ردُّ دعاية نسْف علم الكلام [2من4]
هذا الكلام سيقع متتالياً ضمن العناوين الآتية:
• إشكال: (في بطلان المفهوم من مفاد الإشكالية).
• الجواب، وفيه:
أولاً: (في الموضوع والمسائل).
ثانياً: (في الآلة والسعة).
ثالثاً: (في ما وراء آلة الفلسفة).
رابعاً: (في المصحِّح للقياس).
دَفْعُ وهْمٍ.
خامساً: (في مبرِّر الاحتكار).
سادساً: (في ضرورة التوكيد، وطوارئ التعارض).
سابعاً: (في الغرض).
ثامناً: (في الهوية الشخصية).
تاسعاً: (في الحِماية).
عاشراً: (في تعاكس الأشملية).
فبيان جميع هذه الأمور –والتي هي كما ذكرت مجموعة مباحث اخترتها من كتاب كتبته وقدمت بعض بحوثه لمرحلة الماجستير بعنوان (المناظرات الكلامية لأنبياء أولي العزم في القرآن)- ضمن الوقفة الثانية –هذه- كالآتي، حيث انتهينا في الوقفة الأولى السابقة بالوقوف عند إشكالٍ كان مفاده ما يلي:
• إشكال: (في بطلان المفهوم من مفاد الإشكالية).
قد يستشكل الفيلسوف بالقول: إنّ ما قصده غير هذا، فمراده أعمق من هذا الفهم الظاهري، وأننا إنما نغرِّد خارج السِّرب؛ فالفيلسوف يوجِّه إشكاله بصورة أعمق وأبعد؛ ببيان: أنّ المراد هو كون علم الكلام يَبحث في جنبتين: الأولى إثباتية كما قلنا، والأخرى دفاعية عما ثبت، بينما الإشكال يكمن في أنّ الجهة العقَدية الإثباتية هي نفس الجهة التي بحَثَها الفيلسوف في قسم الإلهيات، وبلُغة أحسن وأفضل وأتم وأكمل وأشمل وأعم؛ بالتالي فإنّ المتكلِّم إنما هو كالببغاء يكرِّر ويُثْقِل كاهله ويضيع أوقات الناس بطرحه نفس ما طُرح في الفلسفة مجدداً؛ وهو تحصيل للحاصل، وتحصيل الحاصل قبيح، ؛ فعلم الكلام قبيح من أصله ولا فائدة منه، ناهيك عن كون علم الفلسفة أقدم وأسبق من علم الكلام واقعياً مرحلياً بل وعلمياً؛ وفي مثل هذه الحالة تكون أولوية الأصالة والبقاء للأول وأولوية السقوط والزوال والإلغاء للثاني الدخيل.
• والجواب:
يرد على هذا القول أولاً وثانياً وثالثاً ورابعاً… وعاشراً.
• (في الموضوع والمسائل).
أما أولاً: فعجباً؛ مَن قال أنّ الفيلسوف يبحث كل ما يبحثه المتكلم والعكس؟!
إذا نظرنا إلى موضوع علم الفلسفة في قسم الإلهيات الذي هو مورد الالتقاء؛ فإننا نجده –مبدئياً- يبحث عن واجب الوجود وصفاته وأصل التوحيد؛ ولكنه عندما يصل لبحث النبوة والإمامة والمعاد يَنشل أو يتوقف تماماً أو شبه التوقف التام؛ فهل العقيدة كلها أصل التوحيد؟!
لو كان كذلك؛ لما وجب أن يكون هنالك نظام إلهي وأنبياء ورسل من جهة الواجب الموجِد، بل لو كان كذلك لهدم الفيلسوف نفس ما أثبته من أصل صفة العدل الضرورية في الواجب ..
• (في الآلة والسعة).
ثانياً: إنّ الآلة التي يستعملها الفيلسوف الإلهي في بحثه هي العقل فحسب، والبحث العقلي محدود يقدِّم معارف عقدية محدودة، بينما علم الكلام فهو يعتمد آلة الفيلسوف وغيرها من الآليات المعتبرة الحجة عقلاً والتي هي آلة الشرع والوحي المِحْوَر الأدق والأشمل؛ بالتالي فإنّ علم الكلام أقدر على معالجة العقائد والقضايا الحياتية ونظام الإنسان وتحديد منهجه وتوجهه الحياتي وكافة حركاته من منطلق أشمليته وأوسعيته؛ إذ المحرِّك للإنسان ما يَعتقِد به، وما يَعتقِد به تارة مناطه الفكر والجوانح وأخرى مناطه الجوارح والعمل الذي وكيله الفقه الكامن في فروع الدين التي هي أحد قطوف علم العقيدة والفكر.
• (في ما وراء آلة الفلسفة).
ثالثاً: إنّ الفيلسوف عندما يصل للمسائل الروحانية الوحيانية في العوالم الواقعية أو الميتافيزيقية الماورائية الأبعد عن ماورائية عالم المفاهيم العقلية؛ فإنّه يقف عاجزاً عن التكلم فيها أو يقذفها –بفعل عجزه بالنفي الاحتمالي دون قطع مع يقينه بامتناعها رغم معارضة الامتناع لما أثبت على صعيد مفاهيم العقل العملي والأخلاق-؛ ومن هذا القبيل مثلاً أصل المعاد؛ إذ يعجز الفيلسوف عن إثبات وجود عالم آخر بعد الفناء رغم كل ما أثبته من القِيَم العقلية اليقينية المشيرة إليه؛ ومن ثمَّ يغلق الكتاب آتياً على جملةٍ واسعة من القِيَم الروحية السلوكية المستمدَّة من مباحث ذلك العالَم الأخروي؛ والعلة تعود في ذلك مثلاً لقاعدة أَسسَّها تنص على ’’استحالة تَوسّط العدم بين وجودين‘‘، فيأتِ علم الكلام ليمارس دوره ويظهر حقائق ذلك العالم ناصعة جليّة متِمّاً لحَلَقة الشوط المعرفي وساداً للفجوة المعرفية من خلال آلات أخر ثبت بالعقل حجيتها وضرورتها؛
وحقيقةً لولا علم الكلام بمعناه الأعم بما يشمل عقائد الديانات الأخرى قبل الإسلام؛ إذ ينحصر اصطلاح علم الكلام بالمسلمين إلا أنه قطعاً البشرية تعلّمت واستفادت بمرور الزمن من تعاليم الأنبياء الذين هم أول كائنٍ على وجه الأرض بأي مسمىً شئتَ أنبياء أم فلاسفة؛ فحقيقةً لو لا علم الكلام لَوقع الفيلسوف في متاهاتٍ عويصة وحار بأمره وارتد على عقبيه ناسفاً كل المبادئ الأخلاقية أو كثيراً منها؛ ذلك لأنّ المقيِّد الأعظم لحركة الإنسان وأفعاله هو عقيدته بالمعاد والحساب والجزاء في عالمٍ بعد الموت يقف فيه على كل صغيرة وكبيرة اجترحها في حق نفسه أو ربه أو البشرية أو الحيوانات والطبيعة.
• (في المصحِّح للقياس).
رابعاً: ما المصحِّح للمقايسة بين علم الفلسفة وعلم الكلام على هذا النحو في ظل كون علم الكلام يسع مسائل أبعد من مسائل أصول العقيدة؟!
وبعبارة أجلى:
إنّ المبحوث في إلهيات الفلسفة –حتى على فرض سعته- إنما يبحث في الأصول العقَدية التي هي منطلق كل ما بعدها من المسائل الواقعية والوجودية والدينية، بينما علم الكلام يبحث مسائل أبعد من الأصول، ويتدخل في قضايا فرعية منها ما هو أقل درجة بكثير من الأصول؛ من قبيل وجود الملائكة، وماهيّة صفاتهم، وصفات القرآن العامة، وصفات عالم البرزخ، وصفات الجنة والنار …، ومعلوم أنّ هذه المسائل فروع وليست أصولاً، بل إنّ المسوِّغ لإدخال مسائل مستحدثة جديدة في علم الكلام من منظارها الديني هو خصوص هذه الخصصية والجهة التي في الكلام، وإن كنا نقر بأنّ الفلسفة في فروعها الأخرى تبحث مسائل فرعية حياتية أخرى كما في مباحث سياسة الدول وسياسة الأسرة ..، إلا أنها إنما تبحث ذلك من منطلق عقلي واجتماعي وتجريبي … لا من منطلق ديني محض كما هو في علم الكلام.
ففي الواقع إنّ الفيلسوف الإلهي ليسد الثغرة ذهب مثلاً في مباحث النُّظم من سياسة الدول وسياسة الأسرة … إلى جعل منظومة فكرية متكاملة، إلا أنّ منظومته الفكرية إنما هي قائمة على الظواهر والرأي والمظنونات؛ فهي بالتالي لا تَحمل ميزاناً واحداً ولا نظاماً مفرداً متماسكاً كاشفاً نافذاً في اليقين، بخلاف مَباحثه مثلاً في الإلهيات؛ إذ تتسم بالدقة المتناهية وتعتمد القطع الأبلج الناصع، وإنّ علة تضارُب الفلسفات التنظيمية والاجتماعية –أو سمِّها السفسطات أو الفسلفات التنظيمية والاجتماعية- إنما هي نتاج فقدان الفلسفة للميزان القطعي الواحد الثابت الشامل فيها، مع أنّ الفلسفة ليست إلا علماً جامعاً واحداً، والفلاسفة الإلهيون ليسوا إلا رِجالات مسيرة واحدة.
فالفيلسوف دائرة بحثه من الناحية الإلهية أضيق، بينما المتكلم أُفقه أوسع؛ حيث يبحث جميع هذه الأصول العقدية الكبرى الضرورية المشكِّلة للمنظومة الفكرية الكاملة؛ بل والتي تشَكِّل الهدف من إثبات أصل التوحيد والصفات الإلهية؛ بالتالي فالفلسفة مِن هذي الجهة علمٌ ناقص، وعلم الكلام علمٌ كامل، والفلسفة علمٌ ناقصة متممه هو علم الكلام، والناقص محتاج للكامل من جهة النقص؛ بالتالي يجب على المتكلم هو مَن يُشكِل على الفيلسوف بالنقص الوارد على علمه وليس العكس!
• دَفْعُ وهْمٍ:
هذا؛ ولا يَرِد علينا ما قلناه في تَغاير وتضارُب الفلسفات التنظيمية والاجتماعية قِبال التغاير في النُّظُم القانونية والاجتماعية الناتج عن عموم المتكلمين أو عن خصوص المتكلمين المتمثِّل في المتكلمين الفقهاء؛ ذلك لأنّ التضارب هناك علته غيرها هنا؛ إذ التغاير هنا ناتج عن الظرف والعوائق التاريخية ودرجة الانكشاف تجاه أقوال الوحي بفعل ضياعها وتدليسها ..؛ فالعلة هنا كامنة في دليلية الدليل وصلاحية النفوس وليس في جهة الدليل؛ إذ جهة الدليل لو حضَرَتْ لانكشف الواقع تاماً دون إبهام، ولو أنّ الأنبياء كلهم اجتمعوا لَما تغاير في أُسس نُظُمِهم شيءٌ البَتَّة؛ فالأصل هنا إذاً ثابت، والتغاير حاصل بالعارض؛
لذا فإنّ المتكلم والفقيه إنما يشتغلان في فكِّ هذا الإبهام وإجلائه والحيلولة دونه، مع نهلِهما من النَّبع الأشمل والأتم؛ لذا هما من هذه الناحية أقرب للواقع، بينما العلة في تغاير الفلسفات التنظيمية والاجتماعية تعود لنفس النُّظُم والأُسس الموضوعية الموضوعة بالعقل القاصر؛ فالأصل هنا هو بذاته غير ثابت لا أنه متغير بالعارض، ناهيك عن طبيعة العوارض التي يكتنفها من جهة درجة سلامة الحواس وحدة النظر والفطنة ودرجة الذكاء ..؛ لذا فإنّ الفيلسوف من هذه الجهة أَبعَد منهما –أعني المتكلم والفقيه- عن الواقع.
وهذا بالتالي مفترَق آخر بين العلمين؛ وهو يمثِّل بالنتيجة مانعاً أمام دعوى الفيلسوف من عدم جدوائية هذا العلم الجليل وإسقاطه على أن تتفرد الفلسفة بالساحة المعرفية العقدية! والله العالم ماذا بعد هذا التفرد من تفرّدات تلحقه –مقصودة أو غير مقصودة، قد يستغلها البعض- ربما تصل لدعوى إلغاء الفقه وغيره والاقتصار على العقل في كل الشؤون؛ فإنّ شدة ودقّة الحملة الشعواء على الأديان الإلهية وخصوصاً السماوية لا يمكن التفطن لها إلا بشديد التدبر والتأمل وبُعد التدبير! وهذه مهمة العلماء الذين هم حياط الدين وحصانته. وإن كنت لست أقصد بجريان المكيدة على البعض التعريض بمن طرح هذه الدعوى من الإخوة الأجلاء الأفاضل، وإنما القصد هو أن المكيدة خطط لها فجرت عليهم، أو أن الفكرة نبغت لديهم بحسن نية دون التفات لما فيها ولعواقبها.
• (في مبرِّر الاحتكار).
خامساً: من الذي أعطى للفيلسوف صلاحية أن يستحوذ على العقل لنفسه ويتملكه ويدّعيه آلة خاصة به؟!
وبتعبير أوضح: إذا جاء المتكلم واستعمل العقل في جزء مسائله مثله مثل أي علم آخر؛ فهل يحق للفيلسوف أن يلغي علم الكلام من رأس ويطعن في قيمته العلمية؟!
وقد اتضح لك أن علم الكلام لا يشارك علم الفلسفة إلا في بعض المسائل وليس كلها؛ وبالتالي فإن كان للفلسفة حق بأن تلغي الكلام؛ فإنّ الأولوية والأحقية في هذا الحق سيكون لعلم الكلام من باب أولى لأنْ يلغي فلسفة الإلهيات من علم الفلسفة؛ ذلك لأنه يَضْمنها ويتضمن غيرها؛ فيكون ما في الفلسفة تحصيل للحاصل لما في علم الكلام –عدا ما يستقيل به الفيلسوف من آراء شأنه شأن أي متكلِّم- بغض النظر عن الأسبقية في التحصيل؛ إذ لا قيمة للأسبقية في مثل هذه المسألة؛ فتفطَّنْ.
• (في ضرورة التوكيد، وطوارئ التعارض).
زد عليه؛ وهو سادساً؛ أنّ علم الكلام وإن أثبت المسائل الفلسفية في مجاله من منطلق عقلي تكراري لما عند الفيلسوف؛ إلا أنّ علم الكلام يزيد على ذلك بالإثبات الشرعي لها خاصة، ومعلوم أن الإثبات الشرعي النقلي له فوائد غفيرة يَعلَمها الخبير المختص وإن كان استعراض البرهان النقلي توكيديٌّ أو كما يقال تبرُّكي لها، إلا أن البرهان النقلي، رغم أنه ظنٌ بخلوه عن البرهان العقلي، فعْله في النفوس لا يستهان به بتاتاً، خصوصاً لدى العامة والمثقفين، والحال أن هاتين الفئتين من الناس تشَكِّل غالبية المجتمعات البشرية، ومنها تتضح الأهمية القصوى لعلم الكلام، ناهية عن أثر التوكيد حتى في نفوس فطاحلة العلماء -كما هو واضح- فضلاً عن غيرهم؛
لذا تجد العالم إذا خالف رأيُه العقلي الرأيَ الشرعي النقلي القطعي الثابت؛ فإنّ الوجل ينتابه فيما وصل إليه عقله -تماماً كما ينتابه الشك فيما وصله من النقل عند تعارضه المستقر مع قطوعات العقل-؛ فيختار إما النظر مجدداً فيما انتهى إليه من طريق العقل، أو تأويل ما ثبت في الشرع، ويَبرز الصراع المستفحِل في نفسه حينما يكون الثابت الشرعي المخالف لنظره العقلي لا يقبل التأويل؛ فتراه يَعمل على مراجعة نظره العقلي القاصر أو تجييره، فهذا الأمر جليٌّ في العلماء والخبراء الصالحين من ذوي الحِنكة الرفيعة والفطنة الحاذقة والورع والتقوى والإيمان الحصيف؛ ومثاله ما وقع من أجلاء عباقرة الفلاسفة رضوان الله عنهم تجاه بحث المعاد وغيره.
• (في الغرض).
سابعاً: إنّ المتكلِّم في بحثه الإثباتي إنما يريد أن يضع رؤية الشارع المقدَّس -وأنبيائه ورسله- كمفكِّر له رؤية كونية ووجهة نظر تجاه الوجود مثله مثل أي كائنٍ عاقلٍ آخر؛ إذ إثبات الأصول قبل الاعتقاد بها يجعل الجميع من جهة حق الفكر سواسية، الخالق ومبعوثيه، والمخلوقين، لا فرق بينهما؛ وهذا يعني أن علم الكلام ليس علماً توليدياً ولا طريقة المقلِّد فحسب، وإنما علماً مستقلاً في طرحِ رؤية مقابل غيرها؛ وهذا له فوائد علمية ومعرفية عظمى من أبسطها القياس العقَدي بين الرؤية الفلسفية العقلية المستقلة للإنسان والرؤية الإلهية الدينية العقدية في عقيدة الواجد ورُسُله؛ فأين كل هذا مما يدعيه الفيلسوف من دعوى بطلان علم الكلام؟!
• (في الهوية الشخصية).
ثامناً: إنّ المتكلِّم صاحب رؤية ورأي، وليس متبِعاً للفيلسوف في كل ما يقول حتى يكون الكلام تحصيلاً للحاصل، فكم هي المسائل الفاصلة التي يفترق فيها المتكلم والفيلسوف؟!
فإنّ المتكلم ينقِّح المسائل؛ فيضع الرأي؛ فمثلاً لا يرى المتكلم التناقض الثنائي بين الوجود والعدم الذي يراه الفيلسوف من البدهيات فيفسِّر خطأ المتكلِّم على أنه شبهة في قبال بديهة، ويقف، فالمتكلم على رؤيته الثلاثية في هذه المسألة يحلحِل بمبدأ الضِّد والواسطة بين الوجود والعدم العديد من المسائل الفكرية الشائكة التي عجز عنها الفيلسوف، كما يختلفان مثلاً في أصل السنخية الذي هو قاعدة عُليا لدى بعض المناهج والرؤى، وغير ذلك الكثير الكثير،
ناهيك عن السِّجالات والمعارك العلمية المتأججة بين المتكلم وعلم فلسفة النفس؛ فمثلاً الفيلسوف في علم فلسفة النفس يرى تجردية الروح، بينما المتكلم يخالفه بقوة في ذلك ويذهب إلى ماديتها، كما أنّ هنالك تياراً متوسطاً بين الفريقين يذهب لماديتها الابتدائية وتجردها البقائي ..؛ وهذا بالتالي يثبت عدة أمور مسقطة للدعوى المزبورة. ناهيك عما فيه من تنشيط للحركة الفكرية وهيجانها البَنّاء عظيم المنافع.
• (في الحِماية).
تاسعاً: لو فرَضنا –تنزُّلاً- بأن علم الكلام علم دفاعي فحسب؛ فهل هذا بوحده يصحِّح إلغاءه؟!
إنّ الحيثية الدفاعية في علم الكلام لا يمكن الاستهانة بأهميتها العظمى والجسيمة القصوى، ناهيك عن فقدان علم الفلسفة لهذه الحيثية من جهتها الدينية الكلامية التي في هذا العلم كما هو معلوم للمتخصصين المتفحّصين في العلمين.
• (في تعاكس الأشملية).
عاشراً: فإنّ الوظيفة التي يقوم بها علم الكلام –سواء توليدية أو دفاعية- تتعلق في غالب جهاتها بجنبة خاصة تكمن في التوجه الديني، والتوجه الديني أخص من التوجه المنوط لعلم الفلسفة العقلي الشامل من جهته لكل الناس، فليس كل الناس لديهم إيمان بالدين الإسلامي الحنيف ونصوصه، بل هنالك من لا عبرة له بنصوصه حتى لو كانت مِن جنس النصوص العقلية الخالصة المتمثلة في الكلمات المعبِّرة عن الرؤية الإيديولوجية العقلية الدينية المَحضة تجاه تفسير الوجود وظواهر الكون. وكذا التوجه الديني أشمل لجميع الناس من جهة انطلاقه من المبدأ وإثبات الدين إلى المنتهى؛ وبالتالي فإنّ جزء الوظيفة التي يقدمها علم الكلام لا يقدمها علم الفلسفة.
وغير ذلك من البراهين الدافعة القاطعة لوهن هذه الدعوى الهرمة اليافعة.
• وعليه؛ إنّ إلغاء علم الكلام لصالح الفلسفة هو مقولة أشبه بمقولة إلغاء علم المنطق لصالح الفلسفة، أو علم القواعد الفقهية لصالح علم الفقه ..
لقد كان على الفيلسوف المستشكل أن يمتدح علم الكلام ويغازله، لا أن يغار منه أو يتصارع معه؛ فإنّ لعلم الكلام ميزات لا تمتلكها الفلسفة قَط، وكل منهما يكمِّل الآخر باعتبار، كما أن لعلم الفلسفة ميزات عظمى لا يمكن إغفالها والتنكر لها؛ فإنّ علم الفلسفة جوهر العقيدة وحاق الرؤية الكونية، والجوهر وحاقه أعلى المقولات، والشيء لا يكون إلا به وإلا انتفى عن حقيقة صفته لِغيرها، ويكفيك في جلالة الفلسفة عموميتها لكل البشرية بعمومية آلتها المختصة؛ فلا يليق بأحد من رواد هذين العِلمين الجليلين العظيمين الجسيمين أن يصْرف الآخر ويلغيه البتة.
هذا وقد يكون الدافع لدى بعض المحتجين على هذا العلم هو اللَّبس الحاصل من تعاريفه كما سيأتي إيضاحه وعلاجه إن شاء الله تعالى في الوقفتين الآتيتين. أو قد يكون الدافع هو التثاقل والملل عن البحث والتحقيق؛ نظراً لما يحمله علم الكلام من عمق ومشقة تتطلب جهداً إضافياً كبيراً يتمثل في البحث السندي والرجالي واللغوي والنحوي وغير ذلك من الفنون المتقدِّمة لفهم أدلته وبراهينه، ولست أعني بذلك المحتج العالم الورع العامل، وإنما صنفٌ من الناس؛ وهم أقلاء الهمم.
أمين السعيدي
للتعلیق أو مطالَعة التعلیقات اضغط هنا