العلماء وزاحمهم بركبتيك). الزّبدة: إن كان كتاب المسائل المنتخبة رغم التّسهيل في عباراته بهذه الدّرجة من الحاجة للمناقشة والبيان لدى الدّارسين والعلماء، فكيف بذلك عندما يوكَل للنّاس أن يطالعوا الكِتاب بأنفسِهم، ويأخذوا منه أحكام دِينِهم؟! وإن كان المطلوب دِينيّاً أَخْذ العلم من أفواه العلماء مباشرة لا من بطون الكتب، فليس المراد هو المنع عن أَخْذ العلم والأحكام من كتب العلماء أو الفقيه المقلَّد، وإنّما المراد هو المنع عن أَخْذ الجهل من كتب الجاهلِين، ومن بطون مؤلَّفاتهم، وإلا لا أحد يقول بأنَّ مطالعة الفتوى من كتاب الفقيه من قِبَل العامّي، وعمله بها بعد فهمه لها فهماً صحيحاً أمرٌ ممنوع، كيف ذاك والقرآن أقدس الكتب، وأوّل مصادر التّشريع يُحثُّ على قراءته دَأباً ليلَ نهار، سواء للعالم أو للشّخص الدّارج على البساطة، في حين أنّه مليء بالأحكام والتّشريعات والتّأريخ والأخلاق و… نعم؛ عندما لا يَتيسّر الفهم لدى الفرد الدّارج على السّهولة، عندها يَتعيَّن عليه الرّجوع إلى العارف الدّارس الـمُتْقِن، فالّذي يقرأ أحكام دينه ويعمل بها وهو أساساً لم يفهمها هو الّذي تنطبق عليه حقيقة الصَّحفي، لا مَن يعمل بها بعد الفهم، وإلا فالعلماء أنفسهم لا يصدر منهم العَرْض لكلِّ مسألةٍ على العلماء في كلِّ صغيرةٍ وكبيرة، وإنّما يلتزمون بأخذ الأُسس، والضّوابط، وإتقان الصّناعة، والسّؤال عمّا لا يصل إليه فهمهم إن حَصل شيءٌ من ذلك. ولعلَّ المقصود من قول الإمام علي عليه السّلام: (العِلمُ نقطةٌ كَثَّرها الجُهّال)، وفي مورد آخر:(العلم نقطة كثَّرها الجاهلون)، هو –بغض النّظر عمَّا ذُكِر من تفاسير لذلك ممّا أفاده أمثال الأمجد ابن أبي جمهور الأحسائي والأَقدَس الملا هادي السّبزواري والعارف ابن عربي وغيرهم- أنَّ العلم الّذي كَثَّره الجُهّال هو ذاك العلم وتلك المسائل المأخوذة من الكُتب بلا فهم من قِبَل غير الدّارسِين، بالصّورة الّتي يَكثر فيها الهرَج والمرَج منهم، بما يوسِّع المسألة إلى جهاتٍ ووجوهٍ لا طائل لها، ويشعِّبها إلى شُعَبٍ تَلِدُ البِدعة؛ بفعل جهلهم وجُرأتهم على الدِّين، تماماً كما نرى من سُفهاء عصرنا، ممّن تعلَّم مسألتين من رسالةٍ عمليّةٍ ما، فأخذ يفتي في كلِّ مجالٍ وصَرح، فلا يَتوقَّف عنده سؤال بلا جواب، فهو على كلِّ قضيَّةٍ مجيب، وكلُّ مشْكلٍ لديه جوابه! فهؤلاء هم مصداق: (لا تأخذوا العِلم من الصَّحفيِّين)، و”لا تأخذوا العِلم من صَحَفي”، أو كما في كتاب الفقيه والمتفقِّه: “… لا تأخذوا العلم من الصّحفيِّين …، لا يفتي النّاس الصّحفيّون”، أو كما نقل أبو زرعة: “لا يفتي النّاس صحفي ولا يقرئهم مُصَحَّفي”، أو كما في تذكرة السّامع نقلا عن البعض: “مِن أعظم البليّة تَشَيّخ الصّحيفة؛ أي الّذين تعلّموا من الصُّحُف”، فهؤلاء قد يصبحوا زعماء في المجتمع وحقيقتهم لا تعدو حقيقة السّفيه والأبله. فلعلّنا -والله المعين المستعان- أن نقدِّم من خلال هذا العَرض الجديد، أداةً للقضاء على هذه الظّاهرة المهلِكة، والحيلولة دون نُبوغِ السُّفهاء، من خلال تقديم المفاهيم والأحكام الإسلاميّة بصورة ميسَّرة للمتعلِّمين الرّاغبين في معرفة دِينهم، وأداء تكاليفهم الشّرعيّة الموجّهة إليهم من الله تبارك وتعالى، لإقامة أنفسهم بكلِّ أنحائها، وتنظيم كافّة أمور حياتهم ومعاشهم، وتقويم دنياهم وأُخراهم، بما يحصّنهم من ترَّهات الجاهلين، أصحاب العلم بلا عِلم. أمّا العلماء فهم منار الدِّين والدّنيا، وحَفظة الشّرائع، وأبواب الله، وأعوان رسوله، وورثة أنبيائه، لهم في سلوكهم مظاهرٌ بالغة، وغاياتٌ عالية، وأهدافٌ سامية، لا يَعبثون، ولا يَلهون، فالمؤمن كما في الخبر (مشغولٌ عن اللعِب)، غاية الأمر أنَّ هذه الثّغرة الحاصلة ممّا يتّفق وجوده في بعض الجهات المحتاجة للتّكميل والتّتميم، فلكلِّ شيءٍ كمالٌ لا يبلغه إلا ببلوغ الدّرجات أُفقيّاً وعموديّاً، فإن صحَّ التّعبير نقول: ما قدّمه الفقهاء -زادهم الله علماً وفضلاً- على مستوى الإفتاء وتدوين الفتاوى، كان كمالاً عموديّاً، وبقي الكمال الأُفقي، الّذي من شأنه أن يشمل جميع النّاس، وأن يسع جميع الأفهام، كما وَسِعَ كمال النّبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وكمال أهل بيته الطّاهرين عليهم أفضل الصّلاة وأتمّ التّسليم، جميع الجهات، طولاً وعَرْضاً، بما ارتقَى إليه خطابهم في الصّروح المختلفة، وتَنوَّع، فكان للبسطاء على قدر أفهامهم، وللعلماء على قدر هممهم ومذاقهم ومشاربهم. منهجيّة الشَّرح منهاج الصالحين:- أولاً:- ثانياً:- ثالثاً:- رابعاً:- وفي الختام نسأل المولى تبارك وتعالى صلاح الأمور وسدادها، وأن يوفّقنا لما يحب ويرضَى إنّه لطيفٌ خبير، والصّلاة والسّلام على محمِّدٍ وآله الطّيِّبِين الطّاهرِين. السید أمين السّعيدي
ربيع الأوّل 1432هـ
قُم المقدَّسة |
للتعلیق أو مطالَعة التعلیقات اضغط هنا