أ- رسالة التطبير(1)
● مَدْخَل:
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على نبيه الأمين، وآله الميامين الطاهرين وصحبه المنتجبين، وبعدُ ..
بعدَ هدْأًتِ الأصوات وأُفولِ السُّبات؛ إذ انطفأ ذِكر الحسين عليه السلام، إلى عامٍ مقْبِل، والحسين بلا عاشوراء لا صَدح له، الحسين بلا عاشوراء كأخيه الحسن وكالإمام الهادي وغيرهما؛ حيث –العادة- لا ذِكْر لمشروع الحسين إلا آنذاك، وما أن تنتهي عاشوراء إلا تفسَّختِ النفوس وارتفعتِ الأوثان وخَمد معها الفوران وانتهى كل ذاك الحماسِ والهيجان، واحتضر الزمان والمكان، والأقداح والأصداح، والقرائح والأرواح، فبعد أن هدأتِ الأصوات وانضَمَرَ الإعصارُ الموقَّت، أريد أن أتحدث قليلاً مع العقول تارة، والقلوب أخرى، أريد أن أخاطب الإنسان، أتحاور مع الوجدان، تحاوُرَ العلم والتعليم، محباً لا معادياً، أتحدث من صميم مودّتي للمؤمنين إخوتي خاصة وبني جنسي عامة، ورحمةً بما حوْلنا من الموجودات التي تشاركنا هذا الوجود، وكل أملي أن يتلقى إخواني هذا الخطاب بسعة الصدر التي تعلمناها من الأنبياء والأوصياء عليهم الصلاة والسلام، وأن نتحلى بالصبر مستلهمين من صبر الحسين دروساً في كل الأنحاء؛ صبراً على المِحَن والبلاء، وصبراً على الراحة والرخاء، وصبراً على الاستماع والقراءة من البداية، إلى النهاية، دون تهورٍ في طرح وتعجُّلٍ في نقاش. ولستُ أخفي أحبتي وإخوتي أنني كنت كتبت جملة كثيرة من هذه الأبحاث في آونةٍ سابقةٍ من شهر محرم الحرام، محرم الحرام عن العُدوان والاقتتال والاحتراب، في فترة كان الصراع محتدماً، فأبيت على نفسي أن أظهر شيئاً منها، متريثياً لحين هدْأَتِ النفوس ورَوِيَّة العقول والفيء للمعقول؛ حتى تكون النفوس أكثر اتزاناً وأَشحذ هِمْةً لدراية ما أقول، احتكاماً لشرع الله الذي لم يدع صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها وبيَّن حُكمها بثابتٍ عقلي أو أمارة أو حُكمٍ ظاهريٍّ عملي ..
ومع الحُبِّ تارةً والودِّ أخرى، أكتب هذه الأوراق أيضاً –أولاً وآخراً- وفاءً بحق العلم، وإبراءً للذمة أمام الله وأوليائه، وحتى لا يقال بأن الشيعة وَهنوا في المسألة، وسكتوا عن بيان الرأي، وبسْطِ وجوهِه من مختلف الجهات كغيره؛ فمذهب آل محمد صلى الله عليه وعليهم حَصينٌ لا يَأبه النقاش ولا يخشى بسط المسائل والتدقيق فيها وتحقيقها كعادته المعهودة التي تلقيناها من أئمة الهدى صلوات الله وسلامه عليهم والسَّلَف الصالح تغمدهم الله رحمته وأسكنهم أعالي جنته، وعلينا –كجزء لا يتجزأ من مسؤولياتنا العظمى- زرع هذه الروح في الناس كما طبَّقوا وأمروا وسعوا وجَدّوا وجاهَدوا سلام الله عليهم وتسليم الأمانة زَهِيّة كما تَسلَّمناها.
ونريد –جنباً إلى جنب ذلك- أن نثبت للعالَم كافة ولكل الغزاة الطامعين خاصة، أن مذهب أهل البيت عليهم الصلاة والسلام عَصي على التمزيق والتمريغ، وأن أَتْباعه أوعى من أن يتخاصموا ويتفرقوا ويقتتلوا وتهِن شوكتهم، وأنهم أهل الرأي والنظر وطلاب العِلم وعشاقُ التدبرِ والتَّمَحُّص والبحثِ والتَّفَحُّص، لا تَضيق نفوسهم بكلام العلم كما سعى البعض لتصوير ذلك وغرْسِه في نفوس المؤمنين هفوةً من حيث لا يدري فوقع في شِراك المصيدة التي نسجها موصوف الحال مِن صوب والمكيدةُ الدقيقة من صوب؛ فآملُ من جميع المؤمنين وشيعة آل محمد صلى الله عليه وآله أن يَفهموا ويَفقهوا ويعوا سياسة هذه الرسالة ومنهجها ومقاصدها وما تضمنته من أبحاث، وأن يكونوا بقدر الآمال المنعقدة عليهم وبقدر الاسم العظيم الذي يحملونه وينتسبون به لآل محمد عليه وعليهم الصلاة والسلام، أنتم خَدمة الحسين، أنتم الكرماء الأسخياء، يا من سطرتم للعالَم كلِّه أروع صور الجودِ والمَآثِر وصبرِ المُناصِر والسَّمْتِ الفاخر والعطاءِ الناضر والصمودِ الباهر والشموخِ القاهر، أنتم لستم عاجزين عن الجَودة مرةً أخرى والثبات، أنتم لستم عاجزين عن التوطيد لمصلحة دينكم الكبرى وأجيالكم الحيرى، فأملنا بذوي الحجى منكم كبير.
ولست هنا في وارد فرض رأيي على أي أحد، ولا التعريض أو التنكيل بجهة؛ إنما أقدِّم الدلائل الوافية؛ للأغراض العلمية، والمعرفية، والعملية الآتية، مُستنطِقاً الأدلة والبراهين، معتدلاً متزناً محايداً، بعيداً عن المبالَغات، وكلام العلم لا يعلوه صوت ولا تستقيم معه المجاملة، وهو أمانة، والأمانة دَينٌ في الأعناق. وأصفُها بعنوانها “رسالةً” لكل حُرٍّ يَسعه عقله وقلبه التفكر بكل حرفٍ كتبته بعناية وقصدٍ فيها إليه بغاية، وأتطرَّق ما بَيْن أبحاثها لأكثر وأهم الإشكاليات المطروحة، تارکاً المجال للقارئ يستخلص الحُكم بنفسه، مع إفساح المجال كاملاً له للتدبر والبحث والرَّوِيّة ليَتخذ قراره بعد مطالعة أجزائها بأجمعها كاملة وتنقيحها تامة وإنصافها حق الإنصاف؛ فتلامذة الحسين عليه الصلاة والسلام الحقیقیون يَلزَم أن يجيدوا إنصاف أنفسهم والإنصاف على أنفسهم، وبأعلى مستوياته كإمامنا ومقتدانا صلوات الله وسلامه عليه، فإذا كان أَتْباع ومحبو الحسين –القيادة- عاجزین عن استلهام هذا المبدأ من قیادتهم الكبرى؛ فهم أَعجز عن استلهامه وغرْسِه في غيرِهم.
إنّ الحسين إخواني إنما يعمّنا في سفينة نجاته بالعلم والإنصاف، وأما غير ذلك؛ فليس كفيلاً أن يُكَوِّن أساساً لهكذا أمرٍ جليل؛ فالأهواء والميول وما ماثلها، ليست مؤهَّلة؛ لأنها متفاوتة متقلبة في متغيِّرِ الأطوارِ والأحوال؛ أما العلم القويم وإنصاف العقل السليم فثباتهما فوق حد الوصف، وبهما قيمة كل إنسان؛ لذا من منطلق عمومیة هذه الرسالة للجميع، سأسير في أبحاثها مبيناً –قدر ما أَمكَن- ما يحتاج من العناوين العلمية للبيان في نفس محل بحثِه، بألفاظ سلسة ميسَّرة؛ تسهيلاً ومراعاة لمختلف مستويات القارئ الكريم ولِيَعِها الجُل الأكثر ويتمكن من التأمل فيها جيداً؛ عساها أن تكون بارقة نورٍ في حياتنا الدنيوية والبرزخية والأخروية. وإنّ قلبي رحبٌ لكل مفيدٍ علمي فيه إنارةٌ أو إرشاد، والله حسبي عليه توكلت هو مولاي الرقيب نِعْمَ المولى ونِعْمَ الحسيب.
الفصل الأول: (تأسیس ضروري):-
قبل الشروع، لابد من إشارة لمسائل مهمة، لا تنفصل عما نحن فيه؛ وهي كما يلي:
● المسألة الأولى: (الصنف المخاطَب بهذه الأبحاث):-
وهي مسألة تتعلق بالمراد بصورة أولية توجيه هذه الرسالة إليه؛ فأقول:
أبحاث هذه الرسالة لست أكتبها للذي يريد العمل بالتقليد فحسب؛ بمعنى أنّ من يريد العمل بالتقليد؛ فله أن يكتفي بالعمل بفتوى مَن يقلِّد من الفقهاء العدول الجامعين للشرائط؛ فإنما أكتب هاهنا لصنفين؛ الأول هم الذين يعملون أو يريدون العمل بطريق الاحتياط لبلوغ الحكم الشرعي الواقعي؛ إما الاحتياط في كل القضايا أو بعضها. والاحتياط كما سيأتي، لا يتعلَّق بفرد دون آخر؛ إذ بابه مطْلَق مشرَّع للجميع، حتى للمقلِّد؛ فإنّ المقلِّد مخيَّر بين التقليد في المسألة المعيَّنة أو الاحتياط فيها، تماماً كما له أن يصير مجتهداً إن أراد فامتَلك القدرة على بلوغ درجة الاجتهاد المقرَّرة. هذا بالنسبة للصنف الأول المقصود.
والثاني المتخصصون في السّلك الفقهي خاصة؛ ذلك باعتبار أن المسألة مسألة حرام وحلال، والمجتهد ضالته دائماً إصابة حُكم الله تعالى بالبحث المستمر طوال عمره دون توقف، ويقر على الدوام كما نقر أن لا عصمة إلا لله سبحانه ومن اصطفى، والكل مأجور، أصاب أم أخطأ مازال عادلاً معتدلاً يَبذل كل طاقته ومجهوده في التحصيل دون غرورٍ وتكبُّر أو تسويفٍ وتثاقُل؛ ففي حديثٍ عن سبط رسول الله الحسن عليهما الصلاة والسلام قال: “مِن دلائل العالِم: انتقادُه لحديثه” وعن أبيه أمير المؤمنين سلام الله عليه قال: “مَن ادعى مِن العِلم غايته؛ فقد أَظهر مِن جهْلِه نهايته”. والمتخصصون في المجالات الأخرى عموماً، سيّما المجالات الاجتماعية والتنظيمية ..؛ باعتبار ما تتطلبه المسألة مِن تفصيلات هؤلاء المختصين في عدة من جزئياتها كما سأفصِّل؛ فإنّ جملة من مسائل الحلال والحرام كثيراً ما ترتكز في تشخيصها التكليفي، الخاص بظروفها، على رأي المختص العام؛ باعتباره مُعِيْناً ضرورياً للفقيه تارة وللمكلَّف المقلِّد أخرى؛ فمثلاً:
إنّ حَجّة الإسلام واجبة على كل بالغٍ عاقل مستطيع، مرةً واحدة في كُلّيِّ عمره، لكنه لو حصلت له الاستطاعة المالية وتوفرت لديه الشرائط الشرعية مِن تَخْلية السِّرْب –أمن الطريق- وغيره، وكان في ذات الحين مريضاً، فشَخَّص الطبيب الخبير –المختص- المؤتمَن أنّ هذا المريض لو ذهب للحج بهذه الحال فإنه ستتعلق به مشقَّة غير مغتفَرة ستتسبب بهلاكه؛ فهذا المريض لن يجب عليه الحج هذا العام، والسبب هو تشخيص الطبيب المختص، مع أن هذا الطبيب ليس فقيهاً، ورغم أنّ المريض وغيره من عامة الناس ظاهراً لا يَرون المرض الذي يعانيه يسبب له الهلاك المذكور، فلو لا رأي الطبيب؛ لكان وجوباً شرعياً على هذا المكلَّف أن يحج؛ فالطبيب شَخَّصَ هنا للمريض هل الشرائط الشرعية التي ذكرها الفقيه تنطبق عليه الآن أم لا. وكذا لو فرضنا أنّ الفقيه يريد أن يصدّر فتوى تتعلق مثلاً باقتصاد الدولة، وهو ليس مختصاً اقتصادياً، غاية الأمر أنه يمتلك الأدوات الفقيهة وعارف بالأدلة الشرعية التي من شأنها أن تمكنه من إصدار الفتوى الشرعية وفقما يَظهر له من الأمور؛ فلو قال المختص الخبير المؤتمَن إنّ تجويز الشيء الفلاني يضر باقتصاد البلد والمسلمين؛ فالفقيه سوف يفتي بناءً على مجموع ما يَثبت لديه من أدلة وقواعد الشرع ورأي متخصص الاقتصاد؛ فإذا كان عدم التجويز لا يتعارض مع ثابتٍ شرعي ولا ثابت اقتصادي آخر مضاد بنفس القوة؛ فسوف يفتي الفقيه للمكلَّفِين بعدم جواز ذلك الشيء؛ فلو فَرَضْنا أنّ بَيع النَّقْد من التّجّار في الأسواق بيعاً عشوائياً دون ارتكاز على قيمة مؤشِّر البورصة الرسمي يؤدي –حسب رأي المختص الخبير المؤتمَن وبغض النظر عن الجانب التنظيمي- ضرراً بليغاً معتداً به على عُمْلة الدولة واقتصادها والمسلمين؛ فالفقيه مباشرة سوف يفتي إفتاءً فقهياً بوجوب اعتماد الصرف على أساس المؤشِّر الرسمي أو حرمة بيع النقد وشرائه من التجار المتجولين إذا كانوا لا يلتزمون بمؤدى الحُكم؛ فيكون المختص هنا مُعِيناً للفقيه في أصل الفتوى. نفس الأمر فيما نحن فيه؛ فإنّ بعض التشخيصات التكليفية الخاصة بظروف بعض جهات هذه المسائل تَتعلق بنظر المختص العام كما سترى.
اكتفي بهذا المقدار إلى لقاءٍ في وقفةٍ آتيةٍ إن شاء الله تعالى.
أمين السعيدي
نُشر أواخر ربيع الأول 1438هـ
للتعلیق أو مطالَعة التعلیقات اضغط هنا