كيف يمكن أن يكون هارون أفصح من موسى
● السائل:
النبي لابد أن يكون أفضل أهل زمانه… فكيف توجهون قول موسى عليه السلام بأن هارون هو أفصح منه لسانا…؟
● رد سماحة السّيد أمين السعيدي حفظه الله:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، غفر الله لكم. سؤال قيّم ولطيف؛ والقول في صدد الرد عليه بعد التحقيق كما يلي:
1- بغض النظر عن أن الآية جاءت بأكثر من قراءة، حيث (اختلفت القُـرّاء في قراءة قوله: {يصدقني}، فقرأته عامة قراء الحجاز والبصرة: {رِدْءًا يُصَدِّقْــنِي}، بجزم يصدقني.
وقرأ عاصم وحمزة: {يُصَدِّقــُــني} برفعه…) .
فبغض النظر عن مجيء الآية –في ذيلها- بأكثر من قراءة؛ 2- وكذا بغض النظر عن أن المفسرون اقتصروا في تفسير الآية على ذكر وجه الأفصحية بثقل لسان موسى عليه الصلاة والسلام دون تبرير وجه والأفصحية في قِبال وجوب واشتراط الأفضلية في النبوة، فبغض النظر عن هذين الأمرين نذْكر عدة وجوه لبيان المقصود من الأفصحية في الآية المباركة بما يرتبط بالأفضلية في النبوة، وذلك كالآتي:
الوجه الأول:-
ينقل المفسِّرون أن نبي الله موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام كانت به علة تكوينية عارضة في لسانه، حيث كان في لسانه ثقل في تلفظ الكلام؛ فهذا هو ما كان يقصده من قوله {أَفصحُ مني لساناً} في الآية:{وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ}[ص: 34]؛ فأفصح مني هنا أراد بها عليه الصلاة والسلام الفصاحة بالمعنى الأعم، بمعنى الاعتدال في الكلام والوضوح فيه وخلوصه من كل شائبة، فأراد من هذا المعنى الواسع للفصاحة جهة خاصة منه، وهذه الجهة التي أرادها غير معتبَرة في النبوة وأفضلية النبي على أهل زمانه من جهة إلهية، وإنما معتبرة من جهة عرفية سذاجتية، وهذه الجهة العرفية المرادة من المعنى العام للفصاحة هي الفصاحة المتعلقة بوضوح النطق والتلفظ بشكل تام، لا بقمة البيان والإبلاغ، وواضح أن سلامة النطق بشكل تام لا تعتبر في شرط أفضلية النبي على أهل زمانه.
فالآية لا تعني أن هارون عليه الصلاة السلام كان أفصح منه بمعنى أن موسى عليه الصلاة والسلام لم تكن لديه قدرة عالية على أداء المعاني بصورة متعالية في البيان وقمة في الإبلاغ، فالفصاحة المشترط تحققها في النبي هي هذه المرتبطة بالقدرة على البيان والإبلاغ الخالصة من نواقص هذه القدرة، لا تلك المرتبطة بثقل بسيط في النطق بفعل حادثةٍ ما وقعت لموسى فأفقدته الخفة التامة في التلفظ.
وإلا لو كانت الفصاحة يشترط فيها هذا الشرط –أعني الخفة التامة في النطق- فمعناه ما أن يكون النبي نبياً، فيصيبه عارض يفقده هذه القدرة إلا سلب الله النبوة عنه، وهذا كما ترى غير صحيح ولا قائل به من أهل العلم والنظر القويم.
قال في تفسير فتح القدير: (الفصاحة لغة: الخلوص، يقال: فصح اللبن، وأَفصح، فهو فصيح؛ أي: خلص من الرغوة، ومنه فصحَ الرجل: جادت لغته، وأَفصَحَ: تكلم بالعربية. وقيل: الفصيح الذي ينطق، والأعجم الذي لا ينطق.
وأما في اصطلاح أهل البيان فالفصاحة: خلوص الكلمة عن تنافر الحروف والغرابة ومخالفة القياس، وفصاحة الكلام: خلوصه من ضعف التأليف والتعقيد)♥>، واستعرض صاحب التفسير الآية التي نحن بصددها في ظل هذا المعنى.
لاحظ؛ فالفصاحة بمعناها اللغوي واسعة، وكذا في معناها الاصطلاحي في “الخلوص من التعقيد”؛ ونحن نريد بالتعقيد هنا عقدة اللسان ولثغه وثقل ألفاظه، لا عقدة البيان وضعف تأليف الجمل؛ لذا نجد القرآن في آية أخرى يَنقل عن لسان موسى عليه الصلاة والسلام قوله:
{وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} [طه: 27 إلى 32]؛ فهو عليه الصلاة والسلام يشير في هذه الآية للثقل الذي كان في لسانه بسبب حادثة جَمرة يذكرها المؤرخون والمفسرون في صغره عندما كان عند فرعون الذي التقطه من اليَم، ويَسأل ربه في قبال ذلك الثقل في اللسان بجعل هارون معينه كما هو الظاهر في الآية؛ إذ لما ذهب موسى عليه الصلاة والسلام إلى فرعون وملئه يحاججهم، كان يقول وهارون يبيِّن، فلاحظ سياق الآيتين كيف ذكرتْا عقدة لسانه وطلبه لشد أزره بأخيه هارون عليه الصلاة والسلام.
فإن قيل:-
إذن لماذا اهتم موسى بتلك الفصاحة في هارون في مجال الإبلاغ لقومه مادامت جهة الفصاحة المعنية لا عبرة لها على المستوى الإلهي وعلى مستوى أداء الوظيفة النبوية؟!
جوابه:-
لأن موسى عليه الصلاة والسلام كان في مقام المحاججة والمجادلة؛ لذا أراد أن يقطع على شيطان عصره –فرعون- جميع السبل التي قد يَحتج بها ويمارسها للتضليل والتغطية على عوام الناس وبسطائهم؛ فهو عليه الصلاة والسلام بحنكته أراد سد جميع الأبواب على فرعون المستبد الذي لا تنال منه الموعظة أثرها ولا يرى لخالقه موضعاً في ذاته، فالفصاحة لم تكن تنقص موسى عليه الصلاة والسلام بمستواها الضروري في النبوة ومهام النبي، وإلا لما بعث به الله تعالى برسالته، فالأنبياء كاملون في الخِلقة، وموسى عليه الصلاة والسلام عقدة لسانه لم تكن بحيث كان يبدل حرف مكان حرف ولا من حيث ما ذكرنا أنها ليست من حيثه، وطلبه عليه الصلاة والسلام لشد أزره بفصاحة هارون كان لسد الطريق والذرائع أما فرعون في ظرف آني مؤقت يختص بظرف المحاججة وبساطة الملأ والحضور.
إذن خلاصة هذا الوجه هو: أن الفصاحة المقصودة في الآية ليست تلك التي تخل بكمال النبوة وأفضلية النبي على أهل زمانه وخلوص كلامه من شوائب البيان الرفيع وقدرته على الإبلاغ وإيصال المفاهيم والقيم الإلهية للعباد بالشكل المشروط والمطلوب، وإنما الفصاحة المقصودة هي تلك التي لها مدخلية عرفية بسطائية جدلية آنية، بحيث يُستعان بها في دفع الخصم تماماً كما يستعين الأنبياء بأعوانهم وأنصارهم لدفع العدو والجهاد بالسيف.
الوجه الثاني:-
أن موسى عليه الصلاة والسلام لربما أراد فقط التقوي بأخيه هارون ودفع القتل عن نفسه وتقوية خبره، لا أن المسألة ترتبط بالثقل الذي في لسانه وإمكانية تذرع فرعون بذلك بالاحتجاج به في مجلس المناظرة واستعماله للتغطية على العوام.
وتفصيلاً: كان موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام يريد دفع القتل عن نفسه في ظل تغطرس فرعون وادعائه الإلوهية، في الوقت الذي كان يهدف فيه لترقية هارون عليه الصلاة والسلام إلى مقامٍ رفيع، وهو مقام النبوة، وكذا مؤازرته وإعانته في إيصال الدعوة وتصحيح مسار بني إسرائيل، خصوصاً وأن موسى عليه الصلاة والسلام كان مطلوباً بدم، حيث قَتَل نفساً من القوم في الحادثة المعروفة التي قصّه القرآن الكريم في آياته.
والدليل على إرادته شد الأزر بهارون والتقوي به في مجلس فرعون عن قتله وقتل النفس، هو أن نفس سياق الآية المتكلمة عن الفصاحة جاء في الآية السابقة لها مباشرة:
{قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ * وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ} [ص: 33 و34].
كما جاء التسديد الإلهي القاطع المتعاظم في الآية التالية لآية الفصاحة مباشرة: {قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} [ص: 35].
فموسى عليه الصلاة والسلام أراد التقوي بهارون عليه الصلاة والسلام:
1- بهدف دفع القتل عن نفسه.
2- وللتقوي به في الإخبار والمجادلة وتحقيق الهدف كما ورد في ذيل نفس آية الفصاحة، حيث أشارت لإرادة تحصيل التصديق وتقوية الخبر بهارون تجاه تخوف موسى عليه الصلاة والسلام من تكذيبهم له في قوله: {فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُون}؛ ذلك لأن خبر الإثنين -كما هو معلوم- أوقع في النفس وأقوى من خبر الواحد في مثل هذه الظروف -التي لم يتم فيها الإيمان بنبوة موسى بعدُ- تماماً كما تكون الحماية عن القتل بذهابهما معاً أقوى وأهيب.
3- كذا بهدف رفع هارون عليه الصلاة والسلام لمقام النبوة وفق مؤهلاته الكاملة، حيث استجاب له تعالى في ذلك برحمته، فاصطفى هارون وجعله من العظماء والأنبياء وفقاً لصلاحه وطهره وشرائط النبوة المتحققة فيه؛ قال تعالى:
{قَدْ أُوتِيْتَ سُؤْلَكَ يا موسى}[ طه: 36]، ونقل تعالى على لسان موسى عليه الصلاة والسلام قوله: {وَاجْعَل لِّي “وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي” * “هَارُونَ أَخِي” * “اْشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} [طه: 29 إلى 32]، فطلب إشراك هارون معه في النبوة بأكثر من عبارة، فقال تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا} [مريم: 53].
من هذا الوجه نفهم أن موسى عليه الصلاة والسلام أراد فصاحة هارون عليه الصلاة والسلام لا لأنها تدفع حجة الخصم تجاه علة لسانه وثقله، وإنما للأهداف التي ذكرناه؛ فيكون النقص في موسى عليه الصلاة والسلام في هذا الوجه أشد بُعداً.
الوجه الثالث:-
وهو وجه لم يُطْرَق لا من قريب ولا من بعيد، نذكره لاحتمالية وجهاته، وهو أن موسى عليه الصلاة والسلام نظراً إلى شدة تواضعه، حيث كان معروفاً بذلك، وكان يبرز على شخصه هذا الخُلُق الكريم بشكل كبير؛ لذا لما كان في مقام المخاطبة مع ربه سبحانه وتعالى أراد أن يتواضع في سموه، في الوقت الذي كان يستهدف فيه ما ذكرنا من غايات في الوجه الثاني.
فهذا الوجه- الثالث- وجه مستقل من جهة، ومطـعَّـم بالوجه الثاني من جهة أخرى
إشكالان على صياغة السؤال:-
الإشكال الأول:-
ثمَّ إن صياغة السؤال بالقول: (ألا يجب أن يكون النبي أفضل أهل زمانه؟)، فالتقييد بـ”الأفضلية” تجاه “أهل زمانه” ليس صحيحاً؛ لأن النبي لا يجب أن يكون أفضل “أهل زمانه” أساساً، وإلا لو كان يجب ذلك للزم أن لا يكون موسى عليه الصلاة والسلام نبياً؛ ذلك لأن الخضر عليه الصلاة والسلام من الأنبياء، وكان موجوداً في زمن موسى عليه الصلاة والسلام كما نقل القرآن حادثته معه في خرق السفينة وإقامة الجدار وغير ذلك، فالخضر كان يعلم بإذن الله تعالى ما لا يعلمه موسى عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك بعث الله بموسى وجعله من الأنبياء بل من الرّسل.
وكذا لو كان يجب أن يكون النبي أفضل أهل زمانه لما صح أن يكون هارون عليه الصلاة والسلام نبياً في زمن وجود موسى والعكس؛ لأن موسى عليه الصلاة والسلام بلا شك كان أرفع منزلة عند الله تعالى من أخيه هارون، وقد تبيَّن لك ذلك مما سبق.
وكذا لو كان يجب أن يكون النبي أفضل أهل زمانه للزم أن لا يكون إسماعيل وإسحاق من الأنبياء؛ لأن أبوهما إبراهيم عليه الصلاة والسلام أفضل منهما بلا ريب، فكيف يكون هنالك نبي ويوجد نبي أفضل منه في نفس زمانه؟!
إن قلنا يجب أن يكون النبي أفضل أهل زمانه فيجب أن لا يوجد نبي آخر أقل مرتبة منه في ذلك الزمان؛ لأن النبي الآخر سيكون على هذا ليس أفضل أهل زمانه.
إذن؛ صياغة الكلام بوجوب أن يكون النبي أفضل أهل زمانه ليس بصحيح لا عقلاً ولا شرعاً؛ أما عقلاً فلأن العقل لا يرى مشكلة في ذلك، نعم العقل يقول يجب أن يكون النبي أفضل من بقية قومه من عامة الناس بما يختص بالشرائط الضرورية للنبوة الخاصة، لا أن يكون أفضل من جميع من هو موجود في زمانه بما في ذلك الأنبياء المتواجدون في ذلك الزمان.
وأما شرعاً فلأن القرآن والسنة –وكذا الكتب السماوية السابقة- شاهدان بوجود أنبياء في زمن واحد بعضهم أفضل من بعض، كما نَقل القرآن الكريم بأن الله فضل بعض الرسل على بعض، حيث قال تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} [البقرة: 253]، وطبعاً هذا التفضيل لابد وأنه قائم على أسس كثيراً ما تعود للأفضلية الشخصية بين النبي والآخر.
وهذه الأفضلية تحققت في زمن واحد في ظل وجود أكثر من نبي في ذلك الزمن مع التواجد في مكان وبلد واحد، تماماً كإبراهيم وإسماعيل وإسحاق، وكموسى وهارون والخضر، وغيرهم؛ ومثله قِس أمر الأئمة المعصومين عليهم أفضل الصلاة والسلام الذين هم أفضل من الأنبياء، حيث نجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينص على إمامة الحسن والحسين عليهما الصلاة والسلام، ثم يقول: وأبوهما خيرٌ منهما؛ أي أفضل منهما إذ لا معنى للخيرية هنا سوى الأفضلية.
كما أيضاً نجد الأئمة عليهم أفضل الصلاة والسلام أنفسهم يقولون: كلنا في الفضل سواء إلا علي بن أبي طالب؛ أي علي أفضل منهم وأعلى مرتبة، في حين أن بعض الأئمة عاصروه عليه الصلاة والسلام، منهم الإمام زين العابدين علي بن الحسين صلوات الله وسلامه عليهما، حيث وُلِدَ في الخامس من شعبان سنة ثمان وثلاثين للهجرة المباركة، وقيل قبل ذلك، بما يَفْرق بسَنتين أو سنة.
فإن قيل:-
كيف لا يجب أن يكون النبي أفضل أهل زمانه ثم يقدَّم للنبوة على غيره ذلك الأفضل منه؟ أليس في ذلك ظلم من الله تعالى ومحذور من جهة تبليغ أحكامه بالنبي الأقل رتبة ودرجة؟
جوابه:-
كلا لا يوجد في ذلك ظلم؛ فلله سبحانه أن “يَمتحن خلقه ويمتحن ذلك الشخص وأن يصطفي من يشاء من عباده”، ولا مشكلة في أن يصطفي نبياً تتواجد فيه شرائط النبوة، فيفيض عليه كنوز النبوة ويؤيده بالوحي والعلم بالمغيَّبات والمعجزات وخصائص النبي المبعوث في ظل وجود من هو أفضل منه، فيريد الله امتحانهما، أو لا يجد في نفس هذا الأفضل رغبة في بعثه للناس على وجه بَيِّن، فمادامت الوظائف الإلهية النبوية متحققة بهذا الشخص المقدَّم فما المحذور في ذلك؟! قَطُّ لا محذور فيه.
فتارة:
الله تبارك وتعالى يَجعل نبياً صاحب رسالة في حين وجود نبي أفضل منه –ولو من بعض الجهات- لا رسالة له، وهذا قد نضرب له مثالاً موسى والخضر عليهما الصلاة والسلام، فموسى عليه الصلاة والسلام من أنبياء أولي العزم كونه بُعث بكتاب ورسالة سماوية، فهو نبي ورسول، بينما الخضر عليه الصلاة والسلام رغم كونه أعلم –أفضل- إلا أنه لم يبعث بكتاب ورسالة سماوية، فهو نبي وليس برسول؛ لذا لا يعد من أنبياء أولي العزم الخمسة -نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد- عليهم أفضل الصلاة وأتم التسليم، والحال أن موسى والخضر تواجدا في زمنٍ واحد.
اللهم إلا أن يقال بأن الخضر عليه الصلاة والسلام لم يكن أفضل من موسى عليه الصلاة والسلام، وإنما الأفضلية هنا كانت من جهة العلم بالغيب، والعلم بالغيب منحة إلهية ليس بالضروري تقتضيها أفضلية الخضر عليه الصلاة والسلام، وإنما قد يكون ذلك من باب امتحان موسى عليه الصلاة والسلام وإجراء حكمة إلاهية فيه؛ إلا أن هذا الادعاء لا يعني إبطال قولنا بعدم المحذور في تقديم المفضول على الأفضل لحكمةٍ ما في ظل تحقيق المقدَّم للأهداف المطلوبة من النبوة.
وتارة أخرى:
يَجعل الله نبياً ويقدّمه على نبي آخر ليس بأفضل منه، فيكون ذلك النبي المقدَّم صاحب رسالة مثلاً، والثاني ليست له رسالة، وهذا نضرب له مثلاً موسى وهارون، وكذا إبراهيم وإسماعيل وإسحاق، عليهم الصلاة والسلام أجمعين، فموسى أفضل من هارون وله رسالة، بينما هارون لم يبعث برسالة، وإبراهيم أفضل من ابنيه، وقد بُعث برسالة بينما لم يُبعث كل من إسماعيل وإسحاق برسالة، والحال أن موسى وهارون جاءا في زمن واحد وفي منطقة واحدة لنفس القوم، وإبراهيم وابنيه جاؤوا في زمن واحد وفي منطقة واحدة لنفس القوم.
وتارة ثالثة:
قد يَجعل الله نبياً وهناك من هو أفضل منه في زمان وجوده، ومع ذلك لا يجعل ذلك الأفضل نبياً بالمعنى الاصطلاحي لمصطلح “النبي” المأخوذ فيه قيد البعث للناس، إذ ذلك الأفضل وإن كان يجب بالضرورة أن يصل لمراتب القرب العالية من الله تعالى، إلا أنه لا يجب على الله أن يبعثه للناس، وإن كان أفضل من النبي المبعوث؛ ولله في خلقه شؤون.
بل لو فرضنا أن البشرية كلها أو أغلبها أو عدد كبير منها أو عدد معتد به قد وصلوا للكمال، فهل معنى ذلك أنه يجب على الله تعالى أن يَبعث بهم للناس؟ كلا، بلا شك لا يجب.
إذن؛ التعبير الدقيق هو أن يقال: يجب أن يكون النبي حائزاً على شرائط النبوة في ظل اصطفاء الله تعالى له تبعاً للحكمة الإلهية، لا أنه يجب أن يكون النبي أفضل أهل زمانه من جميع الجهات.
ومثله لو استَبدل أحدٌ “أفضل أهل زمانه” بـ”أفضل قومه”، فالقضية نفس القضية بلا فرق.
الإشكال الثاني:-
وأخيراً؛ نلحظ في العبارة ذِكْر اشتراط الأفضلية في النبي وذِكر الآية في صدد عدم تحقق هذا الاشتراط، والحال أن هارون من الأنبياء أيضاً، فالأفضلية على فرض وجود اشتراط لها، فهي واقعة هنا –في الآية- بين نبي ونبي، لا بين نبي وشخص عادي حتى يأتي المحذور المذكور.
فإن قيل:-
إن كلام موسى عليه الصلاة والسلام عن أفصحية هارون عليه الصلاة والسلام كان قبل اصطفاء هارون عليه الصلاة والسلام للنبوة؛ إذ اختاره الله جَلَّ اسمُه لذلك بعد كلام موسى عليه الصلاة والسلام، فكيف تقولون أن الأفضلية -الأفصحية- في الآية واقعة بين نبي ونبي؟!
رده:-
وإن كان اصطفاء هارون عليه الصلاة والسلام جاء بعد كلام موسى عليه الصلاة والسلام، إلا أن النبيَّ نبيٌّ، ولو بالمعنى العام للنبوة الخارج عن اشتراط البعث للناس بأمر من الله سبحانه، فالنبي نبيٌ، سواء قبل اصطفائه أو بعد اصطفائه، واقترانه بالعلم والفضل والتسديد الإلهي يحصل بشكل طبيعي ولو بدون اختياره بعنوان النبوة الخاصة، وإلا لو لم يكن هارون عليه الصلاة والسلام حائزاً على هذه الفضائل النبوية قبل اصطفائه؛ لما وجدنا موسى عليه الصلاة والسلام يَسأل الله أن يجعله من الأنبياء بالمعنى الخاص للنبوة، فموسى عليه الصلاة والسلام بلا شك كان يعلم بتوفر فضائل وقيم النبوة في أخيه؛ لذا طلب التنصيب له وتأييده بمقام النبوة الخاصة وبما تعلق بها من كرامات ومعجزات وروابط خاصة مع الوحي الإلهي المختَص، وعلى هذا الأساس جاءت الاستجابة الإلهية القاطعة.
نسألكم الدعاء
السيدأمين السعيدي
11جمادى2 / 1433هـ
—————-
الهوامش:-
1- تفسير الطبري: تفسير سورة القصص، القول في تأويل قوله تعالى {قال رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون}.
2- راجع تفسير القرآن العظيم: تفسير سورة القصص، تفسير قوله تعالى {قال رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون}، وغيره من التفاسير كثير من ذكر ذلك.
3- تفسير فتح القدير: تفسير سورة القصص، من تفسير قوله تعالى {قال رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون}.
للتعلیق أو مطالَعة التعلیقات اضغط هنا