أ- رسالة التطبير(10)
● موجز عناوين الأبحاث المتقدمة وفهرست المنعقِد هنا:
تَقدَّم الكلام في مَدْخل تمهيدي، تلاه الدخول في الفصل الأول بتأسيس مسائل هامة تتصل ضرورةً بموضوعنا؛ تكفّلَتِ المسألة الأولى منها بيان الصّنف المخاطَب بهذه الرسالة، وتكفَّلَتِ الثانية بيان أغراضها ومبرراتها ضِمن تسعة أمور، وفيما الفصل الثاني:
الفصل الثاني: أدلة التطبير بالعنوان الأولي الصريح:
المَبحث الأول:
بيان ألفاظ العنوان:-
● المسألة الأولى: ماذا نقصد بالحكم الأولي الصريح؟
يقسَّم الحُكم الشرعي إلى قسمين؛ ’’أولي‘‘ و’’ثانوي‘‘؛ ونريد بالحُكم الأولي الحُكم المُنْصَب بدايةً على الموضوع بغض النظر عن العوارض الدخيلة الخاصة، فمتى تَحقَّق ذلك الموضوع تَحقَّق الحُكم له بشخصه؛ وسمي بالأولي لأنه مباشِر لم يلاحَظ معه عنوان آخر خارج عن موضوعه، ولأن له حق الصدارة في الفحص والاستدلال بحكم كونه مباشراً جُعِل أولاً؛ وذلك من قبيل وجوب الصلاة ووجوب الطهارة لها ووجوب الحج ووجوب الصيام والجهاد ..، فـ’’وجوب الصلاة‘‘ الوجوب حُكم، والصلاة بشرائطها الخاصة موضوع مصبوب عليه الحُكم، وهو –أعني حُكم الوجوب- أمرٌ كُلِّي؛ لأنه يتحقَّق في كُلّي الصلاة في كل فرد من أفراد الصلاة وكل زمن من أزمانها .. كما أنّ الأولي كلي لشمول مفهوم عنوانه أحكام مختلفة في شتى أبواب الفقه وموضوعاته.
وهذا بخلاف الحُكم الثانوي؛ فالثانوي كالأولي من جهة كونه عنواناً كلياً، ولكنه من جهة الجَعل وإن كان مجعولاً لموضوع نفسه إلا أنه مجعول بلحاظ عنوان ومِلاك غيرِه؛ فهو متوقِّف على ظرف خاص يكون فيه مِلاك الحكم الأولي لا يَصلح للجريان بسبب اعتراض مِلاك موضوع الحُكم الثانوي له بفعل فقده شرطاً خاصّاً ووجود أهم منه؛ فالثانوي من قبيل وجوب حِفظ النظام ولزوم نفي الضرر وإبعاد الحَرج الشاق الغير محتمَل عُرفاً؛ فالضرر مثلاً موضوع الحُكم الثانوي، تم صَب الحُكم عليه مباشرة ولكنه من حيث غيره إنما يتحقَّق بعروض الضرر الدخيل عليه؛ فاحترام مِلْك الغير مثلاً وعدم التعدي عليه بغير إذنه واجب بالحُكم الأولي، لكنه لو فرضنا أنه في ظرف من الظروف كان احترامه يستلزِم ضرراً بليغاً جداً بحيث كان تلافي الضرر أهم؛ تماماً كما لو كان هنالك غريق لا يمكن إنقاذه إلا بعبور أرض الغير في ظرف لم يكن مجال لتحصيل إذنه؛ فإنّ الواجب حينئذٍ التعدي بالغصب بدخول الأرض بمقدار الضرورة للإنقاذ؛ ذلك بسبب جريان موضوع الحُكم الثانوي الذي هو لزوم نفي الضرر الغير مغتفَر لحفظ حياة النفس المحترَمة ودفعِه للحُكم الأولي عن الجريان بهذا المقدار.
ونريد بالعنوان الأولي الصريح ما يكون الدليل فيه واضحاً لموضوع محدَّد بعينه، لا مُجْمَلاً لا صراحة فيه؛ فالصريح من قبيل أقيموا الصلاة، والغير صريح من قبيل اعبُدوا الله؛ ففي الأول الدليل واضح لفرد معيَّن وهو الصلاة، وفي الثاني لا يوجد تحديد لشيء بعينه من العبادة؛ فتكون الصلاة مصداقاً له والحج مصداقاً له وزيارة النبي صلى الله عليه وآله مصداقاً له والدعاء مصداقاً له .. وسيأتي إن شاء الله مَزيد بيان عن الأولي والثانوي والأصل العملي اللَّذَين يقابلانه والفارق بين الأولي الخاص الصريح والأولي العام المُجْمَل وتحديد الوظيفة عند وقوع التخالف فيما بين الأولي والثانوي والوظيفة عند تخالُف الثانوي مع الأصل العملي، هل يكون حق التقديم للحكم الأولي أم الثانوي، وهل يكون التقديم للأصل العملي أم لمقابِله، ومتى يأتي دور كل واحد، وما السر في ذلك ..؟
هذا؛ وهنالك حُكم يُطْلَق عليه ’’الولائي‘‘، يَجعله البعض قسماً ثالثاً في قبال الحُكم الأولي والحكم الثانوي؛ ويراد بالحُكم الولائي حُكم الحاكم الشرعي –الوالي- الذي بيده زمام الأمور، فهو غير مقيَّد بالعمل بالأحكام الأولية والثانوية، وإنما له أيضاً حُكم جزئي مستقِل يتعلق بتشخيصه للأمور والإجراءات المتَّخَذة حسب الأوضاع والظروف المحدَّدة والمَصالح والمَفاسد.
لكن تحقيقياً، هذا الحُكم وإن كنا نقر به وأنه للحاكم، إلا أنه حقيقةً ليس قسماً ثالثاً في عرض القسمين الأول والثاني؛ وإنما هو في طولهما؛ بمعنى أنّ الحاكم الشرعي إنّما يطبِّق الأحكام الكلية الأولية والثانوية حسب الإجراءات والأحوال والظروف تبعاً للمصالح والمفاسد؛ وذلك من خلال تشخيصه للحُكم الذي يجري في موضوع الواقعة الفردية الفلانية، هل هو الحكم الأولي أم الحُكم الثانوي؛ فمثلاً إذا وجد بأنّ العنوان الأولي فيه ضرر معيَّن في المرحلة الفلانية؛ فإنّه ببركة العنوان الثانوي يَدع الأخذ بالحُكم الأولي ويَستعمِل الحكم الثانوي مميِّزاً لصورة الإجراء؛ فيقدِّم قاعدة نفي الضرر أو لزوم حِفظ النِّظام التي هي من الأحكام الثانوية الحاكمة .. على الأحكام الأولية عند حصول التنازع بين الأولي والثانوي، فإذا ارتفعتِ العِلة المانعة عن جريان الحُكم الأولي –أي ارتفع الضرر أو لم يَحصل شرْخ في النظام- فإنّ الحاكم يأخذ بالحُكم الأولي ويجريه في موضوعه كما هو دون تصرُّف فيه؛ فزكاة الأنعام مثلاً في الشرع حُكم أولي، ولها نسبة ثابتة، لكن الحاكم الشرعي يستطيع في ظرف ما أن يزيد في مقدارها عند الضرورة الماسة حال عدم كفاية وجوهها لسد الضرورات واستتباب المعاش والنظام، فإذا ارتفعتِ الضرورة عاد للنسبة الأولية الثابتة، ومِثله أيضاً ما لو شخَّص لزوم التجنيد في مرحلة ما؛ فإنّ له أن يوجِب ذلك على الرَّعيّة بمقتضى تكليفه القيادي ووظيفته الشرعية؛ فهو إذاً إنما يشخِّص الحُكم للعنوان الأولي أو العنوان الثانوي الجاري حسب نظره في الموضوع الفلاني المحدَّد ويجريه دافعاً الرعية إليه سواء كانوا ممن يقلده أم لا. وهذا الحُكم الولائي محدود بحدود أيضاً كالحُكم الثانوي؛ فإنّه لا يحق له التصرف في ثوابت موضوع الحُكم الأولي، وكذا ثوابت موضوع الحُكم الثانوي؛ فمثلاً الصلاة لها ركعات محدَّدة ثابتة لا يحق تغييرها، والضرر له مقدار عرفي لا يحق تجاوُزه بالصيرورة لإجراءات الثانوي دون تَحقَّق المقدار المعتبَر الموجِب لرفع اليد عن الأولي ..
● المسألة الثانية: الحُكم الأولي الصريح في التطبير:
بعد أن عرفنا المراد بالحكم الأولي؛ نتساءل: هل يتوفر لدينا حكم أولي في التطبير أم لا؟ وبتعبير أوضح: هل التطبير -بصفاته ومشخصات القائمة- له عنوان موجود في الشريعة مصبوب عليه حُكم إلهي مباشِر بالهيئة المتقدمة كالصلاة وغيرها؟؛ فالصلاة عنوان موجود في الشريعة وموجَّه فيها حكم واضح بقوله تعالى {أَقِيموا الصَّلاةَ .. واركَعوا معَ الرَّكعِين}[البقرة: 110]، و{إنّ الصَّلاةَ كانت على المؤْمِنِين كِتاباً مَوْقوتا}[النساء: 103]، و{أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ}[الإسراء: 78]، و{أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْري}[طه: 14] ..؛ فهل التطبير –بما هو بمسمى شعيرة دينية إلهية- موجود في الشريعة مذكور في الآيات أو السُّنّة الشريفة ومجعول له حُكم مباشر من قبيل مثلاً آية تقول أقيموا التطبير وطبِّروا مع المطبّرين، أو إنّ التطبير كان على المؤمنين كتاباً موقوتا، أو أقمِ التطبير لدلوك العاشر، أو أقمِ التطبير لذِكري، أو رواية تقول ’’التطبير‘‘ مباح أو راجح أو واجب أو مرجوح أو حرام ..؟
قد يَتصوَّر البعض أن البحث في مسألة التطبير یتعلق بالحكم الثانوي أو الأصل العملي فحسب، دُون الحکم النَّصّي الأولي، إلا أن هذا التصور باطل؛ وبرهان بطلانه أنّ السُّنة الشريفة ثلاثة أقسام؛ هي: روايات وسيرة النبي والمعصومين عليه وعليهم الصلاة والسلام –فعلاً أو تقريراً-؛ أي قول المعصوم وفِعل المعصوم وتقرير المعصوم؛ أما القول والفعل فمعنى كل منهما واضح لك، وأما التقرير فهو إمضاء المعصوم لأمرٍ وقع من غيره نفیاً أو إثباتاً؛ فلم يَعترِض عليه؛ فإنه بتركه ذلك وسكوته عنه بعد كونه معصوماً رجل الشريعة ووظيفته التلبيغ والإنذار لأحكام الله، يدلِّل على القَبول والشرعية، شريطة أن لا يكون المعصوم في حال تقية؛ فالتقية تَمنع الأخذ بمفاد القول والفعل والتقرير الصادرين عنه؛ فمثلاً لو رأى المعصوم رجلاً على المنبر ينهى جموع المستمعن عن التدخين الذي لم يَسبق فيه أن صدر حكم، فسكت -المعصوم- عنه؛ فإننا نفهم أنّه مقر بصواب ما قاله الخطيب؛ فيكون ذلك حُجة علينا كحجية ما لو قال المعصوم أو فَعل شيئاً؛ بالتالي فإنه يكفينا ولو واحد من هذه الثلاثة يَذكر التطبير ليكون عندنا حُكم أولي فيه، والحال أنه في التطبير يوجَد لدينا تارة روايات وأخرى التقرير.
فنتساءل أيضاً: هل هذه الروايات والتقرير يفيدان نفي التطبير أم تجويزه ..؟
فنقول: حقيقةً؛ لا يوجد في الشرع لمسألة التطبير غير دليلين أوّليين صريحين؛ وهما في صالح التطبير وليس ضده، کما يكفي دليل واحد منهما لإثبات جوازه ولا حاجة لأكثر، إلا أن التطبير رغم ذلك يَمتلك دليلين صريحين لا واحداً؛ وكل منهما عملي ذُكِرا نقلاً؛ وهذا یجعل إثبات جوازه علمياً أقوى؛ أما الدليلان فهما وتحقيقهما صحةً وبطلاناً کالتالي.
(أحكام شرعية أولية صريحة مؤسِّسة لجواز التطبير واستحبابه ووجوبه)
المبحث الثاني:
الدليل الأولي الصريح الأول (حادثة لطم المَحْمَل):-
يأتي إن شاء الله تعالى في الوقفة الآتية.
أمين السعيدي
أواخر ربيع الثاني 1438هـ
[alert color=”” icon=””]
موضوعات ذات صلة:
[button color=”” url=”http://anbyaa.com/?p=11344/”]أ- رسالة التطبير1 (مَدْخَل، والصنف المخاطَب بهذه الأبحاث)[/button]
[button color=”” url=”http://anbyaa.com/?p=11381/”]أ- رسالة التطبير2 (أغراض ومبررات)[/button]
[button color=”” url=”http://anbyaa.com/?p=11444/”]أ- رسالة التطبير3 (الطُّرُق الحُجة لإحراز الحُكم الشرعي، ومراتبها، والطريق المختار)[/button]
[button color=”” url=”http://anbyaa.com/?p=11459/”]أ- رسالة التطبير4 (الإصلاح الداخلي للدليل)[/button]
[button color=”” url=”http://anbyaa.com/?p=11479/”]أ- رسالة التطبير5 (تشجيع العوام والمثقَّفِين على الجُرأة في الدِّين)[/button]
[button color=”” url=”http://anbyaa.com/?p=11495/”]أ- رسالة التطبير6 (علاج جدليّة: “تبصير الجاهل” و”تنبيه الغافل”)[/button]
[button color=”” url=”http://anbyaa.com/?p=11510/”]أ- رسالة التطبير7 (امتثال ’’حُكم الحاكم‘‘ وامتثال ’’فتوى المَرجِع‘‘)[/button]
[button color=”” url=”http://anbyaa.com/?p=11523/”]أ- رسالة التطبير8 (إحراز القطع وتفعيل أثره)[/button]
[button color=”” url=”http://anbyaa.com/?p=11540/”]أ- رسالة التطبير9 (لا أَتَكلَّم فيه بشيء)[/button]
[/alert]
للتعلیق أو مطالَعة التعلیقات اضغط هنا