أ- رسالة التطبير(3)
● موجز عناوين الأبحاث المتقدمة وفهرست الأبحاث المنعقدة هنا:
الموجز: تَقدَّم الكلام في مَدْخل تمهيدي تلاه الدخول في الفصل الأول المعقود لتأسيس مسائل هامة تتصل ضرورةً بموضوعنا، تَقدَّم منها المسألة الأولى التي تكفّلَتْ بيان الصنف المخاطَب بهذه الرسالة. وتقدَّم من المسألة الثانية التي تكفَّلَتْ بيان أغراض ومبررات الرسالة، حيث افتتحتها بالسؤال: (لماذا الكلام في هذا الأمر؟)؛ ذلك بناءً على ما قد يتبادر لأذهان بعض المؤمنين بأنّ الحديث في هذه المسألة هو ضربٌ على وَتَر التفرقة وبثِّ النزاعات في المجتمع الواحد .. فأجبت بأن هذا التبادر ساقط؛ ذلك لمجموعة أمور تَقدَّم منها الغرض والمبرِّر الأول والثاني والثالث والرابع، وفيما يلي فهرست المحتوى الحاضر:
● الفصل الأول (تأسيس ضروري):
● المسألة الثانية: (أغراض ومبررات الرسالة):
خامساً: (الطُّرُق الحُجة لإحراز الحُكم الشرعي، ومَراتبها، والطريق المختار).
وذلك كما يلي.
الفصل الأول: (تأسیسٌ ضروري):-
● المسألة الثانية: (أغراض ومبررات الرسالة):-
● خامساً: (الطُّرُق الحُجة لإحراز الحُكم الشرعي، ومَراتبها، والطريق المختار):
إنّ التقليد –مبدئياً- ليس هو الطريق الوحيد المتعيِّن على الإنسان لتحصيل الحكم الشرعي الموجَّه إليه من الله تعالى؛ فهناك ثلاثة طُرُق أخرى غيره حُجة يحق للإنسان سلوك أيٍّ منها بكل حريته لا يجبره أحد على إحداها، ورابع هذه الطرق هو التقليد، والتقليد أَدْوَنُها قدراً وأَنزلُها مرتبة وأَقلُّها شرفاً ومنزلة. فالطُّرُق الثلاثة الأخرى هي:
1- طریق اليقين التفصيلي.
هذا الطريق العلمي موارده قليلة في قِبال غيره، وإن لم تكن قليلة في حَد نفْسه؛ إذ موارده تتعلَّق بضرورات الدِّين وضرورات المَذْهب، وكذا ضرورات العقل، والضرورات عموماً كثيرة، غاية الأمر أنّ هذا الطريق لا يكفي لتحصيل كل منظومة الدِّين؛ وإنما يَنفع لتحصيل مجموعة من مسائله؛ والتي هي الضرورات؛ فمثلاً أنت عندما تطالِع أحوال المسْلِمين؛ فإنّك تجدهم جميعاً دون استثناء يُصَلُّون خمس صلوات في اليوم، وكذا عندما يصيب البول ملابسهم فإنهم يطهرونها للعبادة وإذا أَجنَبوا اغتَسَلوا لها، وكل مُسْلِم يَحج في عمره مرة حجاً وجوبياً، ويصومون في كل سنة شهر رمضان، ويحتفلون بكل عام بعيدين؛ الفطر والأضحى، ولا يلمسون كتابة القرآن بما ثبتت عندهم نجاسته، ولا يجيزون الربا …؛ فكل هذه الأمور أنت تَعرفها بمجرَّد نظرة سريعة خاطفة في أحوال المسلمين، فتَعلَم من خلال هذه النظرة بهذه الأحكام لديهم علماً تفصيلياً لا يشوبه أي شك، بحيث تتمكن أن تقول بلسان قاطع: إنّ المسلمين كلَّهم يَحكمون في هذه الأمور بهذه الأحكام.
فهذه الأحكام تسمى ضرورات دِينية؛ أي لا يَختلِف عليها شخص مسْلِم، فهي هوية لازمة ضرورية في حق كل فرد ينتمي لدين الإسلام. وأنت عندما استنتجتَ هذه الأمور لم تَجتهِد؛ إذ –حسب الفرض- لم تَتفحَّص الآيات والروايات بل ولا حتى تُتْقِن أساساً ضوابط الفقه وأصول الاستنباط المقرَّرة فيه، وكذا أيضاً استنتجتَ هذه الأمور دون أن تقلِّد أحداً؛ إذ –حسب الفرض- لم تَرجع في ذلك لمجتهِد معيَّن في هذه المسائل، بل قد لا تَعتقِد حتى بصحة التقليد؛ فأنت إنما طالعت أحوال المسلمين فاستنتجتَ هذه الأحكام بنفسك مباشرة.
وكذا لو مثلاً نظرتَ لأحوال أَتْباع مذهبٍ ما؛ فلو مثلاً طالعتَ المذهب الشيعي؛ فإنّك أينما تذهب تجد أَتْباعه يؤمنون بعيد يسمونه عيد التنصيب لخليفة الله ويحتفلون به كل عام، ويحيون عاشوراء في كل محرَّم، بينما يَختلِف معهم آخرون من نفس الدِّين، أو لو طالعتَ مثلاً المذهب الوهابي؛ فإنّك إذا وجدت أَتْباعه كلهم يؤمنون بأنّ الله شاب أَمْرَد -لا لحية له- وأن له بَدَن، بينما يَختلِف معهم آخرون؛ ستَفهَم مباشرة بأنّ هذه ضرورة مذهب؛ فإنّ عيد التنصيب وعاشوراء بالنسبة للمذهب الشيعي يكونان ضرورة من ضروراته حتى لو شاركهم فيها بعض أَتْباع مذهبٍ آخر؛ فهي ثابت مِن ثوابته التي تشَكِّل هويته المذهبية الخاصة بين عموم مذاهب الدِّين. ووصْف الشاب الأَمرد والبدنية لله بالنسبة للمذهب الوهابي يكونان ضرورة من ضروراته حتى لو شاركهم فيها بعض أَتْباع مذهبٍ آخر؛ فهي ثابت مِن ثوابته التي تشكِّل هويته المذهبية الخاصة بين عموم مذاهب الدِّين. وأنت عندما استنتجتَ وعَلِمتَ قطعياً بهذه الأمور، أيضاً لم تَجتهِد ولم تقلِّد أحداً؛ بحيث لو أصبحتَ شيعياً أو وهابياً؛ فعليك أن تَعمل بذلك دون حاجة لشيء، وإذا لم تَعمَل بذلك فإنّ انتسابك للمذهب يكون ناقصاً. هذا العلم القطعي الحاصل لديك هكذا، هو ما يسمى باليقين التفصيلي.
2- طريق الاجتهاد.
3- طريق الاحتياط.
واليقين التفصيلي أَشرفُ الطُّرُق وأَعلاها قدسية في ضرورات الدِّين بالنسبة للإسلام عموماً، وفي ضرورات المذهب بالنسبة للمذهب خصوصاً؛ إذ بالنسبة للمسلمين لا يُخْطِئ بإصابة الواقع الدِّيني في ضرورات الدِّين؛ حيث كل المسلمين يتّفقون على المسألة المسماة ضرورة، وكذا الضرورة المذهبية لا تخطئ بالنسبة لأَتْباع المذهب الواحد؛ كونهم يتفقون جميعاً عليها. فاليقين التفصيلي أشرف الطُّرُق وأعلاه قدسية لبلوغ الحُكم الشرعي الإلهي، ثم یلیه في الشرف طريق الاجتهاد تارة والاحتياط أخرى؛ فالاجتهاد والاحتياط في رتبة واحدة من الشرف بتبادل مواقعهما بحسبها؛ ذلك لأن الاحتياط الأَوَّلي يَحتاج للاجتهاد، ولو بدرجةٍ ما، والاجتهاد يَحتاج للاحتياط؛ فنفْس المجتهِد يَحتاج للاحتياط فضلاً عن متَّبِع طريق التقليد الذي هو أَقل المراتب وأسفلها وأدناها؛ ولهذا تتكاثر الفتاوى الاحتياطية في رسالة الفقيه، ولهذا أيضاً كان المقياس الفارق في اختيار المَرجِع المقلَّد بعد تَكافُؤ المجتهِدين في الأعلمية هو الأَوْرَعِيّة؛ والأورعية تعني أكثرية التَّـثَـبُّت وشدة التحوط في الإفتاء وعدم الإعراض والتساهل نوعیاً في تصدير الفتوى وإصابة الواقع الشرعي حال وجود مَطلب احتياطي مهم يقارِعه ويصادمه محتمَل آخر أو مصلحة ضرورية أو محتمَلة معتبَرة ..
وهذا يَتّفِق عليه كافة علماء المدرسة الأصولية والعقلاء. ولَمّا أقول العقلاء؛ فلأن التقليد للمجتهِد هو -بالدرجة الأولى- نتاج عقلي؛ فالعقل هو المَدْرَك الذي عنه قُرِّرَت حُجيّة طریق التقليد، فهو مَن يجيز التقليد مقيّداً بشَرطية أن لا يَصل لحد الاعتماد المطْلَق على مكلَّفٍ آخر، فيقيّده بقدر الضرورة والحاجة وإلا كان مذموماً؛ فالمجتهِد وإن كان من ناحية النظر له مِن أسفل إلى أعلى هو بمسمى مجتهِد، إلا أنه هو في حد ذاته حقيقةً مكلَّفٌ كغيره من المكلَّفين أيضاً، والعقل حاكمٌ بقبح تقليده الفاقد لهذه الشَّرطية الداخل في دائرة الاتكال الكامل على الآخر بما يَجعل مِن عقول المقلِّدين له مسلوبة كلياً للغیر؛ فإنّ الفقهاء الأصوليين المدقِّقين يتفقون على هذا المعنى العقلي الثابت، وهو عند المدرسة الأخبارية أكثر إشراقاً ووضوحاً من حيث هذا المقدار مِن المَنع العقلي، كما أن الأخبار الشريفة تذم التَّبَعيّة المطْلَقة بنحوها العام، ولهذا كانت عمدة الدليل لدى الأخباري في المَنع. وإلا لو كان المكلَّف مسلوباً كلياً عن القرار لانتقضَ أصل تقليده لغيره من أساس؛ ذلك لأن مَبدأ مخاطَبته مِن العالِم وتسيير هذا الطريق إليه واتخاذه القرار بأن يكون مقلِّداً لا مجتهداً .. هو نفْس حريته التقريرية التي أَعمَلَ فيها اختياره بنفْس عقله أولاً.
وعلى هذا؛ فإنّ المكلَّف لا يَلزَم عليه أن يَعمل بالتقليد دائماً؛ فقد يقرِّر أن يَسلك طريق الاجتهاد، ولو الاجتهاد التجزيئي؛ فإنّ الاجتهاد التجزيئي وإن لم يكن –حسب بعض الآراء- حُجة على غيره، إلا أنه حُجة في حق نفسه، فلا يَجوز له تقليد غيره فيما هو مجتهِد فيه مالكٌ لحُكمه عارفٌ له معتقِدٌ به بعد فرضه مجتهداً فیه ومحصِّلاً للحكم الشرعي المجعول منه تعالى؛ وإلا كان ذلك خلاف كونه عارفاً بالحُكم، وكان عاصياً عاملاً على خلاف حُجية علمه على نفسه.
هذا بالنسبة لمن اختار بلوغ الحُكم الشرعي بطريق الاجتهاد. وقد لا يَختار المکلَّف لا طريق الاجتهاد ولا طريق التقليد؛ وإنما يقرِّر أن يَسلك طريق الاحتياط، أو يقرِّر التنويع بين الطُّرُق؛ كأن يكون مجتهداً جزئياً في باب فقهي؛ كأن يجتهد في باب الطهارات والنجاسات، فيَتبع نظره الحُجة عليه فيه، ويكون من جهة أخرى مقلِّداً في باب آخر كالحج، ومحتاطاً في باب ثالث كباب الأطعمة والأشربة ..
من هنا يأتي الدور الكبير والجسيم للكلام في مَسألتنا بتعريف المكلَّف أمرين مهمين جداً: أولهما أي طريق له أن يسلكه في مواضع الشبهات، أَدْوَنَها شرفاً وهو التقليد أم أعلاها إن تَوَفَّر أم أَوسَطَها الذي هو غالباً متوفر في الاجتهاد لمالك ضوابطه وفي الاحتياط المتوفر لعموم الناس؟
وثانيهما التَّعرُّف في (ظرف تَكافُؤ الأَعلَميّة بين المجتهدين المعاصرين الأحياء)، التّعرّف في هذا الظرف على الفقيه الأكثر تحرزاً وتحوُّطاً ليتبعه إن شاء اتخاذ خصوص طريق التقليد.
وینبغی العلم والتأكيد، بأنّ مَن يَختار طريق التقليد في بلوغه للحكم الشرعي، تقليده يكون حُجة شريطة أن لا يَحصل له قطْع بخلاف ما أفتى به مرجعه في المسألة المعيَّنة؛ إذ عندئذ يَلزَمه العمل بقطعِه لا بفتوى مرجعه؛ فإنّ القطع –كما سيأتي- حُجة من جهة، ومن أخرى درجة العلم الحاصلة بقطع المكلَّف أقوى من درجة العلم الحاصلة لديه بفتوى الفقيه؛ إذ غاية وأقصى ما يُحَصِّل لدينا العمل بفتوى الفقيه هو درجة الاطمئنان؛ أما أننا عند فقْدِنا للقطع الشخصي بقضية نَقطع بأنّ مَرجعنا مصيب للواقع يقيناً فيها فهذا لا زاعم له ولا يمكن تَحققه؛ لذا يكون القطع الناشئ لدى المكلَّف هو المقدَّم بالعمل بل هو اللازم الحجة عليه أمام الله تعالى وإلا كان عاصياً باتّباعه الفتوى في تلك المسألة وتركِه العمل بقطعه فيها. هذا المقدار من البيان لا خلاف فيه.
وعليه؛ لماذا نَختزِل كل هذه الكُبرَيات المهمة العظمى وغيرها في جزئية واحدة تَكمن في أهواء التفريق وبث العصبية والنزاع العقيم فحسب، ومن ثم نَمنع الكلام في هذه المسائل ونُفَوِّت كبريات المصالح الواسعة التي تَفوقها بمراحل كبيرة جداً على رغم أن المتعيِّن على الجميع هو سلوك ما ذكرتُه في المَدْخَل بداية الكلام؟!
● سادساً: (الإصلاح الداخلي للدليل): يأتي إن شاء الله تعالى في الوقفة الآتية.
أمين السعيدي
أوائل ربيع الثاني 1438هـ
[alert color=”” icon=””]
موضوعات ذات صلة:
[button color=”” url=”http://anbyaa.com/?p=11344/”]أ- رسالة التطبير1 (مَدْخَل، والصنف المخاطَب بهذه الأبحاث)[/button]
[button color=”” url=”http://anbyaa.com/?p=11381/”]أ- رسالة التطبير2 (أغراض ومبررات)[/button]
[/alert]
للتعلیق أو مطالَعة التعلیقات اضغط هنا