العلاقة الحُـبّيّة، ظروفها، حُبِّب إليَّ ثلاث، وعَجِبْتُ كيف ولدتُ لأبي!
جواب سماحة السيد أمين السعيدي على سؤال إحدى المؤمنات – بـ 28 جمادى الأول 1435هـ.
✿ ♦ السائلة: ما هي الاسباب التي تجعل الانسان فجأه يتغير في عبادته؟
يعني هذا الانسان كان مثلاً ملتزم في مواقيات الصلاة بعد ذلك اصبح غير قادر على العبادة او يقوم متاخر في قيامه للصلاة.
● هل له أعذار؟
ظاهراً أنكم تقصدون من لا عذر له، وإنما هو متثاقل.
♦ السائلة: نعم متثاقل.
● الذي يفعل هكذا لا يحب الله حقيقةً، يحبه بصورة اعتبارية لا حقيقية؛ لأننا لو سألناه عن الحب؛ فسيجيب بأنه يحب الله تعالى.
لكن الحب الحقيقي مختلف تماماً؛ لأن وِزان الحب الحقيقي هو العمل لا مجرد القول.
ولنعرف الحب الحقيقي؛ فلنلاحط مثلاً النبي صلى الله عليه وآله؛ فهو كما قال القرآن اُسْوة؛ فكل شيء لا نعرف حقيقته يمكن أن نقيسه عليه صلى الله عليه وآله ونعرف حقيقته من منطلق قاعدة (اُسْوة).
إنه صلى الله عليه وآله كان يحب الله حباً حقيقياً، وهذا نفهمه من خلال أفعاله: فهو كان يقول لبلال الحَبَشي حين يدخل وقت الصلاة: (أرِحْنا يا بلال)!
إذاً الصلاة بالنسبة له راحة؛ وما عداها عنده تعب؛ لأنه يقول أرِحْنا.
وفي حديث آخر يقول: (حُبِّبَ إليَّ من دنياكم ثلاث: الطِّيب -أي العطر- والنساء وقــُـرَّةُ عيني الصلاة)!
فهنا نلاحظه قال ثلاث ولم يكملهن؛ إذ عَدَّ منهنّ اثنتين فقط!
فهو صلى الله عليه وآله من شدة حبه للصلاة كأنه ذُهِلَ عن إتمام كلامه فلم يـَذكر الثالثة، بل قطع كلامه وذكر حبيبة قلبه الحقيقة.
●» فإن قلتم:
كيف تقول: قال اثنتين، وهو ذكر ثلاث: الطِّيب والنساء والصلاة؟! فالعبارة صريحة بذكر ثلاث لا اثنتين فحسب.
الجواب: كلا؛ ذكر اثنتين لا ثلاث؛ بدليل أنه لو كانت الصلاة هي الثالثة؛ لصار المعنى هكذا: حُبِّبَ إليَّ من دنياكم الطِّيب،
وحُبب إلي من دنياكم النساء، وحُبب إلي من دنياكم الصلاة!!
وهذا المعنى لا يستقيم أبداً؛ فهو في حقه صلى الله عليه وآله باطلٌ جزماً؛ لأنه كيف حُبِّبَتْ إليه الصلاة وهو بتلك المنزلة الشريفة والعظيمة؟
لا يمكن؛ فهو يحب الصلاة لا أن الله تعالى حَبَّـبَها إليه.
هذا دليل.
وبدليلٍ آخر نقول: إنّ الحديث ورد بصياغة أخرى ذَكَـرَ صلى الله عليه وآله فيها الثلاث ولم يترك الثالثة، حيث قال:
(حُبِّبَ إليَّ من دنياكم ثلاث: الطيب والعسل والنساء، وقُـرَّةُ عيني الصلاة)؛ فهو هنا ذكر الثلاث وبعدها أضاف الصلاة، مما يدلل على أنّ الصلاة لم تحبَّب له، وإنما هو بنفسه يحبها، كما يدلل على أنه ذكر ملذات الدنيا وأَعرض عنها بذكر حبيبته الحقيقية، وكأنه قال هكذا:
حبب إلي من دنياكم كذا وكذا، وما لي ولهذه المحبَّبات الزائلة، إني أحب الصلاة، وتلك لو لم تحبَّب لي من الله تعالى ويقذفها في قلبي لَـما أحببتُها؛ لأني أساساً ليس في ذاتي هوىً لها، ولا انشغال بها، فأنا مشغولٌ بالحبيب الحقيقي وحده.
وبدليل ثالث: إنه قال حُبب إلي من ((دنياكم))، والصلاة كما هو معلوم ليست من أمور ((الدنيا)) فحسب؛ إذاً هو صلى الله عليه وآله كأنه في الرواية الأولى ذهل فتَرك تعداد البقية فذكر مباشرة حبيبة القلب ((الصلاة)) وأعرض عن إتمام حديثه وذِكره لِـما حُبب إليه في الدنيا.
●» وكذا لو نظرنا لأحوال أوصيائه صلى الله عليه وآله؛ فلننظر مثلاً لعلي عليه الصلاة والسلام، فهو تلميذه الأعظم:
كان عليٌ عليه الصلاة والسلام يقف للصلاة كالمريض العليل (يـَتململ تململ السليم)؛ وهذا شعور السُّكْر الحُبّي، وكان يقرأ الدعاء وهو يتكئ على جدران منزله من شدة بكائه واستحيائه وخوفه من الله تعالى.
وهو يدل على عمق العلاقة والحب الحقيقي.
ولننظر مثلاً للإمام الحسين عليه الصلاة والسلام: فهو ترك الناس يَطُوفون حول الكعبة وذهب ليطوف حول رب الكعبة في كربلاء. وفي أشد لحظات الألم من يوم العاشر كان يقول: (دعوني أصلي لربي، فإنه يَعلم أني أحب الصلاة).
لدرجة أن الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه الصلاة والسلام كان يقول عن أبيه الحسين سلام الله عليه: (عَجِبْتُ كيف وُلِدْتُ لأبي!)؛ فهو يقصد أن الإمام الحسين عليه الصلاة والسلام كان كثير العبادة والعمل لله تعالى، لدرجة أنه لم يكن لديه الوقت ليُضاجِع نساءه وينجِب منهنّ أولاداً!
وعليه؛ إن كان العبدُ صاحِبَ حُبٍ حقيقي وعلاقة حقيقية؛ فهو لا يمكن أن يتثاقل عن الصلاة، لا صلاة الصبح ولا غيرها؛ لأن التثاقل عن الصلاة نفاقٌ صريح؛ أي حب ظاهري بالأقوال إن فُرِض أنه يدعي الحب؛ وهذا المعنى ليس من كيسي الخاص، هذا المعنى نَصَّ عليه صريح القرآن الكريم بوصفه لحال المنافقين حيث قال:
{إذا قاموا إلى الصلاةِ قاموا كُسالَى}الآية وغيرها؛ فالنفاق بالتثاقل عن الصلاة قضية متواترة قطعية صريحة في كتاب الله وسُنة رسوله صلى الله عليه وآله.
والعكس بالعكس؛ فبعشقك للصلاة تتجلى العلاقة؛ فالذي يحب تجده دائماً يعشق الحديث مع الحبيب؛ لذا المقولة السلوكية تقول: “إذا أردتَ أن تتحدث مع الله فصَلِّ”.
والصلاة (عمود الدِّين، إن قُبِلَتْ قُبِل ما سِواها، وإن رُدَّتْ رُدَّ ما سِواها)؛ لأنها رحى الإيمان وقطب الحب؛ لذا هي أول ما يُنظر إليه في صحيفة أعمال العبد يوم القيامة، ولذا نجد القرآن ذَكَرَها بطوله وعَرْضِه من الجِلدةِ إلى الجِلدة.
●» الدواء الناجع:
ثمَّ إنّ من العلاجات الجيدة النافعة في هذا المجال هو: كَسْر جِماح النفْس، وإعلاء رغبة الروح الفطرية؛ باعتبار أنّ الإنسان مفطورٌ على حب التعبد لجهةٍ عظيمة يقدسها؛ ألا تَرى أنّ مَن لا يـَعرف الله تعالى يخترع لنفسه إلهاً؟ وحتى الـمُلْحِد الذي ينكر وجود الله سبحانه، فهو يـَخترع لنفسه إلهاً يسميه بأي تسمية كانت؛
هذا بسبب فطورية المخلوق على حُبّيّة التعبد لجهةٍ يعظمها ويقدسها، ومعلوم أنه ليس هناك أعظم من المطْـلَق الأوحد الأحَدي تقدَّسَتْ أسماؤه.
ومن العلاجات الناجعة أيضاً: البقاء على وضوء قبل حلول وقت الصلاة؛ فهذه ((العملية السياسية)) من ((السياسات الداخلية)) يسايِس بها الذكي الفطين تَثاقل نفْسِه؛ فما أن يـَحِل وقت الصلاة إلا وَجَدَ نشاطاً وقلَّ تثاقلُه وتَحَلْحَلَ واندثر كما يـَندثر الغبار في الريح الجميلة العابرة على ساخن البدن في عُرْفِ الصيف.
ومن الحُلول أيضاً: عدم ترك ((مائدة الصلاة))؛ ومائدة الصلاة هي ((الدعاء))؛ فالدعاء قبل الصلاة وبعدها يَلِجُ في النفْس قوةً هائلة وهيجاناً حُبّيّاً أَخّاذاً غريباً، يساهِم في امتلاء القلب بالخشوع. جَرِّبْ تَعْرِف ما أقول، فالحس والحُضور ليس كفَهمِ العُقول.
وعليه؛ لو داومنا على ((المائدة))؛ فسنحل قدراً كبيراً من المشكلة.
إنّ المائدة علاجها فَعّالٌ وقوي، خصوصاً قبل الشروع في الصلاة.
إنّ الدعاء دواءٌ لداءِ كلِّ أحد، إنْ هو قَرأ الدعاء بتوجهٍ وفهم وتَرَنُّم، ولكل شخصٍ طريقته في الترنم مع الحبيب.
عليكم بـ((الصحيفة السجادية))؛ فإنّ فيها رهائب وعجائب وطرائب.
●» أقول: إنّ النفسَ مَيّالةٌ للعبِ واللهو، مغمورةٌ بالغفلةِ والسهو، تُسْرِعُ بصاحبها إلى الحَوْبة وتُسَوّفهُ بالتوبة، وما أُبَرِئُ نفْسي.
إنّ على الإنسان عموماً والمؤمن خصوصاً أن لا يـَشعر بأنه قوي، فيجب أن يـَستلهم قوَّتَه من الله سبحانه، و((الدعاء)) خيرُ طريقٍ وأعظمُ مصداقٍ لهذا الاستلهام، وإنّ الله أكثر ما يُحِب: أن يُدعا؛ لذا حتى الصلاة لغةً هي: دعاء.
ثمّ إنّ الحاجة لاستلهام القوة من الله تعالى مستديمة؛ لذا نجد بلعم بن باعوراء -وهو مَثَل كثيراً ما نضربه لعمقه وسعة معانيه وكثرة دروسه وعِبَره الجَمّة الغفيرة في قصة هذا العبد- الذي كان من المقربين لله سبحانه ونال بعضاً من اسم الله الأعظم، لَـمّا استماله فرعون وأغراه بالمال ليقاتِل معه موسى عليه الصلاة والسلام؛ رَفَض.
وحاول فرعون معه مِراراً وتكراراً حتى قام بتهديده؛ باعتبار أنّه -أعني فرعون- كان يَزعم لنفسِه أنه (ربُّ الناس الأعلى)، وربما حَلَّ فيه الرب كما حَلَّ في بعض جهلاء الصوفية وأضرابِهم!
فرَفَض بلعم وأَصرَّ على رفضِه؛ فاستَعمَلَ معه فرعون زوجته -زوجة بلعم- فاستطاعت إغواءه؛ فقاتَل نبي الله عليه الصلاة والسلام مع فرعون رغم الحقائق التي بَلَغَها، وما ذلك إلا بسبب عدم استلهام بلعم قوّته من الله تعالى على الدوام.
من هنا نجد أنّ مَدرسة ((الفلسفة المشائية)) تؤكِّد على أن الإنسان مَحْضُ فقرٍ مطْـلَق؛ فهو معلولٌ والله تعالى عِلّته التامة، والمعلول وجوده وعدمه تابع لوجود وعدم علته، فلو انعدمت علته؛ فإنه يستحيل بقاؤه؛ مما يعني حاجته المستمرة لاستلهام قوّتِه من الصَّمَدي سبحانه.
وهذا عين ما دَفع بعض العُرَفاء إلى أن يقولوا بأن المخلوقات موجودات رَبْطِية، وبعضهم قال أنها مجرَّد مَظاهر وفيوضات وظِلال؛ فهي عين الرَّبط ومَحْض الفقر ولا وجود لها في قبال وجود المطْـلَق وجبروته عزَّ وجل. قال تعالى: {أَنتُمُ الفُقَراءُ إلى الله}الآية؛ لهذا يجب أن لا يـَغيب عنا استلهام القوة منه سبحانه أبداً.
هذه بعض العلاجات مختصراً.
✿ ♦ سائلة أخرى:
وإذا كان التاخير لعذر او مرض، هل يكون بنفس مقدار المتثاقل؟
● إذا كان لعذر فالحال يختلف تماماً.
لكن العذر يكون في العجز عن المبادرة للصلاة عجزاً ((شرعياً)) أو ((تكوينياً))، لا التثاقل؛ ذلك لأن التثاقل ليس كالعجر الحقيقي؛ فالتثاقل كما قلنا نفاق في العلاقة وعدم توفر الحب الحقيقي.
أما العجز؛ فهو تارة شرعي، وأخرى تكويني؛ والتكويني مثل: المرض.
والشرعي مثل: عدم معرفة هل حان وقت الصلاة أم لا، دون تهاوُن في تسبيب أسباب المعرفة؛ فينتظر ليطمئن مِن دخول الوقت.
ومثل: عدم توفر الماء واحتمالية توفره في آخر الوقت قبل انقضاء وقت الصلاة.
ومثل: انتظار الحائض أو النفساء للطُّهر.
وكذا مثل الوفاء بالتكاليف الأوجب؛ من قبيل حاجة الزوج للزوجته حال كون وقت الصلاة واسعاً؛ فهنا يجب أن تلبي له، والمبادَرة له تكون أوجب، بخلافِ لو لم يبقَ وقت إلا بمقدار أداء الصلاة الواجبة؛ فهنا يجب المبادرة للصلاة والاعتذار منه.
وكذا من قبيل إرضاع الطفل؛ فهو أوجب في التقديم عند سعة وقت الصلاة. وغير ذلك مما هو أوجب دون جعل الصلاة تصير قضاءً، فترْكُها تصير قضاءً من كبائر الذنوب الغِلاظ الشِّداد العَظائم.
●» وأما الأعذار التأخيرية التي ليست شرعية ولا تكوينية، وتأخذ طابع التشريع أو التكوين؛ فهي ليست سوى خدَع قادمة من مَرْكَز الهوى، وحِيَل من الشيطان الرجيم الذي تُوْجِعه الصلاة وتقصم ظهره.
فلا نكن ممن تنطبق عليهم الآية الشريفة القائلة؛ {يُخادِعونَ اللهَ والذينَ آمنوا وما يَخدَعونَ إلا أنفُسَهُم وما يَشْعُرون}، وآية:
{إنَّ المنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وهو خَادِعُهُمْ وإذا قامُوا إلى الصَّلاةِ قامُوا كُسَالَىٰ يُراءُونَ النَّاسَ ولا يَذْكُرُونَ اللهَ إلا قَليلا * مُذَبْذَبِيْنَ بَيْن ذلكَ لا إلى هَٰؤُلاءِ ولا إلىٰ هَٰؤُلاءِ ۚ وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَلَن تَجِدَ لهُ سَبيلا}[النساء: آية١٤٢ و١٤٣]..
فالحَذار الحَذار؛ فالأمر يرتبط بالعلاقة مع الـمَليك الذي يَطَّلع على الأفئدة، ويبْصِر السرائر، ويَدْري خائنةَ الأنفُسِ وما تخفي الصدور، ويَعلم الحَبة في ظلمات الأرض في رَطْبِها ويابسها.
نسأل الله لنا ولكم السلامة والصِّدْقَ والقُرْب، والحمد لله أولاً وآخرا، والصلاة والسلام على محمدٍ وآله.
أمين السعيدي – قم
٢٨ جمادى الأولى ١٤٣٥هـ
للتعلیق أو مطالَعة التعلیقات اضغط هنا