سؤال وجواب من قروب وتساب دورة إثبات الوجود الإلهي١٤٣٥هـ (القروب الرجالي) :
【العقول العشرة ومنطقية صدور «المادة» مِن «المجرَّد» في ظلِّ بدهيةِ عقلية (وجود خصائص الأثر في المؤثِّر)】
[dropshadowbox align=”center” effect=”lifted-both” width=”800px” height=”” background_color=”#fdfde4″ border_width=”1″ border_color=”#ffbe56″ ]
● السائل:-
السلام عليكم سيدنا
لدي بعض الاستفسارات
بخصوص العقول العشرة القائلون بها يستخدموها لنفي المادية عن الله لأنه لو قلنا هذا الوجود المادي صادر من الله لَلَحقَ هذا القول بدهية صفات الأثر في المؤثر، ولهذا تنزلت العقول حتى آخر عقل أوجد الوجود المادي، فصفة المادية من هذا العقل وليس من الله.
الإشكال هنا أننا سنقول هذا العقل الاخير به صفة المادية أعطاها له العقل الذي قبله لان الذي قبله مؤثر فيه وأوجده وهذا الذي قبله اخذ صفة المادية من الذي قبله وهكذا حتى نصل إلى نقطة الصفر -الله- التي أعطت العقل الاول صفة المادية ثم هو أعطاها للعقل الثاني وهكذا نزولاً الى العقل العاشر، إذن نستنتج أن صفة المادية في الله… ما تعليقكم سيدنا
…
كل الشكر والتقدير مقدما
[/dropshadowbox]
[dropshadowbox align=”center” effect=”lifted-both” width=”800px” height=”” background_color=”#f9fff7″ border_width=”1″ border_color=”#5bbd4c” ]
◀ جواب سماحة السيد أمين السعيدي حفظه الله:
عليكم السلام ورحمة الله وبركاته
رعاكم الله ورفع شأنكم لديه
أما ما سألتم عنه حول العقول العشرة؛ فإنّ المادة لم تصدر من العقل الأول كما تفضلتم في السؤال، وإنما صدرت من العقول الأخيرة التي هي أقل في رُتَبها الوجودية مِن رُتبة العقل الأول؛ فالعقل الأول رُتبته الوجودية عالية وراقية وأشرف وفي قمة الكمال، والرتبة الوجودية للعقل الذي بعده أقل؛ لأنه معلول ومخلوق للعقل الأول ويليه؛ فهو أقل منه رتبة، وبتنزُّل الرتبة الوجودية الكمالية من عقل لآخر شيئاً فشيئاً تصدر المادة التي هي آخر الرُّتَب الوجودية وأقل التنزلات.
وطبيعي أن العقل الأول لا يسطيع منح العقل الثاني كل كمالاته، تماماً كما أن الله تعالى لا يستطيع منح العقل الأول كل كمالاته لأن ذلك مستحيل، ولأن النقص في القابل لا في الفاعل، فالله خالق واجب مجرد تام مطلق وأزلي قديم ذاتاً وزماناً، بخلاف العقل الأول فهو مخلوق ممكن وليس بمطلق ولا أزلي وليس بقديم ذاتاً.
فالعقل الأول درجته الوجودية تحت الدرجة الوجودية الإلهية وأدنى؛ فهو ناقص مفتقر لخالقه ومحدود، ونفس الشيء عندما يَخلِق العقلُ الأول العقلَ الثاني؛ فإن العقل الثاني يـَكون وجودياً أقل مرتبة من العقل الأول وأكثر تنزلاً ويكون العقل الأول أكمل منه؛ لأن العقل الأول لا يستطيع أن يقدِّم كل كمالاته للعقل الثاني كما هو بدهي واضح لك.
وهكذا نفس القضية في العقل الثالث، إلى أن ينوجد العقل العاشر الذي هو أقل العقول كمالاً وأنزل التنزلات؛ فبتتالي التنزلات الكمالية تقل الكمالات الوجودية وتبدأ الوجودات الأدنى كمالاً بالقدرة على الظهور والانوجاد، فيكون العقل العاشر مالكاً لتصدير المادة؛ لأن المادة هي آخر التنزلات وأقل الكمالات، وكذا بعض العقول التي قبل العاشر السابقة له في سلسلة التنزلات؛ لذا السماء الثانية مادية، لكنها أشرف وأكمل من سماء كوكبنا، وهكذا فقِسْ.
من هنا تكون القاعدة العقلية البدهية الثابتة التي هي (لزوم وجود خصوصيات الأثر في المؤثِّر؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه) فهذه القاعدة البدهية تكون سليمة في صدور المادة من العقول العشرة بالتنزُّل في المراتب الوجودية بين العقول دون أي تعارض مع القاعدة الثابتة.
وبتقريب حسي كمثال بياني؛ انظر أنت لنفسك؛ فإنك في البداية لا تجيد كتابة القصيدة الشعرية المنتسِقة الراقية، ثم بعد أن تتجرد من الجهل بذلك وبعد أن تقوي شعورك وحصيلتك اللغوية ونظرتك أفقياً وعمودياً؛ فإنّ شاعريتك تقوى أكثر؛ فتستطيع تصدير قصيدة أجمل وأقوى من ذي قبل.
وهكذا كلما تقَوَّت قدراتك المعرفية واتسع رصيدك اللغوي وامتدت تجاربك وتشعبَتْ مَلَكَتك الحسية والشعورية ومخيلتك الذهنية؛ كلما صرت أقدر على صناعة قصيدة أروع وأجذب وأكثر انتساقاً وبريقاً وجمالاً.
وبتقريب أكثر؛ نقول:
التجرد -كمرتبة عُلْيا- إذا كان خالياً من المادة أصبح أقوى كمالاً في سُلَّم الوجود؛ لأن التجرد غير مقيَّد بقيدية المادة وخصائصها؛ فالتجرد إذاً مرتبة وجودية عُليا في قِبال الـمَرتبتين المتوسطة والدانية التاليتين. وإذا خلطت التجرد بالمادة قَلَّتْ رتبته الوجودية ونزلَت؛ لأن المادة قيد للتجرد وهي افتقارٌ خالص ومنتهَى الاحتياج؛ فهذه إذاً مرتبة وجودية وسطى طولية تالية للتجرد الخالي من المادة. وكذا المادة إذا خَلَتْ من التجرد وكانت لوحدها أصبحَت المرتبة الوجودية أنزل؛ فهذه مرتبة دُنيا؛ لذا عالَـمنا يسمى بـ(الدنيا)؛ ففي هذه التسمية النبوية الإلهية العظيمة إشارة فلسفية كبرى وعميقة تشير إلى أنه أدنى التنزُّلات وأقل المراتب الوجودية في سُلَّم الوجود وطوليته.
وبتصوير آخر؛ انظر لعالمنا المادي، فأنت كلما ارتفعت عنه ازداد التجرد وازداد الكمال الوجودي واشتد وصار أقوى، وهكذا إلى أن تصعد فتصعد كمالياً فتصل إلى التجرد الأكمل، وواضح أن هذا التدرج في التجرد هو قضية عقلية بدهية منطقية؛ ذلك لأنك تَفترض كمالاً أدنى وهو المادة، ثم تصعد لتجريد المادة من شيء فتكون أكمل، ثم تصعد لتجريدها من شيء آخر فتكون أكثر كمالاً، ثم تصعد بتجريدها من شيء ثالث فتكون أكثر وأكثر في كمالها، وهكذا تصعد وتصعد إلى أن تصل للتجرد الكامل الذي هو أكمل مراتب الوجود وأقواها وأشدها وأشرفها؛ فمادام هناك (درجة وجودية) أدنى فلابد أن تكون تلك الأدنى مسبوقة بـ(درجة وجودية) أعلى انبثقت منها كما اتضح لك؛ ذلك لأن الدرجة الأدنى ليست إلا عبارة عن تَقَيُّدات، والتَّقَيُّدات الوجودية الطولية كلما ازدادت صارت المرتبة الوجودية أقل وأنزل، وكلما رُفع قيد منها كان كمالها الوجودي -عقلاً ووجوداً- أرفع.
فبهذا التصوير من الأسفل للأعلى تَكون القضية أكثر استئناساً لعقولنا؛ ذلك لأن الإنسان مجبول ومعتاد على حسه أكثر من تجردات عقله؛ بسبب اعتياده على التعامل مع المادة وعيشه في وسط عالمها. فنفس الشيء هو المقصود عندما نصور لكم المسألة من أعلى الكمالات الوجودية التجردية العِلّيّة إلى أدناها وفق ما بيناه وفصلناه أعلاه في سلسلة مراتب الوجود والعقول المديرة والمدبِّرة لشؤون عوالمها المعلولة لها.
فبَدَهية (وجود خصوصيات الأثر في المؤثر، وخصوصيات المعلول في العلة لتستطيع العلة أن تعطي للمعلول)، هي بتعبير آخر توازي قول الله تعالى: ﴿قُلْ كلٌّ يَعْمَل على شاكِلَتِه﴾[الإسراء: ٨٤]؛ فمن لا يـَمْلك الشيء أو الخصوصية الفلانية فإنه لا يمكن أن يكون مُعْطياً له؛ ففاقد الشيء لا يعطيه، وإلا لَصَدَرَ كلُّ شيء عن كلِّ شيء؛ وصدور كل شيء عن كل شيء مستحيل عقلاً؛ فالملح مثلاً يستحيل أن يصدر عنه الطعم السكَّري والطعم الحامض والطعم المر والطعم الماصخ واللاطعم …
علماً أن كل مرتبة وجودية هي في حدود وجودها تعد كمالاً؛ ذلك لأن كمالها هو هذا حده؛ فالمادة مثلاً هي كمال بلحاظ نفس رتبتها الوجودية وإن كان هناك رتبة وجودية أعلى وأكمل منها، فالمادة من حيث نفس رتبتها الوجودية هي كاملة لا نقص فيها، وكذا العقل الرابع هو كامل بلحاظ نفس رتبته الوجودية، وكذا العقل السابع ..، وكذا كل موجود، سواء الجن أو الملائكة أو البشر أو النبات أو الحَجر أو البول أو الغائط …؛ فكل مخلوق هو كامل من حيث رتبته الوجودية؛ وهذا عين حكمة الله وإبداعه وعدله؛ إذ أعطى لكل شيء قِسْطه الوجودي ولم يحرمه من كماله الوجودي؛ ذلك لأن الوجود -كما فصلنا لكم في ندوات الدورة بشكل مسهَّل ومبسط- هو بلحاظه بما (هوَ هوَ) بعيداً عن شوائب الآلام والأحزان يعَدُّ كمالاً، بخلاف العدم فهو نقصان خالص بل هو بطلانٌ مَحْضٌ ولا شيئية له.
لذا؛ لم يكن هناك وجهٌ لافتراض أن يكون الشيء الفلاني بصورة آخرى؛ ذلك لأن أي افتراض فهو في الحقيقة يعني أن الصورة الأخرى شيء آخر غير ذلك الشيء المراد افتراضه بالصورة الأخرى؛ أي بمجرَّد أن تفترض الصورة الأخرى فهذا يعني رتبة وجودية غير تلك الرتبة الوجودية التي أسقطتَ عليها الافتراض.
وعليه؛ محصِّلة ما سبق هي:
عدم وجود أي تعارض بين القاعدة العقلية البدهية وبين صدور المادة من العقول الأخيرة في سلسلة نظرية العقول العشرة التي عقولها الأولى غير مادية، والتي عقلها الأول صادر من الله تعالى الذي هو مجرَّد تام لا مادة فيه بتاتاً ولا افتقار لديه وفق ما تم إثباته لكم بوضوح.
وإن شئتَ فقُلْ بأن قاعدة (وجوب وجود خصوصيات الأثر في المؤثِّر ليوجِد الموثِّر تلك الخصوصيات في الأثر)، إن شئتَ فقُلْ بأن هذه القاعدة البدهية موضوعها يختص بالموجودات الممْكِنة ولا يشمل واجب الوجود؛ فواجب الوجود الذي هو العلة الأولى خارج عن هذه القاعدة خروجاً تخصصياً (لا تخصيصياً؛ لأن القواعد العقلية الكلية لا تخصَّص)؛ فهو -أعني واجب الوجود العلة الأولى- أَوجَد الأشياء من البداية من العدم من لا شيء ودون تقليد لشيء؛ وبالتالي لا حاجة لنظرية التسلسل في المراتب الوجودية ومن ثم لا حاجة لنظرية العقول العشرة التنزلية المتسلسلة في مراتبها الكمالية.
أو إن شئتَ فقُلْ بأن العقول العشرة موجودة، ومتسلسلة وفق البيان المذكور تماماً، ولكن علة العلل العلة الأولى -التي نسميها الله- أَوْدَع المادة في حاق ولُب تلك العقول، ومن ثم تلك العقول أَصدرَت الوجودات المادية باعتبار امتلاكها للمادة، خصوصاً على القول بأنه لا يوجَد مجرَّد غير الله تعالى؛ فالله سبحانه واجب الوجود المطْلَق في قدرته وعلمه هو أوجد المادة فيها لا من شيء، والقاعدة البدهية العقلية المذكورة في خصوصيات الأثر والمؤثِّر لا تشمل واجب الوجود من أساس بالضرورة.
فأي هذه النظريات أكثر انسجاماً مع قناعاتك العقلانية اعتنِقْها، ولكن بعد التأمل والتدبر ودون تسرع، ودون تأثر بالعواطف النفسانية والاستغرابات النابعة من عدم السماع وعدم الاستئناس السابق؛ لأن العواطف النفسانية إذا امتزجت بالبحث العقلي تسلب من العقل صفاءه وتميل بقناعاته إلى قناعات أخرى تتسم بطابع العاطفة؛ والعاطفة ليس موردها البحوث العقلية الخالصة، وقد ذكرنا في بدايات الدورة مجموعة من علل وأسباب خطأ العقل في تحصيل النتيجة الصحيحة؛ وذكرنا من ذلك التأثر بالموروثات، وكذا ذكرنا طرْح المقدمات الظنية واعتبارها يقينية ثم استنتاج نتيجة ظنية وإسقاط طابع اليقين عليها، وغير ذلك من الأسباب والعلل المنتِجة للخطأ في الاستدلال والاستنباط والاستنتاج؛ فضع ما ذكرناه في اعتبارك عند اختيار نظرية من هذه الثلاث -أو غيرها مما مضى في الدورة عن (إخوان الصفا)- التي وضعناها بين يديك، ضع تلك العلل والأسباب في اعتبارك لتمارِس الاستدلال العقلي في هذا البحث العقلي بصفاء وتقع على الحقيقة والواقع الأتم.
نسألكم الدعاء
أمين السعيدي-القطيف
[/dropshadowbox]
للتعلیق أو مطالَعة التعلیقات اضغط هنا