أ- رسالة التطبير(4)
● موجز عناوين الأبحاث المتقدمة وفهرست الأبحاث المنعقدة هنا:
تَقدَّم الكلام في مَدْخل تمهيدي تلاه الدخول في الفصل الأول المعقود لتأسيس مسائل هامة تتصل ضرورةً بموضوعنا، تَقدَّم منها المسألة الأولى التي تكفّلَتْ بيان الصنف المخاطَب بهذه الرسالة. وتقدَّم من المسألة الثانية التي تكفَّلَتْ بيان أغراض ومبررات الرسالة، حيث افتتحتها بالسؤال: (لماذا الكلام في هذا الأمر؟)؛ ذلك بناءً على ما قد يتبادر لأذهان بعض المؤمنين بأنّ الحديث في هذه المسألة هو ضربٌ على وَتَر التفرقة وبثِّ النزاعات في المجتمع الواحد .. فأجبت بأن هذا التبادر ساقط؛ ذلك لمجموعة أمور تَقدَّم منها الغرض والمبرِّر الأول والثاني والثالث والرابع والخامس، وفيما الغرض والمبرِّر السادس:
الفصل الأول: (تأسیسٌ ضروري):-
● المسألة الثانية: (أغراض ومبررات الرسالة):-
● سادساً: الإصلاح الداخلي للدليل:
هذه المسألة –التطبیر- كغيرها من المسائل العلمية تنطوي على أبحاث من جهات مختلفة، وليست بالمستوى السطحي العابر الذي قد يتبادر لبعض الأذهان؛ فهي تارة تَحتاج للبحث من جهة تَوافُر النصوص (بحث مُعْجَمي)، وأخرى من حيث المَسانيد، وثالثة من حيث الدلالة، ورابعة تاريخية لكل نَص والظروف والعوامل والهيئات المحيطة به، وخامسة تاريخية من حيث مَنشأ النظائر والدواخل، وسادسة من حيث الذرائع وموازَنة المَصالح والمفاسد المستتبّة العائدة منها، وغير ذلك الكثير مما سنلاحظه.
فكل واحدة من هذه الجهات هي بحثٌ بحد ذاته، والإدلاء فيه يَحتاج لتوفير آليات العمل وتهيئة المادة العلمية الكافية، دون إخلالٍ مُخِل، وطبيعي أن الفقيه، عموم الفقيه وإن لم يكن مرجعاً، ليس بالضرورة دائماً تتوفر لديه كافة المعطيات بکافة تفاصيلها ومصادرها وظروفها وآثارها إلا أن يُعْلَم بها؛ ولهذا فإنّ الفقيه كثيراً ما تستجد لديه أمور لاحِقة بعد أن يتخذ قراره الحاسم فيها سلفاً مع ما له من جلالة القدر وأقربيته من إصابة الحكم الواقعي بما هو مختص شرعي، زِدْ عليه أن الحقيقة -عقلاً وشرعاً- لا يمكن أن تتعدد، وهذه بَدَهيّة لا يُرتاب فيها؛ فإنّ اختلاف الفقهاء في فتاواهم لا يمْكن فيه أن تَكون كل فتوى معبِّرة عن الحكم الإلهي الحقيقي الواقعي الواحد المُنْصَب على موضوع واحد؛ إنما إما هنالك فتوى واحدة منها مصيبة، أو جميعها غير مصيبة والفتوى المصيبة مجهولة لم يَقع عليها أحدهم.
وهنا أُمثِّل ذلك بقضية الاطمئنان العلمي الكافي لإبرام الحُكم الفتوائي بحق الفقيه نفسه والمكلَّفين الذين تحت جناح تقليده؛ فإنّ تحصيل الأدلة والاطمئنان العلمي بكفايتها يفي بأن يَكون حُجة لتصدير الفتوى؛ بمعنى أنّ الفقيه لا يتوجب عليه دائماً أن يَصل لِحَد اليقين حتى يبرم فتواه إن لم يتوافر له ذلك بحد معتبَر؛ فإنّ الاطمئنان أقل درجة من اليقين وإن كان مقارِباً له جداً بحيث يكاد التفاوت بينهما يَضمحل في نظر العقل العلمي فضلاً عن العقل العُرفي. وبحمد الله هذا أمر لا يَختلِف فيه فاحصٌ أو خبير، وأتذكر أنني في يوم من الأيام وجَّهتُ سؤالاً لأحد الفقهاء الأعلام البارزين الذين يفتون بالتطبير، قدَّس الله أرواح الماضین وحفظ الباقين، والاسم ليس المراد؛ إنما العلم غاية شُغل الحكيم، كان مضمونه:
ما هو الحد الرُّتْبي الذي تجدونه في نظركم مُبرياً للذمة أمام الله تعالى لإصدار الفتوى؟ فأجاب: يكفي بلوغ مرتبة الاطمئنان.
ولا شك أنّ مقصوده هنا بالاطمئنان–كمتمرِّس- ليس كل اطمئنان؛ إنما يعني الاطمئنان العلمي المتأتي من البحث والتدقیق والتَّوَفُّر على الدلائل الوافية بنُشوئه وحدوثه في النفس؛ بالتالي فإنّ هنالك درجة علمية يفقدها الفقيه في بعض فتاواه وإن كان أصل إفتائه يَتَّصف بالعِلم أمام الله تعالى؛ كما قلت باعتبار محدودية الإنسان؛ فتَحتاج مساحة الفراغ لأن تُملأ للفقيه، وقد لا تتوفَّر مقوِّمات ومسبِّبات إملائها، وقد تتوفّر؛ إما بعودته لبذل مجهود تبرعي إضافي خارج عن وظيفته حال فقدانه العلم -أو الاطمئنان أو الظن أو الشك- بوجود مَزِيد دلائل تَحتاج للفحص عنها من باب مزيد استرشاد وتأكُّد مما تَوَصَّل إليه، أو أن يقوم بعض أهل الاختصاص والباحثين بتوجيه مادة علمية مبحوثة إليه –ولو شَكّيّة- للنظر فيها، لعل وعسى أن يجد فيها ما ينير البصيرة أكثر فأكثر ويوقعه على مطابَقة الحكم الإلهي الحقيقي المجعول في واقع الشريعة إن كان أَخطَأَه.
ذلك لأن الشك -كما قَرَّرنا في الفلسفة- هو مفتاح العِلم والرکيزة الأولى للتّحرّك نحو البحث والتحصيل الإرادي؛ فإنّ النفس إذا لم تَشُك في وجود معرفةٍ ما تَحتمِل أن تَكون موجودة؛ فإنها لن تبحث عنها؛ وإلا كان بحثها عبثي لا مصحِّح له؛ بل إنّ النفس يستحيل أن تَلتفِت إلى المجهول بعنوان إرادة وطلب تحصيل أمر مجهول؛ إذ حسب الفرض هي جاهلة به ولم يَخطر في ذهنها حتى مجرَّد الشك بتَوفُّر مجهول يمكن العثور عليه؛ لذا لن تَبحث عنه من أساس؛ فمثلاً إذا كانت النفس لا تَتوقع بتاتاً -لا تَشك- بأنّها لو حَرَّكَّت فُصوص مِسْبَحة –خَرَزات سُبْحة- ستَتحصل من خلال ذلك على معلومة جديدة مجهولة لديها؛ فإنها لن تتوجه لذلك بنحو تَترقَّب فيه اكتشاف جديد من خلال هذا التصرف، بينما لو كانت تَشك أنها لو دَحرَجَتْ خرزة من السُّبْحة ستكتشف معلوماً أو قانوناً جديداً؛ فقد تبحث عنه وتطلبه. إنّ هذا الشك هو المحرِّك الذي دَفع بها نحو طلب المجهول والفحص للوصول إليه؛ لذا قلنا بأنّ الشك هو الركيزة الأولى لتحصيل المجهولات والبلوغ للمعلومات والمعارف. والشك أدنى درجات التحريك، وأعلى منه ما لو ظنَّت أو اطمأنَّت النفس بوجود مجهول يمْكن العلم به من خلال عملية بحثية تمارسها عليه.
وأما لو توصَّلَتْ للعِلم بمجهول دون سبْقِ شكٍّ لديها تجاه احتمالية العثور عليه؛ فإنّ هذا وإن كان ظاهرياً لا يسمى طلباً وتحرُّكاً إرادياً؛ وإنما يسمى مسمى صُدْفة؛ تماماً كما لو رَمَتِ النفسُ تفاحةً للأعلى بقصد اللَّعِب؛ وخلال هذه الممارسة اللهوية اكتَشفَت فجأة قانون الجَذْب؛ فهذا من حيث ظاهره صُدفة إلا أنه من حيث حقيقته عِلْم مسبوق بشك؛ والسّر في ذلك هو أنّ الاكتشاف يَحصل بإرادة وتحرُّك نحو طلب المجهول الذي هو حسب المثال قانون الجذب، غاية الأمر أنّ الصُّدْفة أَلْمَحَتْ للنفس فقط؛ ثم النفس شَكّتْ واحتَمَلَت وجود هذا القانون فبَحثَتْ عنه فوصلَت إليه بنحو الإثبات الأكيد لا الإلماح فحسب، لا أنّ الصُّدفة جاءت مباشرة بقانون الجذب وقَذَفَتْه في النفس قذفاً لتَعْلَم به كقذف الله تعالى العلوم في أوعية أنبيائه والأولياء بالاتصال بالعقل المجرَّد المطْلَق وكالبَدَهيات الموجودة في تكوين عقولنا كعِلمنا البَدَهي مثلاً بأنّ الجزء أصغر من الكُل وأنّ رقم آحاد وآحاد –اثنين- أكبر من رقم آحاد –واحد- ..
فالصدفة لا تَقذف في النفس العِلم بالقانون؛ لأن القانون قضية تركيبية تتكون من مجموعة معارِف؛ نعم الصُّدفة تعطينا معلوماً فردياً بسيطاً؛ كما لو مثلاً عَرفنا بالصدفة دون قصد أنّ الحديد يَنقطع بمادة نَعرفها ولم نكن سابقاً نَعْلَم أنه ينقطع بها، أو عَرفنا دون قصد أنّ اتحاد عنصر الصوديوم بعنصر الكلور يشكِّل شيئاً ثالثاً جديداً بغض النظر عن ماهية ذلك الثالث، أو تَعرَّض أُكسيد كلوريد البوتاسيوم صدفة للسخونة فلاحظنا أنه تَحَلَّل متفكِّكاً لشيئين بغض النظر عن ماهية هذين الشيئين الجديدين؛ إذ معرفة الماهية تَحتاج للبحث والكشف، ولن نَبحث عن الماهية إلا إذا كان لدينا توقُّع -شك- بأننا قد نتوصل لها؛ فإذا بَحَثنا أَمكننا أن نَكتشف أن العنصر الاتّحادي التركيبي (Recombination) الحاصل بالصوديوم والكلور هو 2 هيدروكسيد الصوديوم (ملح الطعام) وأنّ تَفكَّك (Dissociation) أُكسيد كلوريد البوتاسيوم بالسخونة نتج عنه مركَّب 2 كلوريد البوتاسيوم و 3 أكسجين؛ أما لو كان لدينا يقين –لأي سببٍ كان- بأنّ الماهية الحادثة لن نتوصل لها؛ فإنّ النفس لن تَبث في البحث عنها. وأيضاً قد بتراكُم الصُّدَف –صُدفة وصُدفة وصُدفة ..- يَحصل العلم بقانون من خلال هذا التراكم؛ وذلك ما لو جاءت الصُّدفة في كل مرة للإنسان بإعطائه جزءً من المعلوم التركيبي، لكنّ هذا بوحده لا ينفع لأن نقول الصدفة قَذفت العِلم بالقانون قذفاً في النَّفس؛ لأن الصدفة لا عقل لها وليست وجوداً مستقلاً في الخارج؛ إنما العقل قام بعد مرور مجموعة صُدَف عليه بتجميع المعلومات المتحصلة من المجموع والتزويج فيما بينها ثم الخروج بالقانون.
فالصُّدفة تُساوِق اللاتَوَقُّع والارتجال الفُجائي فارغاً عن الالتفات والإرادة والإعداد المُسبَق، خارجة عن النفس، بخلاف الشك؛ فإنّه انقداح نفساني خاص بالنفس مِن شأنه امتلاك قوة تحريكها متى توفَّرت شرائط التحرك؛ كالرغبة والعزم واتخاذ القرار بالتحرك وتوفُّر الأدوات ورأس المال المتمثِّل في توفُّر المادة العلمية القادرة على أن تفي –ولو جزئياً- بمتطلبات طلب المجهول واستكشافه ..
وحصول الشك له مبررات؛ منها اقتضاء المنظومة المعرفية احتواء مجموعة قوانين؛ تماماً كتوقُّعنا –كشكِّنا- إجمالاً بأنّ في القرآن مَعارف -ذلك باعتباره يشَكِّل منظومة دينية، والمنظومة بما أنها منظومة لابد أن لا تكون فارغة وإلا لم تكن منظومة- فنتحرك نحوه فنقرأه للبحث عن تلك المعارف واستكشافها واستخراجها، ومنها –أعني من المبررات- سَبْقُ التجربة المؤدِّية لبروز مؤشِّرات تَوَقُّع وجود مجهول آخر، ومنها تلقيح المعرفة بمعرفة مما يَستوجِب تَوقُّع حاصل جديد عن تلقيحهما؛ تماماً كما لو شككنا بأنّ مركّبات الذهب قادرة على علاج سَقَم السرطان من خلال تركيبة مجهولة لدينا نتوقَّع وجودها، ومنها –أي المبررات- نفْس علم الفقيه بالحُكم عِلماً اطمئنانياً؛ فالاطمئنان يعني وجود مقدار علمي فارغ مجهول، بخلاف اليقين الذي هو علم بالشيء علماً ممتلئاً تاماً؛ فذلك المقدار العلمي الناقص في المعلوم بدرجة الاطمئنان وإن كان –ذلك المقدار الناقص المجهول- قليلاً جداً، إلا أنه يَفسح مجالاً للبحث أكثر شريطة أن تَتوفَّر شرائط المحرِّكية نحو الطلب زيادة والاستكثار، والتي منها -كما ذكرت- وجود المادة العلمية المبرِّرة لإعمال الحِراك البحثي مجدَّداً بنحو الزيادة، وإذا لم يكن الفقيه يشك ويَحتمِل أنّ هنالك مادة ربما كانت خافية عنه في الاستدلال السابق؛ فإنه لن تتحصَّل لديه محركية جديدة وإن كانت الفتوى التي أَصدرَها في الشيء أَصدرها مطمئناً بإصابتها لحُكم الله الواقعي وليس متيقِّناً.
هكذا تماماً بالنسبة للشُّبُهات ومجموعة المسائل المُستوفية للاختلاف؛ كالتطبير والجمر والأقفال والتطيين وإدماء المَنكبين والدَّوس على الأجساد ورش الدماء ..؛ فإنّ الفقيه المحَرِّم لها أو لبعضها قد يكون فاقداً بالمعنى الذي ذكرتُه، أو الفقيه المجوِّز، أو كل منهما؛ إذ كما أشرت الحقيقة لا تتعدد، والفقهاء المختلِفون في الحُكم الواحد هم كبشر قد يصيب بعضهم وقد لا يصيب أيٌّ منهم، فهم في اجتهاد مستمر إلى آخر رمق من حياتهم الشريفة المباركة. بالتالي؛ لماذا نَختزِل كل هذه الكُبرَيات المهمة العظمى وغيرها في جزئية واحدة تَكمن في أهواء التفريق وبث العصبية والنزاع العقيم فحسب، ومن ثم نَمنع الكلام في هذه المسائل ونُفَوِّت كبريات المصالح الواسعة التي تَفوقها بمراحل كبيرة جداً؟!
● إشكالٌ: (تشجيع العوام والمثقَّفِين على الجُرأة والدخول فيما ليس من اختصاصهم):
يأتي إن شاء الله تعالى في الوقفة الآتية.
أمين السعيدي
أوائل ربيع الثاني 1438هـ
[alert color=”” icon=””]
موضوعات ذات صلة:
[button color=”” url=”http://anbyaa.com/?p=11344/”]أ- رسالة التطبير1 (مَدْخَل، والصنف المخاطَب بهذه الأبحاث)[/button]
[button color=”” url=”http://anbyaa.com/?p=11381/”]أ- رسالة التطبير2 (أغراض ومبررات)[/button]
[button color=”” url=”http://anbyaa.com/?p=11444/”]أ- رسالة التطبير3 (الطُّرُق الحُجة لإحراز الحُكم الشرعي، ومراتبها، والطريق المختار)[/button]
[/alert]
للتعلیق أو مطالَعة التعلیقات اضغط هنا