أ- رسالة التطبير(9)
● موجز عناوين الأبحاث المتقدمة وفهرست الأبحاث المنعقدة هنا:
تَقدَّم الكلام في مَدْخل تمهيدي تلاه الدخول في الفصل الأول المعقود لتأسيس مسائل هامة تتصل ضرورةً بموضوعنا، تَقدَّم منها المسألة الأولى التي تكفّلَتْ بيان الصنف المخاطَب بهذه الرسالة. وتقدَّم من المسألة الثانية التي تكفَّلَتْ بيان أغراض ومبررات الرسالة، حيث افتتحتها بالسؤال: (لماذا الكلام في هذا الأمر؟)؛ ذلك بناءً على ما قد يتبادر لأذهان بعض المؤمنين بأنّ الحديث في هذه المسألة هو ضربٌ على وَتَر التفرقة وبثِّ النزاعات في المجتمع الواحد .. فأجبت بأن هذا التبادر ساقط؛ ذلك لمجموعة أمور تَقدَّم منها الغرض والمبرِّر الأول إلى التاسع، وفيما الغرض والمبرِّر العاشر الأخير:
الفصل الأول: (تأسیسٌ ضروري):-
● المسألة الثانية: (أغراض ومبررات الرسالة):-
● عاشراً: لا أَتَكلَّم فيه بشيء:
إذا قال فقيهٌ مجيباً مقلديه عن حُكم التطبير بقوله مثلاً (لا أَتَكلَّم فيه بشيء)؛ فهذا يعني أنه متوقِّف في الحُكم، وهذا التوقف وظيفته العملية بالنسبة للمقلِّد هي إما الاحتياط، أو الاجتهاد، أو التقليد بالرجوع إلى الفقيه الأعلم فالأعلم.
بالتالي؛ نحن هنا مع مقلِّدي هذا الفقيه على تَماس في ثلاثة خطوط رغم أنهم مقلِّدون له؛ فالخط الأول هو أن ندعوهم إلى الاحتياط، والخط الثاني أن ندعوهم إلى الاجتهاد، حتى ولو فرَضناهم مقلِّدين؛ إذ باب الاجتهاد –الكُلّي أو الجُزئي- مفتوح لكل أَحدٍ شريطة التخصص وامتلاك مَلَكتِه الصحيحة، والخط الثالث التقليد لمرجع آخر شريطة رعاية الأعلم فالأعلم؛ أما تماسنا معهم في الخط الأول؛ ففيه نرشدهم –لاحِظْ أقول (نرشدهم)- لسبيل الاحتياط ولِما يَقتضيه؛ وهذا يحصل ببسط المسألة لهم بسطاً واضحاً يتناسب مع تحصيل نتيجة ما يقتضيه الاحتياط. وأما تماسنا معهم في الخط الثاني؛ ففيه نرشدهم لمَدارك الاجتهاد؛ وهذا يحصل ببسط المسألة بسطاً تفصيلياً يتناسب مع تحصيل نتيجة ما يقتضيه الاجتهاد. وأما تماسنا معهم في الخط الثالث؛ ففيه نقف على طرفين؛ الأول هو إرشادهم إلى الفقيه الأعلم الذي هو بتعبير آخر استطاع التشخيص جيداً حسب نظره، والذي أيضاً -قد- تتحدد أعلميته وجدارته وعدمها من خلال نفس هذه المسألة، والثاني هو إرشادهم لما يقتضيه نفس الاحتياط مع تقليد الأعلم الآخر.
هذا الاحتمال الأول لقوله (لا أتكلم فيه بشيء). وهناك احتمال آخر يمكن إبرازه أيضاً؛ وهو أنه يريد أن يجعل المكلَّف هو المشخِّص مع بقائه على التقليد له في المسألة.
● فإن قلتَ:
حسب الاحتمال الثاني، كيف يشخصه وهو مقلِّد لا يريد أن يتخصص ويصبح مجتهداً؟ فالتشخيص يَحتاج للحُكم ليَتم التشخيص من خلاله، والمقلِّد يريد هذا الحُكم من فقيهه، بينما الحُكم مفقود لم يَنطق به الفقيه، وإلا لو تَرَك الفقيه للمقلِّد أن يشخِّص بنفسه هكذا؛ فهذا يعني وقوع اللَّعِب في الدِّين والإفتاء بالرأي وكل مقلِّد يضع حكماً من عند نفسه بعد فقده للعلم بمَدارِك الاستدلال وفقدانه لمَلَكة الاجتهاد.
قلتُ:
هذا الكلام صحيح إذا فرضنا أننا جعلنا التشخيص للمكلَّف هكذا على إطلاقه، لكننا لا نجعله هاهنا كذلك؛ فهذا الإشكال نحله من خلال ما يمكن أن نسميه بـ(الشرط القِسْطي أو الشرط مسبوق الحُكم أو مسبوق الفتوى)؛ فإنّ الفقيه لا يفتح المجال للمكلَّف فتحاً اعتباطيّاً ليَصُول ويرتكب المحذور، وإنما يجعل التشخيص له بشريطة أنّ الخاصة؛ أي بمعنى أنني أيها المكلَّف أَدَعُ التشخيص لك أنت، لكن بعد أن أعطيتك الميزان وأوضحت لك قِسْط الحُكم بحيث تتمكن من التشخيص بوضوح في ظل كونك مقلِّداً لي؛ فهذه الممارَسة من الفقيه منطقية جداً في حق المكلَّف؛ وهي تماماً على هيئة أن يقول الفقيه:
إنّ التطبير من حيث حُكمه الأولي حلالٌ لا مشكلة فيه شرعاً حسب ما هو متوفر لديَّ من المَدارك الشرعية، ولكنه لو تَعارَض مع حُكم ثانوي كتوهين المَذهب أو الدِّين مثلاً ..؛ فإنه لا يَجوز فعله في هذه المرحلة؛ فهنا نلاحظ أنّ الفقيه أَوضَح للمكلَّف قِسْط الحُكم الكافي لِجعلِ المكلَّف متمكناً من التشخيص رغم بقائه على وصف التقليد؛ بالتالي نكون في تَماس مع المكلَّف من جهتين؛ الأولى إرشاده للشرط الذي صاغه فقيهه -وهو (إن تَعارَض مع حُكم ثانوي)- هل هو متحقِّق فيتحقق جزاء شرط فقيهه –لا يجوز- أم غير متحقِّق فيظل الحُكم الأولي ثابتاً وهو حِلّيّة التطبير؟ والثانية إرشاده لوجه الاحتياط في ذلك.
● وهنا يَصح لك أن تَسأل: ما المبرِّر لأن يَجعل الفقيه التشخيص في ساحة المكلَّف ومسؤوليته؟
الجواب: المبرِّر هو أن الفقيه إما لا يريد أن يُطلع المقلِّد على تشخيصه؛ لعلةٍ ما، ودون أن يسد عليه باب التكليف وباب العِلم، وفي نفس الوقت لا يريد أن يجعل المكلَّف يقلِّد فقيهاً آخر؛ لسببٍ موضوعي أو مرحلي يراه، وتلك العلة الما ربما تكمن في غرض دائمي أو غرض مؤقَّت؛ فربما أراد الفقيه قياس أحوال المكلَّف، وإلهامه التَّصوُّر المختص به بعد الفَحص، ومن ثم يباغته الفقيه بالفتوى لتحقيق أثرٍ خاص، أو أراد أن يجعل التشخيص لذلك في رقبة المكلَّف دون إلحاقه بعد ذلك بنظره دَرءً لمحذور معيَّن وطلباً لفائدة يراها ..؛ فالفقيه يحق له هكذا ممارسة مع مقلِّديه على خَط هذه الضوابط المنطقية والمشروعة.
● فإن تساءلت:
ما هو الكاشف عن صوابية احتمال التفسير الثاني؟؛ فإنّ التفسير الأول للعبارة مقبول؛ لأنه جرى عليه الاستعمال الفقهي من الفقهاء، بينما الثاني ما هو الحامل عليه؟
أجبتُ:
نفس عبارة لا أتكلم بشيء؛ فإنه لا أتكلم بشيء ولا أتكلم حتى بلفظ التَّوقف الذي يعني تقليد الأعلم فالأعلم بعدي؛ وهذا لازمه أنني أفسح المجال لك بالمسؤولية للتشخيص بهذا المقدار في رقبتك وذمتك أمام الله تعالى.
وعلى أيٍّ؛ فإنّه يكفينا واحد من التفسيرين؛ إذ بناءً على كل من التفسيرين –سواء قبلتَ بالثاني أم لم تَقبل- لا يَبقى لمانع إرشاد الجاهل وتبصير الغافل موضوعية تسوغ محذوراً قِبال الإبلاغ، سواء في الإرشاد لذاك أو التبصير لهذا.
● إن قيل:
الإرشاد في هذه الحالة يقع في حق مَن؟ في حق المقلِّد الذي يتمكن من التشخيص أم الذي لا يتمكن من التشخيص؟ فالذي يتمكن من التشخيص لا وجه لإرشاده؟ والذي لا يتمكن من التشخيص عليه أن يقلِّد الأعلم الآخر بعد فقيهه؛ فما الوجه في الإرشاد إذاً!
فالجواب عليه؛ هو أنّ الإرشاد للإثنين، لهذا وذاك أيضاً؛ أما وجه صحة الإرشاد في حق هذا وذاك فيتضح من خلال الأخذ بعين الاعتبار نفس عنوان التبصير والتنبيه؛ فإنّ المقلِّد الذي يتمكن من التشخيص نرشده إلى هل أنه شخَّص صواباً أم لا، وإن كان متمكناً؛ وبتعبير أوضح: نناقشه فيما هو عالم به؛ فإنّ العِلم قد يزاح بعِلم؛ كإزاحة اليقين اللاحق لليقين السابق؛ فإنّ التمكن لا يعني العصمة؛ تماماً كإرشاد الفقيه للفقيه؛ فإرشاده له لا يعني عصمة المرشِد ولا عصمة المرشَد، ولا يوصَف بأنه عبث من الفقيه الآخر في حق مقابِله، فهما يَبحثان دوماً للوصول للحقيقة أو بعضها أو تأكيدها في النفس، والتأكيد أيضاً له قيمته العلمية التي لا يستهان بها بتاتاً، وهذا –أعني الإرشاد- ينطبق عليه مفهوم الجهل المُرَكَّب؛ فالجاهل بالجهل المركَّب ملتفِت لعلمه التفاتاً كاملاً لكنه يَحسب أنه عالمٌ بالأمر وهو في واقعه أَخطأ علمه. بخلاف الجهل البَسيط؛ فإنّ ’’الغافل‘‘ مُقِرٌّ بجهله، غاية الأمر أنه غير ملتفِت إليه بَعْدُ، ومجرَّد أن يَحصل منه نوْع التفات؛ يُقِر ويبادِر للتصديق بما هو مُقِر به وكان غافلاً عنه وغير منتبِه إليه، كما أنّ الغير قادر على التشخيص لا نقول له بما أنك غير قادر فلا حَظَّ لك في ذلك؛ وإنما نقوِّيه على التشخيص؛ فالفقيه لَمّا أَوكَل التشخيص إليه إنما مِن أحد أهم غاياته أن يَدفعه للفحص والتَّقوّي على التشخيص، وليس من فوائد الإرشاد فائدة أعظم من أنه يقوّي على التشخيص؛ فتَفَطَّنْ.
ثمّ إننا إذا رَجعنا إلى صُلب مَطلبنا؛ فإنّ هنالك مسألة أخرى تَصُب في تأكيد صوابية الاحتياط في هذه المسألة؛ وهي أن تعبير الفقيه بهكذا لفظ يشير إلى حالة تَردُّد نوعي لديه من حيث شخصه تَشخيصياً؛ وهذا التردد النوعي من حيث أحوال هذه المسألة يفيد أن الاحتياط هو الراجح فعلاً، سواء احتياطاً في الفتوى عموماً، أم فتوى في الاحتياط خصوصاً.
وسيأتي مَزيد إيضاح في مسألة التشخيص بأبحاث قادمة في بحث الثانوي التَّمَثّلي، كما سيأتي بيانه أيضاً في الدولة وإفتاء الفقيه تجاه قانونها المحكوم لحاكم مسْلِم أو غيرمسْلِم. بالتالي؛ لماذا نَختزِل كل هذه الكُبرَيات المهمة العظمى وغيرها في جزئية واحدة تَكمن في أهواء التفريق وبث العصبية والنزاع العقيم فحسب، ومن ثم نَمنع الكلام في هذه المسائل ونُفَوِّت كبريات المصالِح الواسعة التي تَفوقها بمراحل كبيرة جداً؟!
● بهذا أكون بحمده تعالى انتهيت من الفصل الأول ببيان مجموعة من المسائل الضرورية المتعلِّقة بهذه الأبحاث، على أن أشرع بحوله عز وجل في الوقفة القادمة بالفصل الثاني المتكفِّل بالدخول في أبحاث التطبير، مقدِّماً مادة معرفية -من بين مئات المواد والعناوین التي تَفتقِر للتقديم- كبادرة ومساهَمة في طريق التوقيظ وتقليص الجفوة، راجياً أن يثيبني اللهُ بها خيرا ويصيبنا منه قُرباً وبِرا، آملاً الابتعاد جميعاً عن نهج التشكيك، مؤكِّداً موصياً إخواني بعدم التعجل واقتحام الأمور بغير معرفة ومجانَبة الجدل العقيم وعدم المِراء؛ فإنه طاعة للشيطان وسبب للبُعد عن الله وفقدِ التوفيق والعذاب والهلاك وضياع المصير دنيا وآخرة، وملازَمة النظر الشمولي المدروس؛ فإنه يرفع الوعي والحصيلة والملاحَظة، وأن يكون المعيار الحقيقة والتقوى لا الأقوى، فكمِّن مشهورٍ في الأرض مجهول في السماء وكمِّن مجهول في الأرض معروف في السماء. فعلى الله أتوكَّل وبه أستعين.
أمين السعيدي
أواخر ربيع الثاني 1438هـ
[alert color=”” icon=””]
موضوعات ذات صلة:
[button color=”” url=”http://anbyaa.com/?p=11344/”]أ- رسالة التطبير1 (مَدْخَل، والصنف المخاطَب بهذه الأبحاث)[/button]
[button color=”” url=”http://anbyaa.com/?p=11381/”]أ- رسالة التطبير2 (أغراض ومبررات)[/button]
[button color=”” url=”http://anbyaa.com/?p=11444/”]أ- رسالة التطبير3 (الطُّرُق الحُجة لإحراز الحُكم الشرعي، ومراتبها، والطريق المختار)[/button]
[button color=”” url=”http://anbyaa.com/?p=11459/”]أ- رسالة التطبير4 (الإصلاح الداخلي للدليل)[/button]
[button color=”” url=”http://anbyaa.com/?p=11479/”]أ- رسالة التطبير5 (تشجيع العوام والمثقَّفِين على الجُرأة في الدِّين)[/button]
[button color=”” url=”http://anbyaa.com/?p=11495/”]أ- رسالة التطبير6 (علاج جدليّة: “تبصير الجاهل” و”تنبيه الغافل”)[/button]
[button color=”” url=”http://anbyaa.com/?p=11510/”]أ- رسالة التطبير7 (امتثال ’’حُكم الحاكم‘‘ وامتثال ’’فتوى المَرجِع‘‘)[/button]
[button color=”” url=”http://anbyaa.com/?p=11523/”]أ- رسالة التطبير8 (إحراز القطع وتفعيل أثره)[/button]
[/alert]
للتعلیق أو مطالَعة التعلیقات اضغط هنا