حوار: السيدأمين السعيدي يروي حادثة منى1436هـ (الجزء 2 /2)
لقاء حواري مع سماحته
أجراه وفرَّغَه ونقله للكتابة: أبو منصور الحافظ.
الجزء الثاني:-
● مدخل وتقديم:
تقدَّم في الجزء الأول الكلام مع سماحة السيد أمين السعيدي حول أحداث منى لحج سنة 1436هـ، وقد ذكر سماحته خلال ذلك هيكلية الحج وما جرى من أحداث وعِللها، كما جاد بقريحته المباركة بمجموعة قصص واقعية شيقة مليئة بالقيم والمواعظ النيرة …
والآن نكمل لكم نقل بقية اللقاء الحواري المنعقد مع سماحته في جزئه الثاني؛ حيث كان كما يلي:
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على النبي المصطفى وآله الطيبين الطاهرين، وبعد..
نرحب بكم سماحة السيد أمين حبيب السعيدي مجدداً في الجزء الثاني والأخير من حوارنا مع جنابكم الكريم حول أحداث طريق الجمرات ما بعد مزدلفة على خط منى، ونشكر لكم الاستجابة الكريمة والتلبية السخية لعقد الجزء الثاني من هذا اللقاء المبارك.
● ونبدؤه بالسؤال حول ما هي سبل علاج الخلل في نظركم، سواء الشرعية أو التطويرية؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، العفو ولكم الشكر الخالص على مجهودكم النبيل وعطائكم الطيب، آملاً لكم التوفيق الدائم وعمل المخْلِصين وثواب العاملين ومآل الأبرار المتقين الأخيار المقرَّبين.
الحق أنه سؤالٌ مهمٌ جدير بأن يطرحه العقلاء وذوو الهِمم العالية والحس الوطني الصادق والديني الواعي، وأنا العبد الفقير القاصر الحقير لن أتكلم هنا عن سُبُل العلاج على صعيد ما حصل في حادثة منى وما يتوجب فعله لتَدارك هذا الحدث ومسلتزماته، سواء بحق الضحايا أو بحق غيرهم؛ فتشخيص هذه القضية يعود لولي الأمر خادم الحرمين الشريفين والمسؤولين الأفاضل، ونأمل أن يكون المسؤولون في ذلك على حزم جاد ومبادرة متسارعة ونبراساً مشرِّفاً لأنفسهم وللدين والوطن والمسؤوليات الإلهية الجليلة التي تحت أيديهم، ولكن سأكتفي بالحديث عن الجنبة الأخرى، وهي سُبُل تطوير الحج وتطوير مكة ككل، وسأبدأ من أول مراحل الحج وهي الميقات إلى آخر مراحل الحج وهي النفرة من منى، وذلك بالوقوف بصدق وإخلاص على جهات النقص وموارد الخلل ونقاط الضعف، واقتراح ما من شأنه إصلاحها وتقويتها كمبادرة وجيزة متواضعة وقاصرة أداءً للواجب والوظيفة الشرعية والوطنية والإنسانية من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الواجب للمولى المَلِك الخالق على الخلق وبناء الوطن وخدمة المسلمين والإنسان وعملاً بقوله صلى الله عليه وآله:
مَن لم يَنصح أخاه فهو ملعون. وقوله صلى الله عليه وآله: مَن لم يَهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم. تاركاً لذوي الشأن التشخيص بما يُتَّخذ من الأمور التقدمية على هذا المنحى، ومنوِّهاً إلى حقيقة أن كل عملٍ يَصدر من الإنسان لا شك هو ناقص تبعاً لنقص الإنسان نفسه ومحدوديته وتَغاير إراداته وغاياته، إلا أنّ التكميل والتصحيح والتقدم المتاح هو أمرٌ لازمٌ وضروري لا يزهد فيه العقلاء، والصلحاء لا ريب ضالتهم أداء المسؤوليات والتكاليف الواجبات على أتم ما يكون، وهذا لا يَحصل إلا بعزم الهمم على معرفة نقاط الخلل والإفادة من مختلف الوجهات الوطنية الصادقة الممارِسة وغيرها؛ فالحكمة ضالة المؤمن، والغرض البناء والرقي والإصلاح والتقدم.
● حسناً سيدنا الفاضل؛ نبدأ من الخلل في المواقيت.
أما بما يتعلق بالمواقيت؛ فهي أولاً تحتاج لصيانة وتطوير وتأهيل، سيما في دوراتها ومرافقها الصحية وتوفُّر جهات إسعاف وطوارئ بها بالقدر الذي يكون كافياً للاستعداد السريع لمواجهة أي حدث مفاجئ.
وكذا الحال بالنسبة لمَداخل مكة، حيث تحتاج بعض شوارع الدخول للتوسعة لاستيعاب الازدحام قدر الإمكان، وفي الحقيقة إنصافاً هنالك مجموعة طُرُقات ومداخل لمكة واسعة وجيدة تشكر الدولة على مجهودها الكبير فيها، ولكن بعض المداخل لا يستغني عن توسُّع، بالأخص الفروع، سيما وأن الحج أيامه معدودة ولحظاته ضيّقة محسوبة على الحاج بما لكل لحظة فيه من الأعمال التي يتوجب على الحاج أن يمتثلها ليأتِ بفريضة الحج سليمة وصحيحة بأقل كلفة وأقل كفارات، وإلا فإن بعض الحجاج قد لا يَعود إلا بعد أن يحتمل على نفسه خمس إلى سبع كفارات وقد البعض أكثر، بل البعض يضطر في السنة اللاحقة لإعادة حجه أو يضطر للاستنابة حسبما تقتضيه الوظيفة التكليفية الشرعية.
وكذا ينبغي بعد منافذ مكة ودخولها وضع مناطق مجهَّزة للحجاج الذين وظيفتهم الإحرام من الداخل عند حدودها الداخلية بعد عبورها؛ إذ هنالك من الحجاج مَن وظيفتهم الشرعية تقتضي ذلك؛ فهنا أتحدث عن حدود مكة الداخلية بعد منافذ الدخول وليس عن داخل مكة.
● تقصدون بعد نقاط التفتيش والرقابة؟
نعم، هو كذلك كما تفضلتم.
مناطق مؤهلة ومجهزة للحجاج بعد منافذ مكة، وتكون بعد المنافذ وقريبة لها، وبشكل لا يشكِّل زحاماً في المنافذ أو ذات المنطقة المأمولة؛ لتكون حركة السير انسيابية وليتمكن الحاج من أداء وظيفته الشرعية بدلاً من أن يحرم وهو في السيارة أو يحرم وهو على قارعة الطريق وما شاكل، علماً أن وظيفة الحاج هنا ستكون سريعة لن تستغرق منه كثيراً من الوقت.
● وماذا سماحة السيد عن الحرم؟
قبل الحرم المعظَّم قدَّس الله قدره ومقداره؛ ينبغي أن نتحدَّث عن مساكن مكة، حيث الغلاء الفاحش جداً في الفنادق القريبة من الحرم بل جميع المنطقة المحاذية والمحيطة بالحرم من جميع جهاته بما يصل إلى كيلو مترات طولاً وعرضاً بما لا يطاق من الغلاء الفاحش! بدرجة تصل فيها الأسعار إلى مبالغ خيالية لا يمكن في موسم الحج حتى مجرَّد تَصوُّرها، وهنا يأتي دور الجهة الرسمية بفرض أسعار معينة على أصحاب الفنادق والتجار أو الدعم؛ فالحج فريضة لله تعالى ويجب أن لا تُجَيَّر لصالح التجارة بهذه الصورة الفادحة في ظل الإقرار أيضاً بحق التاجر بأن ينتفع من خيرات موسم الحج ومكاسبه المادية التي وفرها الله تعالى بلطفه وكرمه لعباده؛ حيث أن الحج موسم عبادة وموسم تجارة ومحطة للتزود الأخروي والدنيوي، ودين الإسلام دين عبادة واقتصاد ورفاه ومنافعه للجميع وقد ملأه الله تعالى بالخيرات على جميع الأصعدة، ويكفي دليلاً على ذلك في خصوص الحج قوله تعالى على لسان نبيه إبراهيم عليه الصلاة والسلام:
{فاجعلْ أفئِدةً مِن الناسِ تَهْوي إليهِمْ وارزُقْهُم مِنَ الثَّمَراتِ لَعلَّهُمْ يَشكُرون}؛ فتذييله الآية الكريمة بقوله صلوات الله وسلامه عليه وارزقهم من الثمرات لَهُوَ مؤشرٌ إلهي يَطْفح بهذه الحقيقة العظمى في هذا الدين الحنيف العظيم الرائد.
ولكن هذا لا يعني تفويق الجانب الدنيوي والتجاري والاقتصادي على الجانب العبادي؛ فذاك أقصى ما يكون –في صورته الأولية- مباحاً مع مطلوبيته وأهميته، بينما الجانب العبادي واجب وهو المحْوَر في ذات الحج وطبيعته، وليس من الصحيح تقديم ذاك على صالح هذا الجانب الأصيل، ولا تصعيد ذاك الجانب الدنيوي الفاني الوسيلة على ظهر هذا التربوي والأخروي الدائم الغاية واستغلاله من أجله وترويضه له؛ إذ ليس من الصحيح إتيان مثل هذا الفعل بإلجاء الحجاج للسكن في مناطق نائية بعيدة جداً عن الحرم بمسافات كبيرة جداً تعيقه وتَحرمه عن كثير من منافع الحج وبركاته الإلهية وفيوضاته الروحانية الربانية.
بل أقول في هذا الصدد بأن لجوء الحجاج للسكن في المناطق النائية –في الواقع- يعود سلباً على اقتصاد التجار والبلد أيضاً، سيما الاقتصاد المتنوع والاقتصاد السلعي والاقتصاد الفردي للتجار الصغار ويحتكر ذلك للتجار الكبار، والحال أن مضاعفة دخل التاجر الصغير هو الذي ينعش البلد اقتصادياً لا ما يَحصل؛ ذلك لأن دخل واقتصاد الأفراد والتجار الصغار ينعش ويطور الحركة الاقتصادية من خلال انتعاش الحَواري الفردية المَوقعية على ساحة التبادل والبيع والشراء التحتية المباشرة، كما يقلِّص من الفقر ونِسَبِ البطالة الكاسحة، بخلاف التاجر الكبير الذي بالغالب إما يكدِّس أمواله فتكتسب جموداً أو يصدِّرها للخارج حفاظاً عليها أو تنميةً لها فيعود ذلك على كلي الميزانية العامة بالضعف والتذبذب، وغير ذلك ما بحْثه يُترك لمحله التفصيلي المناسب.
● قصدكم بأن المناطق النائية لا تحقق اقتصادياً مكاسب تجارية كالمناطق القريبة من الحرم؟ نرجو مزيد إيضاح بشكلٍ أبسط.
نعم؛ هو كذلك، ولكن هذا باعتبار الوضع الحالي القائم؛ بمعنى أنّ المناطق النائية والمساكن الكامنة في العمارات، وإن كان مدخولها يعود على التاجر صغيراً أو كبيراً من خلال إيجار نفس العمارات، إلا أن هذه المناطق بحكم موقعها البعيد جداً عن الحرم تفتقر للتنشيط التجاري ولا تكاد تجد فيها تسييراً للمنتجات والمبيعات المحلية والسلع المتنوعة وما أشبه؛ فيكمن الضعف الاقتصادي فيها من جهتين:
الأولى: من جهة افتقارها للمروجات ونقاط البيع والشراء الفعلية للعدد الهائل الوافد من الحجيج، وهو أمر طبعاً غير ممكن التحقيق ومتعذر للغاية. والثانية: الضعف التعبوي والإعلامي الذي هو عامل مهم وجوهري جداً في سد الخلل ولو بدرجةٍ تعويضيةٍ ما.
● لماذا وضع نقاط بيع وشراء في هذه المناطق متعذر؟
متعذرٌ لأن امتيازات المناطق النائية شحيحة بالنسبة للتاجر؛ وذلك يعود إلى كون التجارة فيها حالة موسمية فحسب، ثم بانتهاء الموسم ماذا يفعل التجار بمقرِّه التجاري؟
لا شك سيمثل له بعد الموسم خسارة فادحة؛ لذا أشرت للزوم الموازنة في توزيع شرايين الاقتصاد بما يوازن بين الدخل الوقتي والدخل الدائمي؛ وبالتالي فإنَّ استعمال المناطق النائية لسكن الحجاج يتطلب إما توفير مراكز رواج مؤقتة للتجار تتكفلها الدولة لفسح المجال للتاجر الصغير وإنعاشه والاستفادة من الكم الهائل من الوافدين وكذا التسهيل على الحجاج في تلك المناطق النائية ورفع العسر الذي يلاحقهم من عدم توفر مراكز بيع تفي وتكفي حتى بمجرد الاحتياجات الضرورية لولا ما تقدمه الحملات ومقاولوها، أو حل أزمة السكن بفرض قانون عملي على الفنادق القريبة من الحرم، مع لحاظ لزوم ذلك؛ لما قلناه من لزوم تقديم الفريضة الإلهية الأصل وهي الحج والعبادة على التجارة، والتسهيل على الحاج بفسح الفرصة واسعة له أمام العوائد الروحية العائدة، وكذا العوائد الاقتصادية المتحوِّلة من أصحاب رؤوس الأموال الكبيرة والاحتكارية إلى أصحاب رؤوس المال الصغيرة من المواطنين والضعفاء، وهذا بدوره كما قلنا يحل نسبة جيدة من البطالة سيما مع لحاظ كون فريضة الحج فريضة موسمية محدودة وساحة فذّة ينبغي استغلالها الجيد لصالح الوطن من هذه الناحية، كما أنه يوفر استفادة جيدة من الثروة الوافدة الكامنة في العدد الفائق من الحجيج ورغبتهم الساخنة باقتناء جديد بلادنا وحمل الهدايا المحلّية ذات الطابع المكي والحجازي وما شاكل، ومعلوم أيضاً أن نقل المنتجات المحلية للخارج بحوزة الحجاج المتنوعة بلدانهم وأقطارهم هو بذاته من جهة أخرى يشكل عملياً امتيازاً ترويجياً لمنتجات بلادنا العزيزة؛ ومن ثم رفْع اقتصاد الوطن بصفة الطلب والتصدير.
نعم؛ إنّ استغلال مختلف نقاط مكة على صغر حجم هذه البقعة الطاهرة وما يتعلق بمساحتها المحدودة من أحكام شرعية، أمر لابدَّ منه في مخطط فك الازدحام الهائل الحاصل بها في الموسم؛ ذلك لأن تسهيل السكن بقرب البيت الشريف لكل الحجاج هو أمر خلاف التكتيك الصحيح لحل هذه الإشكالية العويصة بل وممتنع؛ باعتبار أنه كلما كان الحجاج أقرب للبيت كلما ازدادت كثافة الزحام عنده واتسعت ضائقة الإفاضة؛ وهذا بالتالي يشَكِّل عائقاً آخر من جهة أخرى بما يتضمنه من عوارض عديدة تنعكس بالخلل الكبير والكثير في مسار كافة الأمور، إلا أن هذا تكتيكياً لا يستلزم رفعة العرض الفندقي القريب بمبالغ خيالية ولا تفويج الحجاج في مناطق سكنية بعيدة؛ إذ الأول محلول بالحد من العدد البشري المتاح لكل فندق وكذا بأسبقية الحجز، والثاني محلول بما ذكرته قبل قليل.
هذه بعض الملحوظات الوجيزة من هذه الجنبة.
● وماذا سيدنا عن الحرم؟
وأما الحرم؛ فالحرم حقيقةً والشهادة لله تعالى فهو إنصافاً يشهد تطوراً تنظيمياً هائلاً يُحمد ويُشكر جهد الدولة فيه، حيث الحلول التوسيعية العملاقة والمشاريع الكبرى في مساحتة الصغيرة الضيقة المكتنفة لكثافة الناس الهائلة، فمثلاً الجسور والطوابق المقامة في المطاف وفي المسعى كلها ساهمت بصورة جوهرية ومباشرة دون تلكُّئٍ في فك الزحام الكبير وتقليص المخاطر وتسيير الحج وتسهيله بأقصى ما يمكن، وكذا التبادر السريع والمنظَّم في تنظيم الحرم ومعالجة أي طارئ تأهيلي؛ وقد نكاد نجزم بأن المجهود الأكبر منصب على الحرم الشريف، وأنه أحرز طوراً نوعياً استثنائياً ونجاحاً فائقاً مشهوداً لا يمكن لأحد التنكر له، فإنه محل شكر جليل وثناءٍ عريض.
ولكن هذا لا يعني عدم الحاجة للتقدم والتطوير أكثر فأكثر، إلا أنه واضح بحمد الله تعالى أن ولاة الأمر والدولة عازمة وحازمة على المضي قدماً في التقدم والتطوير على هذا المستوى بما يشهده الحرم من أعمال رغم حساسية الموضع وصعوبته وعدم خلوّه البشري للحظة واحدة.
كما ينبغي توفير حافلات حمل ركّاب صغيرة عامة في أطراف الحرم تتكفل بحمل العجَزة والمرضى إلى داخل الحرم بالعدد الكافي؛ إذ يفتقر الحرم الشريف لذلك وبشدة بالغة؛ ففي موسم الحج لا تكاد تجد هذه السيارات إلا نادراً جداً، والحال أن مواقف المَركبات الخاصة بعيد، وهذه الوسيلة من المواصلات أو بدائلها –كالسيور المتحركة والجسور المخصَّصة- هي من ضروريات الحاج كبير السن والمرضى وعدم حرمانهم من الفيض الروحي والمعنوي الإلهي لهذه الشعيرة العظمى.
● وماذا سماحة السيد عن عرفة؟
وأما عرفات؛ فقد سبق أن أشرت لموارد الخلل والنقص الذريع فيها، فعرفات موضع مأساوي للغاية، ولا يحظى بالإمكانات الكافية، وكما قلت جُل الجهود منصبة على الحرم المكي، بينما لا تمتاز عرفات بما تحتاج إليه من المدعمات، حيث تحتاج لفرق عمال نظافة بشكل دوري مكثف ومضاعَف على مدار الساعة خلال عرفة الذي هو مجرَّد يوم واحد فقط، وكذا تزويد عرفة بماء التنظيف بشكل جيد، وتزويدها بمرافق صحية، أكرر: (صحية)، وتزويد دورات المياه برشاشات سباحة للتنظيف والغُسل حيث يُشَكِّل ذلك مورداً صحياً للجميع باعتبار أهمية نظافة جسد الحاج صحياً على نفسه ومن حوله مضافاً لثوابه وأثره المعنوي، ومضاعفة عدد المرافق، وتوزيعها بتقسيم متناسب؛ بجعل مرافق الغُسل في صوب، ومرافق الطهارة في صوب آخر، وفصل حمامات الرجال والنساء عن بعض بدل الاختلاط الحاصل فيها، والإكثار من حاويات القمامة والنفايات بالقدر المتكافئ مع الكثافة والحاجة وبمختلف المواقع، ومنع أي حالة تسريب وتَفَلُّت مياه ومستنقعات قدر الممكن وعلاجها السريع فيما لو حصلت؛ بتوفير طاقم بلدي يوزعه مسؤولو بلدية مكة على مختلف النقاط. وتوفير غرف طبية صغيرة ثابتة أو متحركة موزعة بكثافة، ودعم الباعة المتجولة باعتبارها منطقة استعمال مؤقتة باعتبار عرفات منطقة صحراوية تكاد تكون خالية تماماً قبل وبعد يوم عرفات، وتزويد الباعة بالإشعارات والإرشادات الصحية الكافية، ودعم الهيئات والمؤسسات والجمعيات الخيرة ودعوتها للمشاركة التبرعية الفاعلة لخدمة الحجاج، ودعوة التجار لنيل الثواب، وأن هذه البيئة من أحسن وأفضل المناطق لتبرز جهات الخير وجودها فيها وتقدِّم واجبها التكافلي والوطني والديني والإنساني تجاهها، كل مؤسسة وجمعية حسب الوظائف المنشأة على أُسسها ضِمن سياستها الخاصة.
وكذا حاجة عرفة لتوفير مولدات كهرباء، مع رعاية أمنيتها القصوى.
فضلاً عما تعانيه عرفة على صعيد المخيمات الرديئة الفاقدة لأبسط إمكانيات التبريد والفرش وبقية اللوازم، مضافاً للمبالغة بأسعار الإيجار ورفعة منسوب الضرائب بما يضيِّق على المقاولين ومن ثم اقتصاص المقاول من جيب الحاج بما يمنع من تيسّر الاستطاعة على الحج وخسران المؤمنين لهذه الفرصة الروحية التي جعلها الله تعالى رحمة وتربيةً وهدياً وتلطفاً بعباده.
وفي هذا الصدد لا نغفل عن موقف الحافلات والمَرْكبات النائي والبعيد والمعقَّد، بما يكتنفه من ازدحام منقطع النظير في أماكن الوقوف، فهذا وغيره يدعو للاستفادة من التطور الذي وصلت له بعض الدول المتقدمة على مستوى فك ازدحام المواقف وما شاكل، مضافاً لتوسعة تلك المناطق وتسليكها بما يُسَهِّل حركة الحافلات دخولاً وطلوعاً وتخليص الجميع من هذه المعاناة الشديدة.
● تقصدون بأن المعاناة في السير؟
نعم؛ في السير وكذا في نفس المواقف المخصصة للحافلات؛ إذ قد يحتاج سائق الحافلة بعد غروب شمس عرفة لقرابة الساعتين أو أكثر ليتمكن فقط من تحريك حافلته من موقع الوقوف باعتبار إحاطة حافلته بحافلات متراكمة كثيرة من جميع جوانبها الأربع؛ وبالتالي هذا يعود على الجميع بالعناء الشديد ويستتبع مجموعة من اللوازم المعلومة، سيما في ظل تتابع أعمال الحج وتَلاحقها في هذه الفقرة من الحج.
● وماذا سماحة السيد العزيز عن مزدلفة؟
وأما مزدلفة؛ فكما قلنا حالها أسوأ بكثير من عرفة، حيث تفتقر لأبسط المستلزمات؛ فهي بحاجة لمولدات طاقة، ومياه شرب، وأماكن مبيت جيدة، ونقاط توزيع أو بيع أغذية، وتنقية أجواء بعزل المركبات عن مواضع مبيت الناس، وتقليص الضوضاء للتمكين من العبادة والاسترخاء والنوم بعد مشاق عرفة استعداداً لأعمال منى صبيحة فجر مزدلفة، وتطوير المرافق الصحية، ودعمها برشاشات تنظيف للجسم سيما بعد تراكمات عرفة صحياً، وتَوافر طواقم إسعافات وطوارئ عاجلة سريعة، وفض للازدحام، والإكثار من حاويات القمامة، ونشر دوري مكثف ومستمر لعمال نظافة تكافح الأوساخ والميكروبات والجراثيم الخطرة الآتية من النفايات والوحول التي تحتل مساحات متقطعة كثيرة.
● وبالنسبة سيدنا العزيز للطريق بين مزدلفة ومنى؟
وأما الطريق بينهما؛ فهو بحاجة ماسة لدعمه بمياه الشرب المبردة والصالحة بعدد كبير وجيد وصحي، وتوسيعه قدر الإمكان بنحت الجبال المحيطة ببعض منعطفاته، ونشر جهات طوارئ عاجلة ومخارج مهيَّأة على طوله، وتدعيمه بالمبردات والمنفِّسات وتذليل مصاعبه من حيث طول المسير فيه سيما على الضعفاء والنساء والعجزة باستغلال ما أحدثته الوسائل التقنية من تطور تكنلوجي هائل يحق لمكة أن تحظى به، بل هي الأَولى به، فتقنية السيارات المتحركة الصغيرة والسيور وغيرها تمثِّل حلولاً طيبة على هذا المنحى.
وكذا الحال بالنسبة لمخيمات منى وأسعارها الباهظة، فهي بحاجة لرفع غلائها والرقابة على الشركات المموِّلة.
ونفس الأمر في رسوم تصاريح الحج بالنسبة لحجاج الداخل.
● وماذا سماحة السيد عن الجمرات؟
الطريق إلى الجمرات شائك بطوله وشدة الحر وأشعة الشمس باعتبار بُعد مواقف الحافلات، ولكنه بما وفرته الدولة مشكورة من مخيمات بأداء الشركات بمنى والقطار الذي ينقل الحجاج إلى الجمار؛ باتت المسألة أيسر جداً ومحمودة وممتدَحة من هذه الجهة، وهي من الجهود الرائعة التي يلزم على المرء أن يشهد بتقدمها ونفعها الكبير والمجهود الهائل المبذول فيها، والمشقة بالغالب تقع على عاتق القادمين من جهة الحرم المشرَّف، حيث يجدون معاناة كبيرة وشديدة في طريقهم للجمرات بما يفتقر له من موارد الري والتبريد؛ كما قلت باعتبار بُعد مواقف الحافلات وطول المسافة والقيظ وشدة حرارة الشمس.
كما يحتاج هذا الطريق مع موزعات ماء شرب إلى مرافق صحية مضاعفة وطوارئ وحافلات صغيرة لنقل كبار السن والمرضى والمستضعفين.
وهكذا الحال أخيراً بالنسبة للنفرة من منى؛ حيث تحتاج لمد الجسور الكافية الكفيلة بامتصاص ضغط السير، وإن كانت في الحقيقة النفرة قد حظيت بكثير من التقدم المشهود الذي ساهم بتقليص الازدحام بما –في الواقع- يكاد يكون قليلاً إلى حد، وإن كان بحاجة لمزيد تقليص.
وفي جميع ذلك ينبغي فرض رقابة مشددة على سائقي مركبات التاكسي وأسعارهم المبالغ بها كثيراً؛ وذلك بتفعيل تقنية العداد أو استحداث تقنيات أنجح وأكثر جدوائية.
كما ينبغي التخطيط بزراعة مكة بالشجر سيما في عرفات ومزدلفة، مع رعاية صفة الظل والإثمار باختيار الشجر المظلِّل الداعم بالأكسجين والمثمِر {وارزُقْهُم مِنَ الثَّمَرات} ليشكروا الله: {لَعلَّهُمْ يَشكُرون}.
وعلى هذا كله ينبغي طرح إشارات مشاة، ووضع آلية عملية للمسؤولين لترشيد الحجاج سواء المقاولين أو موظفي الدولة أو القطاعات الخاصة الأخرى بتكثيف اللافتات والمنشورات والمحاضرات المباشرة والإذاعية.
● هل وجدتم سيدنا مضايقاتٍ تجاه الأعمال الدينية في الحج والكتب العبادية التي يحملها الحجاج من المذاهب الإسلامية المختلفة؟
الحقيقة والحق أحق بأن يقال، لم أجد شخصياً أي شيء من ذلك في حج هذا العام رغم تكرر وجودنا في الحرم المكي الشريف، فلم أجد أي تضييق من ناحية أداء الأعمال، سيما وأنّ التاريخ بحمد الله تعالى تَوافق متوحِّداً في هذا العام بين المسلمين، مما جعل الشعائر تسير في اتجاه موحَّد، كما كنا نقرأ من كتبنا أدعية أهل البيت عليهم الصلاة والسلام بكل حرية، فشخصياً لم أجد شيئاً من المضايقة ولا رفاقي، نحمد الله ونشكره أن أنعم على المسلمين بالتعقل والأمن والطمأنينة.
نعم؛ في المدينة المنورة قد تجد بعض التعريض المتقصَّد، وقد ذكرتُ في بيانٍ سابق بالعام الماضي في أيام عيد الفطر المبارك حادثة تعرضتُ لها شخصياً وتعرَّض بعض المؤمنين لنُسَخ مشابهة لها قريب مسجد نبينا الأعظم صلى الله عليه وآله بجوار البقيع، وكانت مفبرَكة متعمدة عن قصد وإرادة للتضييق البغيض والحقد المذهبي الغير لائق، رغم أنني كنت وقتها أسير بمفردي مع زوجتي وزوجة صاحبي وابني الرضيع وابنتي، ولم نكن لا في حالة تعبد بقراءةِ شيء ولا نَحمل كتاباً أو ما شاكل، فتعرَّض لنا أحد رجال الهيئة مباشرة بصورة غير لائقة في حادثة مفتعلة من جهته استعمل فيها رجلاً عراقياً بهدف المضايقة الدنيئة، والحادثة مذكورة بتفاصيلها في محلها.
ثمَّ إنّ من أكبر المشكلات التي تواجه الحاج على هذا الصعيد مسألة الاختلاف في تاريخ هلال ذي الحجة؛ لذا فإنّ إفساح المناسك الخلافية وتهيئتها بجعل الحج فريضة عامة للجميع تتصف بالمساواة حال اختلاف تاريخه لدى الطوائف الإسلامية وفقهها المعروف أمرٌ لابدَّ من مراعاته وبصورة قصوى؛ فالحج حق لله تعالى فرضه على كل مذهب حسبما يقتضيه (النُّسُك العبادي) في كل فقهٍ ثابتٍ معهود، لا لمذهب دون غيره، فالمسؤولية المتسنَّمة تقتضي ذلك بما تحتاجه من لوازم الضبط والتنظيم الكامل، والحمد لله أنّ التغاير لا يكون بالعادة متعدداً لأكثر مِن تفاوت يوم واحد فقط إن حَصل، ولا متعدداً لمناسك كثيرة وممتدة، ولا غير قابلٍ لتَحَمُّل الطاقة التنظيمية لدى إمكانات وقدرات بلادنا العزيزة.
كما نود ونأمل وبشدة أن تَكون هنالك لجنة دولية مسْلِمة متحدة تَجمع ممثلين معتبرين لدى مختلف الأطياف الإسلامية تعمل كمؤسسة رسمية على تحديد التاريخ لكل شهر؛ للخلاص من تبعات هذا الاختلاف والتفرق المشؤوم في مناسبات ديننا الحنيف الواحد بما ينصاع لطاعة أمر الله الشديد في قوله تعالى: {واعتصِموا بحَبْلِ اللهِ جميعاً ولا تَفَرَّقوا واذكُروا نِعمةَ اللهِ عليكُمْ إذْ كُنتُمْ أعداءً فأَلَّفَ بينَ قُلوبِكُمْ فأَصبحتُمْ بنِعمتِهِ إخواناً وكُنتُمْ على شَفَا حُفْرةٍ مِنَ النارِ فأنقَذَكُم منها كذلك يُبيِّنُ اللهُ لكُمْ آياتِهِ لعلَّكُم تَهتدُون}.
هذا؛ وإنّ الاختلاف في تاريخ الحج له من جهة ميزة ربانية طيّبة فذّة وفريدة تكمن في تقليص الزحام بشكل كبير جداً ينعكس بدوره على انسيابية كثير من الأمور وتقدُّمها فيما لو تم استغلال ذلك بشكل جيد وهادف بعيداً عن التحزبات والصراعات الضيّقة، وهذا ما يتم ضبطه بقبضة القانون الخالص والتكتيك الحكيم الثاقب والتنظيم الصالح المعتدل والجيد الطيّب اللطيف؛ فإنّ في بعض وجوه الاختلاف رحمة ورِقي فيما لو فهمت مقاصده على الوجه الصحيح المطلوب واستُثمِرت بصورتها التقدمية الراقية البانية بوعيِ حكمةِ تفويق المخلصين العاملين ومجافاة النفعيين والحذر من حيَل المتصيدين والغزاة والسفه والأناة ونعرات الشيطان الذي يريد أن يوقِع بين البشر العداوة والبغضاء ضغينةً وحقداً على أبيهم وحسداً للنعمة الإلهية المفاضة على بني آدم.
● كلمة أخيرة سماحة السيد الفاضل نختم بها هذا اللقاء الكريم جزيتم خيراً.
أولاً نشكر جميع العاملين في هذا السلك على خدمة حجاج بيت الله الحرام وضيوف الرحمن، الذين يقدّمون أوقاتهم رخيصة في سبيل تقديم الخدمة ورفع الجهوزية والكفاءة بما يشرِّف بلدنا الغالي العزيز ويجعله رائداً في الكرم والجود وخدمة الشعوب من لحظة استقبالهم إلى لحظة مغادرتهم، بإبراز السخاء العربي منقطع النظير، بعد أن اختار الله تعالى ديار العرب للعالَم بما تحمله نفوسهم من الكرم المعهود والجود المنشود. ونأمل منه عز وجل أن يسدد ولاة الأمور وكافة المسؤولين للخير والصلاح وأن يأخذ بأيديهم إلى الخيرات والمَبرَّات، وأن يجزل ثوابهم ويعينهم على أداء واجباتهم، فدولتنا بحمد الله تعالى ثرية وليست بحاجة لتبرعات أحد، وتمتلك من الشركات الجيدة ما يؤهلها للقضاء على كل النقائص والإتيان عليها واحدة واحدة، وأن نشهد في الأعوام القادمة مبادراتٍ وأحوالَ تسر القلوب وتقدماً وتداركاً واعداً وحثيثاً يبهج الأفئدة بما يحقِّق {لَعلَّهُمْ يَشكُرون}، وأن يكون الحج حجاً إبراهيمياً من الله ولله وفي الله بكل ما تحويه الكلمة، وأن تكون تلبيتنا (لبيك اللهم لبيك) حق التلبية ونعم التلبية وخير التلبية، وفَّقَ الله الجميع لتزكية النفس والنصر وسعادة الدارين.
كما أعيد وأوكِّد على إخواني المسلمين الحجاج بالاستفادة الجيدة من تعاليم الحج ومعارفه بترويض النفس في فرصته والرقابة الذاتية الدائمة بعدم السير في عبادة الله شكلاً وعلى خط عبودية الشيطان مضموناً من حيث اللاشعور، وأن يكونوا أحسن مثالٍ للأمم وخير ممثلين للإسلام أمام بعضهم وأمام الآخرين ليقف نبراساً مشرقاً ومشرِّفاً في الأديان بما يحقِّق {فاجعلْ أفئِدةً مِن الناسِ تَهْوي إليهِمْ} بالتزام أخلاقه والتحلي بفضائله وآدابه والتعالي بالشهامة والإيثار وأداء المناسك بخضوع وخشوع بعيداً عن التعجل والأناة والإيذاء الداعي للفشل وتنفير الآخرين من الدين وتشويهه وإحراج الأنبياء والأوصياء وفسح المجال للشك والتشكيك وإغضاب رب السماء، ومن ثم حلول السخط والعقاب الإلهي سيما عند إيذاء المؤمنين بالأخص ضعافهم ونسائهم وشيوخهم، ومراعاة النظافة وتجنب الافتراش في المواضع السالكة المخصصة بالمارة قدر ما أمكن واحترام الضوابط والقوانين والاشتغال في الحج وعباداته بالتدبر والتفكر والتأمل، سائلاً المولى تقدَّست أسماؤه أن يمن على الجرحى والمصابين بالشفاء العاجل وأن يرد المفقودين على أحسن حال مِن بينهم المفقود الجليل قريبنا الأخ الحاج عبد العزيز بن عيسى بن إبراهيم الربح ويجبر قلوب ذوي الشهداء، وأن يوحِّد سبحانه صف المسلمين كأنهم بنيانٌ مرصوص كما وصَفَ بما يريد، وأن تكون هذه الحادثة الأليمة درساً للتقدم وباعثاً للخير وضارة نافعة تقوم في صفتها على سجية الكبراء العاملين المتقدمين الذين يحولون من النقيصة للكمال ومن المثالب للمناقِب.
بسم الله الرحمن الرحيم {إذا جاءَ نصرُ اللهِ والفتح * ورأيتَ الناسَ يَدْخُلونَ في دِينِ اللهِ أفواجاً * فسَبِّحْ بحمْدِ ربِّكَ واستغفِرْهُ إنهُ كانَ تَوّابا}، سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، أستغفر الله لذنبي وعظيم جريرتي، وأسألكم الدعاء.
● شكراً كثيراً لكم سماحة السيد أمين السعيدي على هذه الكلمات الوطنية والإنسانية الصادقة، ولتفضلكم بإتاحة هذه الفرصة السخية النبيلة والعزيزة، وتحملكم عناء هذا المجهود، على أمل اللقاء بكم في مواضيع أخرى. فشكراً جزيلاً لك.
العفو، ولكم جزيل الشكر والامتنان كذلك، وكمال الموفّقيّة منه تبارك ذِكره ودوام التقدم، والله وليُّ التوفيق.
وقع اللقاء بذي الحجة من سنة 1436هـ
أجراه وفرَّغَه ونقله للكتابة: أبو منصور الحافظ.
لمتابعة الجزء الأول اضغط الرابط المباشر التالي:
http://anbyaa.com/?p=10054
صورة لقريب سماحة السيد الحاج عبد العزيز الربح، أحد المقودين للآن في حادثة منى الله يرده بالسلامة لعياله وأهله وأحبائه:
للتعلیق أو مطالَعة التعلیقات اضغط هنا