بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الدَّرس الفقهي الخامس:-
* حديثُ العِلم:-
المبحث السّابع (شكوك الوضوء):-
أ- أشكال الشّك في الوضوء بالنِّسبة للحدَث:-
1- مَن كان على وضوء وشكَّ في هل أنَّه لا زال على طهارة أم لا، فيحكم بأنّه على طهارة 2- والعكس بالعكس؛ فمَن تَيقَّن أنَّه كان على حدَث وشكَّ هل تطهَّر أم لا، فحكمه حكم الـمُحْدِث.
* قاعدة عامَّة (قاعدة الشَّك واليقين):-
اعلمْ أنَّ الشّريعة المقدّسة تقرُّ بأنَّ اليقين عندما يصادمه الشَّك يكون مقدَّماً عليه؛ لأنَّ اليقين أقوى من الشَّك، والأقوى لا يهدمه الأضعف، فالّذي يقدِّم الشَّك على اليقين في أي أمر من أموره هو شخص غير قويم في تصرّفاته وأفعاله وسلوكيّاته، قال تعالى:
{إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ}[1]؛ فالظَّن رغم أنَّه أقوى من الشّك إلا أنَّ الله تبارك وتعالى -الّذي هو سيّد العقلاء- ينهى عن تقديمه على العِلم، فالشَّك نسبة العلم فيه ضئيلة بينما نسبة العلم في الظّن كبيرة شيئاً ما، فالظَّن وإن كان يحمل جهلاً، إلا أنَّ نسبة العِلم فيه تتعدَّى الخمسين بالمئة، وهذا بخلاف الشّك حيث لا تتعدَّى نسبة العلم فيه نسبة الجهل، فنسبة العلم فيه تساوي 50 بالمئة وكذا نسبة الجهل فيه تساوي 50 بالمئة.
وعليه؛ إن كان الظّن رغم كونه أقوى من الشّك قد نهَى الله تعالى عن تقديمه على العِلم، فكيف بالشّك الّذي هو أضعف من الظّن بكثير؟!
فهل من العقل تقديم الشّك على اليقين؟
كلا، ليس ذلك من العقل، وفاعله منحرف في تصرّفاته ووسواسي.
إذن القاعدة في الشّريعة وكذا في حياة العقلاء هي: أنَّ كفَّة اليقين دائماً تكون هي المرجَّحة، وأنَّ اليقين لا يُنْقض بالشَّك، وأنَّ الشّك لا يقاوم اليقين؛ لذا حكم الدِّين الحنيف بأنَّه إذا دار أمر من الأمور بين الشّك فيه من جهة واليقين فيه من جهة أخرى؛ وجب تقديم جهة اليقين، تماماً كما في مسألتنا هنا: يقين في الطّهارة وشك في الحَدَث أو النّجاسة..، فالنّتيجة هي الحكم بالطّهارة.
مسألةٌ:
3- مَن تيقَّن الوضوء وتيقّن الحدَث أيضاً، ولكن شكَّ هل أحدث أوَّلاً ثمَّ توضّأ أم العكس، فما حكمه؟
ج: في هذه الحالة يحكم بالحدَث، ويجب عليه الوضوء.
لاحظ هنا شكَّ المكلَّف في الإثنين معاً وتيقَّنهما معاً أيضاً، فكانت قوَّة العِلم فيهما متساوية، وكذا نسبة الشّك.
قد تتساءل لماذا قدَّمنا في هذه الحالة الحدّث على الوضوء رغم تساويهما؟ وهل طبّقنا هنا القاعدة السّابقة “قاعدة الشّك واليقين” أم لا؟
ج: قدَّمنا الحدَث وأوجبنا الوضوء؛ لأنَّنا على يقين بأن الإنسان في الأصل –أي منذ وجوده- لم يكن على وضوء، أو لا أقل نتيقَّن بأنّه أحدث وأراد الوضوء عن الحدث، فكان اليقين هنا مع الحدَث وفي كفَّته، لذا حكمنا به وأوجبنا الوضوء، وهذا تطبيق للقاعدة السّابقة كما ترى.
هذا وبما أنَّ ذمَّة المكلَّف مشغولة بالإتيان بالصّلاة الواجبة عليه بوضوء متيقَّن به، وأداء الصّلاة المرادة من الخالق سبحانه عن علم بتطبيقها كما هي بجميع شرائطها، لتفرغ الذمّة عنها يقيناً، وبما أنَّ هذه الصّلاة لا تفرغ ذمّة المكلّف منها إلا بوضوء معلوم لا يُشك في تأخّر الحدث عليه، كان على العبد أن يأتي بوضوء جديد وأن يحقِّق طهارة يقينيّة لا يزاحمها شيء؛ لذا أوجبنا عليه ترجيح جنبة الحدث في هذه الحالة.
ب- أشكال الشّك في الوضوء بالنّسبة لنفس الوضوء:-
مَن شكَّ في صحّة وضوئه، بمعنى أنّه شكَّ هل أتى به صحيحاً أم لا: 1- فإن كان شكّه في أثناء الوضوء وجب عليه أن يعيد وضوءه، 2- وإن كان شكّه بعد الانتهاء من الوضوء فالوضوء صحيح.
3- مَن شكَّ في الإتيان بالوضوء، بمعنى أنّه شكَّ هل توضّأ أم لا، فالواجب عليه هو أن يتوضَّأ كما سبيّنّا.
* قاعدتا الفراغ والتّجاوز:-
والمبرِّر في هذا الشّكل من أشكال الشّك هو أنَّ الشّك في صحّة الوضوء بعد الانتهاء منه تجري فيه قاعدة فقهيَّة مهمّة – عامَّة للوضوء والصّلاة- تسمَّى “قاعدة الفراغ”.
فالمكلَّف بعد أن يفرغ من عمله فإنَّ الشّريعة المقدَّسة تُسقِط عنه التّكليف؛ لأنَّ العقل يقول بأنَّ المكلَّف حال العمل يكون –غالباً- عنده توجّه لعمله أكثر ممّا إذا انتهى من عمله، وبما أنَّ قوَّة العِلم تكون الكفّة فيها مائلة للحين الّذي يكون المكلّف فيه ممارساً لعمله، لا لحالة ما بعد عمله، حكمت الشّريعة المقدّسة بتغليب ذلك العلم على الشّك الحاصل فيما بعد الانتهاء من العمل، فالمكلَّف لو كان وضوؤه خطأً لالتفت لذلك أثناء الوضوء لا بعده، وما دام قد شكَّ في صحّة وضوئه بعد أن انتهاء منه فهذا دليل على أنّه كان يرى صحَّة وضوئه أثناء ممّارسة عمليّة الوضوء، وإلا لو كان يرى بطلان وضوئه أو يشك فيه في أثناء ممارسة أفعال الوضوء لما أستمرَّ إلى نهاية العمل ولما شكَّ بعده، ولما قال عن شكِّه بأنّه شك بعد الانتهاء من العمل، بل لقال بأنّه شك في أثناء العمل، وتعامل معه معاملة الشّك في أثناء الوضوء وطبّق عليه حكمه.
قال الإمام الصّادق عليه السّلام تأسيساً لهذه القاعدة –قاعدة الفراغ- المعتبرة شّرعاً:
“
وهذا بخلاف ما إذا وقع الشّك في أثناء الوضوء، إذ يجب حينئذٍ على المكلَّف الإعادة، ولا تجري في عمله قاعدة الفراغ؛ لأنّه لم يَفْرغ أساساً من الوضوء حتّى نقول بجريانها في حقِّه.
نعم هناك قاعدة فقهيّة أخرى تسمّى “قاعدة التّجاوز”، وهذه القاعدة سنبيّنها عند الكلام عن الشّكوك في أجزاء الصّلاة، فهي قاعدة تجري في الصّلاة ولا تجري في الطّهارة، ممّا يعني أنَّ قاعدة الفراغ تجري في الطّهارة والصّلاة معاً، بينما قاعدة التّجاوز تجري في الصّلاة ولا تجري في الطّهارة.
ج- أشكال الشّك في الوضوء بالنّسبة للصّلاة:-
1- ومَن شكَّ في الوضوء أثناء الصّلاة -بمعنى أنّه شكَّ هل توضّأ أم لا- فوظيفته قطع الصّلاة ثمَّ التّوضؤ ثمَّ الإتيان بصلاة جديدة.
2- ومن شكَّ في الوضوء بعد الصّلاة –بمعنى أنّه شكَّ هل توضّأ أم لا- فصلاته صحيحة، وعليه أن يأتي بوضوء جديد لصلواته الآتية.
3- مَن شكَّ في صحّة الوضوء أثناء الصّلاة، بمعنى أنّه شكَّ وهو في الصّلاة هل أنَّ وضوءه كان صحيحاً أم لا في حين أنّه على يقين بأنّه قد توضّأ- فوظيفته إعادة الصّلاة دون الوضوء؛ لأنَّ الإتيان بالوضوء متيقَّن لديه، وإنّما يشك في صحّته، وقد قلنا سابقاً بأنَّ الشّك في صحّة الوضوء بعد الانتهاء منه تجري فيه قاعدة الفراغ ويُحكَم بصحّته، بينما الصّلاة تعاد لأنّها يجب أن يؤتى بها بنيّة أنّها صلاة متضمِّنة للطّهارة، بينما هو شكَّ في طهارته أثناء الصّلاة.
4- مَن شكَّ في صحّة الوضوء بعد الفراغ من الصّلاة –بمعنى أنّه شك في وضوئه هل كان صحيحاً أم لا وكان شكّه بعد الانتهاء من الصّلاة- حكمَ بصحَّة صلاته وصحَّة وضوئه.
تبصرة (أ):-
هناك فرق -في مقامنا- بين أن نقول مَن شكَّ في الوضوء بمعنى “مَن شكَّ هل توضّأ أم لا” وبين أن نقول مَن شكَّ في الوضوء بمعنى “مَن شكَّ في صحَّة وضوئه بعد أن توضّأ”، ففي الحالة الأولى المكلَّف يشك في نفس إتيانه بالوضوء، هل جاء به أم لا، بينما في الحالة الثّانية المكلَّف يشك هل أنَّ وضوءه الّذي أتى به كان صحيحاً أم لا.
وإنّما أشرنا لهذا وقيّدناه؛ لكي لا يشتبه المكلَّف في المسألة، فالمسألة عند مطالعتها في الرِّسالة العمليّة تدقُّ على الكثيرين، ويشتبه في فهمها الكثيرون، فالتفت.
تبصرة (ب):-
إنَّ قطع الصّلاة بعد تكبيرة الإحرام لا يجوز في الشريعة، وفاعل ذلك مأثوم ومعاقب من قِبل الله تبارك وتعالى، لأنّه فاعل للحرام، فالشّريعة لمّا حرّمت قطع الصّلاة لم يحق للمكلَّف القيام بذلك أبداً.
نعم؛ هناك موارد استثنتها الشّريعة المقدّسة، وجوَّزت للمكلَّف قطع الصّلاة فيها، ومن هذه الموارد الحالة الثّانية من الحالات المذكورة، وغيرها ممّا سنشير له لاحقاً حسب تسلسل المطالب.
وعليه؛ إنَّ ما نراه من بعض المكلَّفين من تصرّفات جريئة على الخالق سبحانه وتعالى تجاه الصّلاة، يعتبر بأجمعه فعلاً للحرام المستلزم للإثم والعقوبة، إذ كثيراً ما نرى البعض يؤدِّي صلاته فيقطعها بداعي المزاح مع الغير، أو فتح الباب لزائر أو صديق، أو الرّد على الهاتف، وما شاكل من الأعذار الغير معتد بها في الشّريعة.
تبصرة (ج):-
لماذا حكمنا بصحَّة الصّلاة في الحالة الثّانية رغم أنَّها كانت مشكوكة الطّهارة والوضوء؟
وبعبارة أخرى: لماذا لم نعمل بقاعدة “الشّك واليقين” في هذه الحالة؟ فهل هي مستثناة من القاعدة؟
ج: كلا، ليست مستثناة، فنحن طبّقنا القاعدة؛ حيث أوجبنا على المكلَّف الإتيان بوضوء للصّلوات الجديدة؛ لأنّه بالنّسبة لتلك الصّلواة الآتية يشكّ في وضوئه وغير متيقِّن من إتيانه به.
نعم بالنِّسبة لصلاته الّتي انتهى منها لا يجب عليه أن يعيدها؛ لأنّه أتى بها عن يقين بالوضوء والطّهارة، ثمَّ بعد أن انتهى منها شكَّ في وضوئه وطهارته.
هذا وسيأتي وقد تقدَّم بيان القاعدة الفقهيّة المسمّاة بـ “قاعدة الفراغ”، فهذه القاعدة لها يد في تصحيح هذه الصّلاة الّتي لم يشك المكلّف في وضوئه إلا بعد أن انتهى منها، فهو بفراغه من الصّلاة نقول له مضى عملك بكامله فابنِ على صحّته ولا تهدمه بالشّك.
تبصرة (د):-
الشّك في الوضوء الواقع في الصّلاة حسب الحالة الثّالثة لا نريد به مجرَّد خطور الشّك في الذِّهن، وإنّما الوقوع فيه، بحيث يكون صاحبه ممارساً لذلك الشّك، ويقول عن نفسه أنا شاك في صحّة وضوئي، وإلا مجرّد خطور الشّك في النّفس ليس ممّا يوجِب إعادة الصّلاة، خصوصاً وأنَّ مجرَّد الخطور قد لا يسلم منه الكثير من النّاس، والحال أنَّ صلاتهم محكومة بالصّحّة بلا ريب، فتفطَّن.
تعقيب:-
ثمَّ إنّه في ظلِّ ما تقدّم نجد من البعض وسوسةً وهلوسةً تجاه أعمالهم العباديّة من وضوء وغيره؛ حيث يقع البعض في أشكال من الأمراض القلبيّة كالتّدقيق الشّديد في العمل، وتكرّر حالات الشّك لديه، وتكاثر مواردها، وتجاوزها الحدَّ المعقول!
هذا ما سنقف عنده وقفةً مليّة في الدّرس القادم، لنحلِّل حقيقته، ونبيّن مَهْلَكَته ونهايته، فتَرَقَّب.
أمين السّعيدي- رمضان 1431هـ
للتعلیق أو مطالَعة التعلیقات اضغط هنا