بسم الله الرّحمن الرّحيم
الدَّرسُ الفقهي الثّاني:-
* حديثُ العِلم
عن سعدان بن مسلم بن معاوية ابن عمّار قال: “قلتُ لأبي عبد الله عليه السّلام: رَجُلٌ راويةٌ لحديثِكم يبثُّ ذلك إلى النَّاس ويُشَدِّدُه في قلوب شيعتكم، ولعلَّ عابداً من شيعتكم ليست له هذه الرّواية، أيّهما أفضل؟ قال: الرّواية لحديثنا يبثُّ في النّاس ويشدِّده في قلوب شيعتنا أفضل من ألف عابد”.
وفي مورد آخر: الرَّاوية لحديثنا يبثُّ في النّاس ويسدّده في قلوب شيعتنا. والرّاوية: صيغة مبالغة؛ أي كثير الرّواية.
د- التّقليد:-
وهو اتّباع شخص لآخر فيما يراه من أحكام.
المبحث الثّالث (المجتهد الحُجَّة):-
* قال دام ظلُّه: “ويكفي في التّقليد مطابقة عمل المقلِّد لفتوى المجتهد الحُجّة في حقِّه”.
* من هو المجتهد؟
المجتهد هو الشّخص القادر على استنباط الحكم الشَّرعي من مداركه المقرَّرة الّتي ذكرناها في الدّرس السّابق.
* قد تتساءل من هو المجتهد الحُجَّة الّذي يجوز للمكلَّف تقليده؟
اعلمْ أنّه يجوز تقليد من اجتمعت فيه الشّروط التّسعة التّالية:
1- البلوغ:-
بمعنى أن يصل إلى سنِّ التّكليف والرُّشد، فالفقهاء قد اشترطوا هذا الشّرط من جهة كون الإنسان لا يُكلَّف إلا بعد بلوغه، ولا يحمل وزرَ غيره إلا بعد ذلك، فأنت عندما تقلِّد الفقيه تجعله مسؤولاً أمام الله عنك فيما تقتدي به في مقام العمل وأداء التّكاليف الإلهيَّة، وكما يُقال: “القيها في رقبة العالم واخرجْ منها سالِم”.
* يُنقل أنّه لم يبلغ درجة الاجتهاد قبل سنِّ البلوغ من علمائنا الفقهاء الأبرار سوى اثنين، هما: العلامة الحلِّي والشّهيد السّيّد محمّد باقر الصَّدر، وكما هو معلوم فالسّيّد الشّهيد كان تلميذ السّيّد الخوئي رحمهم الله أجمع، إلا انّ السّيّد الخوئي عليه الرّحمة لم يقدِّم لتلميذه السّيد الشّهيد شهادة اجتهاد إلا بعد بلوغه، رغم علمه بانّه قد وصل إلى مرتبة الاجتهاد قبل ذلك، كل هذا –قد- يُفسَّر على انَّ السّيّد الخوئي كان ناظراً لقضيَّة مهمَّه ترتبط بمورد كلامنا، وهي تقليد الفقيه قبل بلوغه.
2- العقل:-
بمعنى أن لا يكون المجتهد المقلَّد مجنوناً أو ضعيف العقل سفيهاً.
* قد تقول وهل يمكن حصول ذلك؟ فالاجتهاد كما هو معلوم أمر مستصعَب ويحتاج لدقَّة والمجتهد لا يكون مجتهداً إلا بالعقل.
ج: نعم، الاجتهاد أمر كما يقال: “سَهل ممتنِع”، ولكنَّ الاجتهاد يمكن حصوله لغير العاقل، فمثلاً قد يكون الشّخص مجتهداً في فترة معيّنة من حياته ثمَّ يتعرَّض لحادثٍ ما يسلب منه عقله أو وعْيه، وبالتّالي لا يُجوَّز تقليده.
3- الرّجولة:-
بمعنى أن يكون رجلاً سويّاً في رجولته، فلا يصح تقليد الأنثى، ولا تقليد الرَّجل الفاقد لحقيقة الرّجولة عرفاً.
* هذا الشّرط لم يعتبره بعض العلماء، أمّا عند السّيّد حفظه الله فهو شرط معتبر وضروري في التّقليد.
4- الإيمان:-
بمعنى أن يكون معتقداً بمذهب أهل البيت عليهم الصّلاة والسّلام، وبالأئمة الاثني عَشَر الّذين أَوصَى بهم رسول الله -صلّى الله عليه وآله وسلّم- كلّهم بلا استثناء، دون زيادة أو نقيصة، فقد ورد عنهم صلوات الله وسلامه عليهم: “الزّائدُ فينا كالـمُنْقِص، والـمُنْقِصُ فينا كالزَّائِد”.
وعليه؛ فإنّه لا يكفي تقليد أهل السّنّة أتباع مدرسة الصّحابة بمختلف مدارسهم ومذاهبهم الأربعة الشّافعيّة والحنابلة وغيرهم، كما لا يصح تقليد المذاهب الشّيعيّة الموالية لأمير المؤمنين عليه السّلام كالإسماعليّة والزّيديّة وغيرهم.
* كان علماؤنا الأبرار من فقهائنا القُدامَى رغم كونهم من أتباع المذهب الاثني عشَري، إلا انّ فتاواهم كانت تُقدَّم تارة وفق ما هو مقرَّر لدى المذاهب الأخرى من أُسُس وقواعد للاجتهاد والإفتاء، في الوقت الّذي كانت فتاواهم تُقدَّم على طبق قواعد وأُسُس مذهبنا، فالسّيّد المرتضى –ره- مثلاً كان يكتب رأيه وفتاواه لأهل السّنّة وفق مبانيهم في رسالة عمليّة مستقلّة، كما يكتب فتاواه لمقلِّديه من الشّيعة في رسالة عمليّة أخرى مستقلّة.
لذا؛ لو جاء فقيه من علماء السّنّة فكتب رسالة عمليّة فتوائيّة على طبق أُسس وقواعد مذهبنا، فإنّه لا يصح تقليده؛ لأنّه ليس اثني عشَريّاً، وقد فُقِد فيه شرط من شرائط جواز التّقليد.
5- العدالة:-
وهي الاستقامة العمليَّة على جادّة الشّريعة، فإذا ارتَكب مجتهد ما محرّماً أو ترك واجباً بدون مؤمِّن وعذر شرعي مقبول، فإنّه لا يجوز تقليده.
* هل يجوز تقليد المجتهد الّذي يفعل المكروه ويترك المستحب؟
نعم؛ يجوز ذلك، فالعدالة إنّما تسقط بترك الواجبات وفعل المحرَّمات بدون عذر شرعي فقط لا غير، فلو ترك الصّيام الواجب مثلاً بسبب المرض، أو شرب الخمر في الصّحراء بسبب العطش المؤدّي للموت وعدم وجود ما يُشرب لرفع العطش ودفع الضّرر غيره، أو سبَّ الأمير عليه السّلام وتبرّأ منه من باب التّقيَّة، أو أفتى بحكم ظاهر يصب في مصلحة أعداء الدِّين أو المذهب من باب رعاية المصالح الكبرى؛ فهذا كلّه لا يخدش في عدالته لأنّه صدر عن عذر.
* قال حفظه الله في الرّسالة في تعريف العدالة المعتبرة في المجتهد:
“هي الاستقامة في جادّة الشّريعة النّاشئة غالباً عن خوف راسخ في النّفْس” فما المراد من ذلك؟
ج: اعلمْ أنَّ السّيّد أطال الله بقاءه يريد من الخوف الرّاسخ في النّفس خصوص الخوف من الله تعالى لا من غيره، فمثلاً لو رأينا مجتهداً يسير باستقامة على جادّة الشّريعة بسبب خوفه من الحاكم، أو تبعاً للرِّياء، أو للسُّمعة، أو بسبب خوفه من الفقر، فإنَّ هذا المجتهد لا يجوز تقليده؛ لأنّه فاقد لشرط من الشّرائط المعتبرة في جواز التّقليد.
نعم؛ قد يتحقَّق الخوف في نفس الإنسان -أحياناً- بسبب الخوف من الحاكم أو الفقر أو الأذى وما شاكل، وهذا النّوع من الخوف لا يضر بالعدالة ولا ينافيها، لهذا عبَّر السّيّد بقوله “غالباً”، أي يجب أن تكون حركة الإنسان غالباً على أساس الخضوع لله تعالى، أما الخوف النّاشئ لدى النّاس بطبيعتهم من أمور معيّنة معتادة عرفاً فهي لا تخلخِل العدالة أبداً.
6- طهارة المولد:-
بمعنى أن يكون المجتهد قد وُجِدَ في رحم أمِّه بطريق شرعي، أو طريق معتبر في الشّريعة، فلا يجوز تقليد ابن الزّنا والعياذ بالله.
* هنالك بعض العلماء الفقهاء من لم يعتبر شرطيَّة هذا الأمر، من منطلق كون ابن الزِّنا بريء من فعل أبوَيه، وعدم جرمه في ذلك، وبالتّالي لا يتحمَّل ما اقترفاه، إلا انَّ السّيّد رعاه الله يرى شرطيَّة هذا الأمر وفق ما ثبت لديه من دليل.
7- الضَّبط:-
يريد الفقهاء من الضَّبط أن لا يكون المجتهد كثير النِّسيان، فكثير النِّسيان لا يكون ضابطاً؛ لأنَّ استخراج الحكم الشّرعي يحتاج لتطبيق الكثير من القواعد العِلميِّة الدّقيقة، كـ:
أدلَّة عِلم أصول الفقه، والقواعد الفقهية، والتّفسير، وقواعد علوم اللغة العربيَّة فالإمام الصّادق عليه السّلام يقول: “أعربوا كلامنا فإنّه فَصيح”، بالإضافة إلى تحصيل الـمَلَكة في فهم اللغة الفقهيَّة والرِّوائيّة وما شاكل من الأمور الّتي يجب توفّرها في الفقيه، فالمجتهد كلّما كان حاذقاً ودقيقاً في الاستدلال كلّما كان الأقرب لبلوغ الأحكام الإلهيّة وإيصالنا إليها، فنحن إنّما نقلِّد الفقيه من أجل الوصول إلى ذلك، فإذا لم يكن المجتهد ضابطاً وكان كثير النِّسيان وما شاكل فكيف يمكن له تطبيق جميع هذه القواعد في الاستدلال؟
فإذا افتقر لذلك رغم كونه مجتهداً فإنّه لن يَتمكّن من إيصالنا للأحكام الواقعيّة كما هو مطلوب.
* بعض الفقهاء عندما يسألهم المكلَّف عن فتواهم في مسألة معيَّنة يعرض عليهم النِّسيان، خصوصاً فيما إذا كانت المسألة ليست من القضايا الابتلائيّة وكانت من التّفريعات والتّفصيلات، فمثلاً –يُنقَل أنّ- السّيّد الخوئي رحمه الله تعالى جاءه في أحد الأيّام شخص من المؤمنين يستفتيه، فطلب من أحد تلامذته جلب رسالته العمليَّة إليه، فأخذها السّيّد واستخرج المسألة فقرأها ثمَّ أجاب المستفتي.
إذن الفقيه مثله مثل بقيَّة النّاس ينسى وتغيب عنه بعض الأشياء، وهذا لا يخدش في عِلميّته واجتهاده أبداً، شريطة أن لا يخرج عن الحالة المتعارَفة، فالسّيّد الخوئي –على المثال- لم يخدش نسيانه لدى بعض الحالات في ضبطه، فهو فقيه زمانه، وقد خرَّج الكثير من الفقهاء الّذين كان من بينهم السّيّد علي السّيستاني وغيره من العلماء الأعلام.
وعليه؛ فإنَّ الشّرطَ المذكور –الضّبط- إنّما يسقط بالنّسبة لمن يصدق عليه بانّه كثير النِّسيان، بحيث يكون ذلك ملحوظاً فيه وخارجاً عن الطّبيعة، وإلا فالإنسان –كما يُقال- إنّما سُـمـِّيَ إنساناً لأنّه يَنسَى.
8- الاجتهاد:-
بمعنى أن يكون المقلَّد صاحب هِمَّة وعمل وسعي في مجال تحصيل الفتوى، وأن يكون خبيراً وممّن يبذل جهده قدر ما أمكن في تطبيق القواعد المقرَّرة لتحصيل الحكم الإلهي.
9- الحياة:-
ويراد بها عدم الموت، على تفصيل سنبيّنه.
10- الأعلميَّة:-
بمعنى أن يكون المجتهد المقلَّد هو الأعلم؛ لأنَّ الأعلم يكون –غالباً- هو الأقرب إلى الأحكام الإلهيّة الواقعيّة، والأقدر على إيصالنا لها، من خلال خبرته وحذاقته ودقّته في تطبيق القواعد وسعة اطّلاعه ومعرفته، وأقدريّته في مجال التّعامل مع الأدلَّة والنّصوص وأقوال العلماء وتفسيرها.
* لم يذكر السّيّد -أطال الله عمره- هذا الشّرط في الشّروط، لهذا قلنا انَّ الشّرائط عددها تسعة ولم نقل عشرة، ولكن مع ذلك فإنَّ الأعلميَّة شرط معتبر عنده بلا ريب، وقد أشار إلى ذلك في ضمن المسائل الآتية، ولربّما لم يذكره في الشّرائط من باب وجود بعض التّفصيلات الّتي تتيح للمكلَّف في بعض الحالات الخاصّة الرّجوع لغير الأعلم بسبب الاحتياط أو بتفويض من المرجع الأعلم الّذي يقلِّده، فيكون بالنّتيجة رجع لغير الأعلم بتجويز من الأعلم، فهو إذن اتّبع الأعلم، ولم يصح رجوعه له إلا بتفويض منه، وبالتّالي الأعلميّة شرط معتبر على الدّوام.
* بعض العلماء لم يعتبر الأعلميَّة من الشّروط في جواز التّقليد بتصريح واضح منه، كما انَّ بعض العلماء يرى بانَّ الأعلميَّة أمر لا يمكن إدراكه وتشخيصه، بمعنى أنَّ تعيين من هو الأعلم من بين العلماء أمر متعذر لا يعلمه إلا الله، فقد يكون الفقيه أعلم في باب فقهي أو مسألة فقهيّة، والآخر أعلم منه في باب آخر أو مسألة أخرى وهكذا.
ولكنَّ السّيّد دام ظلّه يرى شرطيّة ذلك بناءاً القول الأشهر، وهو إمكان تحديد الأعلميَّة من خلال أهل الخبرة والمعاشرة، فالخبير المخالط للعلماء العارف بهم الدّاخل بينهم المطّلع على بحوثهم وتقريراتهم بإمكانه تحديد ذلك.
* نعم؛ يصعب على العوام تحديد ذلك؛ تبعاً لكثرة المجتهدِين، وانتشار التّقليد لأحدهم في مكان، وللآخر في مكان مختلِف في بلدة واحدة حال عدم وجود زعامة ومرجعيَّة معيَّنة لشخص منفرد يجتاح ساحة التّقليد بعلميّته الفائقة على الجميع كما حصل مثلاً في زمن الشّيخ الأنصاري –ره- حيث قلَّده القاصي والدّاني وتفرَّد بالمرجعيّة آنذاك ممّا لم يوجِد صعوبة لدى العوام في تحديد الأعلم، وهكذا ما شاكل من الموانع والأسباب؛ لذا قد تقول ما العمل إذن؟ و
كيف يَشترط الفقهاء شرط الأعلميّة على العوام في التّقليد وهو متعسّر الإدراك بالنّسبة لهم؟!
ج: وضع الفقهاء لتحديد الأعلم لدى العوام بل ولمن هم ليسوا من أهل الخبرة، ضوابط شرعيّة يتم باتّباعها إبراء الذّمّة في اختيار المجتهد وتقليده، وهذا ما سنبيّنه في الدّرس القادم إن شاء الله تبارك وتعالى.
* المبحث الرَّابع: (التّعبيرات الفتوائيّة والاحتياطيّة في الرِّسالة العمليَّة):–
الأحوط لزوماً = الأحوط وجوباً
الأحوط الأولى = الأحوط استحباباً
* يجوز في كل ما تمَّ الإفتاء فيه بالاحتياط الوجوبي أو الاستحبابي أن يقلِّد المكلَّف فيه مرجعه الّذي اختار تقليده، أو الرّجوع إلى مجتهد آخر، ولكن يُشترط في رجوعه لمجتهد آخر أن يراعي الأعلم فالأعلم.
* إذا عبَّر الفقيه بقوله: الأظهر أو الأقوى وما شاكل من التّعبيرات فاعرفْ أنَّ هذه فتوى، لذا عند اختيار المجتهد الحُجَّة وتقليده لا يـَجوز الرّجوع في مثل هذه الموارد إلى الغير.
للتعلیق أو مطالَعة التعلیقات اضغط هنا