♦ اللاشيئية خطرٌ وزَيْف!
【قراءة حول العرفان والتجريبية ومراتب اللاواقعية】
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين، وبعد..
إنّ (عِلم الفلسفة) هو أُمّ العلوم؛ فهو علمٌ يـَـبحث في (كلِّ شيءٍ موجود)، ولهذا العلم أقسام: فهو يـَـبحث في الوجود الإلهي، ووجود المخلوقات، ومن وجود المخلوقات يـَبحث الرياضيات والفيزياء والكيمياء والطب والفَلَك وسياسة الدُّوَل وتربية الأسرة …
هذا؛ وإنّ أول ما يُبحث في علم الفلسفة هو (الواقعية ووجود عالَمٍ واقعي)، تماماً كما أنّ أول ما يُفتَى به في الرسائل العملية الفقهية هو وجوب إحراز المكلف العلم بـ: المسائل الإلزامية -الواجبات والمحرمات- التي هي في مَعْرض ابتلائه.
والمراد بـ(الواقعية) في مباحث الفلسفة هو وجود حقيقةٍ لنا ووجود عالَم حقيقي حوْلنا، وأننا لسنا مجرَّد أوهام لا وجود حقيقي لها، وأنّ العالَم الذي حوْلنا ليس إلا مجرَّد خيالات لا شيئية لها.
إذاً؛ الواقعية ترتكز على عنصرين:
١- وجود واقع حقيقي لي ولِـما بداخلي من مفاهيم وقوى وشعور.
٢- وجود واقع حقيقي للعالَم الذي حولي ولِـما به من وجودات.
●» ثم إنّ علة بحثِ الفلسفة لـ(مسألة الواقعية) هو أمرين؛ أحدهما جوهري رئيسي، والآخر عرَضي تَبَعي.
أما الأمر الرئيسي فهو: قيام كل مسائل الفلسفة على (الوجودية)؛ وهذا يعني أنه إذا لم يكن لشيء معيَّن وجود؛ فالفلسفة لا تبحث فيه، فهو ليس من اختصاصها؛ لأن الفلسفة إنما تَبحث في الأشياء التي لها وجود فقط؛ لذا إذا كنتُ أنا والعالَم الذي حولي لا حقيقة وجودية واقعية لنا، وأننا لسنا سوى مجرد خيالات وأوهام؛ فهذا يعني أن لا قيمة لعلم الفلسفة أساساً ولا مجال له ليَبحث فيه؛ ذلك لأنّ كل شيء -حسب هذا الفرض- لا شيئية ولا وجود حقيقي له؛ مما يعني أنه حتى علم الفلسفة لا وجود له؛ لأن العلم هو أيضاً شيء.
وكذا أيضاً لو كان للعالَم الذي حولي واقع وحقيقة، وأنا لا واقع لي ولا حقيقة، وأني مجرد وهم وخيال؛ فإنه أيضاً لن يكون لعلم الفلسفة أي قيمة؛ ذلك لأن العلم بخلاف الوهم والخيال؛ لأن العلم حقيقة، والعلم الذي هو حقيقة هو أيضاً حالة باطنية مقرها ومحلها هو الباطن، فإذا كنت أنا لا واقع لي فكيف سيـَحل العلم بداخلي؟!
هذا مستحيل؛ لأنني أساساً -حسب هذا الفرض الثاني- لست إلا وهماً لا شيئية لي، وما لا شيئية له لا يمكن أن يوضع فيه شيئاً ولا يمكن أن يتعلم أو ينال العلم؛ وهذا يعني أنه حتى لو قلنا بأن العالَم الذي حولي له شيئية وحقيقة واقعية، بينما أنا لا واقع لي؛ فإنه أيضاً لن يكون لعلم الفلسفة قيمة.
هذا؛ ناهيك عن أن نفس قولي بأن (للعالَم واقع)، سيكون تناقضاً؛ ذلك لأنني -حسب هذا الفرض- لا واقع لي، ومادمت لا واقع لي فأنا إذاً لا أدرِك شيئاً ولا أستطيع أن أحكم على شيء بأنّ له واقع أم لا؛ فالقدرة على إدراك الأشياء والحكم عليها أنّها موجودة ولها واقع فرْعُ أن يكون لي أنا واقع أولاً؛ لأتمكن من الإدراك ومن ثم الحكم على ما أدركه.
● هذا هو الأمر الأول من هدف وغاية الفلسفة مِن بحث (مسألة الواقعية)، وفي أول موضوعاتها، وهو الأمر الرئيسي؛ أما الأمر الثاني التبعي؛ فهو: رد وإبطال قول (السفسطائية “اللاشيئيين”)؛ حيث إنهم يشكِّكون في شيئية الأشياء ولا يؤمنون بواقعية الوجود وحقيقته، ويقولون بأنه وهْم وسفاسف وخيالات! وهؤلاء الحمقى على مذاهب عدة. وقولهم بعدم وجود واقعية يعطِّل الحياة، ويلغي قيمتها، ويفت القانون والنظام وكل القِيَم، وينكر الأنبياء وجميع الشرائع الإلهية والسماوية!
وقد ذَكر الفلاسفة لهم علاجاً وحيداً لا ثاني له إنْ هُم لم ينفعهم برهان العلم ودليله الناصح، وهذا العلاج هو أن يوْجَع السفسطائي التشكيكي ضرباً؛ ليـَـرى هل يتوجع أم لا؟ وهل أنّ وجعه حقيقة وشيئية وواقع أم لا؟؛ ليـَعرف هل ما يدعيه من عدم الواقع وتعطيل الحياة هو رأي صحيح؟ أم فاسد، وأن ما يدعيه من اللاشيئية هو الوهم؟ ويدرك هل لتلك العصا التي أوجعناه بها، ولِـمَن ضربه، وللحمه المتوجع، وشعوره، وإدراكه لشعور الألم، واعتراضه على إيجاعه، هل لهم واقع أم لا؟ فإن قال لا؛ فلماذا يعترض على ما ناله!! وإن قال نعم؛ فهو سيكون قد أقرَّ بوجود واقع وحقيقة.
●» ثم إنّ لسفسطة هؤلاء السفسطائيين تيارات قديمة وحديثة في أشكال معاصرة وجهات علمية مختلفة؛ وهُم اليوم في مذاهبهم الجديدة المعاصرة من قبيل: (المذهب التناقضي).
وكذا من قبيل (المذهب التجريبي) الذي ظهر في السنوات الأخيرة وهَيمن بثورته الساحقة على أغلب بقاع العالم بما فيه البقاع الإسلامية، فأَحرَف الكثير من أبناء البشرية والأمة، وخَدَعَ العقول بواسطة إنجازاته التكنولوجية العظيمة المبهرة، وأَفسَد المبادئ الأخلاقية والإنسانية ونظام الحياة؛ حيث يـَـعتمد (الحس والتجربة المادية) في كل شيء، وينكر الميتافيزيقيات والماورائيات والعوالم المجردَّة وعالَم الغيب وقِيـَـم الإيمان؛ حيث لا يـَرى شيئية للمفاهيم العقلية والمعارف الإلهية والضرورية التي لا سبيل للكشف عنها وإثباتها إلا عن طريق العقل أو الوحي؛ إذ لا طريق للتجربة والحس إليها؛ من قبيل الإيمان بوجود جبرائيل عليه السلام والملائكة والجن ..
إنّ هذا المنهج الأبله أَخذَ طريقه نحو التوسعية والانتشار الرهيب والسريع يوماً بعد يوم، وهو منهجٌ يشكلُ خطراً مهولاً ومخيفاً بمنتهى الخطورة والفتك، لدرجة أنه وصل للتشكيك حتى في الثوابت والبـَدَهيات العقلية التي عليها يقوم كل استدلال! كما وصل للأديان واعتبرها تجارب وعَنوَنَها بمسمى (التجربة الدينية)!
لقد هَدم هذا المذهب المادي التجريبي كل الـمُثُل النورانية والقِيـَم العالية التي بها قوام الحياة وبها يـَحيى الإنسان وتـَحيى البشرية! إنه منهجٌ خطيرٌ للغاية، يجب محاربته والقضاء عليه سريعاً قبل أن يـَلتهِم كل شيء، يجب استعمال سلاحه لقتله وتغييبه عن المجتمع البشري ككل، يجب استعمال التنكنولوجيا وشتى الوسائل العقلانية في سبيل ترويض ثورته وتهجين صولته. إنه مذهبٌ بـَرّاق وخَداع ومدمِّر، ولابد من مواجهته بقوةٍ درجتُها الطَّردية -على الأقل- تساوي (درجة فِعلِه وحركيته وسيلانه وجذبه وانتشاره الرهيب) ليـَتـِم التمكن من تدميره.
● إنّ على الجميع بما فيهم العامة، وخاصةً قادة الأمة والنُّخَب أن يـَدْخلوا غمار هذه الحرب الفكرية بجد، كلٌّ بحسب إمكاناته وموقعه، فإنّ رَد هذا الخطر المهول بات واجباً عينياً على الجميع بفعل قوَّته وسرعة تحركه، فآثاره وبلاياه باتت اليوم تعيش حتى في بيوتنا! وبين أطفالنا!
♦ وهنا أَختتم بكلمة مهمة، ترتبط بالبحوث العالية وتحتاج لشيء من التركيز؛ وهي كلمة حول (عِلم العرفان) تتصل بموضوعنا، هذا العلم النوراني الألمعي النافع، وإن كان عليه ما عليه من ملاحظات تأتي في محلها إن شاء الله تعالى. والذي أريد قوله هو:
إنّ علم العرفان لا يـٓرى للأشياء وجوداً وراء وجود الله تعالى، فالوجود عند العرفاء خاص بالله عز وجل، وما عدا الله تعالى فلا وجود له، فكل مخلوق في صقع هذا الوجود إنما هو مجرد مَظهَر من مَظاهِر قدرة الله تعالى وأسمائه القدسية الحُسنى، فهو جل وعلا وجودٌ أَوحَدي، والمخلوقات ليست إلا لَوامِع ومَظاهِر لمطْلَق وجوده الأوحدي اللامتناهي، فهو سبحانه عندهم (مطْلَق الوجود)؛ بالتالي فالمخلوقات هي موجوات لا وجودات.
وهذا الذي عند العرفاء هو غير ما أَثبته الفلاسفة الإلهيون في بحوثهم الفلسفية الإلهية؛ إذ أنّ الله تقدست أسماؤه هو عندهم (الوجود المطْلَق) لا (مطْلَق الوجود)، والكائنات عندهم لها وجودات حقيقية لا أنها مجرَّد مَظاهِر وموجودات ولوامع.
● والفارق بين هذين القولين العلميين هو: أنه وفق رأي الفلاسفة يكون وجود الله المجرَّد سبحانه (وجوداً مقيَّداً)؛ حيث إنهم وصفوه بأنه (الوجود المطْلَق)، فهم قَيَّدوا وجوده تعالى بالإطلاق، بينما وفق مقولة العرفاء يكون وجود الله المجرَّد (وجوداً غير مقيَّدٍ بأي قيد)؛ حيث إنهم وصفوه بأنه (مطْلَق الوجود)، فلم يقيِّدوا وجوده بالإطلاق.
● والسبب في اختيار العرفاء هذا الرأي هو: أنهم لما حكموا على المخلوقات بأنها لا وجود لها وأنها ليست إلا مَظاهر وفيوضات إلهية، وأن الله تعالى هو الوجود الأوحد؛ لذا وصفوه سبحانه بأنه (مطْلَق الوجود)؛ أي هو كل الوجود ولا وجود لشيء معه.
وهذا بخلاف الفلاسفة؛ حيث لم يـَرتضُوا هذا القول الباطل، فهم قيَّدوا وجوده تعالى بالإطلاق لأنهم ثـَبث لديهم أنّ المخلوقات والكائنات لها وجود حقيقي، وأنها (وجودات) لا مجرد موجودات فحسب، فأنت لك وجود واقعي وأنا لي وجود واقعي، وكل شيء حولنا فهو له وجود واقعي، لا أنه مجرد ظِل ومَظْهَر وفيض؛ فتقييد وجود الله تعالى بـ(الإطلاق) يتيح ويـَفسح مجالاً للقول بوجود غيره سبحانه من المخلوقات في هذا الكون الذي خلقه وابتدعه عز وجل بقدرته وحكمته وإبداعه اللامتناهي.
●» أقول: من خلال من استعرضناه في مجموع هذا البحث ككل، يظهر مدى بطلان مقولة العرفاء، وصواب مقولة الفلاسفة، وإن لم يقل العرفاء بأننا لا شيئية لنا وأننا مَظاهر وفيوضات، إلا أن مقولتهم قريبة من معنى اللاشيئية، أو قُل: مَرتبة من مراتب اللاشيئية الباطلة؛ فنحن بالوجدان نَشعر بداهةً بجلاء ووضوح بأن لنا وجود وأننا لسنا مجرَّد مَظاهر. وهذا أحد المآخذ التي يمكن أن نؤآخِذ عليها علم العرفان، وتتطلب إصلاح مفهوم هذه المسألة وما وراءها من بحوث هذا العلم الإلهي الضروري القَيـِّم العريق النافع.
علماً أنّ على رأي العرفاء هذا شواهد وبراهين أخرى تبطله، ندعها لبحوث موسعة إن شاء الله تعالى.
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين، محمدٍ وآله الطاهرين.
أمين السعيدي
٢٠ جمادى الأول – قم المقدسة
للتعلیق أو مطالَعة التعلیقات اضغط هنا