أ- رسالة التطبير(8)
● موجز عناوين الأبحاث المتقدمة وفهرست الأبحاث المنعقدة هنا:
تَقدَّم الكلام في مَدْخل تمهيدي تلاه الدخول في الفصل الأول المعقود لتأسيس مسائل هامة تتصل ضرورةً بموضوعنا، تَقدَّم منها المسألة الأولى التي تكفّلَتْ بيان الصنف المخاطَب بهذه الرسالة. وتقدَّم من المسألة الثانية التي تكفَّلَتْ بيان أغراض ومبررات الرسالة، حيث افتتحتها بالسؤال: (لماذا الكلام في هذا الأمر؟)؛ ذلك بناءً على ما قد يتبادر لأذهان بعض المؤمنين بأنّ الحديث في هذه المسألة هو ضربٌ على وَتَر التفرقة وبثِّ النزاعات في المجتمع الواحد .. فأجبت بأن هذا التبادر ساقط؛ ذلك لمجموعة أمور تَقدَّم منها الغرض والمبرِّر الأول إلى الثامن، وفيما الغرض والمبرِّر التاسع:
الفصل الأول: (تأسیسٌ ضروري):-
● المسألة الثانية: (أغراض ومبررات الرسالة):-
● تاسعاً: إحراز القطع وتفعيل أثره:
إذا قَطَعَ المكلَّف بشيء –أيَّاً كان المكلَّف فقيهاً أم جاهلاً أم غيرهما- فإنّ قطْعه حُجة عليه؛ حيث إنّ القطع حُجيته ذاتية عقلاً ولازم غير مُنْفَك؛ فهو كالواحد والإثنين إذا جمعتهما فيساويان ثلاثة؛ فإنّ حاصل الجمع لهذين العددين لازم غير منفك سواء عَلِمنا بذلك أم جَهلْنا، هكذا القطع وحُجّيّته، فإنّه لا انفكاك بينه وبينها، متى تَحَقَّق القطع تَحقَّقَتْ معه حُجّيّته، ويَستحيل أيضاً صدور النهي من الشارع المقدس عن امتثاله؛ فإنما يُعبِّدنا سبحانه بالقُطوع وما هو قائم عليها، وليس شيء في الدِّين –وفقما فصّلت في مجال آخر- إلا مقطوع به أو جاء مِن مقطع به؛ فهَدْم حجية القطع يعني هدْم الدين بأكمله وهدْم كل مَعرفة عِلميّة، فإننا إذا هدمنا قيمة اليقين؛ فماذا يبقى من القيمة العلمية والمعرفية لنتمسك به؟
هذا بالتحليل العقلي، وأما بالطريق الشرعي؛ فقد وردت على ذلك روايات مسَلَّم بها تشیر إلیه؛ منها روايات استَخلَص بها علماء الأصول ’’أصل الاستصحاب‘‘ ومِن بعضها استَخلَصوا ’’قاعدة اليَقين‘‘ ..؛ وذلك من قبيل مَروي الخصال، وقد روي بنحوين؛ أحدهما خبر محمد بن مسْلِم عن أبي عبد الله عليه الصلاة والسلام، قال: “قال أمير المؤمنين -صلوات الله وسلامه عليه-: مَن كان على يقينٍ فشَك؛ فلْيَمْضِ على يقينه، فإنّ الشَّك لا يَنقض اليقين”[1]، وموثقة إسحاق بن عمّار عن أبي الحسن الأول عليه الصلاة والسلام: “قال: إذا شككتَ فابنِ علي اليقين. قلت: هذا أَصْل؟ قال: نعم”[2]، ومُضْمَرة علي بن محمد القاساني –الذي هو نفس الاصبهاني- قال: “كَتبتُ إليه وأنا بالمدينة أسأله عن اليوم الذي يُشَك فيه أنه مِن رمضان؟؛ فكَتبَ: اليقين لا يدخل فيه الشك، صُمْ للرُّؤية وأفطر للرُّؤية”[3]، وصحيحة عبد الله بن سنان، قال: “سَأل أبي أبا عبد الله عليه السلام وأنا حاضر: إني أعْير الذِّمِّي ثوبي وأنا أَعْلَم أنه يَشرب الخمر ويَأكل لحم الخنزير فيرده عليّ، فأغسله قبل أن أصَلّي فيه؟ فقال أبو عبد الله عليه السلام: صَلِّ فيه ولا تغسله مِن أجل ذلك؛ فإنك أَعرته إياه وهو طاهر ولم تَستيقن أنه نَجَّسه فلا بأس أن تصَلّي فيه حتی تَستيقن أنه نَجّسه”[4]، وصحیحة زرارة عن الإمام عليه الصلاة والسلام یسأله في الوضوء فأجابه سلام الله عليه: “.. لا يَنقض اليقين أبداً بالشَّك ولكن يَنقضه بيقين آخر”[5]؛ وهذا يعني أن اليقين حُجّة.
ولا يمكن رفْع اليد عن اليقين في شيء إلا بهدم ذلك اليقين أولاً؛ فتزول حُجّيّته التي هي لازِم الانتفاء عند الانتفاء؛ إذ لم يَعُد هنالك يقين، فتَرتفِع بارتفاعه معاً مباشرة الذات بالذات.
واليقين لا يُهدَم ويَرتفِع إلا بيقين آخر قادر على هدمِه يَحل محلّه[6]؛ فاليقين لا يهدمه إلا اليقين؛ أما الظن والاحتمال .. فلا يمْكن لأي شيء من ذلك أن يَرفعه ويَتغلَّب عليه؛ فهو –أعني اليقين- أقوى، والأقوى العِلمي لا يَدفعه الأضعف. والقضية الواحدة يستحيل أن يتحقق فيها يقينان معاً في نفس الوقت؛ إذ لازِم ذلك إما أن يَكونا متماثلَين من جميع الجهات -بالتالي لا قيمة للقول بوجود يقينين؛ إذ هما حقيقةً يقين واحد، وتسميتهما بالتثنية مِن باب التَّجَوُّز لا الواقع- وإما أن يَكون اليقينان متضادَّين مختلفَين عن بعضهما البعض -فهو أيضاً باطل؛ إذ الضِّدّان لا يَجتمِعان؛ فالبياض والزُّرقة مثلاً ضدان، ويستحيل اجتماعهما في شيء واحد في نفس الوقت وذات الجهة مع بقاء كل منهما على لونه- وإما أن يكون اليقينان نقيضَين؛ فهو أيضاً باطل؛ إذ النقيضان كالضّدَّين لا يَجتمِعان أيضاً، فموجود ولا موجود نقيضان لا يمْكن تحققهما في شيء واحد في نفس الوقت في ذات المكان أو المَحل؛ فإما هو موجود أو لا موجود؛ بالتالي فإنّ كل إنسان سليم لا يمْكن أن يجتمع في نفسه يقينان حقيقيان تجاه شيء واحد في آن واحد، والذي يمْكن حصوله هو هدْم يقينٍ بيقين آخر فحسب؛ بحيث يَتمكن اليقين الآخر من إبطال وإزالة اليقين الأول فلا يَعود الأول يقيناً.
وتارة اليقين الثاني يَهدم اليقين الأول هدماً، وأخرى يرفعه رفعاً عن عمود الزمان بحيث يَظل اليقين الأول صحيحاً في زمانه المنْصرِم؛ فلو تَيقنت بموت خالد ثم بعد لحظات وجدته يمشي وتيقنت -بوجه وبآخر- أنه كان لم يَمت؛ فإنّك هنا تَكون هدمت اليقين الأول من أساسه هدماً تاماً بحيث لم يَعُد في واقعه يقيناً أصلاً، بينما لو تَيقنت بأنّ خالداً توقفت نبضات قلبه وتوقف دماغه؛ فلا يَنحَلّ هذا اليقين ويندفع إلا بأن تتيقن يقيناً آخر بعودة نبضات ودماغ خالد للعمل؛ فأنت هنا إذا لم يثبت لديك أن نبضاته ودماغه قبل لحطات لم يتوقفا؛ فإنك يَظل لديك اليقين السابق على حاله لا يَنهدم، غاية الأمر أنه لا يَستمِر إذا حل مكانه يقين جديد بوجود النبضات وعمل الدماغ مجدَّداً.
● عَودة للموضوع:
والآن نعود لأصل موضوعنا؛ فأقول: إذا حصل عند مكلَّفٍ؛ أيِّ مكلَّفٍ كان، إذا حصل عنده يقين بحرمة التطبير أو حليته أو استحبابه ..، بأي طريقٍ كان هذا اليقين؛ فإنه يكون حجة عليه، ولا يرتفع ذلك الحكم إلا بهدم هذا اليقين أولاً. وهدم اليقين هنا أيضاً إنما يحصل ببيان بطلان اليقين الناشئ؛ إذ اليقين قد ينشأ من مقدمات باطلة وأفكار خاطئة واستحصاءات ناقصة ..؛ بفعل عدم المعرفة الجيدة بالقواعد العلمية وأصول البحث ..؛ تماماً كالقَطَّاع؛ فإنه يَقطع بالأمور مباشرة على سليقته البسيطة، بدرجة أنه قد يخبره شخص بأن الحادثة الفلانية وقعت أو أن فلاناً قال كذا وكذا؛ فيصدِّق مباشرة ويرتِّب على ذلك آثار اليقين ويحمِّل الأمور مَحامل القطع الذي لا يشوبه أدنى نقص، مع أن خبر الواحد لا يفيد اليقين ..؛ إنما يفيد الاحتمال أو الظن حسب نوع القضية المخبَر عنها وظروفها ونوع المخبِر، والظن لا يغني من الحق شيئاً فضلاً عن الاحتمال الذي هو أَضعف رتبة من الظن، بينما القَطّاع مباشرة يقطع بصحة الخبر ويتيقن به؛ فهو يَتيقن بالمرسَلات والأخبار الضعاف والإعلام المَوبوء والأساطير كالتي يسمعها على بعض المنابر ويرتِّب عليه الأثر، فيقينه حُجة لأنه بالنسبة له حصل العلم التام رغم أنه ربما في الواقع لا حقيقة له، فإذا بُيِّن له بالبديل الحقيقي بطلان يقينه ارتَفع قطْعُه وأخذ بالعلم الدافع الصارف. وقد يتقلَّب الإنسان أحياناً في عدة من اليقين إلى أن يَصِل في نهاية المَطاف إلى الحقيقة والحق في يقينٍ له.
فالإنسان –الذي رزقه الله العقل وكرمه وميزه به- عليه دائماً أن يبحث ويفحص جيداً، ومتى حصل له قطْعٌ من مَناشئ عُقَلائيّة وافية؛ لزمت في ذمته حُجية يقينه وهو محاسب أمام الله تعالى أن يعمل به لا بغيره، تماماً كما في اليقين التفصيلي؛ فهو هنا لا يحق له أن يقلِّد ولا حتى يحتاط بعد القطع، وتقليده واحتياطه لا يكون عند الله بذي قيمة؛ ولهذا مثلاً نقول للمجتهد المتجزِء: تقليدك فيما أنت مجتهد فيه لا يبرء ذمتك إن كان ناتج التقليد غير مطابِق لِما تَوَصّل إليه اجتهادك، وإذا كان ناتج التقليد مطابقاً لنتيجة اجتهادك؛ فإنّ مِن العَبَث والتسامح أن تسمي ذلك تقليداً؛ لأن نتيجة اجتهادك في الموضوع الفلاني –بعد اجتهادك فيه- ونتيجة تقليدك فيه واحدة، وأنت عالم هنا بالنتيجة الواحدة في الإثنين، ونتاج الاجتهاد هو المتعلق حقيقةً بذمتك، مع أنّ الاجتهاد ليس دائماً يولِّد العِلم، فما بالك بالعلم، فنقول له ناتج الاجتهاد هو المتعلق بذمتك؛ حيث إنه علم خاص أو ظن تفصيلي والتقليد ظن تَبَعي، والعلم الخاص والظن التفصيلي مقدَّم عقلاً وشرعاً على الظن التَّبَعي؛ إذ الظن التبعي ظن أعمى. وكذا الحال بالنسبة للمجتهِد المطْلَق؛ فهو كالمجتهد المتجزء من جهة حُجّيّة علمه الاجتهادي عليه فيما هو مجتهِد فيه حقيقة.
بالتالي؛ إذا فرضنا أنّ المقلِّد قطْع بشيء، وكان قطعه على خلاف فتوى الفقيه الذي يقلِّده؛ فإنّ عمله بقطعه لازِم في رقبته؛ لأنه عِلم تام بما تَيَقَّن به تجاه ذلك الشيء؛ أما تقليده فظن بصحة الفتوى كان حُجة عندما لم يكن يَمتلِك يقيناً تاماً في الأمر.
من هنا تأتي أهمية التَّنبيه أو إرشاد الجاهل؛ فإنه يمكن له بالإرشاد أن يَبْلُغ اليقين في بعض الأمور؛ فلا يَعود الإرشاد والتَّنبيه بلا مبرِّر عقلائي أو غطاء شرعي. بالتالي؛ لماذا نَختزِل كل هذه الكُبرَيات المهمة العظمى وغيرها في جزئية واحدة تَكمن في أهواء التفريق وبث العصبية والنزاع العقيم فحسب، ومن ثم نَمنع الكلام في هذه المسائل ونُفَوِّت كبريات المَصالح الواسعة التي تَفوقها بمراحل كبيرة جداً؟!
● عاشراً (الأخير): لا أَتَكلَّم فيه بشيء: يأتي إن شاء الله تعالى في الوقفة الآتية.
أمين السعيدي
أواسط ربيع الثاني 1438هـ
____________________
● الهامش:
[1] الخصال، للشيخ الصدوق (ره): ص619 – وسائل الشیعة، للحُر العاملي (ره): ج1 ب1 من أبواب نواقض الوضوء ص175 ح6.
[2] وسائل الشيعة، للشيخ الحُر (ره): ج5 ب8 من أبواب الخلل ح2. لکن في طريق الشیخ الصدوق لابن عمار علي بن إسماعيل، وعلي هذا لم يوثقه غیر نصر بن الصباح، ونصر هذا لم يوثَّق، وحسب بعض المَباني توثيقه برواية أكابِر أصحابنا عنه لا یکفي؛ لأنهم یروون عن الضعاف أیضاً كثيراً.
[3] تهذيب الأحكام، لشيخ الطائفة (ره): ج4 ص159. والاصبهاني لم يوثّق، بل ضعّفه الشيخ رحمه الله، كما أنَّ روايته أيضاً مضمَرة لا يُعلَم عمَّن رواها؛ عن المعصوم أم عن شخص آخر، بینما القاساني ليس ممن نَعلَم أنه لا يروي إلا عن الإمام المعصوم؛ إذ لا عُلوَّ منصوصٍ لمقامه يجعله في هذه المَنزلة. وقد يُتوهَّم أنه علي بن محمد بن شيرة القاشاني الثقة بتوثیق الشيخ رحمه الله له؛ فالتَفِتْ.
[4] الوسائل ، للحُر العاملي (ره): ب74 من أبواب النجاسات ح1.
[5] تهذيب الأحكام، للشيخ أبي جعفر الطوسي (ره): ج1 ص8 ح11.
[6] لا نعبر بيقين أقوى؛ لأنه لا يوجد يقين أقوى ويقين أضعف؛ فكل يقين هو درجة علم تام مئة بالمئة دون أدنى نقص، بخلاف الاطمئنان والطن والشك والاحتمال؛ فالعلم فيهما ليس كاملاً كمالاً كلياً.
[alert color=”” icon=””]
موضوعات ذات صلة:
[button color=”” url=”http://anbyaa.com/?p=11344/”]أ- رسالة التطبير1 (مَدْخَل، والصنف المخاطَب بهذه الأبحاث)[/button]
[button color=”” url=”http://anbyaa.com/?p=11381/”]أ- رسالة التطبير2 (أغراض ومبررات)[/button]
[button color=”” url=”http://anbyaa.com/?p=11444/”]أ- رسالة التطبير3 (الطُّرُق الحُجة لإحراز الحُكم الشرعي، ومراتبها، والطريق المختار)[/button]
[button color=”” url=”http://anbyaa.com/?p=11459/”]أ- رسالة التطبير4 (الإصلاح الداخلي للدليل)[/button]
[button color=”” url=”http://anbyaa.com/?p=11479/”]أ- رسالة التطبير5 (تشجيع العوام والمثقَّفِين على الجُرأة في الدِّين)[/button]
[button color=”” url=”http://anbyaa.com/?p=11495/”]أ- رسالة التطبير6 (علاج جدليّة: “تبصير الجاهل” و”تنبيه الغافل”)[/button]
[button color=”” url=”http://anbyaa.com/?p=11510/”]أ- رسالة التطبير7 (امتثال ’’حُكم الحاكم‘‘ وامتثال ’’فتوى المَرجِع‘‘)[/button]
[/alert]
للتعلیق أو مطالَعة التعلیقات اضغط هنا