ادخال الخلق فى النار لا يتلائم مع العدل الالهي
● السائل:
السلام عليكم و رحمة الله وبركانه.
السؤال: إذا کان الله تعالى عادل ٌو حكيم، فكيف أن يخلق خلقًا و يدخلهم النار ويعذبهم؟ ألا يستطيع أن يجعلهم جميعًا صلحاء و يدخلهم الجنة .. بما أنه خلقهم و أنعم عليهم و هو يريدهم أن يصلوا للخير المطلق، لما ذا فئة تدخلهم النار ؟ و لما ذا يعذبهم الله أصلا ؟ لانه لو أن شخصا لديه منتجًا معينًا فكيف يقبل افساد انتاجه في نهاية المطاف؟ فكذلك الله كيف يقبل افساد مخلوقاته و مصنوعاته بادخالهم فى النار جهنم؟
● رد سماحة السّيد أمين السعيدي حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، غفر الله لنا ولكم.
أولاً:-
اللادينيون ليسوا على معتقَد واحد، بل منهم من لا يؤمن بالله والأنبياء والأديان السماوية، ومنهم من يؤمن بالله تعالى دون الإيمان والأديان؛ وهذه مرتبة إيمانية أرفع بدرجة من سابقتها، فالمرتبة الأولى لا يؤمن فيها اللاديني بالأديان السماوية بالضرورة؛ كونها متفرعة على الإيمان بالله تعالى وكونها صادرة عنه سبحانه…
ثانياً:-
خطاب اللاديني على أساس أن الله عادلٌ أم غير عادلٍ يدخل تحت دائرة الإيمان بالله تعالى نفياً وإثباتاً؛ أي قد يكون المستشكل على عدل الله تعالى ممن يؤمن بوجوده عز وجل، وقد يكون ممن لا يؤمن بوجود، فالإيمان بوجود الله سبحانه أشمل وأوسع دائرة من القول بعدله تعالى وعدم عدله؛ لذا هناك من طوائف المسلمين من يقول بأن الله تعالى يجوز عقلاً أن يكون ظالماً بلا مشكلة، فيحق له أن يُدخل المؤمن النار إن شاء، وأن يدخل الكافر الجنة إن أراد؛ ذلك كونه إله له أن يفعل ما يشاء دون أن يمس ذلك بإلوهيته.
ومع ذلك تكون هذه الفرقة مسْلِمة، وداخلة تحت دائرة الإسلام وإن كان رأيها خطأً؛ وفي مقابل هذه الطائفة طائفة الشيعة وغيرها من المذاهب الإسلامية الأخرى التي ترى أن الله تعالى عادل، ويستحيل أن يصدر منه الظلم، فهو واجـِد وحائز على جميع الفضائل والكمالات، بل الكمال عين ذاته تعالى اسمه، وصفاته عينُ ذاته.
من هنا ينطلق الجواب على إشكال حضرة الدكتور المستشكِل المذكور؛ فهو إن كان لادينياً يؤمن بالله تعالى دون عدله، ففكره ينسجم مع رأي من لا يرى عدل الله ضروریا وإن كان لادينياً لا يؤمن بالله تعالى من أصل فالكلام يتحول إلى إثبات وجود الله أولاً لا إلى عدله؛ لأن الكلام في عدله تعالى فرع ثبوت وجوده سبحانه؛ إذ كيف تتكلم في عدل شخصٍ أنت أساساً لا ترى له وجوداً ولا حقيقة؟! لا يصح ذلك منطقياً، فالمعدوم وجوداً معدومٌ صفةً، والعدل صفة.
ثالثاً:-
يظهر -والله العالم- أن المستشكل أراد من خلال أصل العدل أن ينطلق لوجود الله عز وجل نفياً وإثباتاً، من باب الاستدلال بالصفة على الموصوف، بتثبيت الصفة -وهي العدل- ثم تثبيت موصوفها -وهو العادل “أي الله سبحانه”- وهذا استدلال شبيه بتثبيت وجود العلة انطلاقاً من إثبات المعلول، إذ إثبات العلة تارة يكون بالانطلاق من العلة إلى المعلول، وتارة من المعلول إلى العلة.
وهنا لا يهمنا الدخول في وجوه الاستدلال وصحيحها من خاطئها، فالمستشكل ليس هذا مورد كلامه، وإنما مورد كلامه هو أن الله كيف يكون عادلاً وهو قد أخذ على نفسه عهداً أن يدخل بعض العباد للنار؟ فهو خلقهم للسعادة لا للشقاء، فكيف يجعل خاتمتهم للشقاء، وقد الشقاء الأبدي أيضاً؟ فهذا خلاف هدفه من خلقهم، وتناقض في إرادته؛ وكذا لماذا لم يخلقهم جميعاً من البدء على الصلاح فيدخلهم الجنة؟!
رابعاً:-
على طبق مذهب الشيعة وغيرهم ممن يرى ضرورة تحقق العدل والحكمة والكمال في الله جل جلاله يكون إشكال المستشكِل وجيهاً، لكن لا من جهة العدل بشكل مباشر؛ إذ لا ربط لإشكاله بالعدل من أساس، وذلك لأن خلْق العباد على الصلاح من البدء هو افتراض، بينما خلْق الإنسان ومنحه العقل ومقومات الصلاح ثم انحرافه بسوء اختياره الشخصيء واستتباع ذلك لعقابه من الله بعد التبشير والإنذار بالكتب والرسل لا شأن له بالخدش في العدل كما سترى.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى العدل يقابل الظلم، وكلام المستشكل ناظر للرحمة لا للعدل والظلم، والرحمة وإن كانت كمالاً إلا أنها ليست دائماً من الكمالات، فمثلاً الرحمة بالظالم المعانِد بتركه والعفو عنه عند الأخذ بحق المظلوم ليس بكمال؛ لأن الكمال في هذا الفرض هو عقاب الظالم لا تركه، وإلا لم يتحقق الأخذ للمظلوم بحقه و(العدل تجاهه)، فالكمال هنا صار بعكس الرحمة التي ليست دائماً من الكمالات، وإنما محدِّد كماليتها هو نفس المورد الذي يليق أن تجري فيه أو لا يليق أن تجري فيه، فهي هنا جرت باللياقة في طرف المظلوم دون الظالم.
لاحظ كيف اقترن انتفاء الرحمة هنا بالعدل، فعدم الرحمة بالظالم أصبحت عين العدل، وتركه بعدم الأخذ بحق المظلوم أصبح عين الظلم.
ثم من قال بأن الله لم يخلق العباد على الصلاح؟! كيف وهو أعطاهم أعظم النعم وهي مَلَــكة العقل التي بها الرشاد والفوز؟!كما أعطاهم أتقن النعم وخلقهم على أحسن وجه، فالإنسان بعقله وحتى بشهواته مخلوق على الصلاح التام، وقد أنعم الله عليه بالاختيار والإرادة، وصاغ له خير نظام، لكنه هو بسوء اختياره وبمحض إرادته يختار الانقلاب على النظام وشرائط السعادة، فيَردَى ويردي غيره، فهذا مثله مثل من يعلم بأن الكذب خيانة والقتلَ بلا وجه حقٍ فعلٌ قبيح، فينقلب على التعاليم العقلية النبيلة فيجر لنفسه وغيره المهالك.
على هذا نقول:
إنّ دخول بعض العباد لجهنم إنما على أساس ما اقترفوه من زلل في ظل امتلاكهم للعقل والفهم والدراية، بل دخول المعتدي والعاصي والظالم للنار هو عين العدل، وليس العدل إلا أن يدخلوا النار؛ ذلك لأن إدخال المطيع العامل المتقيِّد بالنظام للجنة، ودخول العاصي البليد غير المتقيِّد بالنظام للجنة على حدٍ سواء مثله مثل المؤمن العامل؛ يعني إلغاء قيمة النظام، وتحطيم إلزامات القانون، وإحلال الفساد والإفساد في الوجود والحياة، في حين أن الله تعالى خلقنا للسعادة، ولا يقبل لنا بفساد النظام وإفساده وإشقاء الحياة.
لاحظ كيف أن المسألة أصبحت عكسية؛ فسقوط النظام هو اللاسعادة وهو اللاصلاح، والله يريد لنا السعادة والصلاح؛ وكذا مثله عدم المحاسبة وعدم الجزاء بالجنة للعامل والنار للعاصي هو الظلم وعدم العدل، ويستلزم مساواة العامل بغير العامل، والإخلال بالسعادة والنظام.
وبمثال حسي مبسط، المستشكل دكتور يدرس الطلاب حسبما ذكرتم، فهو يُدرس طلابه لأنه يريدهم أن يصبحوا علماء وسعداء يستفيدون من العلم ويفيدون به الآخرين وينقلوه للاجيال التالية كما أخذوه من الأجيال السابقة، لذا لابد أن الجامعة التي يُدرس فيها تستهدف تحقيق هذه الغاية وهذا الهدف، وفي المقابل لابد أنها رَتبت على ذلك نتائج وشهادات للمُجِد وما شاكل، كما وضعت عقوبات للمتغيب والطالب الغير جاد، وهكذا..
وهو كدكتور أيضاً لابد أنه وضع قوانين أخرى بينه وبين طلابه، كالواجبات البيتية وما شابه، وبالتالي نسأل:
هل عندما يتم تطبيق العقاب على طالب مهمِل ومقصِّر يصل بذلك للسعادة أم يحزن ويتألم؟ وهل عند تطبيق القانون اتجاه تقصيره يكون ذلك ظلماً له؟
بلا شك كلا، فهو يحزن ويتألم -وإن كان ممن يُظهر عدم انزعاجه- كما لا يكون ذلك ظلماً له رغم أنه تم سلب السعادة عنه بعد تبشيره وتحذيره وبيان قانون الجامعة ودستور أستاذه له.
بل الظلم أن تتم التسوية بينه وبين الطالب الآخر المجد، أو أن يتم اعطائه شهادة امتياز مثله مثل ذلك الطالب المجد الذي بذل جهده وتعلم وكافح ليل نهار؛ ومثله لو أعطينا الشهادة لشخص غير جامعي دون أن ينضم للجامعة، فساويناه بطالب الجامعة؛ ألا ترى أن النظام يختل والحياة تتزلزل؟!
هكذا الأمر بالنسبة لأحكم الحاكمين وأعدل العادلين، فهو خلق الجميع للسعادة، ولأنه عادل يحاسِب كل شخصٍ بمستوى عمله واجتهاده، كما أنه سبحانه يغضب ويعاقب العبد لا لأنه يريد مضرته، وإنما لاستلزام العدل ذلك؛ كونه أبعد السعادة عن نفسه بنفسه كما أبعدها عن الآخرين وكان السبب في تعاسة غيره، فالمجتمع كتلة مترابطة يتأثر بأفراده، وهذا العبد الطالح الذي يدخل النار أبعد الصلاح الذي أراده الله، فهو أبعده عن نفسه وعن أولاده ومن حوله بنسبة انحرافه، ولو كان انحرافه في حدود شخصه؛ إذ المجتمع كما قلنا مترابط ببعضه بشكل وثيق، وفساد النفس الداخلي لابد له آثار خارجية تمس من حولها.
فأين الظلم منه جل جلاله؟ فهو الحكيم الكامل وليس العدل إلا هو جلت أسماؤه وتعالت صفاته، وما نظامه إلا أساس من أسس الصلاح، فما أن يتوفر العاقل على شروط الصلاح إلا بلَغه ووصل إليه، وما أن يتقاعس عن تحقيق شرائط السعادة فارقته بشكل طبيعي تبعاً لفقدان عدم المعلول تحقق علته.
فالمنصف لنفسه ومن حوله المحب للحق المتبع للصواب بمجرد التأمل قليلاً يرى النور جلياً جليلاً، وما أن يدركه التزمه وتمسك بعُراه الوثيقة؛ حرس الله الجميع من الخسران والخذلان.
أخيراً؛ سألتم عن مصادر للتوسع أكثر، إلا أننا ننوه كما ذكرنا غير مرة بأن أصول العقائد لا يجوز فيها -عقلاً- التقليد، فيجب على كل شخص أن يفكر بنفسه ويكون مجتهداً فيها، غايته أن الاستفادة من أهل التخصص والعلماء والكتب في هذا المجال إنما من باب إعانة العقل وإرشاده إلى الحق والصواب، أو من باب التقليد في العقائد الفرعية التي لا مجال لبلوغها إلا عن طريق الشريعة، فراجعوا -في هذا المجال- للاستفادة وتفتيح العقل كتب علم الكلام في مبحث الصفات وبالخصوص مبحث العدل منها، ودونكم كتاب (دروس في العقيدة للشيخ مصباح اليزدي حفظه الله) فهو كتاب جيد متماسك سهل العبارة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم المرسلين محمدٍ وآله الميامين الطاهرين.
نسألكم الدعاء.
السيد أمين السعيدي
1جمادة2/1433هـ
للتعلیق أو مطالَعة التعلیقات اضغط هنا