موقف من «حوزة قم»: قال الطبيب لأستاذنا لا تَتعالج!
لقد ذهبتُ له وأنا أرتدي (النظارة)، فأبنتُ له علة مجيئي، وهي معاناتي من ضعف في النظر، فقال لي بعد أن أجرى الفحوصات اللازمة وشخَّص الحالة: يا شيخ! هل تعاني من ألم؟ قلتُ: كلا. فقال: هل نظرك ضعيف للغاية بحد لا يُحتمَل؟ قلتُ: أيضاً كلا. قال: هل يضايقك لبس (النظارة)؟ فقلتُ: كذلك كلا يا دكتور. فقال: هل تريد نصيحة صادقة أقولها لك؟ قلتُ: بلا شك، إنما جئت إليك للاستفادة من معرفتك، والتداوي لديك إن شاء الله تعالى.
يقول الشيخ حفظه الله: عندها ابتسم الدكتور وقال: أرى أن لا تمس عينيك بشيء، فمادمتَ لا تعاني من ألم، ولا من ضعفٍ لا احتمال له فيهما، ولا من لبس (النظارة)؛ فلا تمسهما بشيء. دعهما على ما هما عليه، و(لا تَلعب بجسمك في مثل هذه المعطيات).
وأضاف الدكتور بقوله: أنا ليست لدي أي مشكلة في علاجك، فهذا عملي، والنفع لي؛ إذ سأكسب المال، فبإمكاني في بضع لحظات أن أجري لك عملية ليزرية بجهاز الليزر، فهي عملية ناجحة ومضمونة ولا تأخذ سوى بضع لحظات قصيرة، وقد مضى لنا قرابة (عشر) سنوات نعمل بهذا الجهاز عمليات للعيون، كلها كانت ناجحة ولا يوجد بها أي ضرر، فلا يُعجزني القيام بذلك في شأن جنابكم، لكن نصيحتي بكل وضوح هي أن (لا تَلعب بجسدك مادام لا يؤذيك).
يقول الشيخ أطال الله بقاءه: عندها حضر ببالي قولٌ للإمام علي عليه الصلاة والسلام يقول فيه: “امشِ بدائِك ما مَشى بك”! فشكرت الطبيب وودعته ثم ذهبت.
❂ أقول تعليقاً على ذلك:
● 1- يصح مثل هذا في ظل كون الداء مما لو بقي عليه صاحبه لما تأذى بضررٍ ما، تماماً كما هو الحال في حادثة شيخنا رعاه الله، وإلا فلا يجوز؛ لأن إيذاء النفس بلا وجه شرعي حرامٌ في ديننا، وقبيحٌ عقلاً.
● 2- نلاحظ رفعة أخلاق الطبيب في استقبال مريضه، وتواضعه له بالتبسم والكلام الجميل، واعترافه بمقامات الآخرين ومنازلهم، مما زاده رفعةً وحُباً في القلوب، وهو ما تَتلاءم رؤيته في جميع الأطباء وغيرهم، وإن كنا قد رأينا منهم العديد من الأفاضل ممن لا يسبقه في أخلاقه سابق، أذكر منهم: الطبيب الفاضل دكتور (صادق) الأحسائي، وهو طبيب أنف في مستشفى عنك بالقطيف، وآخر طبيب عام من إخوتنا المصريين في نفس المستشفى بقسم الإسعاف، للأسف لم أتعرَّف على اسمه، وغيرهم.
● 3- نلاحظ تَرَفُّع الطبيب عن زيف المادة، وتقديمه للقِيَم الإنسانية على حطام الدنيا الزائف الزائل؛ حيث صَدَقَ في نصحه، وقال أجود رأيه حسبما يراه شخصه الكريم.
● 4- العلاج بجهاز الليزر نافع، ولا يورِّث عوراض سلبية لدى الحالات التي يَصح علاجها به.
● 5- الطب فنٌ وذوق، وهذا الطبيب البارع ضَرَبَ بصورةٍ عملية كيفية (إقناع المريض) و(بكل مرونة)، ليَخرج من عنده وهو مؤمن بما قاله.
فلرُبَّ طبيبٍ يقول لمريضه الشيء الأصلح والأصوب في علاج علته، لكنه لا يكون لديه أسلوب تثقيفٍ وإقناع؛ فلا يؤثّر ذلك أثره في المريض، ولا يجعله صاحب إيمانٍ صلبٍ بما قاله من نُصحِه.
وقد يَصْدف الأمر، فيقول له طبيبٌ آخر ما ليس بالأصلح والأصوب، ولكن بأسلوب تثقيفي وإقناعي؛ فينال المريض أثراً طيباً ومَرْضياً، يُنتِج فيه الشفاء والعافية.
إنَّ زرعَ الإيمان في قلب المريض أعظم وأهم انعطافة في علاجه؛ فذلك يمنحه (الطمأنية والرضا)، وهذان العنصران مَنشأ (الراحة النفسية)، والراحة النفسية أساسٌ فاعل وجوهري في القضاء على أعسر الأمراض والأوبئة التي منها (مرض السرطان) الخبيث العصي على العلاج التشريحي والكيميائي إلى يومنا هذا.
لذا؛ يتوجَّب على الطبيب البارع أن يمتلك مع علمه الجسماني فنون النفس والتعامل معها. عليه أن يتعامل مع المعنى لا مع قطعات الهيكل البشري ولحمه وعصبه وشحمه، لا كذلك الطبيب اللاإنساني القائل لمريضه ستموت بعد أيام! ولربما طرده من المستشفى! فمات مريضه فعلاً، لكن لربما بسبب إيحاءات الطبيب له بالموت، مما يعني أن الطبيب قد يكون سبباً في موته، ويتحمل أمام الله والمجتمع الإنساني جريرته.
إن الطب فنٌ وذوقٌ وأدب، ومسؤوليته عظيمة لا يستهان بها، مما يستلزم الرقابة الرسمية من مُدراء الدولة.
● 6- كلمة جناب الدكتور الفاضل: (لا تَلعب بجسدك مادام لا يؤذيك) حكمةٌ تَفوَّه بها لسان الزمان، توافِق ما ورد عن إمام الأنام عليه الصلاة والسلام، يلزم أن تكون نبراساً في علوم الطب، والتي كان منبعها -أعني علوم الطب- من الحوزات العلمية؛ حيث كان الطب من أقسام (الطبيعيات) في (علم الفلسفة) الذي هو صنيع ونتاج العلماء وحوزات العلم والمدارس الدينية.
● 7- قمة الأدب لدى المريض، وتواضعه، وسماعه لطبيبه بكل احترام، وإجابته على أسئلته بتذلل، وعمله بنُصحه، رغم أنه من أساتذة الحوزة ومن أهل العلم والمنزلة، وكذا رضاه بما ناله من ابتلاء الله تعالى له، ومن تعاليم الطبيب.
فللمريض في ذلك أيضاً درسٌ وقدوة، فلا يَتذمَّر ويتشكَّى ويَعلو صوتُه بالمنكَرات أينما كان، في هذا المجلس وذاك.
وغير ذلك من النفحات الجميلةِ النافعة من هذه اللطيفةِ الواقعة.
نسألكم الدعاء.
أمين السعيدي – قم المقدسة
ذو القعدة 1434هـ
• مقتَطَف أعده مسؤول صفحة سماحة السيد أمين السعيدي على الفيسبوك [أبو منصور الحافظ]. وهو عبارة عن مقتبَس من [حوادث ووقائع من الحوزة] للسيد أمين حفظه.
للتعلیق أو مطالَعة التعلیقات اضغط هنا