إلى بَنِي الأصفر في أوروبا
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أما بعد..
ليس صحيفة “Charlie hebdo”أعني، ولا أزْمتها وهلوستها الإقطاعية الملحدة معروفة الاتجاهات والاعتداءات والإساءة للأنبياء والأديان لا سيما التوحيدية، فإنّ الذي بِنُكران المعرفة لا يَحترمُ ربه وخالقَه المنعِم عليه بآلاف النِّعَم تَترى، ويزعم جهله بمَبدأ المَصدرية لها؛ ليس بغريبٍ عليه أن يَتهجَّم مستعدياً على الأنبياء ويتحرَّش بمشاعر ملايين الناس، حيناً بعد حين، بِعدَد النِّعَم لإلهية لديه؛ وهو كما ترى صفة اللئيم على أخسِّ درجاتِها وطِباعِها.
إنما خطابي لأبناء أوروبا الأعزاء، لأبناء الفكر والحرية والمثالية؛ فإنَّ الفارق بيننا على (التوحيد) وبينكم أحبتنا ليس بالكبير؛ فما (الثالوث والأقانيم الثلاثة) إلا المنتهَى لوحدةٍ إلهية ولو كيفما اتَّفَق، وما الله (الرب) عندنا إلا ذلك الإله الواحد الذي تعبدونه، ويكفي هذا المشترَك الجامع العظيم أن يكون عضداً مَتيناً للتلاقي والتَّحاب والاحترام والتآخي، ودُونه مبدأُ الإنسانية الواحد والأبُ آدم.
وإنْ لم يكن البحث ولا الكلام هنا حول مناقشة هذه الكُلّية، فإنَّنا إذ نَحترِم كل الأديان والاتجاهات بكافة تعدداتها وتغايراتها بل وحتى تناقضاتها، نخصكم بالذِّكر للأقربية في العقيدة والغاية ونُبْلِ الهدف، و{الأقربون أولى بالمعروف}. والكلام كل الكلام في (الإسلام)، هذا الدين الرائد الذي يَحترم جميع الأعراقِ والشعوب، وكافة الأنبياء والمقدَّسات الزاكيات، سِيّما القديسة العظمى مريم ابنة عمران صلوات الله وسلامه عليها وأنبياء أولي العزم عليهم الصلاة والسلام الذين لهم خصوصية كبرى على النبيين، ومنهم عيسى وموسى عليهما الصلاة والسلام.
إنّ اليهود –إخوتنا- صَلبوا المسيح، والربُّ أنجاه من المِحنة وحَماه، وإلى جوار قُدسِه رَفَعه وكرَّمه وجَلَّله، وسيعودُ يوماً ليحرِّر الأرض مِن رجس الطاغوت، وهو عندهم في التوراة لم يَبْرحوا ينتظرون مَن بَشَّرَهم به الكليم موسى بن عمران عليهما الصلاة والسلام. وإنّ صحيفة “Charlie hebdo”–باتفاق الأحرار المصْلِحين الخُلَّص- تحرِّض على الكراهية وتصادِم لقاء الحضارة والصِّدقِ والحُب، وتسعى جاهدة لصناعة أساطير إجرامية مُسْلِمة الظاهر، تحتوشكم نارها ويلتهمكم ضرامها، من خلال زرعها البغضاء وتوزيعها الاتهامات كيف وأنَّى تشاء وحصدِها الدنانير وتصويرها أربعين بالمائة من مُجْمَل سكان الأرض –المسْلمين- بأنهم إرهابيون، مِنهم من يعيشون بينكم من الغرباء والمهاجرين ومِنهم مَن هم منكم اعتنَقوا دين الله العزيز؛ وليست واللهِ عندنا الصحيفة وعمّالها بشيء، وسيأتي الله بنيانهم من القواعد.
ولستُ أزِيْدُ على قولِ مَن عَلت مَطالبُهم للحكومة الفرنسية الراعية من سياسيين ومثقفين أشراف بالضغط على هذه الزُّمرة الملحدة لِردعِها عن نشر الخزي وأيِّ صوَرٍ مِن شأنها أن تَخدم أهداف الذين يحاولون تشوية صورة المسيح والقديسة والأنبياء والإسلام وتغريب السلام وإشاعة الفوضى والحروب الضروس. والذين كان مِن أبرزِهم –أعني المطالِبين بردع الصحيفة واحترام الإسلام على وجه الخصوص- رئيس الوزراء الفرنسي السابق (دومنيك دوفيلبان) الذي حَمَّلَ الدولة الفرنسية خصوصاً والغرب عموماً المسؤولية الكاملة عن حادثة شارلي ايبدو، حيث كَفَّلَ الغرب المسؤولية عن إنشاء ما وصفه بالإرهاب الإسلامي.فلستُ أزِيْدُ على ذلك، ولكن أحاكيكم عن (الإسلام الحقيقي الصادق) :
فمِمَّ تخافون من الإسلام؟
هل تَعلمون تاريخه؟
أم هل تَعرِفون ثقافته؟
إنّ الإسلام أحبتنا جاء في ظروف الابتزاز والاحتراب والاختطاف والوحشية، جاء بين ذُؤبانِ العرب وأجلافِ الأعراب ومَرَدَةِ أهلِ الكِتاب، لقد أصبحتِ الحياة بغالبها آنذاك قائمة بقوْتِها وكِسْوَتِها على النَّهبِ وقَطْعِ الطّرقات وإفشاء الـمَسْغَبة وهتْكِ الحُرُمات وإحلالِ الربا القاتل وأكلِ مالِ ذي الـمَتْرَبةِ اليتم والمعْوَزِّ الهزيلِ المسكين، حتى جَعلوا مِن شهرِ صفر شهر التَّصَعلُكِ والغَزوة وتفنَّنوا فيه بأشكال السطوِ والسرِقة، والقاعدة سادت: القوي يأكل الضعيف، والصعلوكُ الكبير يَستعبِدُ الصعلوكَ الصغير، وابن قبيلتي على الحق ولو كان ظالماً.
وكانت المرأة بلا قيمةٍ في ظلِّ الحُبِّ لها واستعشاقِها والشَّغَفِ برَيَعانِها وتكوينها والوَلَعِ بجَمالها، وكانت غِيرة العربيِّ الطاغوتية تدعوه لِوَِأْدِ الوليدةِ والطفلةِ في خشنِ الترابِ مِن أجلِ أن يَتجنَّبَ في الكِبَرِ عارَ أَسْرِها واختطافِها، بِلا أنْ يَعي بأنها روحٌ محتَرَمة، تَشعر وتتألم، ولها أُمٌّ خرجَت مِن جوفها بعد اللُّتَيّا والتي، ودون أن يَفْقَه بأنّه شريكٌ حقيقي ومباشِر في انتشار أحوال السلب والاختطاف المأساوية السائدة بين القوميات والقبائل.
وكانت الطبقية بين القبائل هي الحاكم الأوحد، وكان ميزانها منطق الدِّرهمِ والعِرْق.
وكان الناس يعيشون على القذارات، لا يَتنظفون ولا يتلطَّفون ولا يتطهَّرون، وكانوا يَقتاتون القِدَّ ويَحتَسونَ الخبائث، عكَّفاً على نِيران الهوى والأحقادِ والـمَقْت، أذلةً خاسئين، يَعبدون الصنم والوثن والتماثيل، ويخشعون للصَّنم المذكَّر أساف، والصّنم المؤنَّث نائله، كانا لهم عند الصفا والمروة، واللات وثن الصخرة، والعزى صنم قريش، ومَناة صنم الأوس والخزرج ..، ونسر صنم عرب حمير، وصنم العقيقِ الأحمر هُبَل، أعظم أصنام العرب، وغير ذلك الكثير من الرجس كود سواع ويعوق ويغوث ..، وكانوا يسمّون بأسمائها؛ كتيم اللات وعبد اللات وعبد العزى وعبد مناة وزيد مناة ..
فجاء زعيمُ الدِّين، جاء نورُ الإسلام بجَمال محمَّد، بن عبد الله، الذي أساءت له الصحيفة، جاء جمالُه ينير الآفاق وتشْرِق به الأرض وتَصْدَح به تغاريد الطيور وتَفرح به الضعيفة ويَفْزَع له الجائع والعريان ويأوي إليه المنحني الهزيل.
ففي هذه الأحوال السوداء القاسية الظَّلماء، جاءت تهاليلُ نورِه ليحرِّر مساكينه من الظلم والجَور، ويَستَنَّ لهم سُننَ اللهِ بعد أن نسوها وعطَّلوها؛ فأَخرَجَهم من لهيب الوغى، وطَهَّرَ نفوسهم مِن ظُلمَةِ جُبِّ الهوى، حتى تَفَرّى الليلُ عن صُبْحِه، وأَسْفَرَ الحقُ عن مَحْظِهِ، وَنَطَقَ زَعيمُ الدِّين، وَخَرستْ شَقاشقُ الشياطين، وأطاحَ وَشِيظُ النّفاق، وانحَلَّتْ عُقَدُ الكفرِ والشِّـقاق، وفاهَ الجَمعُ بكَلِمةِ التوحيدِ والإخلاص، فحْمَلَهم على السلام، والتآخي والودِّ والوِآم، حتى آخى بينهم خِفيةً وسِرّا، وجَعَل كلَّ واحدٍ يَأخذ بيدِ صاحبٍ علانيةً وجهرا، بروحِ الأخوَّةِ الحقيقية لا بالصحبة، آخى بينهم لا بالأعراق والقومية، فنازَعَ مَنطقَ العشيرة والتَّنسيب، واحتَرمَ المرأة أيّما احترام، وقدَّسَها أيّما تقديس، فكَسَاها، وحَماها، وجَلَّلها، ووَقاها، وشرَّفَها، وجعلها سيَّدةً بين الرِّجال، عزيزةً مصونة، روْحها بروح الذَّكَر، وحِسّها فوق حِسِّه بعد أن لم تكُن بِظِفْرِه أو ما لا تحلّه الحياةُ مِن جَسَدِه، فأمرنا بالرِّفق بها، وضرَبَ للناسِ في القرآن أروعَ الأحوال، والكَلِمِ والأمثال، وصاغ لهم مِن الحديثِ أجملَه، ونعاهم برائعات نساء الأنبياء، وبهاجَر زوجِ إبراهيم ومريم، وسمَّى سورةً بكاملها باسمها، وفاخَرَهم برجال المسيح وحوارييه، وأَجِلَّاء الرهبان والأحبار، وخَطَّ لهم الميزان العادل الذي لا تحكمه العواطف ولا تبدده العواصف ولا يَعلو عليه صوت العِرْقِ الأعمى والتعصبات البَلْها، وهو القائل:
{لا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ ولَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُـقْسِطُوا إلَيْهِمْ إنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُـقْسِطِينَ * إنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وأخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وظاهَرُوا عَلَى إخْرَاجِكُمْ أن تَوَلَّوْهُمْ ومَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمونَ}[الممتحنة: 8-9].
بل أَمَرَنا فقال:
{يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ ولا يَجْرِمَنَّـكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىواتَّقُوا اللهَ إنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ}[المائدة: 8].
ونهى عن الاستعداءِ في الصغيرة، والعَدْوِ في الكبيرة، على الإطلاق؛ فقال في مقولته الشهيرة: (لا ضَرَرَ ولا ضِرار)، التي هي مِن أَجلَى وأَعمِّ القواعد الفقهية التي تَظافرَتْ عليها تأييداتُ العلماءِ كافة، بِلا استثناء، ومِن أَزهى وأَعَز مفاخر هذا الدِّين الحنيف، دُون ازدِراء.
وحَمَلَ الناس على التحرر والخلاص عن العبودية للجبارين والأصنامِ والأوثانِ والتماثيل كما عندكم عقوبتها في كتابكم حسبما ورد –مثلاً- في (سفر التثنية) الرجم حتى الموت، نهياً لليهود والمسيحيين الذين شاعت لديهم العبادة الوثنية. فخاطَب القرآنُ الكريم الناسَ بقوله:
{أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ والعُزَّى * ومَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى * أَلَكُمُ الذَّكَرُ ولَهُ الأُنْثَى * تِلْكَ إذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى * إنْ هِيَ إلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنتُمْ وآبَاؤُكُمْ ما أَنزَلَ اللهُ بِها مِن سُلْطَان}.
وأَمَرَ الناس بالبحث، والمثابرة بالكَشْف، والجولة في الآفاق العُلوية والسُّفلية، والجِد والتعلم والتطور والتقدم بالعلم والـجَدارة، وإعمار الأرض وتزيينها؛ فخرَّج منهم أشاوس المعرفة وكبراء الفتح العلمي أساطين الطبِ والفَلَك وقادة التكنولوجيا ومختلَف العلوم الطبيعية ..، كـ:
الفيلسوف العظيم الكِنْدي يعقوب بن إسحاق، ورائد العلم (المعلِّم الثاني) فارابي، والشيخ الرئيس أبي علي سيناء، والرازي الطبيب، وابن هيثم أبي علي الحسن بن الحسن الموسوعي الفذ الذي قدَّم إسهاماتٍ هائلة وعظيمة في الفيزياء والرياضيات وعلم الفلك والفلسفة العلمية والبصريات والهندسة وطب العيون والإدراك البصري والعديد من العلوم بصفة عامة من خلال استخدامه المنهج العلمي التي خَشع لها العلم الحديث وبنا بيته عليها، والخوارزمي، وابن خلدون، وأبي الصوري، وابن كشكاريا، وابن ستقلاب، والإدريسي، وابن توما، والفرغاني، وابن النصر التكريتي، والشماخي، وابن الرحبي، والأبهري، وابن النفيس، وابن سفر، والبيروني، وابن التلميذ، وابن جلجل، وابن البيطار، والجلدكي، وعباس بن فرناس، وابن المقشر، وأبي كامل الحاسب، والبطروجي، وابن البناء، وابن البطريق، وأبي الرشيد الرازي، وابن سيده، وبني موسى، وابن الخطيب، وأبي معشر البلخي، وابن السراج، وابن ماسويه، وابن المجدي، والطغرائي، وابن الخوام، وابن حيان، والزرقالي، وابن أبي أصيبعة، والمجريطي، وابن سهل، وابن ملكة البغدادي، وابن العطار، وابن الشاطر، والجزري، وغيرهم الكثير من جهابذة المسلمين في الطبيعيات تلامذة القرآن الذي أَمَرَ أبناءَه حثيثاً بالسير في الأرض والاكتشاف وإعمارِها وتَخْلِبتِها بالجَمال والكمال والحفاظِ على ثرواتها الكامنة ومَنابِعِها النابِغة، ورَتِّبَ على ذلك الأجر العظيم والثواب الجزيل؛ فالنَّفعُ والأرضُ للإنسان، والثوابُ والأجرُ للإنسان.
فكل هؤلاء الأساطين هم من تلامذة القرآن، والطليعة الذين نسى أمجادهم المسلمون قبل غيرهم بعدما حاكَهُ الطغاة وحكّام الجور الذين تَعاقَبوا يَجْثمون على أوتادِ هذه الأمةِ المسكينةِ المنكوبة يُغْرقونها في سياسات البطشِ والتخريسِ والمذهبية والعِرْقِ والجغرافيا، والاستعلاء، بالتفريقِ والسيادة والقتلِ والتشريدِ وتهجيرِ العقول والعطايا والاستعطاء وعبادة زُلال النفط وبريقه الموقوت الخادع، وأَرَجعوهم لعصور ما قبل نهضة الجماهير وآونةِ الجهلِ والتخلفِ والاحترابِ والعصبيةِ والنهبِ والسلب، فضاعت بين الشعب الواحد أصالة الشراكة والاحترام والتعايش، وحُدِبَتِ الظهورُ عن أعظم الأوامر وانتُهِكَتْ أعظمُ النواهي في {اعتَصِموا بحَبْلِ اللهِ (جميعا) و(لا تَفَرَّقوا)}، ولا عجب أن تَكون الرعيّةُ سَلّابة قَتَّالة؛ فالناس على منهاج ملوكِهم؛ فإذا فَسدَ الحاكم فسدَتِ الرَّعيَّة، وإذا صَلُحَ صَلُحَتِ الرعية. وإنّا بالله منهم في غوث.
كلُّ هؤلاء دُون علماء المسلمين العظماء الذين تلوهم ممن يعيشون غرباء اليوم بينكم، يُقدِّمون أنفسهم الغالية ويُرْخِصون أوقاتهم الثمينة منصهرين يَفعلون المَعاجز ويَكتشِفون البَواهر ويَخترِعون العجائب، باسمِ بلدانكم.
فانظروا كيف صَنع الإسلام مِن جاهليةِ اللاعصر -التي جاء في ظرفِها- عصراً أشد بالمثاليةِ بهْجة، وأَفْيَضَ بالفضلِ لَهْجة، فاستنرتم بنَميرِ أنوارِه واحتفيتم بأطوارِ أسرارِه، فانطلقتم لصُنعِ الحضارةِ الحادثة. أَفَمِنَ الإسلام ترتابون؟ أَفَمِن عَبثٍ جاء كلُّ هذا النتاج المشرِّف الـمُشْرِق الذي أنتم على درْسِهِ عاكفون لليومِ في كبار جامعاتكم ومشاهير صروحِ الـمَعرفة؟
أَفَهَلَّا لآبائنا معروفٌ واجبٌ لديكم، وللإسلام حقٌ جسيمٌ عليكم؛ فعلامَ هكذا جازَيتُم!
بل ولم يقف الإسلام عند حدِّ الإنسان؛ إذ تَجاوَزه إلى ما سِواه؛ فشَرَّفَ النبات والزرع والطبيعة والحيوانات، بالدرجة التي سمَّى الكثير مِن سوَرِ القرآن بأسمائهم؛ فمنها: سورة الفيل، وسورة الأنعام، وسورة النحل، وسورة النمل، وسورة العنكبوت، وسورة التِّين ..؛ بل وحتى (الرُّوم – أوروبا) أَفرَدَ لهم سورة، وسماها باسمهم بكلِّ حبٍّ وود، وبشَّر الروم المسيح بالنصر والغَلَبة على المجوس في حروبهم الماضية، وامتَدَحَ الصادقين الخُّلَّص من النصارى واليهود وغيْرِهم، فكان مما قال فيهم:
{وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ}[آل عمران: 75]؛ امتدَحَهم بإنصافه؛ بروحه السامية، وصفاء قلبه النقي، وإشراقه الرباني الأَوحَدي، فكل الناس عِيال الله، وليس الله بذي عصبيةٍ ولا أحقاد، كيف! وهل للعنصريةِ واقعٌ بين الخالقِ وأبنائه! فـ{الله الصَّمَد * لَمْ يَلِد ولَمْ يوْلَد}[سورة التوحيد: 2-3].
ولاحظوا بحكمتكم كيف خاطَبَ القرآن الجماهير، وفَـنّيـّته في التعليم ولُطفه في التدريس والتكليم، وعمْقه النظري، وبُعدَه المستقبلي، واختياره لِما فيه بقاءُ دائمةٍ ضرورةٍ، وتَوجُّهَه المستمر نحو الهدف الأصل وهو الهِداية والكمال والسعادة على جميع الأصعدة.
فممَّ تخافون من الإسلام؟
أَمِنْ تجريمه ومقارعته للجبابرة ودعوته للجهاد ضد الطغاة الظالمين؟ أم من مكافحته للربا والسرقة والـمَيْسر؟ أم لتحريمه الخمر والمخدرات والحشيش والزنا ..؟
إنّ الإسلام ليس ديناً توسعياً ولا استيطانياً ولا استعمارياً، ولا دين منازَعاتٍ وحروب، كيف؟! أَما تجودنه اشتقَّ اسمه من السِّلم والسلام شعاراً! وينادي بالرفق وإحلال المحبة والإخاء ابتداراً، وآيات كتابه المجيد تَصْدَح وتتوشَّح بكلمات (الأمن والأمين ..)! إنّ الإسلام أحبتنا دينٌ لا يخوض حرباً، إلا للدفاع، إنه دينٌ على قاعدةِ الحرب: دفاعيٌ، وكل الحروب التي خاضها المسلمون وما يسمى بـ(الفتوحات اللاإسلامية) ليست مِن دَيدَن الإسلام ولا قِـيَمِه في شيء، اجتَهَدَ فيها غيرُ معصومٍ، يقول فيه الناسُ أصابَ أو أخطَأ.
وخير شاهدٍ على ذلك أن القرآن الكريم ونبي الإسلام العظيم –وعليهما القياس والحُجة فقلِّبوهما كيفما شئتم تَعرفون- لم يَخوضا طوال عمره الشريف حرباً هجوميةً واحدة بتاتاً، وكل حروبه كانت مظلومية دفاعية تماماً بجميع معايير الدفاع وفي حدود الضرورة وقمة الرفق. واعلموا: إنّ أشد الأمور حرمة في الإسلام: (الأعراض) و(الدماء).
إنّ الإسلام على قاعدة الحرب: يحارِب الطغاة الاستيطانيين؛ فكيف يَفْعَل مِثْلَهم؟ وإنَّ الإسلام على قاعدة الفكر: يضع براهينه الدامغة الواضحة الهادية السديدة وما لديه للعقول، ويَتَكلم بطلاقةِ الجَوْدة وصدقٍ فاحص وحريةٍ فاخرة، وغايته في كل ذلك صلاح الناس وسعادة البشرية.
والأحرار حاضنةُ الحريةِ والفكر، والإسلام حاضِنةُ الأحرار.
فمِن أيِّ إسلامٍ تخافون!
إذا كان الإسلام –مثلاً- يَمنع من الزنا؛ فهو إنما يَمنع من الممارسات العلنية، لكن لو أراد إنسانان أن يمارِسا الزنا –أعاذنا الله- في نطاقٍ خاصٍ بعيداً عن الأنظار؛ فهما في نظر الإسلام حُران وضررهما عليهما يَبُوران به، وما على الدِّين إلا أن ينصحهما نصيحة الأبِ العطوف ويرشدهما إرشاد الأمِّ الرؤوف ويتم عليهما الحُجة لنفس الغاية الأصيلة المزبورة؛ وهي صلاحهما وصلاح المجتمع وسعادتهما وسعادة الأُمّة، لا غير. فالإسلام لا يَدخل البيوت ولا يضع العيون والجواسيس والعَسَس لهذه الأمور في الأزقةِ الظَّلماء، إنه يَدع الجريرة الفردية الخافية موكولة لمَحْكمة الضمير وحكومة الله الغيبية والأخروية، فهو لا يكشف الأستار ولا يعلن السرائر، كيف! وهو ينهى عن الغِيبة والنميمة ..، كما أنه لا يُرتِّب حدَّ الزنا إلا بأربعة شهود يَرى كلُّهم الفعلة كما عَبَّر (كالميلِ في المِكْحلةِ) اعتناءً وتدبيراً بالقِيَم.
إنّ الذي يعاقِب عليه الإسلام هو الجرائر العلنية والتعديات المرفوعة؛ فإنّ ممارسة الفحشاء علناً والدعوة لها ليس بحرية؛ فالعلن ساحةٌ يَملكها الجميع، فيها الأطفال القاصرون والشيوخ والنساء والزّهّاد والصّعاليك والأوباش والمجرمون والبَطّالون ..
وكذا إذا جاء وليُّ العِرْض ورَفَعَ قضيةَ عِرضِه للقضاء؛ فإنّ الإسلام يَنظر في أمره، ويستقصي له حقّه، ويُلزِم الجاني بالعقوبة إن ثبتت عليه الدعوى.
إنّ الحرية في مَنطق الإسلام تَقف عند حدِّ حريّةِ الآخر.
وإنّ الإسلام إخوتنا دينُ اعتقاد، بالدرجة التي يَعْتبِر فيها أنّ عمل الإنسان بغير ما يَعتقِد ليس بصحيح، ويحكم عليه بالبطلان وعدم القَبول؛ فمثلاً لو قام المسيحي وصلى صلاة المسْلِم بدل صلاته، وكان يَعتقِد بأنّ صلاة المسْلم باطلة وأن صلاته بالصورة المسيحية هي الصحيحة المطلوبة المشروعة؛ فإنّ الإسلام يَحكم على صلاته الإسلامية بأنها باطلة حتى لو كانت هي الصحيحة المطلوبة في علم الله تعالى، فالإسلام يقول له: أيها المسيحي، عليك أن تصلي صلاتك المسيحية التي تَعتقِد صحتها ومشروعيتها لا أن تصلي الصلاة التي تعتقِد بطلانها. فالإسلام إخواننا دينُ اعتقادٍ وقَناعات.
فأيُّ إسلامٍ ذاك الذي تخشونه!
ألستم تَبغضون الطغاة؟
ألستم تَجْفونَ الجُناة؟
ألستم تعاقبون السارق الذي يسرق أموال الناس وحقوق الفقراء والضعفاء بالباطل ويغري الناس بالخديعة؟ إنّ الربا الذي يحرمه الإسلام هو ذاك الربا الذي يَتقمَّص ثوب السرقة والاختلاس، ويَستغل حاجة الضعفاء. أليس هذا هو العدل والحق!
ثمَّ؛ عندما يقول الإسلام للمرأة عفّي وتَعفَّفي؛ فهو إنما يريد حماية عزتِها وشرفِها مِن نَزْوةِ الرجل وشهواته الطاغية واستعباده لها، ويحصِّن فرْجها عن التجارة فيقيّمها قيمتها الإنسانية، ويحرسها عن الأمراضِ القاتلة والأوبئةِ الفاتكة، فهو يَستهدِف صيانتها عن الاستغلال، ويملأ نفسها وغرائزها بالسُّبُل السليمة التي تحقِّق لها السَّعْدَ والنقاء.
وأما الخمر؛ فأنتم بالتي فيه مِن الـمَعائبِ أَدرَى؛ إذ بِتُّم بعد هذه السنين الطويلة أَخبَر وأَعرَف بمخاطره على صحة الإنسان وحَشاشتِه، ومِثله المخدرات والحشيش ..
أَفَمِنَ الإسلام تَخافون!
ما لكم لا تُنصِفون! أَم الحق استخفى به عنكم الذين ظلموا أنفسهم وإياكم؟
هذا دِينُ الصّحّة، دِينُ الطُّهرِ والنظافة، دينُ التكافلِ والإيثار؛ فقد جاء وعَلَّمَ الناس الطهارة وأَمَرَهم بالزكاة للفقراء وحَثَّهم على الماعُونِ والصَّدَقة، وزَرَعَ فيهم التُّؤدَد بعد أن كانوا لا يتنظفون ولا يتقاربون بالودِّ ولا يَتآثرون.
ومحمدٌ، كان أباً حقيقياً، لقد كان كريماً، بكل معنى الكلمة، رؤوفاً، عطوفاً، صبوراً، رحيماً، بكل معنى الكلمة، وكان قائداً فذاً، بكل معنى الكلمة، ورِيادياً خَلَّاقاً، لا يُفَرِّق بين الناس بالمَظهر واللون؛ فكل الناس لديهِ سواسية لأنهم كلهم أبناء الله وهو نبيٌ لله لا مَلِكٌ كالملوك، ولا مِن الهُواة، وهو القائل:
(لا فَرْقَ بين عربيٍّ ولا عجميٍّ –أفريقيٍّ أو آسيويٍّ أو روميٍّ أو غربيٍّ- ولا –أمريكيٍّ- أَبيض ولا أسوَد إلا بالتقوى)، وقد أكَّد ذلك غير مرة، فقال:
(إنَّ اللهَ لا يَنظُرُ إلى صُوَرِكُمْ وأموالِكُمْ ولكن يَنظُرُ إلى قُلُوبِكُمْ وأعمالِكُمْ)، وقال بخطبةٍ في وَسَطِ أيامِ التَّشْرِيق:
(يا أيُّها الناسُ، ألا إنَّ ربَّكُمْ واحدٌ، وإنَّ أباكُمْ واحدٌ، ألا لا فَضْلَ لعربيٍّ على أعجميٍّ ولا لعَجَميٍّ على عربيٍّ، ولا لأحمَرَ على أسوَدَ ولا أسوَدَ على أحمَرَ إلا بالتقوَى، أَبَلَّغْتُ؟) أجابَ القوم الذين حوله: بَلَّغَ رَسُولُ اللهِ.
وقد رَحَلَ هذا الرجل العظيم ولم يسجِّل التاريخ في عهده ولو مجرَّدَ سجينٍ سياسيٍّ واحد؛ ففي عهد نبي الإسلام الأعظم الذي اعتدت عليه الصحيفة، لم يكن هناك سجيناً سياسياً واحداً، فعهده الذي استغرق ٢٣ سنة كان عهد ديمقراطيةٍ بحق، وإننا نتحدى أن يدعي أحدٌ بأن عهده الممتد لثلاثة وعشرين عاماً قد سُجن فيه سجينٌ سياسيٌّ واحد، مع أنّ الآلام التي تكبَّدَها هو وأسرته وأتباعه وأحبته في مكة والطائف والمدينة .. كانت جليلة ومُبكية بالحَدِّ الذي قال فيه: (ما أُوذيَ نبيٌّ كما أُوذيت)!
فكل هذه الآلام والمِحَن كانت كفيلة بترويضِ قلبِ أيِّ إنسانٍ عاديٍّ على الأحقاد والضغائن فيما لو وَقَعَت عليه. ورغم أنّ أعداءه من العرب واليهود وغيرهم كانوا كثرة، وما كانوا بخارجين عن قبضته، لكننا نجده مع ذلك عجيب الطبع غريب المنطق في الصَّفح، رفيعاً سموحاً، رفيقاً رقيقاً، بقلبه تَتماوج أسارير العطف وتتلاطم تباشير بحور النجاة، والسعادة، فقد أَطْلَقَ الأسرى في أشد معاركه الدفاعية التي فرَضها عليه الظالمون، وكان من بينهم أشد وأغلظ أعدائه السياسيين وأعند المشاغبين حوله؛ كأبي سفيان وغيره، لكنه مع ذلك أَطْلَقَ سراحهم، بل وأعطاهم الأموال ولَطَّفَ قلوبه للتعايش مع المسلمين والانخراط في المجتمع الأنبيائي الجديد المفعَم بالروحانية والدعاء والعمل والعطاء، وأَمَرَ أصحابه وجميع المسلمين بعدم التعرض لأحدٍ منهم، رغم أنهم كانوا من كبار قادة الحروب ضده ورغم سيطرته على الأوضاع وهو قائدٌ إلهيٌّ صاحب قوَّةٍ ونفوذٍ ومنزلة.
ولم يقف عند هذا الحد، بل كان أَمَرَ وصيَّه وأَخاه باتِّباع نهجِه وحْدَه وسيرة الوحي والقرآن؛ فلم يَشهد عهد وصيه أي سجينٍ من هذا القبيل، كما كان أَمَرَه أن يخرج السجناء الذين ثبتت بحقهم جنايات في حقوق الآخرين، أَمَرَه أن يخرجهم بين كلِّ حينٍ إلى السوق يتبضعون بإنسانيةٍ كبقية الناس يَضْمَن لهم كرامة العيش على أنّ السجن تهذيبٌ وتزكية لا تعذيبٌ وتصفية. وقد مرَّ يوماً برجلٍ كهلٍ طاعنٍ في السِّن، فرآه أَشعَثَ أَغْبَر على قارعة الطريق لا أحد يناله باهتمامِ الرِّعاية، وكان الرجل مسيحياً، وكان سلَفاً يَعمل عند بعض التجار؛ فغضِبَ ونادى في الناس بما مضمونه: أَبَعْدَ أن استعملتموه وبارت قواه ألقيتموه لا وِدَّ لكم به؟!
ثم طَيَّبَ حال الرجلِ وواساه، في سابقةٍ منه لتأسيس ما يسمى في عصر اليوم بحقوق التقاعد، دون فارقٍ بين مسلمٍ وغيره. والإسلام يرى أن كل متقاعدٍ هو صاحب حقٍّ في مال الدولة وبيت مال المسْلمين؛ لأنه دِينُ تكافلٍ ورحمة.
وكان نبي الإسلام صاغ أسمى القوانين العالية في القضاء، وجَعَل فيه البَيِّنة، واليمينَ بعد البيِّنةِ إنْ لم تَكُن، ومَنَعَ التعذيب بغاية الاستجواب والاستنطاق، وجَعَل العقوبة على الجريرة علنية بعد التعليم وبيان الحد والتحذير، فهو دينُ احترازٍ يَتَوخَّ التجاوز والوقاية عن أكبر قدرٍ ممكنٍ من الحوادث والجرائم قبل وقوعها، ثم النَّفاد من العقوبات قدر ما أَمْكَن.
وفي المقابِل، إذا طالعْنا حال الدُّول اليوم؛ فإننا نجد سجونها تَضِيقُ بالمظلومين فضلاً عن غيرِهم، ولا يكاد يَسْلَم السياسي من التعذيب والتعديات، ونجد فيها فنون وصنوف التعذيب بأبشع ما يكون من التفنن بالإنسان ومشاعره وأحاسيسه، والسبب في ذلك سَير حكّام الجور على قاعدة (فَرِّق تَسُد) التي سرعان ما تتشكَّل بسُـنَّـتِها الفِرَق والخلافات، فتنقلب على الحاكم بالمناوِئين، فتستفيض بهم سجونُ دكتاتوريته. كما نرى كيف يَقتل الحكام آلاف الأطفال لأتفه الأسباب التي هي أكثر ما تكون اجترَحَها الكبار، فما ذنْبُ الشيوخ والنساء والصغار؟!
لقد كان محمدٌ يَتبايَع مع الآخرين؛ يشتري منهم، يهودٍ أو غيرهم، وكان جاره يهودياً، وكان حَمَى جماعة اليهود في ظَهر المدينة زمناً، لولا أنهم غَدَروا ونَكثوا واعتدوا وأَلَّبُوا ونصروا عليه الأحزاب وقتلوا الصِّبية والنساء والرجال!
ورَحَل هذا النبي العظيم وليس في رصيده الدنانير والدراهم والمليارات، وكان لو أراد قصراً من الذهب والحلي المَطلية والجواهر المسبوكة لَبُنيَ له حُبّاً وكرامة، فبيته لازال في المدينة تَرونه تحت الأنقاض بضعة أمتارٍ ضيّقةٍ إذ كان كل هَمِّه الفقراء والضعفاء والجوعى، وحتى (فَدَك) التي أَقْطَعها ابنته فاطمة كان قد أَقطَعها وملَّكها إياها في حياته ولم يورِّثها توريثاً، وكانت تنفِق بها على المحتاجين، وكانت أرضاً في صحراء خارج المدينة على أطرافها البعيدة، ولم يكن مَلَكها هو قبلها بمالٍ منه، وهي ميراثنا مِن أُمِّنا لم تَجد هي منه شيئاً بعد جَدِّنا ولا نحن إلى حيننا هذا.
واستشهد ودرعه مرهونة عند يهوديٍّ اشترى منه ثلاثين صاعَ شعيرٍ ارتَهنَ بها درعه عنده، والكل يعرف بأنّ العربي لا يَرهن درعه الذي يَحتمي به إلا لاضطرارٍ ماس وحاجةٍ قاسِرة.
أحبتنا، خذوا الإسلام من (معادنه الحقيقية الصحيحة)، لا من الكتب الموبوءة المتعاقبة بالجور والتشويه، ولا ممن لا معرفة له به؛ ففاقد المعرفة لا يُعطيها، ولا يخدعنكم مَظاهرُ الإجرام التي تَستهوي إبعادكم عمّا فيه سعدكم، فليس هذا كلام الداعي لاعتناق، فإنْ تعتنقوه فتلك السعادة والله، وإنْ لا تعتنقوه فاقرؤوه باستهداءٍ وإنصافٍ وحريةِ الكريم اللبيب، ثم لا تحاربوه وأهله.
إنّ الإسلام يا إخوان مظلومٌ على مرِّ تاريخه، فلا تَعتزِموا عليه بما يُرْدِيكم.
وإنّ أَتْباع الإسلام يشَكِّلون ثلث البشرية على ساحة الأرض؛ أفلا يستحق مليار ونصف نسَمة إشمالهم بمعايير الاحترام والتقدير!
هل من الإنصاف أن يَتم تمثيل الإسلام وجميع أهلِه بجماعة شاذة مارقة أَنجبَها التحريض والتفريط وسَقَى شجرةَ زَقّومها الفقر والطمع والجهل والعَماء؟ أَفَهل من الإنصاف أن نُوْعِزَ إليكم بالمِثْل، ونقول كلكم –مثلاً- صهاينة ومجرمون وقَتلَة أطفال وإرهابيون على نَسَقِ أنّ جماعة من اليهود جاؤوا من أوروبا وأنّ أوتادهم منكم!
هاهم حكامكم قتلوا منا ما لا يحصى عدده، وبلداننا مليئة بسببهم بآلاف الأرامل والأيتام والمعاقين، وهاهي قواعدكم تَنتشر في ديارنا، ففي منطقتي -مثلاً- توجد أكبر قاعدة، كلما رأيتها شعرت بوجودِ حربٍ طاحنةٍ تقتَرِب، يُباد بها ما تَبَقَّى مما يُحْصَدُ ولا يُحْصَد، فنحن هنا نعيش على ذكريات الحرب ونعيش على مَناظر الحرب ومعطيات الحرب ومَظاهر الحرب، وأنا الذي لا أَفقَهُ شيئاً من حقي كمواطن أن أَشعر وأحس وأتفاعل مع شعوري وأحاسيسي، ومثلي ملايين من المواطنين؛ وأنتم كذلك لو كانت لنا قواعد في بلدانكم لَما راقت لكم، لكننا مع ذلك لا نَستوعبكم بالحُكم جميعاً بأنكم إرهابيون واستعماريون وقطّاع طرق وسرَّاق حتى لو كانت ثروات بلداننا تُصرَفَ على مصالحكم وتَنامي حضارتكم الواعدة.
أفي هذا الحق استعداءٌ عليكم ولا نَصَف؟
أَعندما نَمنع أبناءنا –مثلاً- عن الذهاب إلى بلدانكم نكون بذلك أهل تَزَمُّتٍ وضَلالٍ وبلا فكر وبلا تعايش ..؟
أنتم –مثلاً- تَطردون أبناءنا من جامعاتكم بأسباب غير منطقية وغير مبرَّرة، منها عنصرية ومنها غير ذلك، فتُضِيْعون أعمارهم الغالية وزهرة شبابهم والأموال التي تَحمَّلَها تُراث الدولة بالنفقة عليهم، بأهون ما يكون (أَكَلْتُم تَمري وهَتكْتُم عُمري)، كما تقنِّنون قوانين عزوفية متشددة تخالِف أبسط شعائر الحرية والتعايش والاحترام؛ فمثلاً (فرنسا) تَمنع رسمياً نساءها المسلمات والنساء الوافدات مِن ارتداء الحجاب، كما أنّكم تجيزون الإباحية أمام الأطفال والقُصَّر وفي الطرقات العامة التي هي مِلْكُ الجميع، وتجيزون اللواط والمِثْلية، وتروِّجون نكاح المحارم بين الابن وأُمِّه وأخته والأب وابنته وولده ..، وعندكم في بلدانكم جرائم خطيرة وكبيرة؛ كالاغتصاب والاختطاف وسرقات العصابات المسلَّحة ..، وعندما وقعتْ أحداث (الحادي عشر/سبتمبر) عانى أبناؤنا وأبناؤكم المسلمون أَمَرَّ الويلات..
فهل هناك شريعةٌ أو نبيٌّ من الأنبياء يجيز اللواط، أو النكاح بين الابن وأُمِّه؟
ألم تكن مريم القديسة محجَّبة؟ ألم تكن نساء الأنبياء محجبات؟ ألم يَمنع العقل والأنبياء من ممارسة النكاح الهَتْكي ..؟
إنَّ كتابكم المقدَّس في العهدين -القديم والجديد- يحذِّر تحذيراً صريحاً وشديداً من الشهوات الشريرة والهوس الجنسي القائم على أُسُس إفراطية عمياء.
وها أنتم تستقبلون في محافلكم الرسمية كبار مجرمي وإرهابيي العالم، الذين قَتلوا الشيوخ والأطفال والنساء وهدموا دُورنا وسرقوا أراضينا وبيوتنا في فلسطين ولبنان ..، تَستقبلون في محافلكم الرسمية كبار المجرمين الذين هم في معتقَدكم صَلَبوا السيد الأَجلّ روح الله المسيح عليه أفضل الصلاة والسلام، واستهزَؤوا بالقديسة العذراء أمِّ المسيح مريم صلوات الله وسلامه عليها وآذوا قلبها وتعدَّوا عليها أكثر من مرة برسومات كاريكاتورية تَبعث على الحياء، وليس من مروءتي توصيفها المُخْجِل، فوالله أَستحي مِن قلمي عن ذلك وكفى.
واسألوا اليهود ماذا لو جاء نفْس المسيح الذي صلبوه، وعادت مريم نفسها التي آذوها واتهَموها؟ هل سيسْعَون لإيذائهما والنيل منهما كما فعلوا أوَّل مرةٍ أم لا؟ لا نَشكّ ولا تشكّون بذلك، إيه والله؛ وخير الشواهد التصاوير الاستعدائية المَقيتة التي ينشرونها في صحفهم ومجلاتهم المخزية حيناً بعد حين.
أفهل يليق بكم ذلك؟ أم هل يلق بكم أن تَسْكتوا وتَسْكنوا؟
هل يسر قلب السيد المسيح عليه أفضل الصلاة والسلام؟
فلو أنّ أَحداً منا، مهما كانت درجته، اعتدى أحدٌ على أبيه بالقتل والصَّلب دون حق أو اعتدى على أمِّه بالتهمة والعار بهتاناً وزوراً، أو كاد لها يَتَربَّص لا ينكفئ عن العدوان إليها؛ لانتَفَضَ بجميع أَنحاءِ شعورِه لا يبالي بالحياة بقي أَم مات في سبيل أداء حقِّ أبيه والدفاع عن عرْضِ وشرفِ أمِّه، فكيف إذا كان المعتدى عليه مَن درجتُه في وجْدانِ القلب لا تساوى بالدرجات! فليس قدر السيد المسيح صلوات الله وسلامه عليه في قلوبكم بالهيِّن ولا بالقليل؛ فكيف تقبلون احتضان أعدائه وإشهارهم وتشريفهم وتجليلهم في محافلكم المسؤولة!
لا بأس؛ تمارسون كل هذه الأفعال باسمِ الحرية، ونَعْرِف ليس كلكم يَقبل بذلك؛ فمنكم مؤمنون وأصحاب منطقٍ عادلٍ وعفةٍ ومبادئ وقِيَم، لكنّ ذا شائعٌ في بلدانكم، وليس مِن صِنفِ النوادر، فكما لكم الحرية فيما ترتَؤون كذلك لنا الحرية في أن نحذِّر أبناءنا وأبناءكم بحبِّ الوِداد عن المضار والآفات والمخاطر؛ فهذا لا يخالِف الحرية التي هي أملُ الكل ونشيدُ الجميع، ولا يزعزِع الشراكة وقِيَم الإنسانية التي نَتحد فيها كافة كبشريٍّ نتوارث الأرض التي عنها جميعاً كأسلافِنا سنَرحل ثم تتوسَّد أجسادنا ترابها وتلتهمنا ديدانُ حفَرِها وقبورِها ومقابرِها راحلة أرواحنا جميعاً لـمَحْضَرِ الحساب والعتاب الذي أَنكَرَهُ فكرُ اللهوِ والإلحاد.
نهايةً، إنّ الإسلام إخوتنا ينادي باسم البشرية جمعاء، دون استثناء، بما فيهم نحن وأنتم، فليس على هذا الدِّين الحنيف صك مِلكية لفئة ولا لطائفة ولا لقومية خاصة ولا تحكمه الجغرافيا ولا تحدّه الأعراق والأعراف، ولا يستطيع أحد ادعاء الإسلام لنفسه وحده، وهو القائل:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً}؛ ما قال يأيها العرب، ولا أيتها الفئة والقومية الفلانية خاصة. وقال:
{وما أَرْسَلْنَاكَ إلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً ونَذِيراً ولَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}؛ ما قال أرسلناك لبعض الناس، فـ(كافة) كلمة تدل على الشمول والاستغراق الكامل. وقال:
{قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ}؛ لم يقل ذكرى لهذه القبيلة أو تلك ولا لهذا العِرْقِ أو ذاك. وقال:
{وأُوحِيَ إلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ ومَنْ بَلَغَ}؛ ومعلومٌ أن كلمة (ومَن بَلَغ) كلمة فضفاضة عامة لا يحدها حدٌ ولا رسْم.وقال:
{كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّور بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إلَى صِرَاطِ العَزِيزِ الحَمِيدِ}، وقال: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} ..
فهو دِينٌ للجميع. فإذا فَرضنا أننا نحن لم نَفهمه أو تَجاوَزناه؛ فذراعيه مفتوحةٌ لكم.
أنتم، أيها السَّبَّاقون، تسابَقوا للخيرات، تَدَبَّروه وافقَهوه تُفْلِحوا وتقودوا به الأُمم. لكن لا تأتونا بإسلامٍ كذاك الذي صنعَتْه الصّحف، قديمها وحادثها، ولا الذي صنعه الطغاة الغربيون والشرقيون وأحلافهم الغزاة.
إنَّ استغراق اسم محمدٍّ في الجيل البريطاني الجديد، وتسمية شريحة واسعة من الشعب البريطاني أبناءهم الجدد باسمه، ونَيله المرتبة الأولى بيْن أسماء الصغار والأطفال الحادثِين، لَهُوَ مِن أعظم العلائم على سلامة الإسلام وبريقِ شمسِه ولَمعانِ مَفاتِنِه الربانية الجميلة وسطوعِ نورِه.
إنّ الشعوب باتت أعطَش للإيمان وامتلاء الروح ورفاهيتها الروحانية أكثر منها للتكنولوجيا وامتلاء الجسد، سيما وأنّ قواعد التكنولوجيات باتت واضحة لدى العقول البشرية. وإنَّ تَهافُت أحرار الفرنسيين الأعزاء على المصاحف ونفاد نسَخِ القرآن من أكابر مكتبات فرنسا في غضون أسبوعين اثنين فقط وعلى رأسها مكتبة (La procure/ لا بروكور) الكبرى المعروفة بتصريحها لإذاعة فرنسا الثقافية بعد اعتداءات شاري ايبدو على نبي الإسلام، لَهُوَ من أعاظم المؤشرات الصادقة على ما نقول، فهذه الأحداث الطيبة الجليلة هي من إشراقات الإسلام الحنيف، ومِثلها:
قيام إدارة (فيسبوك) بحظر الوصول إلى مجموعة من الصفحات على برنامجها الشهير كانت تحوي عبارات وصور مسيئة لنبينا المظلوم، رسول الله محمد، وكذا تَراجُع شبكة ستيماتسكي الإسرائيلية راغمة عن بيع عددٍ من صحيفة شاري كان يَتضمَّن رسوماً مسيئة لنبي الله محمد.
فرغم أنّ أغلب حكّام العرب والمسلمين صمتوا عما نال نبيهم المظلوم مِن الاستهتار والعُدوان، وانشغالهم بعروشهم القائمة باسم الإسلام، ورغم أنّ بعض أصحاب الهِمَم الضعيفة الرخيصة حَملوا بعض مَن حولِهم من المسلمين على الصمت بدعوى أنّ الصمت أَخْيَر وبدعوى عناوين خاوية أخرى، مع أنّ النبي لو طاله الأذى وهو بيننا لَما حَقَّ السكوت والسكون، وهو حيٌّ إلى يومه هذا وغَدِه إلى يوم القيامة، كيف لا! وهو الشهيد على هذه الأُمّة، {ولاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ} ، {ولا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا ءَاتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ ويَسْتَبْشِرُونَ بالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ}، وهو عليه صلوات الله وسلام الأولين والآخرين أشرف الأحياء الراحلين، فرغم كل الصمت والتَّخَرُّصات إلا أنّ الإسلام غدا يتلألأ وأبى إلا أن يَتلألأ.
إنَّ اعتداءات شاري ايبدو لا تضر الإسلام شيئاً، بل هي في صميم الصالح له، ولكنّ الصحيفة تَجرح مشاعر الملايين.
وإنّ الـ(فارقليط) المبشَّر به عندكم في كتابكم القديس، هو باتفاق جميع القواعد العلمية، ليس إلا محمد بن عبد الله بن عبد المطَّلِب الهاشمي القرَشي. لقد تأخرتم أيها الأحبة عن نبيكم محمدٍ ركعات، وزَواكم عنه الظالمون خطوات وأَشْواطا، أَفَهَل ما آنَ لكم أن تَلحَقوا بالرَّكب الإلهي والنور الأحمدي؟
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أمين السعيدي
الجزيرة العربية – 24ربيع الأول1436هـ الموافق 15/1/2015
للتعلیق أو مطالَعة التعلیقات اضغط هنا