أ- رسالة التطبير(5)
● موجز عناوين الأبحاث المتقدمة وفهرست الأبحاث المنعقدة هنا:
تَقدَّم الكلام في مَدْخل تمهيدي تلاه الدخول في الفصل الأول المعقود لتأسيس مسائل هامة تتصل ضرورةً بموضوعنا، تَقدَّم منها المسألة الأولى التي تكفّلَتْ بيان الصنف المخاطَب بهذه الرسالة. وتقدَّم من المسألة الثانية التي تكفَّلَتْ بيان أغراض ومبررات الرسالة، حيث افتتحتها بالسؤال: (لماذا الكلام في هذا الأمر؟)؛ ذلك بناءً على ما قد يتبادر لأذهان بعض المؤمنين بأنّ الحديث في هذه المسألة هو ضربٌ على وَتَر التفرقة وبثِّ النزاعات في المجتمع الواحد .. فأجبت بأن هذا التبادر ساقط؛ ذلك لمجموعة أمور تَقدَّم منها الغرض والمبرِّر الأول والثاني والثالث والرابع والخامس والسادس، ثم توقفت عند إشكال على الغرض والمبرِّر السادس مفاده ما يلي:
الفصل الأول: (تأسیسٌ ضروري):-
● المسألة الثانية: (أغراض ومبررات الرسالة):-
● سادساً: الإصلاح الداخلي للدليل: …
● إشكالٌ ودفْع: (تشجيع العوام والمثقَّفِين على الجُرأة والدخول فيما ليس من اختصاصهم):
قد يقال: ما قيمة الغرض والمبرِّر السادس الذي ذكرتَه؟؛ فإنَّ هذا المبرِّر حیث یَستهدِف محاوَرة المختص وإعداد مادة مَعرفية تبعثه لإعمال حركة بَحثية إضافية تأكيدية لِما توصَّل إليه من فتوى، أو مادة علمية تُعِيْنه في مجال الاستنباط والإفتاء؛ فهو غرضٌ متعلِّق بالمتخصصين وليس عامة الناس؛ فمحله صروح العلم الخاصة وتدوين الكُتب لا العَلَن والملتقَیات العامة؛ فأمثال هذه الأمور لا تغني الناس ولا تُسمنهم من جوع، بل قد تتسبب باللَّغَط ودخول الجاهلين في شغل المختصين، كما قد تظهر حالة من الجرأة لدخول العوام والمثقفين في كل شيء والإدلاء بآرائهم تَعدِّياً وغروراً بالنفس واستهتارا -خصوصاً في أحوال المجتمعات التي لا تَلتزِم الضوابط وآداب العلوم الإلهية- وهذا عواقبه الاجتماعية والدینية .. سلبية کبیرة جداً؛ بالتالي يَلْزَم إلغاؤه عن جُملة الأغراض والمبررات الأخرى سالفة الذِّكر؛ ومن ثمَّ سَحب كل ما يتعلق به من أبحاث آتية إن وُجِد.
● الجواب:
صحيحٌ أننا للوهلة الأولى حینما نَنظر للأمر نظرة حَدِّيّة؛ فإنه يَحصل لدينا هكذا استشکال، وهو حقیقةً وجيه يَنمُّ عن شعور بالمسؤولية؛ فلا مخالَفة من حيث أصله، لكن -في حدود ما نحن فيه- حينما نتدبره جيداً بسعته وإطلاقه المذكور؛ فإنّه سرعان ما يَزول فنبصر –على العكس- مدى الأهمية الكبرى للمقدار المطروح بين هذه الأبحاث، مع ثباتنا –في نفس الوقت- على القول بأنّه لا ينبغي للإنسان الدخول فيما ليس من اختصاصه إلا أن يختصَّ أولاً؛ فهذه مسألة عرفية منطقية جداً؛ تماماً كمن يريد بناء صَرْحٍ وهو غير متمكِّن من الأُسس الهندسية، أو كالمريض والطبيب:
فإنّ المريض إذا لم يكن مختصاً في الطب لم يَصح منه الاعتراض على وصفة الدواء وإلا اعتذر له الطبيب بأنْ اطلبْ للدواء طبيباً آخر غيري؛ ذلك لأن المريض -حسب الفرض- جاهلٌ بالأُسس التي لدى الطبيب، والطبيب تَحَصَّل على الأُسس خلال حصيلة سنوات من الدرس والتعلم والممارسة، ولا فرصة لديه أن يُعْلِم المريض بتلك الأسس في مَجلس العلاج؛ وإلا تَغيَّر الوصفُ مِن عنوان متطبِّب ومطبِّب ومَجلس تطبيب إلى معلِّم ومتعلِّم ومجلس تعليم. لكن هذا لا يعفي الطبيب عن أن يمارِس عملية تثقيفية لمريضه؛ فلا يعني أنّ الطبيب لا يناسبه أن يشرح للمريض حالته المَرَضية ويبيِّن له أعراض الدواء ومَسيرة العلاج ومجرياته -خصوصاً ما إذا كانت تتطلَّب مراحل عدة- فيدعه يقرِّر بنفسه لنفسه التي هي مَصَب الدواء وموضوع الإجراء، كما لا يعني أنّ الغير مختص لا يحق له أن يَسأل المختص بهذا المقدار الذي هو حق طبيعي له ليَطمئن بالمختص من خلال إعمال المؤشِّرات المنطقية العامة التي يمتلكها الجميع وإن لم يكن عارفاً بالأسس معرفة تفصيلية، فيَأخذ العلاج عن رغبةٍ فيه متأمِّلاً حصول الشفاء به؛ إذ المريض –غالباً- لا غاية له من زيارة المختص إلا نيل الشفاء.
وهذه الحالة تتسع أكثر في المثقَّف الطبي؛ إذ المثقَّف لديه حَصيلة معرفية تتجاوز درجة الجاهل؛ فكلّما ازدادت درجة الحصيلة المعرفية كلما صحَّ التداول بقدر الفهم ومساحة الوضع والوظيفة دون تجاوُزٍ مُخِلٍّ قبيح، وكذا كلما اتسعت دائرة التكليف وامتد نطاق التحَصُّل عليه استتبَّ للفرد ما لا يَستتِب لمن تَضِيق دائرة تكاليفه ويَقْصُر نطاق تحصيلها له ..؛ فإنّ مسألة التطبير بعد صيرورتها مسألة اجتماعية ولِمَا تحويه من القريحة الاعتقادية؛ خَرَجت مِن حَيِّز الاختصاص الفقهي إلى حيِّز الشُّغل المجتمعي والعقائد العامة بما يَشمل مطالَعة المجتمعات الأخرى وبثّها ومناقشتها لنا في ذلك لا المجتمع الشيعي فحسب، وأصبحَت المسألة بحاجة للإجابة على استفهامات كثيرة محيِّرة مطروحة، والغير مختص –الذي هو المقلِّد- يحق له أن يَسأل ويناقِش المختص بهذا المقدار الذي هو حق طبيعي له ليَطمئن بالمختص من خلال إعمال المؤشِّرات المنطقية العامة التي يمتلكها الجميع، وإن كان المقلِّد –غالباً- لا غاية له مع المختص إلا نيل الفتوى وما تَرتَّب عليها من اتّباع السِّيرة، إلا أنه –بفعل الوضع الحاصل- أصبح محتاجاً حتى يَأخذ الفتوى عن رغبة فيها متأمِّلاً إصابتها حُكم الله والمِلاك الواقعي؛ ولا يَتَلَكّأ أو يستهويه الخروج عن المِلّة إلى مِلّة أخرى أقدر على احتوائه رافضاً هذا الدِّين بعد المَنع عن إقناعه وإروائه وتراكُم الشُّبُهات لديه، وبالأخص المثقَّف المشحون بالجَدَليّات أو المنفتِح المنبهِر بمَظاهر الحضارات الأخرى المتذمِّر من أحوال المسْلِمين وتخلُّفِهم المَقِيت.
فما بالك -أيضاً- بما إذا قمنا أولاً برفع درجة حصيلة الفرد ليَرتفِع مِن وصْفِ الجهل إلى وصفِ العِلم بالمقدار الذي يتناسب مع الحالة المجتمَعيّة القائمة؟؛ عندئذٍ لا يبقى محل للاستشكال المذكور؛ فهذا هو الذي نريد العمل عليه مضافاً للأغراض والمبررات الهامة الأخرى؛ لذا لنتأمل ما يلي:
1-
سَبق أن أوضحت بأن المكلَّف حُرٌّ بسلوك أحد الطُّرُق الأربعة لامتثال التكليف الإلهي المتوجه إليه وإفراغ ذمته عنه، وأنّ أشرفها ’’اليقين التفصيلي‘‘ باعتبار درجته العِلْمية العالية، وأدناها منزلة وأسفلها مَرتبة ’’التقليد‘‘، وبيْنهما يَقْعُد شرف طريقَي ’’الاجتهاد‘‘ و’’الاحتياط‘‘ على ما فصَّلت؛ بالتالي فإنّ توعية المكلَّف على هذا المستوى تتيح له القدرة على الاختيار الذي هو حرية مطْلَقة العنان له حال تَوافُر مقوّماته، وليس ما نحن بصدده إلا حركة نحو توفير المقومات إليه ..؛ فإنّ مثلاً الاحتياط -الذي هو أشرف من التقليد- هو أيضاً عملٌ بفتوى المجتهِد طِباقاً لمجموع فتاوى المجتهدين للتَّحرُّز عن الوقوع في الخطأ، كما أنه مَبدأ عقلي لإفراغ الذمة أمام الله سبحانه، وقد أَمر تعالی به كل فردٍ سواء كان مجتهداً أم مقلِّداً؛ فأين هذا کله مِن ادعاء حَمْلِ المكلَّفين على الجرأة بالدخول في عمل المختصين! فقد اتضح أن هذا إنما هو تماماً عملٌ بما قرره المختصون في حق المكلَّفين.
2-
لا يَصح منا إلغاء العقل بتاتاً عن المكلفين بحَصْرهم في التقليد والعودة للمَراجع فحسب؛ فإنّ هذا الحَصْر هو تَجوُّزٌ على أمر العقل القاطع وعلى نهي الشرع القادح؛ فإن العقل والشرع يأمران باحترام عقول الناس وعدم تسفيهها تسفيهاً بالنحو الإطلاقي الذي يَجعل منهم مجرَّد رعاع خلف من يقلدونه، وكل من يسلك هكذا سلوك معهم فهو إنما يَنقِض ما أَذعَن به شخصیاً وسَلَّم؛ ذلك لأنه من جهة يخاطِبهم في هذا المجال، ومن أخرى يُسَفِّه عقولهم تسفيهاً إطلاقياً في هذا المجال!
نعم؛ الرجوع للفقيه أمر ضروري، لكنه لا يَصح أن يغطي كل مساحة المتدين، والله تعالى غداً يحاسب كل إنسان على اختياره باعتبار أنه يجد الحُجية لعقله على طول خطِّ وجوده؛ فيسأله مثلاً: لماذا فعلتَ كذا ولم تَعمل بكذا؟ ولماذا اتبعتَ هذا وليس ذاك؟ ولماذا اعتقدتَ بالتوجه الفلاني دون الفلاني الآخر؟ ..؛ ولا يكون الله تعالى عندئذ قد ظلمه أو حَمَّل مصيره ما لا يَحتمِل؛ هذا –مع إدراكه بالعقل وجلاء وضوحه عند كل عاقل- أيضاً قد قامت عليه نقولات كثرة مستفيضة جداً ومتواترة من الآيات والروايات ما هو فوق حد الإحصاء كما سيأتي بعضها في التالي.
3-
إنّ الدَّفع لهذا المبرِّر يَلْزَم منه دَفع مماثلات أخرى لا يمكن دفعها لشدة ضرورتها الحياتية والتوعوية والثقافية والإبلاغيّة؛ وليتضح الأمر أضرب مثالين اثنين؛ أحدهما من حياة الخطباء وسيرة مبلِّغيهم، والآخر من حياة الرُّسُل والأنبياء وسيرة أوصيائهم:
أما سيرة الخطباء؛ فإنها مستحكمة في تثقيف الناس بالدلائل العقلية والشرعية على امتداد مسیرتهم التبليغية، ولو إجمالاً؛ فهم يوصلون الأحكام للمكلَّفين من خلال ممارسة حركة ثقافية يبثُّون عن طريقها المعارف، سيما المعارف اللَّصيقة بالجوانب الاجتماعية والعامة التي غالباً تَحتاج لمبررات مقْنِعة تَحوز اقتناع السامع، سواء بمستوى خطاباتهم على المنابر العامة أو مجالسهم الخاصة أو بَيْنيّاتِهم التي طرَفها الآخر من عموم الناس، وهو ما لا يختص في ممارساتهم بالجانب العَقَدي فحسب، وإنما يشمل كثيراً من الاجتماعيات والعموميات الفقهية ..
وأما سيرة الرُّسُل والأنبياء والأوصياء؛ فهي منعقدة تمام الانعقاد على الإبلاغ العام إلا ما نَدَر جداً في حق الخواص جداً؛ مثيل العلوم التي تلَقّاها بعض أصحاب أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام منه؛ کعلم المَنايا والبلايا، والملاحم والفتن ..، وهاهو القرآن بين أيدينا وهو كتاب موجَّه لكل إنسان، ويَصعُب جداً أن يدعي الفاهم أنّ القرآن خاص بفئة خاصة من المسلمين، كأن يُخرِج عن دائرتهم عامة الناس، وهكذا أحوال خطابات الأنبياء والأوصياء، والقرآن ليس إلا خطاباً نبوياً ومصداقاً من مصاديق خطاباتهم العامة جنباً إلى جنب السُّنّة النبوية الشريفة، ولا يمكن لأحد القول بأنه لو مثلاً دخل رجل –ولو أعرابي أُمّي- مجلس رسول الله صلى الله عليه وآله أو وصي من أوصيائه لتلَقِّ العلم والحُكم الإلهي من أي نوعٍ كان، سيَعتذِر عن قَبول حضوره بين الحاضرين على أن هذا مجلسٌ خاص؛ فالنبي والوصي كل وظيفتهما الأولیة التبشير والإنذار؛ قال تعالى:
{وبالحَقِّ أَنزلناهُ وبالحَقِّ نَزَلَ وما أَرسلناكَ إلا مبَشِّراً ونَذيرا}[الإسراء: 105]؛ فقد دلَّت أداة الحَصْر -إلا- على انحصار الوظيفة في المستثنى وهو التبشير -الحال المنصوب- والإنذار المعطوف على بشيرا. وقد كرر الله تعالى هذا المعنى واهتمَّ به أشد اهتمام في كتابه المقدَّس الخالد. وزاد عنايةً في البيان بضمِّ صفة الداعي للتبشير والإنذار حيث قال سبحانه: {يا أيُّها النَّبيُّ إنّا أَرسلناكَ شاهِداً ومبشِّراً ونَذيرا * وداعياً إلى اللهِ وسِراجاً مُنِيْرا}[الأحزاب: 45-46]؛ فالشهادة الإلهية والأنبيائية على الناس لا تتحقق بغير التبشير والإنذار والدعوة، والتبشير والإنذار عيْنُ عمل الداعي. كما يصرِّح عز وجل بقوله:
{وما أرسلناكَ إلا كافَّةً للناسِ بَشیراً ونَذيراً ولكنَّ أکثرَ الناس لا يَعْلَمون}[سبأ: 28] وضع خطين عريضين تحت كلمة {كافّة} التي تعني كل وجميع.
والخطباء إنما تَسلَّموا هذه الوظيفة بهذه الكيفية من القرآن وسيرة الأنبياء والأوصياء عليهم الصلاة والسلام باعتبارهم ورَثتهم، وإلا لو سَلكوا غير هذا المنهاج لكانوا عُصاة مطرودين من رحمة الله تعالى مُخفين للكِتاب، وإخفاء عِلم الكِتاب عن الناس لا يجوز لهم؛ فليس هو ميراث خاص بهم وإلا ماثَل حالهم حال من قال عز وجل فيهم:
{وإذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتوا الكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ للناسِ ولا تَكْتُمونَهُ فنَبذُوهُ –خالفوا الميثاق وألقوه- وراءَ ظُهورِهمْ واشتَرَوا بهِ ثَمَناً قَليلاً فبِئسَ ما يَشترون!}[آل عمران: 187]. ونحن الذين نؤاخِذ بعض مخالِفينا بقولهم لا تَبحثوا في كتب التاريخ وتحفروا قبور الماضي فـ{تِلكَ أُمّةٌ قد خَلَتْ، لَها ما كَسَبَتْ ولكُم مَّا كَسَبتُم ولا تُسْألُونَ عمّا كانُوا يَعمَلون}[البقرة: 134و141]؛ بُغية إغلاق الحقائق عن الناس بذريعة مُجانَبة خروجهم من النِّحْلة والمذهب أو تَفرُّقهم أو محاكمتهم دعاتهم! على رغم أن سياق الآية صريحٌ بمورِدَيه في التحدث مع اليهود والنصارى حول انتحال ما كسبه إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ووَلَدَهم والأسباط. والله تعالى يوبِّخ فاعل هذا الفعل البغيض الشنيع بقوله:
{يا أيُّها الذِينَ آمَنوا لِمَ تَقولونَ ما لا تَفْعَلونَ؟! * كَبُرَ مَقْتَاً عِندَ اللهِ أن تَقُولوا ما لا تَفْعَلونَ}[الصف: 2-3]؛ والمَقْتُ هو شدة الكراهية والنفور؛ ذلك لقوله {أَتأمُرُنَ الناسَ بالبِرِّ وتَنسَونَ أَنفُسَكُم!}[البقرة: 44]؛ فلو كان بِرّاً فنحن أولى بفعله وخيرِه ونفعِه قبل دعوة الآخرين إليه، بينما هكذا جاءت حِكايته تعالى لقول شعيب عليه الصلاة والسلام وهو نبي وقدوة عالية: {ومَا أُرِيدُ أنْ أُخالِفَكُم إلى ما أَنهاكُم عنه}[هود: 88].
4-
هل غرض الدين الارتقاء بالعِباد مِن حَضيض الجهل إلى قِمَم العلم، أم ترْكهم يَتقلَّبون في مَدارِج السَّفَه والدُّنو والمراتب ضئيلة الرفعة؟
لا نشك بأنّ الدين جاء للارتفاع بالجميع، وكل آماله –لو أمكن- أن يكون كل الناس علماء فقهاء وعلى أعلى مراتب الكمال؛ ولهذا حَثَّ بقوَّة على الترقي ورَتَّبَ أعلى الأجور المعنوية والمَصيرية على ذلك؛ وهذا بالتالي يُلزمنا بالنهوض بالمجتمعات أولاً والأمم ثانياً والسعي الدَّؤوب وراء تحقيق هذه الآمال العظمى والطموحات الربانية الحكيمة العادلة، وتَبديد كل الموانع التي تَحُول دون ذلك؛ فأصلُ حَربِ الشرفاء والحكماء والمصْلِحين هي هذه؛ حربُ تمزيق الموانع وتفتيت الحُجب التي تَعترِض أنفسهم أولاً وتَعترض الناس عن بلوغ القِمم الكمالية العالية وإيجاد المخارج واستعمال الفنون الكفيلة بالانتصار دون ترتيب أيِّ وهمياتٍ حاجزة عنه تُدْخِل الإنسان في معاني الغفلة أو الضعف ونُصرة الجِبتِ والشيطان من غير أن يشعر.
والحق؛ إنّ إيصال المعارف –بالنسبة لعموم البشر- ملتصِق إلتصاقاً تلازمياً وطَبْعيّاً مع الإبلاغ، وبدونه لا يمكن تثقيف الناس بمَعالم دينهم ووظائفهم المتوجهة إليهم إلا بطريق الوحي والإلهام، وهما طريقان مسدودان عن غير الأنبياء والأوصياء إلا بالحد الذي يكونان فيه بمستوى الفَيض الخاص المنحصرة حُجيته في حق صاحبِه التقي النقي المستخلَص منه تعالى بنحوِ علاقةٍ إلهيةٍ عِنائيّة خاصة جداً؛ بالتالي هو في غاية المحدودية كثرةً، ولا يجدي في الإبلاغ العام الذي يَلْزم فيه أن يكون بالحُجة العامة على الجميع.
ولكن هذا لا يعني أيضاً إقحام الناس في الاستهتار بالدِّين والجُرأة عليه وقذفِ العلماء ومناجَزتِهم بما يصل لحد المِراء الذي هو من كبائر الذنوب العظام المُوْبِقة، فإنّ الذي أركزُ عليه هو خصوص معنى التثقيف المقتضي للوفاء بالتكليف والوظيفة والإبلاغ، ومِن ثم مَن أراد الزيادة فعليه التفرغ وبلوغ المرتبة الأسمى والأشرف عند الله تعالى؛ فإنّ مِداد العلماء يوزَن بدماء الشهداء يوم القيامة، والشهيد شأنه كبير عند جبار السماوات والأرض، فما بالك بما هو أعلى منزلة مِن المِداد؟
وحقیقةً؛ إنّ المشْكِلة ليست في التثقيف نفْسِه، ولو كان تثقيفاً مِن العِيار الثقيل؛ التثقيف أمر لازم وضروري؛ إنما المشكلة في عدم التَّقَيُّد بالضوابط، وعدم التقيد بالضوابط لا يَجعل مسألة التثقيف مشْكِلة وإن وقع الصراع بين هذين الأمرين؛ فالذي يتوجب علينا هو ممارسة إضافية أخرى تتمثَّل في مجابَهة عدم التَّقيُّد؛ وذلك من خلال إعمال حركة تثقيفية توعوية تَستهدِفه، لا أن نقف ضد تثقيف المجتمَع والشعوب بذريعة أنها لا تتقيد بالضوبط العلمية والآداب المعرفية. وكلما قمنا بضخ المعرفة الناضجة ذات العمق والثقل؛ كلما اعتاد المجتمع واعتادت الشعوب استقطاب ذلك وكلما ارتقينا أكثر فأكثر. والعكس بالعكس؛ فإنّ الجهل عَدُوُّ الإنسان؛ يجعله دائماً في وهن وضعف وسقوط وتخلُّف وانحدار ويُسَوِّي منه لُقمة سائغة سهلة لكل فكرٍ دخيل وطامع؛ ففرقٌ بين أن نقول له تعَلَّم وبين أن نقول له تَكلَّم، کما لا نقول له ضع نفسك غير مَوضعِها متجاوزاً الحدود العقلائية والدينية والمحاذير الشرعية من عصيان وارتكاب كبائر الإثم بمخالفة قوله تعالى:
{قُلْ إنّما حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ ما ظَهَرَ مِنها وما بَطَنَ والإثْمَ والبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وأن تُشْرِكوا باللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بهِ سُلْطاناً وأن تَقُولوا على اللهِ ما لاَ تَعْلَمونَ}[الأعراف: 33]، {ولا تَتَّبِعوا خُطُوَاتِ الشَّيطانِ إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * إنّما يَأْمُرُكُمْ بالسُّوءِ والفَحْشاءِ وأن تَقُولوا على اللهِ ما لا تَعْلَمونَ}[البقرة: 168-169]؛ حيث قَرَن عَزَّ وجل ’’الكلام بغير عِلْم ونِسْبَته لدين الله‘‘ بالفحشاء والإثم والبَغي واتِّباع خطوات الشيطان والسُّوء والشِّرْك. وفرقٌ بين أن يَتكلَّم وهو لا يدري ما يقول وبين أن يتعلَّم ثم يتكلَّم بالمقدار المتناسب مع حاله عارفاً ما يقول، فقد حكی تعالى قول نبیه شعيب عليه الصلاة والسلام بقوله:
{إنْ أُريدُ إلا الإصلاحَ ما استطعتُ وما توفيقي إلا باللهِ علَيهِ تَوكَّلتُ وإليهِ أُنِيْبُ}[هود: 88]؛ فلا مَناصَّ عن تقديم الحقائق جليّة واضحة بين أيدي الناس بما يصلح أَفهامهم وعقولهم وتصرفاتهم وشؤونهم ويرفع حيرتهم ..، ولا مَناص عن التعقل والتأدب بآداب الله وآداب التعلُّمِ والتَّثقُّف؛ فـ{كُلُّ نفْسٍ بما كَسَبَتْ رَهِينة}[المدَّثِّر: 38]، {ولا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إلاّ عَلَيها ولا تَزِرُ وازِرةٌ وِزْرَ أُخرى ثُمَّ إلى ربِّكُم مَّرْجِعُكُم}[الأنعام: 164] يحاسبها الله بأفعالها واختياراتها؛ فقال عَزَّ ذِكْرُه مقرِّراً ذنوب العِباد واجتراحاتهم ومساءلتهم عقولهم عن أفعالهم:
{وما أرسلناكَ إلا مبشِّراً ونَذيرا * قُلْ مَا أَسْأَلُكُم علَيهِ مِن أَجْرٍ إلا مَن شاءَ أن يَتَّخِذَ إلى ربِّهِ سَبيلا * وتوكَّلْ على الحيِّ الذي لا يَموتُ وسبِّحْ بحمْدِه وكَفَى بِهِ بذُنوبِ عِبادِهِ خَبيرا}[الفرقان: 56-58]؛ فلم يقل بذنوب مَن یقلَّدون فحسب ولا مَن يقلِّدون فحسب؛ بل قال {بذُنوبِ عِبادِه}. وقال تقدَّست أسماؤه: {إنَّا أَرْسَلناكَ بالحَقِّ بَشِيراً ونَذيراً ولا تُسْئَلُ عن أَصحابِ الجَحيمِ}[البقرة: 119] الذين لا يَلتزمون بعد ترشيدهم والإعذار إليهم.
5-
ينفعنا هذا جداً -أيضاً- في مسألة مهمة موكولة منه تعالى للمكلَّف؛ وهي مسألة تحديد المكلَّف تكليفه حينما نتكلم عن وظيفته في ’’تشخيص الموضوع‘‘ الذي هو مهمة خاصة به بعد ’’العلم بالحُكم‘‘ كما سيأتي عند البحث في المبرِّر العاشر الآتي وفي المسألة التاريخية؛ فهنالك اختلاف شاسع بين أن نقول شَخِّصْ تكليفك بناءً على مجموع مسائل الأمر والأحكام التي أقرها الدين والفقهاء، وبين أن نقول أَفْتِ.
6-
سبقَ أن قلنا بأنّ المختص العام –كالاقتصادي والفلكي ..- مُعِينٌ مهم للمختص الخاص الذي هو الفقيه، والحال أنّ المختص العام –حسب الفرض- ليس فقيهاً، ووجوده مندمج في الناس؛ بالتالي فإنّ الحوار مع الفقيه بصورة ميسورة متاحة للآخرين في مسألة كهذه مِن شأنه تفعيل قدرة المختص العام والإفادة مما لديه؛ فهو بمثابة مثقَّف نوعي من الدرجة الأولى عندما يَكون مالكاً للمعرفة في هذا المجال. كما أنّ المثقَّف الدِّيني المتبحِّر في أرجاء الشريعة أيضاً يمثِّل رافداً لا يُستغنى عنه؛ بالتالي فإنّ اطّلاعه على هذه القضايا يثري حصيلته المعرفية أكثر فأكثير ويفيد بما يَجود به في المنافذ الثقافية والمعرفية ..، وطبيعي أنّنا إذا كنا أصحاب الحق فعلاً لا نخشى أيَّ نظرٍ ’’علميٍّ‘‘ جادٍّ ملقَّم بالمعرفة الموزونة، ونلحَظه باهتمام وعناية ونبادِر للقَبول به إن صح أو صياغة المصحِّح له إن لم يصح ..؛ فالمختص يجيد أن يَفهَم مدى صلاحية المتكلِّم واقتداره أو ضعْفِ اطلاعه وإدراكه، كما أنّ المتكلِّم يجيد أيضاً أن يَفهم بوجدانه مدى تمكُّنه وعدم تمكُّنه من المصطلَحات والدخول في محاورة الضالعين؛ بحيث إذا لم يكن متمكناً لم يعرِّض نفسه في العلن للإحراج بالدخول فيما هو أعلى من استطاعته وشأنه، وأما لو مارس ذلك مع الذين هم أدنى منه أو مَن يوازون مستواه؛ فالمتعيِّن على أُلئك هم أن يراجِعوا الضالعين الذين يثقون بعلمهم واستجوابهم للتَّثَبُّت عن مدى صحة ما قال.
7-
إذا فرضْنا أننا غضضنا النظر عما سبق من الواجبات المُحَتّمة؛ فإنّ هذا لا يَكفل حلاً للإشكال المذكور؛ حيث لم يَعُد طريق العلم في ظل تَطور الوسائل مقصوراً على المنبر والمجلس وحدهما ..؛ فوسائل العلم والتواصل باتت في كل بيتٍ ومكان، والمكلَّف إذا لم يَتلقَّ المعرفة من مَنابعها الخالصة الموثوقة والمعلَنة؛ فإنّ فضوله سیبقى یُحرِّكه نحو الاستطلاع والأخذ من جهات أخرى، وهذه الجهات بعد سد الطريق الصّحّي عليه هي جهات مَوبوءة وإغراضيّة لا تُضيِّع فرصتها بتاتاً عن حشو ذهنه بالأباطيل والشكوك التي تُراكِم حيْرته وتَؤول به عاجلاً أم آجلاً لأمرٍ أشد ضياعاً ونَكالا بما قد يمس أصل مصيره على مستوى الوجود الدنيوي وما تلاه؛ بالتالي أيهما الصحيح؛ أن نَستوعِب المجتمع بآفاق النهج المنير والدِّراية المعتدلة الموزونة فنقدِّم نموذجاً صالحاً من التعاطي وأن لا نخشَی عوارِض العلم وثمار إشعاعه؛ أم ندَع المجتمع تَتقاذفه الأهواء والغُزاة، فقط لذريعة جزئية تَكمن في وهْمِ الاستعداء الذي سرعان ما يَتبدَّد بالتَّرشيد وتَفوقه مَناقب التوعیة والاعتدال؟
● سابعاً: معالجة إشكالية تبصير الجاهل وتنبيه الغافل: يأتي إن شاء الله تعالى في الوقفة الآتية.
أمين السعيدي
أوائل ربيع الثاني 1438هـ
[alert color=”” icon=””]
موضوعات ذات صلة:
[button color=”” url=”http://anbyaa.com/?p=11344/”]أ- رسالة التطبير1 (مَدْخَل، والصنف المخاطَب بهذه الأبحاث)[/button]
[button color=”” url=”http://anbyaa.com/?p=11381/”]أ- رسالة التطبير2 (أغراض ومبررات)[/button]
[button color=”” url=”http://anbyaa.com/?p=11444/”]أ- رسالة التطبير3 (الطُّرُق الحُجة لإحراز الحُكم الشرعي، ومراتبها، والطريق المختار)[/button]
[button color=”” url=”http://anbyaa.com/?p=11459/”]أ- رسالة التطبير4 (الإصلاح الداخلي للدليل)[/button]
[/alert]
للتعلیق أو مطالَعة التعلیقات اضغط هنا