ردُّ دعاية نسْف علم الكلام [1 من4]
هذا الكلام سيقع متتالياً ضمن العناوين الآتية:
• تصوير الإشكالية.
• ردُّها؛ وفيه:
أ- (إثبات الثابت لا يلازم تحصيل الحاصل القبيح عقلاً).
ب- (نص المشتغلين بعلم الكلام لا يلازم تحديد هويته).
ت- (طغيان جزء الهوية لا يلازم كلّيّتها).
ث- (ضرورة التفريق بين علمي المناظرة والكلام، ولحاظ الشأنية).
ج- (ضرورة أخذ تعددية النِّحَل بعين الاعتبار).
ح- (قيام الإجماع المعنوي على خصوصية الإثبات).
د- (الغفلة عن تمحيص هوية الدفاع، وعدم العزلة بالعادة عن الثبوت).
ف- (محط الدفاع مؤكِّد منطقي على اتحاد المجال).
• إشكال: (في بطلان المفهوم من مفاد الإشكالية).
فبيان جميع هذه الأمور –والتي هي مجموعة مباحث اخترتها من كتاب كتبته وقدمت بعض بحوثه لمرحلة الماجستير بعنوان [المناظرات الكلامية لأنبياء أولي العزم في القرآن]- كما يلي:
• تصوير الإشكالية:
وقعت هنالك إشكالية تُتداول هذه الأيام في الأوساط العلمية –خصوصاً العقلية- حول علم الكلام.
وبغض النظر عن روّاد هذه المقولة الموقَّرة؛ فإنّ مفادها ينص على أنّ: علم الكلام هو علم شكلي لا مائزة فيه على علم الفلسفة، فهو إنما يَستعمِل المفاهيم الفلسفية ويكررها، مضافاً إلى أنه يدافع عن العقيدة الدينية بالتقليد من خلال الأدلة النقلية الظنية القائمة في أساسها على البرهان العقلي الثابت بمسائله في علم الفلسفة؛ وبالتالي فهو علم تكراري وتحصيل للحاصل القبيح عقلاً وميّت الكيان لا توليدية فيه ولا يخدم الفكر البشري بجديد ولا يستطيع أن يحل المسائل الإيديولوجية الكونية إلا بالتبعية الباطلة علمياً بإجماع الفلاسفة، والحال أنّ هذه المسائل إنما تُحَل أصالةً بالبرهان والحجة المنطقية فحسب، مضافاً إلى أنّ علم الكلام هو علم هويته دفاعية، والهوية الدفاعية هزيلة ضعيفة لا اعتبار ولا قيمة علمية لها مادامت تستند أولياً للتقليد لعلم آخر مثْبِت لمسائله ومتكفل بالدفاع عنها، هو علم الفلسفة الذي هو الطريق الأوحد لإثبات العقيدة وتقديم رؤية كونية صحيحة وناصعة وعامة لكل البشر.
ونحن هنا لابدّ أن نتأمل مطاوي هذه الإشكالية المتزايد صيتها والمتعالي صوتها، ثم نقرِّر مدى صوابها وسقمها ونعالِج ملابساتها؛ فالجواب عليها كما يلي:
أ- (إثبات الثابت لا يلازم تحصيل الحاصل القبيح عقلاً).
إنّ كون علم الكلام يثْبت مسائل ثابتة في الدين لا يعني أنّه علمٌ فاقدٌ للتوليد ومحصِّلٌ للحاصل؛ ذلك لأنّ الدين على جهات عديدة؛ منها التفسير والحديث والفقه والتاريخ والمواعظ والأخلاق …، وطبيعي أن تتجلى كل جهة من هذه الجهات في صرح مختص يتفرَّد بمسائلها خاصة، وعلم الكلام ليس إلا علماً مختصاً ببحث الجهة العقَدية من الدين مضافاً لما سيأتيك؛ فهذا هو حال كل علم دون استثناء؛ بل هل من الصحيح مثلاً أن نقول بأنّ علم الفلسفة هو تحصيل للحاصل في العقل البشري من معارف؛ وبالتالي هو علم لا قيمة له ولا صفة توليدية فيه؟
قطعاً لا يصح. وإن صح ذلك في علم الكلام؛ فيلزم أن يصح في الفلسفة وغيرها على السواء؛ فالباء تَجر أينما كانت من مفعولها، لا باء المتكلم لا تجر وباء الفيلسوف تجر.
ب- (نص المشتغلين بعلم الكلام لا يلازم تحديد هويته).
لقد وقع كلامٌ حتى بين أهل هذا الفن في هوية علم الكلام؛ هل هو علم دفاعي أم أكثر من ذلك؟ فذهب البعض للقول بأنّ هويته دفاعية.
إلا أنّه لا مناصَّ من بطلان هذا القول؛ إذ أنّ المتتبِّع لعلم الكلام يجده علماً توليدياً من الطِّراز الأول من جهة ودفاعيٌّ من أخرى، حتى لو ورد في كلمات بعض المشتغلين به ما يشير لذلك كما هو الحال تماماً في تعريف الغزالي مثلاً الآتي في بحثٍ قادمٍ بحول الله تعالى، بل حتى لو نصَّ البعض على أنه دفاعيٌّ محض؛ فلا عبرة بذلك قبال ما هو واقعٌ ظاهرٌ في هذا العلم.
ت- (طغيان جزء الهوية لا يلازم كلّيّتها).
نعم؛ هذا العلم طغت عليه الهوية الدفاعية بعد كونه ذا طابعٍ كلامي يحوي صفة المناظرة والمقابَلة والمحاوَرة من ناحية، وإثبات الثابت في عقيدة الدين من أخرى؛ والمحاورة والمباحَثة هي في طبيعتها ذات صبغة جدلية دفاعية، وكذا لأنّ إثبات الثابت هو فرع الفراغ عن ثبوته ومن ثمّ تحصيل الحاصل، وتحصيل الحاصل يبايِن هوية التوليد …
إلا أنّ هذا كله لا يُلازِم الحكم عليه بالهويّة الدفاعية فحسب.
ث- (ضرورة التفريق بين علمي المناظرة والكلام، ولحاظ الشأنية).
زِدْ عليه أنه ينبغي التفريق بين المناظرة وعلم الكلام؛ إذ ليست المناظرة والمحاوَرة هي نفس كل علم الكلام، ولا علم الكلام هو المناظرة فحسب، وإنما المناظرة جزء من هويَّة هذا العلم، ناهيك عن أنّ نفس المناظرة والمباحَثة فيها شأنيّة توليد العلم والأفكار، بل هي من أبرز وأكبر وأقدس مصاديق توليد المعرفة بما تمتاز به من جدل ..، سيّما إذا كانت عن بحث وتمحيص وتفكَّر وتدبُّر ورَوِيّة أو إذا بَعثَت على ذلك، وخير شاهدٍ على كلامنا كتب القدماء المدوَّنة التي بين أيدينا؛ كالتجريد الذي أصبح بحراً شاغلاً لطلاب العلم والمتخصصين وأساطين المعرفة وساحةً للمعارِف وإثارة دفائن العقول وخُرِّجَتْ عليه الكثير من المصنّفات القيّمة والفَذَّة البارعة.
ج- (ضرورة أخذ تعددية النِّحَل بعين الاعتبار).
هذا؛ وإنّ أبرز البراهين الصارمة على أن علم الكلام علم توليدي: بروز النِّحَل والمذاهب المتعددة؛ إذ العلة في بروزها هو نفس مسائل علم الكلام الذي فيه تتشكل المنظومة العقدية لكل فرقة؛ وإلا فأين يا ترى يراد لأهل العقائد الخاصة أن يبحثوا عقائدهم؟!
ح- (قيام الإجماع المعنوي على خصوصية الإثبات).
إنّ كلمات أهل هذا الفن بأنّ الكلام علم يُقتدَر معه على إثبات العقائد الدينية بإيراد الحجج ودفع الشُّبَه، وغيرها من العبائر بما يمثِّل إجماعاً معنوياً على أصل الوظيفة، يدل ذلك على أنّ هذا العلم إثباتيٌّ توليدي وليس علماً دفاعياً فحسب.
ولو فرضنا –جدلاً- أنّ أهل هذا الفن ادعوا وجود جنبة توليدية فيه زائدة على الجنبة الدفاعية مجرَِّد ادعاءٍ منهم؛ فإنّ هذا الكلام مدفوع بإرادتهم له أجمع في تأسيس علم الكلام حتى لو لم يطبقوه عملياً؛ وهذا بالتالي لا يَمنع من انتحاله هذه الصفة مادامت قابلة للتحقق فيه على وجاهتها كما سيأتي إثباته مفصلاً في النقاط التالية.
هذا من جهة.
ومن أخرى؛ فإنّ الواقع -كما بينا وكما سيأتي- خلاف ذلك؛ إذ نجد أنّ علم الكلام يحوي جهة توليدية من أوله إلى آخره.
د- (الغفلة عن تمحيص هوية الدفاع، وعدم العزلة بالعادة عن الثبوت).
ثمَّ إننا نتساءل: الدفاع في هوية هذا العلم عن ماذا؟!
إنّ الدفاع لابدّ أن يكون عن شيء مثْبَت؛ ذلك لأن الدفاع فرْعُ الثبوت، كما أن الدفاع في العلوم عادة لا يكون في مجال مستقل عن مجال الثبوت لذات المسائل؛ ذلك لأنك تتكلم عن علوم، والعادة المنطقية قائمة على أن مسائل العلم الواحد تُبحث في مجالها الواحد وموضوعها المتمحورة حوله الشامل لها المانع عن الأغيار والمميز لها عن غيرها حتى لو لم نقل نظرياً بأن لكل علم موضوع؛ إذ التمحور والتمايز عملياً أمر جوهري في كل علم؛ وإلا تَداخل كل شيء في كل شيء؛ وهذا –أعني التمحور- هو الواقع في طبيعة هذا العلم منذ نشأته وإلى اليوم؛ وبالتالي فإنّ علم الكلام علمٌ توليديٌّ أولاً –وبامتياز- ثم علم دفاعي، وإن لم يكن دفاعياً بالعَرَض وإنما من صميم الغاية.
ف- (محط الدفاع مؤكِّد منطقي على اتحاد المجال).
ناهيك عن أنّ المعتاد منطقياً هو أنّ تُبحث مسائل العلم وإشكالياتها في مجاله الواحد، لا أن يبحث الأول في مجال والثاني في مجال آخر، والحال أنّ الإشكاليات هي محط الدفاع لا المسائل كما هو واضح؛ إذ لو لا الإشكاليات لم يكن وجهٌ للدفاع، بل حتى لو بُحِثَتِ المسائل في مجال والإشكاليات في مجالٍ آخر؛ لم يَعْدُ ذلك وأنت خبير بداهة أن يَكون كل من المجالين مشَكِّلَين لعلمٍ واحدٍ لا علمين.
• إشكال: (في بطلان المفهوم من مفاد الإشكالية).
قد يستشكل الفيلسوف بالقول: إنّ ما قصده غير هذا، فمراده أعمق من هذا الفهم الظاهري، وأننا إنما نغرِّد خارج السِّرب؛ فالفيلسوف يوجِّه إشكاله بصورة أعمق وأبعد؛ ببيان: أنّ المراد هو كون علم الكلام يَبحث في جنبتين: الأولى إثباتية كما قلنا، والأخرى دفاعية عما ثبت، بينما الإشكال يكمن في أنّ الجهة العقَدية الإثباتية هي نفس الجهة التي بحَثَها الفيلسوف في قسم الإلهيات، وبلُغة أحسن وأفضل وأتم وأكمل وأشمل وأعم؛ بالتالي فإنّ المتكلِّم إنما هو كالببغاء يكرِّر ويُثْقِل كاهله ويضيع أوقات الناس بطرحه نفس ما طُرح في الفلسفة مجدداً؛ وهو تحصيل للحاصل، وتحصيل الحاصل قبيح؛ فعلم الكلام قبيح من أصله ولا فائدة منه، ناهيك عن كون علم الفلسفة أقدم وأسبق من علم الكلام واقعياً مرحلياً بل وعلمياً؛ وفي مثل هذه الحالة تكون أولوية الأصالة والبقاء للأول وأولوية السقوط والزوال والإلغاء للثاني الدخيل.
والجواب:
يرد على هذا القول أولاً وثانياً وثالثاً ورابعاً… وعاشراً كما سيأتي في الوقفة الآتية بحول الله تعالى.
أمين السعيدي
للتعلیق أو مطالَعة التعلیقات اضغط هنا