سلوكيّات شيخ المدينة “علي بن الحسين” بين التّناقض والاستقامة [2] قراءة تحليليّة لمسيرة الإمام (ع) على ضوء رؤية التّناقض في “سيرته التّجزيئيّة الواحدة” و”المجموع الكُّلِّي لسِيَر الأئمّة (ع)” المقال الثّاني أمين السعيدي
بسم الله الرّحمن الرّحيم
مَدْخَل:
الحمد لله ربِّ العالمين، والصّلاة والسّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، محمّدٍ وعلى آله الميامين وصحبه الطّاهرين.
وبعد..
تكلّمنا فيما سبق بعد التّمهيد لسيرة الإمام زين العابدين عليه السّلام وتعريفه من حيث المولد والمنشأ والرّحيل، ومن حيث التّراجم وأقوال الرِّجاليِّين والأعلام والعلماء من العامّة فيه، وبعد بيان زاوية الكلام ومجال الحديث، وبعد الوقوف على الأسباب الدّاعية لطرح موضوع البحث، تكلّمنا هناك عن رؤية التّباين والتّناقض الّتي قد يصوّرها البعض تجاه سيرة الأئمّة الاثني عشر عليهم أفضل الصّلاة وأتمّ التّسليم، ضمن المجموع الكلِّي لسِيَرِهم التجزيئيّة والمقارنة فيما بينها.
كما أشرنا هناك إلى أنَّ نفس هذه الرّؤية كما تتوجّه للسِّيَر ككل بالمقارنة، كذلك تتوجّه للمجموع الكلِّي للسّيرة الواحدة من سِيَرهم عليهم السّلام بغضِّ النّظر عن الأخرى، مضافاً إلى أنّنا بيّنّا هناك شموليّة هذه الرّؤية لكلا الجنبتين “القياديّة السّياسيّة” و”التّشريعيّة الدِّينيّة” على حدٍّ سواء، ولا تستقل بالأولى دون الثّانية، فتناولنا الجنبة الأولى منوّهين لحاجة الجنبة الثّانية –على أهمّيّتها الفائقة- لقراءة مستقلّة ووقفة خاصّة أخرى.
أمّا في الجنبة الأولى فضرَبنا من خلالها العديد من الأمثلة لكل من الدّراستين؛ الدّراسة لكلّي سِيَر الأئمّة عليهم السّلام بالمقارنة، والدّراسة لكلّي السّيرة الواحدة المفردة، والّتي اختصصناها –حسب موضوع المقام- بسيرة الإمام الرّابع من أئمّة أهل البيت عليهم الصّلاة والسّلام، علي بن الحسين، ومعالجتها وفق رؤية التّباين المطروحة.
كما استنبطنا واستعرضنا هناك الخطوط العامّة لسلوكيّات الأئمّة عليهم السّلام المتغايرة.
وهنا نريد أن نستكمل البحث لنتحدَّث عمّا أشرنا له من نقاط في نهاية ذلك المقال كما يلي:
مناقَشة رؤية التّباين على ضوء المجموع الكلّي للسّيرة التّجزيئيّة للإمام علي بن الحسين (ع):-
وهنا يمكننا القول وبكل يقينٍ ردّاً على ما تقدّم بأنَّ هذه الدّراسة وإن كانت للوهلة الأولى تُظهِر لنا ذلك، إلا أنَّها في مضمونها ليست إلا نظرة سطحيّة شكليّة بعيدة تمام البُعد عن الواقع وعن الهدف الّذي يجمع هؤلاء العظماء في سلوكهم ومسيرتهم، والّذي يهمّنا في المقام هو الوقوف على خصوص سيرة رابع الأئمّة من أوصياء رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الإمام علي بن الحسين عليه أفضل الصّلاة وأتمّ التّسليم، لنرَى مدَى شكليّة هذه الرّؤية تجاه سيرته الكلّيّة المفردة، وكذا تجاه كلّي السّيرة لجميع الأئمّة عليه الصّلاة والسّلام.
والقول في بيان ذلك سينعقد -هاهنا- في النّقطتين التّاليتين:
أوّلاً: بيان منهجيّة التّقييم الصّحيح للحوادث التّأريخيّة وسلوكيّات الأفراد:-
إنّنا بالعود إلى الحدث التّأريخي بحسب كل مرحلة مارس فيها المعصوم عليه السّلام حياته؛ نجد أنَّ دوره تجاه ذلك الحدث كان دقيقاً متناسقاً متناغماً تماماً مع مرحلته ومهامّه الإلهيّة، وهذا لا يضر بأن تكون هنالك مرحلة أخرى في فترة أخرى تَفرض عليه دوراً آخر، فالمهم هو عنصر التّناسق والتّوافق بين ذلك السّلوك وتلك المرحلة بما يحقّق المهام الّتي تتطلّبها مسؤوليّته كإمام متصرِّف، وبالتّالي لا معنى لمقولة التّناقض تجاه ذلك، فالّذي مثلاً يؤمن بحرمة الخمر فلا يخلط به دمه ولحمه، ثمَّ يمر في لحظة من اللحظات بظرف يرتبط ببقائه فيشربه لينقذ به حياته ولا سبيل له لذلك إلا به هل نقول عنه بأنّه متناقض في تصرّفاته وسلوكيّاته؟!
فهذه الحالة مع أنّها من الحالات العُليا إلا أنّنا مع ذلك لا نقول هذه المقولة في حقِّ صاحبها، وإلا لو قلنا هذا في مثل ذلك لوجب أن نلتزم بنسبها للمولى سبحانه وتعالى أوّلاً قبل غيره؛ لأنّه هو من قال هذا في صورته الأوّليّة حرام وفي مورد آخر ثانوي حلال، بل أَوجبَ شربه في فرض المثال، والحال أنّنا لا نلتزم بذلك، فهو سبحانه سيّد العُقلاء، فنبرّر ذلك عقلاً وشرعاً تبعاً للموضوع، فنقول بأنَّ اختلاف الموضوع دخيل طبيعي في اختلاف الحُكم.
هكذا الأمر أيضاً في اختلاف الحدث والظّرف –الموضوع- فكل ذلك دخيل طبيعي في اختلاف الدّور والممارسة –الحُكم- فمادامت الممارَسة –الّتي هي بتصوير آخر تمثِّل محمول الموضوع- متناسقة عقلاً وشرعاً مع الظّرف المتّخَذة تجاهه، فهذا لا يتيح مجالاً لمقولة التّناقض بتاتاً وإن وُجِدَ التّغاير، فالحياة البشريّة متحرّكة، ولا تثبت على طريقة ليثبت فيها الإنسان أو مجموعة من النّاس المتعاقبين زماناً على سلوك واحد.
نعم؛ التّغاير في العمل تجاه ظرف واحد متّحد الشّرائط والوقائع من جميع الجهات هو الّذي يعدّ تناقضاً بلا إشكال.
ثانياً: تحليل سيرة الإمام علي بن الحسين (ع) وفق منهجيّة التّقييم:-
وهنا سنقَسّم قراءتنا لسيرته عليه السّلام حسب أبرز معالمها ومفاصلها إلى فترتين كما يلي:
ألِف- فترة ما بين كربلاء والسَّبي:-
إذا أدركنا ما تقدّم بقي علينا أن نثبت حقيقة التّلاؤم والتّناسق بالنّسبة للدّور الممارس من قِبل المعصوم في ظرفٍ ما مع حدثه، وهذا ما يتكفّل به التّحليل الدّقيق والدّراسة الشّاملة المتفحّصة لكافّة أجزاء وجهات السّيرة الواحدة وما مرّ فيها من أدوار ووقائع ومتغيّرات.
فالإمام زين العابدين عليه السّلام لـمّا سلَّ السّيف –مثلاً- في مرحلته الأولى في كربلاء كان سلوكه هذا قد جاء في ظرفٍ مركَّبٍ من عدّة تداعيات تتطلّب ذلك حتماً أكيداً عليه، نذكر منها:
1- محاصرة القوم لأبيه كإمام وحجّة إلهيّة عليه وعلى غيره، وهذا بلا شك سبب مهم يتطلّب مثل هذا السّلوك، كيف لا ومجرَّد سب النّبي أو وصيّه يوجب قتل فاعل ذلك دون مرافعة للقاضي حسب ما عليه الشّريعة، فما بالك بما هو أشد من ذلك؟
2- الظّلم الواقع على أبيه بغضّ النّظر عن إمامته وأُبوّته، ونصرة المظلوم واجبة شرعاً، وحسنة لا ينبغي تركها عقلاً؛ نظراً لكونها وظيفة وواجباً من الوظائف والواجبات الإنسانيّة والإلهيّة، وهي تشتد باجتماع الأبوّة مع المظلوميّة.
3- حاجة الأمّة لحركة شديدة الأثر فريدة من نوعها في تأريخ البشريّة لتوقظ الضّمائر وأتباع الدّين، تماماً كما فعل دم الإمام الحسين عليه السّلام بعد قتله، حيث أثّر أثره في إرجاع الأمّة لرشدها بدليل ما قام من ثورات ووقع من تحرّكات ورسوم هائلة، وليس وجود الإمام زين العابدين عليه السّلام في ظلِّ تلك الحركة بمنأى عن مطالبته بتقويم هذه الهزّة وهذا الدّم المبارك الّذي يَفرض منطق السّيف بكل أنحاء الظّرف القائم آنذاك، فهو من أبرز معالم الصَّلاح ومن أوائل من يناط بهم امتثال وتحقيق هذه المهمّة الصّعبة والعظيمة.
4- الدِّفاع عن العرض والشّرف الشّخصي، حيث كان في كربلاء رجال وأطفال ونسوة على انتماء تام به عليه الصّلاة والسّلام كان من بينهم –على رواية- ابنه محمّد الباقر عليه السّلام الإمام من بعده[1] وغلامه مُنْجِح وأُمّه ناهيك عن غيرهم، فليس من عاقل يَرفض ويعارض هذا الحق، وسلّ الإمام علي بن الحسين عليهما السّلام للسّيف ما كان إلا على إثر هذا العامل الجزئي في ضمن العوامل الأخرى.
أضف لهذا نصرته صلوات الله وسلامه عليه لذلك الجمع الّذي كان برفقة أبيه بما هو جمع محاصر مظلوم مغرّر به مضطهَد مسلوب العرض والإرادة، وقعت عليه الجرائم القاسية بما يحرق قلب النّاظر ويهيّج مشاعره، وغير ذلك من العِلل، كرفعة أنصار الحسين عليه السّلام وكون بعضهم من صحابة رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وكتضمّنهم لعدّة أفراد من بني هاشم ممّن خصّهم الله تعالى بأحكام خاصّة، فضلاً عن أبيه عليه السّلام، وغير ذلك.
فنحن عندما نطالع هذه الأسباب؛ سنجد أنَّ كلَّ واحدٍ منها كفيلٌ بمفرده لأن يَفرض على أيِّ مسلمٍ ملتزِمٍ أو عاقلٍ صاحب مواثيق مع محاسن الفعل أن يَنتشق حسامه ويقف وقفة الشّريف الّذي لا يرتضي الظّلم والذّل والهوان في سبيل شيء من الحياة بدون ذلك، فكيف بها كلّها مجتمعة على الشّخص، بل وعلى إمام وخليفة إلهي يمثّل بوجوده عزّة السّماء وشرفها ومنطق كرامتها؟!
إذن هذا الدّور وهذا السّلوك كان متوافقاً تماماً مع الظّرف والمرحلة.
وأمّا سلوكه عليه السّلام فيما تلا واقعة الطَّف فهو في رحلة أسره وتسييره للشّام مع من تبقَّى من نساء الحسين عليه السّلام وأطفاله كان السّيّد الأمثل في شجاعته وتنديده العلني بالظّلم والظّالمين وعلى رأسهم السّلطة وسلطانها يزيد بن معاوية، للحد الّذي كادت تصريحاته وكلماته ومواقفه على طول ذلك الظّرف أن تودي بحياته بما أحدثته من زلازل لعرش القيادة الأمويّة المستبدّة في الشّام بتغطياتها على الحقائق ومكائدها، خصوصاً عندما حاجَّ يزيد بن معاوية في مجلسه بين الجمع فأفحمه وأَلجم حجّته، فخطبته بلسان العلم والفصاحة وشجاعته في موقفه على رغم صعوبة الحدث وعُسره دليل وبرهان ناصع على هذه الحقيقة؛ فلا تناقض بين الموقفَين في كربلاء وفي السَّبي والشّام.
باء- فترة ما بعد السَّبي والرّجوع للمدينة:-
وهنا سنتكلّم في أربع جهات؛ إحداها تتكفّل استقراء المبرّرات الفكريّة لحركة الإمام عليه السّلام في هذه الفترة، والثّانية تتكفّل بمقارنة هذه المبرّرات مع الوقائع العمليّة الّتي مارسها الإمام عليه السّلام وقام بتطبيقها في أفعاله، والثّالثة نستعرض من خلالها الخيارات الأخرى المقابِلة لدور هذه المرحلة بالنّظر والتّحليل وتقييمها على أساس الأكثر موافقة وتناسقاً مع الواقع والمجريات القائمة آنذاك، والرّابعة نبيِّن فيها الحقيقة الكاملة لسلوكيّات هذه الفترة، والخامسة نَستقرء من خلالها الوظائف الأخرى الّتي مارسها الإمام عليه السّلام طوال هذه المدّة، وذلك كما يلي:
1- الغايات الفكريّة لسلوكيّات هذه المرحلة:-
وأمّا بعد رجوعه عليه السّلام من أسره للمدينة فإنَّ عَوده إليها كان عَود من يحكمه ظرف الهدوء المخيّم على أهلها ورجالها ودعاتها، وظرف الرّجل المحاصَر المراقَب في ذات الوقت المهدَّد بالموت من قِبَل أزلام يزيد بن معاوية الّذي امتدّت سلطته وقدرته إلى هناك، للدّرجة الّتي كان يحتاج فيها لتفجير الموقف وإطلاق الصّرخة على شرف حريم البيت النّبوي وسبطه الحسين صحابي رسول الله صّلى الله عليه وآله وسلّم وخليفته وسيّد شباب أهل الجنّة إلى أن يبتعث لضمائر القابعين في تلك الدّيار من يكون أشدّ وقعاً عليهم، وأكثر تحريكاً لنفوسهم الفاترة، حيث أرسل بِشْر بن حَذْلَم الشّاعر المعروف باقتداره وقوّة بيانه وشدّة اجتذابه للقلوب وتهييجه للأحاسيس والمشاعر، فوقف عليه السّلام في خارج المدينة على أطرافها، ونصب للنّساء والأطفال شيئاً من السّتار، وجلس يقدّم الموقف المؤلم ويصوّر غربته حتّى في دار قومه بين من سمع أحاديث رسول الله صّلى الله عليه وآله وسلّم في أبيه ورأى ما رأت عيناه من فعاله العظيمة معه.
ثمَّ إنّه عليه السّلام وإن لم يكن يخاف الموت ولا يهاب القتل في سبيل ربّه والقِيَم العالية، إلا أنّه كان يَرَى أنَّ دم الحسين عليه السّلام قد وفَّى بالغرض المطلوب في تحريك كيان الأمّة وتحقيق يقظتها وصحوتها بكل قوّة وامتداد، فكان يَرَى على نفْسه أن يمارس دوره في توجيه وإدارة ذلك الدّم وأهدافه ومراقبة آثاره ودفعها لمواقعها الصّحيحة وتمثيل حركة عمليّة على صعيد التّعامل السّليم تجاه جميع وقائع فاجعة الطَّف بكافّة الرّسوم والطّقوس والتّحرّكات.
لذا كان يَرَى في ضمن ذلك أنَّ حركة الثّوّار المشتّتة المتصاعدة يوماً بعد يوم، ومشاعر الأمّة الحادثة المتزايدة صعبة الضّبط على غيره بحاجة لقيادة وتوعية وتوجيه، ذلك التّوجيه الّذي يحتاج لعامل وعلّة مهمّة تكمن في بقائه وحياته بما يبيِّن معنَى مقولة الحسين عليه السّلام فيه لعمّته زينب بنت علي عليهما السّلام عندما برز –الإمام السّجّاد- للقتال في يوم الطَّف بإرجاعه؛ وبرّر ذلك بقوله:
كي لا ينقطع نسل جدّي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.
إذ أنَّ انقطاع نسل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يعني قيام نسل الطّغاة وضياع دم الحسين والحسن وعلي وتضحيات رسول الله -صلّى الله عليه وآله وسلّم- وصحبه الأطهار وكل ما جاءت به السّماء، وازدياد وانتشار ظواهر البؤس والتّدليس والانحلال والطّغيان في كلِّ مكان بفعل انقطاع هذا النّسل المختزَنة فيه الإمامة إلى حين مخلِّص البشرية الإمام المهدي أرواحنا فداه، وإلا ما كان لمثل الحسين صلوات الله وسلامه عليه غرض وغاية سديدة متَصوَّرة من مقولته هذه غير هذا، فمِثل الحسين عليه الصّلاة والسّلام ليس بناظرٍ لبقاء النّسل على أساسٍ عنصريٍّ عرقي، وإنّما على أساسِ ما يحتويه من أهداف وغايات وأغراض إلهية في استقامة الأمّة وبقائها، فأنت ما لك أن تَتصوَّر بانقطاع نسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم في مرحلة الإمام زين العابدين عليه الصّلاة والسّلام إلا ضياعاً حالكاً للأمة وشتاتاً شاملاً ينتهي لإحراق الأخضر واليابس.
نعم؛ كان النّسل محفوظاً في الإمام الباقر عليه الصّلاة والسّلام الّذي كان -على الرّواية- متواجداً مولوداً صغير السِّن في لحظة ذلك الخطاب، إلا أنّ أُفقَ الحسين عليه الصّلاة والسّلام بسعته كان يَرى ما لا تراه عيوننا في ظل قتل ابنه الإمام السّجّاد عليه الصّلاة والسّلام وانقضاء نسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم وانتهاء الإمامة به، فالمطالِع لقول القوم في كربلاء لا تبقوا لأهل هذا البيت باقية وما سنوافيك به من قول ابن عباس ليزيد؛ يدرك جيّداً ما رمَى إليه الحسين عليه الصّلاة والسّلام من مقولته هذه، خصوصاً فيما إذا لاحظنا أفاعيل بني أميّة على طول مسيرة حكّامهم في تلك الفترة، وحاجتها لمواجهات محنّكة من مرجعٍ إلهي كعلي بن الحسين عليهما الصّلاة والسّلام -كما سترى بعينك- لِردِّها والحفاظ على خط الإسلام في أمّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم المبتغَى لها حفظ نسله وتحصيل هذه المرادات الرّبّانيّة الكبرى البليغة؛ فتأمَّل جيّداً.
وإلا فيزيد –الّذي لم يتوانَ عن ضرب الكعبة المثال الأقدس للإسلام وقبلة كل مسلم للحظة واحدة[2]– وأمثاله ما كان وجودهم وحكمهم يصب في مصلحة الدِّين بأقلِّ ما يُعتد به، ولو لا المواجهات الطّويلة والتّضحيات العظيمة الكثيرة الّتي قُدِّمَتْ من هذا النسل الكريم وأتباعه لإبطال ما أرادوا تحقيقه، لَعَلم الله سبحانه ما سيحصل على الأمّة وعلى الدِّين الّذي لن تقوم له قائمة.
أمّا السّيف في دستورهم عليهم السّلام فليس أداةً للتّباهي ولا وسيلةً لفرض الأنانيّة الخاصّة والشّرف الخاص والمصلحة الخاصّة، وإنّما هو آلة لعلاج حالة مرضيّة آنيّة، وهذه الحالة المرضيّة قد عولجت بما سُكِب من دم الحسين عليه السّلام، الّذي رفع الأمّة من إصابتها ومرضها المرير القائم على الخضوع للتّخويف والذّل والطّمع في الدّينار والدّرهم بمثل ما كان عليه الكثير من عناصر جيش الإمام الحسن عليه السّلام في عهدهم مع معاوية ومَسْحِ ذقونهم بالمال وتذليل أعناقهم بالبشائر.
إلا أنّه بعد حادثة كربلاء ووصفة الدّواء الّتي تكفّل بها الدّم الطّاهر وفجائع الطَّف القاسية والسّبي المخزي للإمام زين العابدين عليه السّلام والنّساء والأطفال؛ نالت الأمّة طفرة نوعيّة إلى المرحلة التّـالية الّتي تعقب الطّفرة بما لها من تداعيات وحاجة كبيرة للضّبط والتّوجيه والتّوعية والقيادة الصّحيحة، فكل ثورة تتعقّبها تداعيات وتلازمها أنفاس التّوتّر وردود فعل فقْدِ الأبناء والأحبّة الّتي إن فَقَدَتِ التّوجيه الصّحيح والقيادة الصّحيحة تجاهها ضاعت بها جميع تضحياتها وراحت هدراً في مهبِّ الرّيح.
لذا كان الإمام علي بن الحسين عليهما السّلام يمارس وظيفته في استكشاف واستيضاح الموقف، ومحاصرة كل الثّغرات الباحثة عن هدم جهاد المضحّين، فكان من أوّل ما سعَى وراء تحقيقه هو “توجيه عواطف الأمّة المستفيضة لله تعالى لا للثّائر، وإن كان هذا الثّائر هو نفْس أبيه الحسين عليه السّلام”، كما كان يسعى جاهداً لتجريد أي حركة وأي سلوك من الحميّة العمياء والقبليّة، فلا بنو هاشم لهم أن يمارسوا مشاعرهم الثّائرة على أساس العرق، ولا لغيرهم من عامّة المسلمين أن يمارسوا ذلك على أساس أي شيءٍ آخر بعيد عن الله تعالى وعن قول أبيه عليه السّلام:
“إنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي”.
وعن مقولة جدّه علي بن أبي طالب عليهما الصّلاة والسّلام:
“والله لأُسلِمَنَّ ما سَلِمَتْ أمور المسلمِين ولم يكن فيها جورٌ إلا علَيَّ خاصّة التماساً لأجر ذلك وفضله، وزهداً فيما تنافستموه من زخرفه وزبرجه”[3]؛ مبرِّراً بذلك حقيقة أنَّ السّيف ليس آلة للاستعراض والتّباهي والعصبيّة، وإنمّا هو آلة للعلاج المناسب الّذي يتطلَّب ذلك فحسب، وأنّه على استعداد تام لأن يغضَّ الطّرف عن آلامه وجراحه والجور عليه بشخصه في قِبال المصالح الكبرى للأمّة.
فالإمام زين العابدين عليه السّلام كان في ظلِّ هذه الظّروف الموضوعيّة يريد أن يستغل ما حوله من هيجان وعواطف متحرّكة ليجتذبها لتعاليم الدِّين، وينشرها في جوانبه، فيملأها بالإيمان ويحصّنها برفعة الاعتقاد بعد طول ما اعتراها من ركود ومنامات؛ وهذا ما لن ندركه ونعيه إلا بعد مطالعة تفصيليّة واعية لأدعية الصّحيفة السّجّاديّة، ولحظات صدور كل دعاء منها، وما تحيط به من حيثيّات، مضافاً لمضمونه وحركة الإمام عليه السّلام فيه، وكافّة مُقتضَيات أفعاله.
فهذه الدّراسة وإن كانت صعبة من جهة استقراء فترة وقوع الدّعاء وتداعياته الحاليّة الملتصقة به وما يحيط بجوانبه من علل معيّنة وآثار خاصّة؛ بسبب الثّغرات الكثيرة المتواجدة –بطبيعة الحال- في النّقل التّأريخي وضبابيّة وضآلة ما وصلنا من حياة الماضين، إلا أنّها ليست بتلك الصّعوبة من جهة دراسة مضامين تلك الأدعية وتداعياتها العامّة وآثارها القصوى، وما قام في السّيرة المباركة من أعمال وفِعال.
ونحن هنا سنقف على هذه الجنبة في جملة من المقتطفات بصورة مَليّة بعض الشّيء؛ لنلاحظ من خلالها مدى تناسق السّلوك مع الظّرف بما يرفع مقولة التّناقض المطروحة، على أنّه هل كانت سلوكيّات الإمام عليه السّلام متوافقة مع مفاصل هذه النّظريّة وجهاتها ومبرّراتها المذكورة أم لا؟
وبعبارة أخرى: هل أنَّ المجريات الّتي اتّخذها الإمام عليه السّلام في حياته تشكِّل امتثالاً عمليّات لما تمَّ تقديمه من غايات أم لا؟ بحيث يمكننا في حالة التّوافق والتّطابق بين النّظريّة والتّطبيق أن نسقط رؤية التّناقض من أصل تبعاً لما طُرح من مبرّرات، أو أن نقول في حالة عدم وجود نوع من التّوافق والتّطابق بين ذلك:
إنَّ هذه الرّؤية –رؤية التّناقض- ثابتة صحيحة لم تفِ هذه المبرّرات المقدَّمة -الّتي لم تجد تطبيقاً- بإسقاطها، وأنَّها مجرّد ترف فكري ودعاوى لا مصداق لها في الخارج يدعمها ويصدّقها، فنحتاج –بالتّالي- لقراءة مغايرة كفيلة بنقض وإبطال مضمون تلك الرّؤية، أو الإقرار بصوابها وتماميّتها.
هذا ما سنتكفّل إيضاحه والكشف عن حقيقته –سلباً أو إيجاباً- تحت العنوان الآتي.
2- قياس درجة التّطابق العملي مع غايات هذه المرحلة:-
ولنأخذ على سبيل المثال بعض تلك الأدعية–سريعاً- بالنّظر والتّحليل، وإلا فاستيفاء ذلك وتفصيله يحتاج لدراسة مستقلّة ووقفة خاصّة مليئة بالإمعان والتّمعُّن، فمثلاً:
دعاء “يا من تُحلُّ به عُقَد الـمَكارِه” كان بالمستوى الّذي يفيض به الدّاعي إيماناً وتسليماً بقدر الله تعالى وعدم القنوط منه أو السّخط عليه بما جرَى من مَكاره ومحن وعوارض الدّنيا في كربلاء وأيّام الأسر وشتات وقتل وتعذيب وآلام جسديّة من تطويق السّلاسل والحديد وعسر المسير وطول المسافة وشتائم ومتاعب مختلفة! بما يمزج بين المرحلتين، المرحلة السّابقة في العراق والشّام والمرحلة اللاحقة في ديار المدينة، وبما يعطي درساً للحضور بأنَّ ما جرَى لم يكن بمبدئِه هواناً على الله تعالى ولا ذلّة –كما عبَّرت زينب بنت عليٍّ عليهما السّلام- فكيف يكون من يوفَّق لكل هذا الجهاد وهذه التّضحيات وهذه الاستقامة هيّناً على الله العزيز الحكيم!
فكان عليه السّلام يمثّل للجميع درساً ضَمَّنَ أنَّ الإنسان المسْلم المسَلِّم يجب أن يكون في ذروة الألم وعسر الموقف مع الله، وأن يعلم يقيناً بأنّه في أحلك الظّروف والمحن هناك قوَّة جبّارة مقتدرة، وأنَّ الإيمان لابدَّ أن يسود في أرجاء النّفْس ويملأ القلب تجاه قَدر الله الّذي لا يضيع عنده شيء، وأن يَلتجئ لربّه رغم ذلك بكل ذلٍّ وخضوعٍ وحُب، وأن يَترامَى على أعتاب عفوه بدموع العيون ووجل الوجدان وإبحار العقل؛ هذا أقل ما يصوّره هذا الدّعاء.
وأمّا مثل دعاء “مكارم الأخلاق” فإنّه يصوِّر لنا أنَّ السّيف ليس –دائماً- هو الحد الأقصَى لتحصيل الحدود، بل هناك التّسامح الّذي يمثّل قيمة عُظمَى وخُلُق الأنبياء والأوصياء وكل الصّالحين، وأنَّ الدّعاء للأقارب والمسلمين والمخطئين يجب أن يكون طريقاً من طرق النّصر وتحقّق الأهداف والآمال، فقدرة الله تعالى على الهِداية فوق كل الاعتبارات، وليست غاية المؤمن الصّالح هي العداء، وإنّما الهِداية، فعداؤه لشخصٍ ما إنّما يَتحصّل بسبب عدم كون هذا الفرد على سبيل الهُدَى، فإن أمكن تحقيق الهِداية فيه فهذا من شأنه أن يرفع العداء له من رأس، والحال أنَّ الهِداية بيد الله سبحانه، والدّعاء طريق إلهي لإنزال الهدى وإحلاله في ذات ذلك الشّخص.
وهكذا فالعداوة في الدّعاء أو الدّعاء على العدو إنّما لأنّه معاند لله سبحانه ومتمرّد لا يَقبل مَحاسن السُّبُل والحلول، ممّا يدفع بالدّاعي لأن يجعل عظمة القدرة الإلهيّة لله عزَّ وجل طريقاً للخلاص من شرّه؛ فهذا –كما ترى- ممّا يُحتاج فيه للدّعاء أيضاً.
ودونك المناجاة الخمسة عشر ودعاء أبي حمزة الثّمالي، ففي ذلك ما تسمو به الرّوح وينعش القلب ويحلّق بلُباب العقل.
فالإمام عليه السّلام كان معلِّم الطّريقة ومبيّن الآداب الّتي تستلزمها تلك الطّريقة للفوز بكلِّ المآرب مادام الارتباط بالله القوّة العليا متحقّق، وكان عمليّاً في تعليمه، كما كان فاعلاً للنّصر ومؤكِّداً على أنَّ النّصر ليس دائماً يعني الفوز على أرض المعركة والحِراك المسلَّح فحسب.
هذا ولنا وقفة تأمّل –إن شاء الله تعالى- في بعض مقاطع أدعيته عليه السّلام نَستوفي بها الوقائع، ونُبيِّن من خلالها هذه الحقائق، ونَرنُّ بها لذائد الأرواح، ونُطيِّب بها الخواطر، بما يرسم ويقدّم لنا مقداراً من شموخ دعائه عليه السّلام وجزالة كلماته ورونق معانيها الفائق الخلّابة، وذلك عند بيان الحقيقة الكاملة لسلوك هذه المرحلة؛ فتَرَقَّب.
3- خيارات أخرى مقابِلة لسلوك هذه المرحلة:-
قد يقول قائل:
ألا يوجد هناك فرضيّة أو طريقة أخرى أنفع وأبلغ للمقاصد من سلوك هذه المرحلة المذكور؟
وبعبارة أوضح: ألا يوجد واحداً من السّلوكيّات والخطوط العامّة الخمسة الباقية المتقدّمة يكون العمل على طبقه في هذه المرحلة أجدَى وأكثر تناسقاً مع سلوك المرحلة السّابقة وما تلاها؟ خصوصاً وأنَّ الأمّة لتوّها آخذة في يقظتها، وحرارة دم الحسين عليه السّلام لاتزال حديثة الأثر فيها بما لذلك الدّم الزّكي من هيجان القسوة الواقعة من السّلطة على الجميع وقوّة عاطفيّة في النّفوس يتزايد بها الغليل كلَّما اتّضحت معالم القسوة ووقائع كربلاء أكثر فأكثر في إعلامٍ مستمر ومتجدّد لا يجيء إلا بما هو مؤلم ولا يفضي إلا للمطالبة بالحق وطلب النُّصرة؟!
والجواب على هذا التّساؤل المهم يتّضح بتناول كل سلوك من تلك السّلوكيّات وعرضها على تلك الظّروف لمعرفة مدَى تناسبها معها، وهل أنّها كانت أصلح وأوفَى بهذه المرحلة، أم أنَّ ما سلكه الإمام عليه السّلام في هذه الفترة كان هو الأكثر تناسباً بل والمتعيّن مِراسه من بين بقيّة الأدوار المقترَحة.
وفيما يلي نتناول كل خيار من هذه الخيارات الباقية بصورة شاملة بشيء من الفرض والنّظر.
(a)- خيار السّيف ومنطق السّلاح:-
من الواضح أنَّ خياراً من هذا القَبيل –على فرض إمكانيّته- في مثل مرحلة ما بعد عاشوراء كان عند اتّخاذه بمثابة الضّربة القاتلة للأمَّة، القاضية على جميع ما تبقَّى فيها من نبض يعالج أنفاسها المتقطّعة؛ وذلك للعوامل والموانع الآتية، وهي على قراءتَين؛ إحداهما تَلحظ هذا الخِيار ضمن تحّرك واسع يمارسه الإمام عليه السّلام بأتباعه، والأخرى تَلحظ هذا الخِيار من جهة التّحرّك الفردي على غرار حركة الإمام الحسين عليه السّلام، وذلك كالآتي:
* الموانع وفق حركة الإمام (ع) مع الجماعة حِراكاً مسلَّحاً واسعاً:-
وهنا نذكر عدّة عوامل مهمَّة تَلُوْحُ بها المؤشّرات الواقعيّة تجاه حركة الإمام عليه السّلام فيما لو سَلك دوره في هذه المرحلة على أساس القِتال والمواجهة وفق الحِراك الجَمْعي الواسع، فالحديث في ذلك كما يلي:
المانع الأوّل: (التحام الأمّة ببعضها والقضاء عليها من الدّاخل):-
إنَّ المواجهة الحربيّة على فرضها لو وقعت فسوف يكون مدارها –على أقل تقدير- حسب المؤشّرات القائمة آنذاك بين جبهة الحجاز وجبهة العراقَين –الكوفة والبصرة- والشّام، وهذا يعني سقوطاً ذريعاً وموتاً أحمراً في السّاحة الإسلامية، كما أنّه سيكون قابلاً لتحقيق أي اختراقٍ خارجيٍّ بعدَ أو أثناء حلول معضلة من هذا القَبيل، فخَوَنة الكوفة وجبناء تلك البقعة، وأهل البصرة بطابعهم البعيد عن التّشيّع في تلك الفترة، لن يجعل من العراق سوَى جبهة في مواجهة أهل الحجاز على فرض نهضتهم لدم الحسين لو حصل، ناهيك عن انحراف أهل الشّام ومناصرتهم لبني أُميّة.
قد تقول:
إذن لماذا خرج الحسين عليه السّلام والظّرف مماثل، فلا أهل الحجاز كانوا في نصرته يوم أن خرج، ولا أهل العراق، في الوقت الّذي كان خيار الحرب نصب عينيه فيما لو فُرِض عليه قهراً، بل كان بنفْسه يؤكِّد على أنّه مقتول وخارج للشّهادة!
إلا أنَّ هذا القول باطل؛ لأنَّ الظّرف كان مختلفاً عن ظرف الإمام زين العابدين عليه السّلام في هذه المرحلة، حيث كان الجو في ظل خروج الحسين عليه السّلام قائماً –في ظاهره- على أساس أنَّ أهل العراق -وخصوصاً أهل الكوفة وشيعتها بما للكوفة من أهمّيّة جغرافيّة وثقل يطغَى على ثقل البصرة محدودة الوجود والجمع- كانوا في صفّه، بل والدّعاة لوفوده عليهم وقيامه بشؤون الدّين بينهم بما قام به فيهم أبوه أمير المؤمنين عليه السّلام.
بينما تحوَّل هذا الوضع بشكل كامل إلى حالة معاكسة أوجدت يأساً ذريعاً في وجدان الأمّة قِبال العراق وأهله، إذ ليس من اَلـهَيِّن أن تتوالَى وتتكاثر الدّعوات والرّسائل للحسين قطْب المدينة وابن رسولها للقدوم عليهم بكل حثٍّ ورغبةٍ شملت الكبير والصّغير منهم، ومن ثمَّ يُـخْرَج إليه ليواجَه بحدِّ الصّارم من نفس تلك الجماعة الكبيرة، فيَنقلب بهم الموقف إلى الطّرف النّقيض انقلاباً ذريعاً بلغ حدّ تلك الأفاعيل القاسية المريرة الّتي ذاقها الحسين عليه السّلام.
فالظّرفان ما كانا متشابهَين بتاتاً، بل على العكس كان الظّرف اللاحق على خلاف ظرف المرحلة السّابقة بكثير، بحيث ينتهي بالوضع إلى أن يحمل مؤشّراً شديد الوضوح على أنَّ أي مواجهة يمكن أن يقوم بها الإمام علي بن الحسين عليه السّلام مع يزيد، فهي تعني دماراً فتّاكاً في الأمّة، يقضي على دولتها بصورة مريعة، إذ لن تبدأ –على أقل تقاديره الظّاهريّة- إلا بحرب بين الحجاز والعراق المهيَّب والمحرَّك والمدعوم بجيش الشّام، وهو ما لم يكن واقعاً في سلوك الحسين عليه السّلام وفترته، حيث جاء دمه الطّاهر بما هو إيجابي في الأمّة لا بما هو سلبي.
وهذا عين ما يفسّر حقيقة الحال الّتي كان عليها الوضع في الحجاز حينما أباح يزيد المدينة لجيشه مدة ثلاثة أيّام يستبد فيها بثاراته الّتي قُتِل على إثرها 700 حامل للقرآن، وافْتُضَّ فيها كل فتاة بِكْر، مضافاً لاستباحة قداسة مكّة، وضربه الكعبة بالمنجنيق حتّى أحرقها[4] وصَدَّع الرّكن بثلاث قطع لم يَنْسَها تأريخ ذلك الرّكن الأقدس بعلائمه الشّاهدة لليوم[5]، حيث لم يكن للعراق حركة ردع في وجه هذا الطّاغية كما لم يكن لأهل الحجاز القدرة على المواجهة، كيف ذلك والبلاد كانت في يد يزيد، والجبناء والخونة والمسترزقة ملؤوا الأنحاء، مضافاً لفتح العراق ذراعه لعبور أتباع هذا الرّجس، نظراً لتمثيله البوّابة البرّيّة الوحيدة والبوّابة الحصريّة حسب ظرف ذلك الزّمان للدّخول إلى أرض الحجاز!
وقد تقول أيضاً:
لماذا خرج الحسين عليه السّلام في هذا الظّرف الّذي كان بالإمكان أن يوجِد نفس النّتيجة من تصارع الأمّة فيما بينها ودخول الأجنبي للفتك بها؟
وجوابه: أنَّ الحسين عليه السّلام وإن كان منطلَق حركته في البداية لم يكن الحرب، حيث فُرِضَتْ عليه قَسْراً، إلا أنَّ المواجهة لو وقعت فسوف تقع على أكثر التّقادير بين أهل العراق وجيش الشّام، بما يعني عزل الحجاز –بنوع من التّقدير- عن ذلك، أو دخول الحجاز الرّافض ليزيد تحت راية الحسين عليه السّلام مع أهل العراق مستقبَلاً، ممّا يعني إيجاد قوّة كافية لمنع أي تدخّل أجنبي، أو التّفكير في شيء من ذلك قِبال المسلمِين.
ففي الرّواية التّأريخيّة:
“ومَلَكَ يزيد بن معاوية، وأمّه ميسون بنت بحدل الكلبي، في مستهل رجب سنة 60هـ …، وكان غائباً، فلمّا قَدِمَ دمشق كَتب إلى الوليد بن عُتبة بن أبي سفيان، وهو عامل المدينة:
إذا أتاك كتابي هذا، فأحضر الحسين بن علي، وعبد الله بن الزّبير، فخذهما بالبيعة لي، فإن امتنعا فاضربْ أعناقهما، وابعثْ لي برؤوسهما[6]، وخذ النّاس بالبيعة، فمن امتنع فأنفذ فيه الحكم، وفي الحسين بن علي وعبد الله بن الزّبير، والسّلام.
فورد الكتاب على الوليد ليلاً، فوَجَّه إلى الحسين وإلى عبد الله بن الزّبير، فأخبرهما الخبر، فقالا:
نُصْبِح ونأتيك مع النّاس. فقال له مروان:
إنّهما والله إن خرجا لم ترهما، فخذهما بأن يبايِعا، وإلا فاضرب أعناقهما. فقال:
والله ما كنت لأقطع أرحامهما! فخرجا من عنده وتنحّيا من تحت ليلتهما، فخرج الحسين إلى مكّة، فأقام بها أيّاماً، وكتب أهل العراق إليه، ووَجَّهوا بالرُّسل على أثر الرُّسل، فكان آخر كتاب ورد عليه منهم كتاب هانئ بن أبي هانئ، وسعيد بن عبد الله الخثعمي:
بسم الله الرّحمن الرّحيم، للحسين بن علي من شيعته المؤمنين والمسلمين، أمّا بعد فحي هلا، فإنّ النّاس ينتظرونك، لا إمام لهم غيرك، فالعَجَل ثمّ العَجَل، والسّلام.
فوَجَّه إليهم مسلم بن عقيل بن أبي طالب، وكتب إليهم، وأعلمهم أنّه أثر كتابه، فلمّا قَدِمَ مسلم الكوفة اجتمعوا إليه، فبايعوه وعاهدوه وعاقدوه، وأعطوه المواثيق على النّصرة والمشايعة والوفاء.
وأقبل الحسين من مكّة يريد العراق، وكان يزيد قد ولَّى عُبيد الله بن زياد العراق، وكَتب إليه:
قد بلغني أنّ أهل الكوفة قد كتبوا إلى الحسين في القدوم عليهم، وأنّه قد خرج من مكّة متوجّهاً نحوهم، وقد بُلِيَ به بلدك من بين البلدان، وأيَّامك من بين الأيّام، فإن قتلته، وإلا رجعتَ إلى نسبك وإلى أبيك عُبَيد[7]، فاحذر أن يَفوتك.
وقَدِمَ عُبيد الله بن زياد الكوفة[8]، وبها مسلم بن عقيل قد نزل على هانئ بن عروة، وهانئ شديد العلّة[9]، وكان صديقاً لابن زياد، فلمّا قَدِمَ ابن زياد الكوفة أُخْبِرَ بعلّة هانئ، فأتاه ليَعُوده، فقال هانئ لمسلم بن عقيل وأصحابه، وهم جماعة:
إذا جلس ابن زياد عندي وتَـمَكَّن، فإنّي سأقول أسقوني، فاخرجوا فاقتلوه.
فأدخلهم البيت وجلس في الرّواق، وأتاه عُبيد الله بن زياد يَعوده، فلمّا تَـمَكَّن قال هانئ بن عروة: اسقوني! فلم يخرجوا، فقال: اسقوني، ما يؤخّركم؟ ثمّ قال: اسقوني، ولو كانت فيه نفسي.
ففهم ابن زياد، فقام، فخرج من عنده، ووَجَّه بالشُّرَط يطلبون مسلماً، وخرج[10] وأصحابه، وهو لا يشك في وفاء القوم، وصحّة نيّاتهم، فقاتل عُبيد الله، فأخذوه، فقتله عبيد الله، وجُرَّ برجله في السُّوق، وقَتَلَ هانئ بن عروة لنزول مسلم منزله وإعانته إياه.
وسار الحسين يريد العراق، فلمّا بلغ القُطْقُطانة[11] أتاه الخبر بقتل مسلم بن عقيل، ووَجَّه عبيد الله بن زياد، لـمّا بلغه قربه –قرب الحسين عليه السّلام- من الكوفة، بالحُر بن يزيد، فمنعه من أن يَعْدِل، ثمَّ بعث إليه بعُمَر بن سعد بن أبي وقّاص في جيش، فلقي الحسين بموضع على الفرات يقال له كربلاء، وكان الحسين في اثنين وستّين، أو اثنين وسبعين رجلاً من أهل بيته وأصحابه، وعُمر بن سعد في أربعة آلاف، فمنعوه الماء، وحالوا بينه وبين الفرات، فناشدهم الله عزّ وجل، فأبوا إلا قتاله أو يستسلم، فمضوا به إلى عبيد الله بن زياد فيرَى رأيه فيه، وينفذ فيه حكم يزيد…
فلمّا كان من الغد خرج فكلّم القوم، وعَظَّمَ عليهم حقَّه، وذكّرهم الله عزّ وجلّ ورسوله، وسألهم أن يخلّوا بينه وبين الرّجوع، فأبوا إلا قتاله، أو أخْذه حتَّى يأتوا به عبيد الله بن زياد، فجَعَل يكلّم القوم بعد القوم والرّجل بعد الرّجل، فيقولون:
ما ندري ما تقول! …
وخرج زهير بن القَين على فرس له فنادَى: يا أهل الكوفة! نذارِ لكم من عذاب الله! نذارِ عباد الله! وِلْد فاطمة أحقّ بالودِّ والنّصر من ولد سميّة، فإنَّ لم تنصروهم، فلا تقاتلوهم.
أيّها النّاس! إنّه ما أصبح على ظهر الأرض ابن بنت نبي إلا الحسين، فلا يُعِين أحد على قتله ولو بكلمة إلا نغَّصه الله الدّنيا، وعذّبه أشد عذاب الآخرة.
ثمَّ تقدّموا[12] رجلاً رجلاً، حتَّى بقي –الحسين عليه السّلام- وحده ما معه أحد من أهله، ولا ولده، ولا أقاربه، فإنّه لواقف على فرسه إذ أُتي بمولود قد وُلِدَ له في تلك السّاعة، فأَذَّنَ في أذنه، وجعل يحنّكه[13]، إذ أتاه سهم، فوقع في حلق الصّبي، فذبحه، فنزع الحسين السّهم من حلقه، وجعل يلطّخه بدمه ويقول:
والله لأنت أكرم على الله من النّاقة، ولَمحمّد أكرم على الله من –النّبي- صالح!
ثمّ أتَى فوضعه مع ولده وبني أخيه، ثمّ حَمَلَ عليهم، فقَتَلَ منهم خَلقاً عظيماً، وأتاه سهم فوقع في لُبَّتِه[14]، فخرج من قفاه، فسقط، وبادر القوم فاحتزّوا رأسه، وبعثوا به إلى عبيد الله بن زياد، وانتهبوا مضاربه، وابتَزّوا حرمه، وحملوهنّ إلى الكوفة…، وأخرج عيال الحسين وولْده إلى الشّأم، ونصب رأسه على رمح…، ووضع الرّأس بين يدي يزيد، فجَعَلَ يزيد يقرع ثناياه بالقَصَب…!”[15].
فالحُسين عليه السّلام أُجبِر على القِتال رغم عدم خروجه له، حيث خرج من المدينة بعد إجباره على البيعة وتعريضه للقَتل، فمكث في مكّة، فدعاه أهل العراق بالمراسيل والرُّسل تَترَى، فاستجاب لأمر الله في إجابة المؤمنين والمسلمين والقيام فيهم بالعلم والعدل والهِداية والمعروف.
كما بلغه خبر قتل رسوله مسلم رضوان الله عليه مؤخَّراً بعد رحيله وبلوغه القُطْقُطانة بقرب الكوفة، فمُنع من العدول إلى الحجاز أو المواصلة لمقصده أو أيِّ جهةٍ أخرى، حتَّى أُحيطَ به ومُنِعَ من الماء وأُلْزِم القِتال بعد أن رفض البيعة ليزيد، رغم أنَّ صلح أخيه الإمام الحسن مع معاوية والد يزيد كان يتضمّن شرطاً مفاده أنّه إذا مات معاوية ينتقل الحُكم إلى أهل البيت عليهم السّلام، للحسن عليه السّلام إن وُجِد، وإلا فللحسين عليه السّلام من بعده، فأمضَى الطّرفان على هذا البَنْد وسُلِّم الحُكم لمعاوية الّذي لم يلتزم بذلك لا هو ولا ابنه يزيد الّذي طعن في منهجه حتَّى ابنه معاوية[16]، ليقوم بعدها بجبر الحسين عليه السّلام على الخضوع والبيعة له ومطاردته!
فالحسين عليه السّلام قُسِرَ على الحرب ولم يكن يريدها، فإن قيل: أنَّ خروجه من مكّة واستجابته لأهل العراق تعريض منه لذلك، ورغبة في المواجهة، فردّه:
أنّه حتَّى في خروجه من مكّة -الّتي لاذ بها كحرم لله يأمن من لاذ به ويَحْرم القِتال فيه- كان مجبوراً على ذلك، بحيث لا يعود للمدينة ولا يبقَى في حرم الله تعالى، إذ هُدِّد بالقَتل في مكّة أيضاً فلم يدعه يزيد مطمئنّاً وأُرسِلت له الكثير من الرّجال لقتله بالغدرِ غِيْلة، فما بقي أمامه سوَى ذلك الخيار الوحيد، وهو الخروج لأهل العراق تأديةً لحقّهم في الطّلب، وحفظاً لقدسيّة الحرمين من الهتك الّذي لن يتورّع عنه يزيد، وليلوذ بمكانٍ يحميه ومن معه من القِتال والمواجهة.
ومع ذلك لم يَبلغ مرامه، ولم يدعوه يسير في طريقه السِّلْمي، فعاجله يزيد في سنة 61هـ بعد سنة من تسلّمه الحُكم بالموت المرير، وهو عليه السّلام في السّادسة والخمسين من العُمر، وفعل بذرّيّة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الأفاعيل الّتي لم يكن يطلب بها الحسين عليه السّلام بشخصه وبيعته فحسب، وإنّما كان يطلب التّرويح عمّا في قلبه من حَنَق وأحقاد تجاه جدِّه وأبيه وأخيه!
جاء في كتب التّأريخ في تتمّة الخبر من جهة مصير عبد الله بن الزّبير الّذي أبَى المبايعة كما أبَى الحسين عليه السّلام، فخرج هو الآخر إلى مكّة كالحسين عليه السّلام، فقام في أهلها، وحَمَلَهم على رفض خلافة يزيد وعصيان أمره، فعَزَله، ودعا إلى نفسه وتقدّم للمبايعة، فبايعه النّاس، فأَخْرَجَ عامل يزيد من مكّة، بينما رفض عبد الله بن عبّاس شيخ مكّة مبايعة ابن الزّبير ومَنَعَ النّاس من قَبوله، فسَرَّ يزيد بن معاوية ذلك حينما بلغه الخبر، فأَرسَل كتاباً لابن عبّاس يمتدحه فيه لرفضه ابن الزّبير ونزوله على ما يريد، وطَلَبَ منه أن يدعو النّاس إليه[17]، فأجابه جواباً لاذعاً بيّن فيه أفعاله الّتي انتشرت وذاعت بما يبيّن أمر الحسين عليه السّلام وعلّة خروجه من مكّة وظهور أمره فيهم بجلاء، حيث كتب له:
“من عبد الله بن عباس إلى يزيد بن معاوية.
أمّا بعد، فقد بلغني كتابك بذكر دعاء ابن الزُّبير إيّاي إلى نفسه وامتناعي عليه في الّذي دعاني إليه من بيعته، فإن يكُ ذلك كما بلغك، فلستُ حمدك أردتُ، ولا ودّك، ولكنَّ الله بالّذي أنوي عليم.
وزعمتَ أنّك لستَ بناسٍ وِدّي، فلَعَمْري ما تؤتينا ممّا في يديك من حقِّنا إلا القليل، وإنّك لتحبس عنّا منه العريض الطّويل، وسألتَني أن أَحثَّ النّاس عليك وأخذلهم عن ابن الزُّبير، فلا، ولا سُروراً، ولا حُبوراً، وأنت قتلتَ الحسين بن علي، بفيك الكَثْكَث[18]، ولك الأثْلَب[19]، إنّك إن تُمنِّك نفسك ذلك لَعازبُ الرّأي، وإنّك لأنت الـمُفْنِد الـمُهوّر[20].
لا تحسبني، لا أبا لك، نسيت قتلك حُسيناً وفتيان بني عبد المطّلب، مصابيح الدُّجَى، ونجوم الأعلام، غادرهم جنودك مصرَّعِين في صعيد، مرمَّلِين بالتّراب، مسلوبِين بالعراء، لا مكفَّنِين، تسفي عليهم الرّياح، وتعاورهم[21] الذّئاب، وتنشي بهم عرج الضّباع، حتَّى أتاح الله لهم أقواماً لم يشتركوا في دمائهم، فأَجنّوهم[22] في أكفانهم، وبي والله وبهم عززتَ وجلستَ مجلسك الّذي جلستَ، يا يزيد.
وما أنسَ من الأشياء، فلستُ بناسٍ تسليطك عليهم الدَّعي العاهر[23]، ابن العاهر، البعيد رحماً، اللئيم أباً وأُمّاً، الّذي في ادِّعاء أبيك إيّاه ما اكتسب أبوك به إلا العار والخزي والمذلّة في الآخرة والأُولَى، وفي الممات والـمَحيا، إنّ نبي الله قال:
الوَلَدُ للفِراش، وللعاهرِ الحَجَر، فألحقه بأبيه كما يلحق بالعفيف النّقي وَلده الرّشيد؛ وقد أمات أبوك السُّنَّة جهلاً وأحيا البِدَع والأَحْداث المضِلَّة عمداً.
وما أنسَ من الأشياء، فلستُ بناسٍ اطْرادك الحسين بن علي من حرم رسول الله إلى حرم الله[24]، ودسّك إليه الرّجال تغتاله، فأشخصتَه من حرم الله إلى الكوفة، فخرج منها خائفاً يَتَرَقَّب، وقد كان أعزَّ أهل البطحاء بالبطحاء قديماً، وأعزَّ أهلها بها حديثاً، وأَطْوَعَ أهل الحرمين بالحرمين لو تَبوَّأَ بها مقاماً واستَحلَّ بها قِتالاً، ولكنْ كَره أن يكون هو الّذي يَستحل حرمة البيت وحرمة رسول الله، فأَكْبَرَ من ذلك ما لم تُكْبِر حيث دسستَ إليه الرِّجال فيها ليقاتل في الحرم، وما لم يُكْبِر ابن الزُّبير حيث أَلْحَدَ بالبيت الحرام وعرَّضه للعائر[25] وأراقل[26] العالم.
وأنت؟ لأنت المستحِل فيما أظن بل لا شكَّ فيه أنّك لَلْمُحرّف العريف، فإنّك حلف نسوة[27]، صاحب ملاهٍ، فلمّا رأَى[28] سوء رأيك شَخص إلى العراق، ولم يبتغك ضراباً، وكان أمر الله قدراً مقدوراً.
ثمَّ إنَّك الكاتب إلى ابن مرجانة[29] أن يستقبل حسيناً بالرّجال، وأمرته بمعاجلته، وترْكِ مطاولته، والإلحاح عليه، حتَّى يَقتله ومن معه من بني عبد المطّلِب، أهل البيت الّذين أَذهب اللهُ عنهم الرِّجسَ وطهَّرهم تطهيراً، فنحن أولئك لسنا كآبائك الأجلاف الجفاة الأكباد الحمير.
ثمّ طَلَبَ الحسين بن علي إليه الموادعة، وسألهم الرّجعة، فاغتنمتم قلّة أنصاره، واستئصال أهل بيته، فعدوتم عليهم، فقتلوهم كأنّما قَتلوا أهلَ بيتٍ من التُّرك والكفر، فلا شيء عندي أعجب من طلبك وِدِّي ونصري، وقد قتلتَ بني أبي، وسيفك يقطرُ من دمي، وأنت آخذ ثأري، فإن يشأ الله لا يُطل لديك دمي ولا تسبقني بثأري، وإن سبقتني به في الدّنيا، فقبلنا ما قتل النّبيّون وآل النّبيِّين وكان الله الموعد، وكفَى به للمظلومِين ناصراً، ومن الظالمِين منتقماً، فلا يعجبنّك أن ظفرتَ بنا اليوم، فوالله لنظفرنَّ بك يوماً.
فأمّا ما ذكرتَ من وفائي، وما زعمتَ من حقِّي، فإنْ يكُ ذلك كذلك، فقد والله بايعت أباك، وإنّي لأعلمُ أنَّ ابني عمّي[30] وجميع بني أبي أحقّ بهذا الأمر من أبيك، ولكنّكم، معاشر قريش، كاثرتمونا، فاستأثرتم علينا سلطاننا، ودفعتمونا عن حقِّنا، فبُعْداً على من يَجترئ على ظُلمنا، واستغوَى السّفهاء علينا، وتولَّى الأمر دوننا، فبُعْداً لهم كما بَعُدَتْ ثمود، وقوم لوط، وأصحاب مَدْيَن، ومكذِّبو المرسلِين.
ألا ومن أعجب الأعاجيب، وما عشتَ أراكَ الدَّهر العجيب، حمْلك بنات عبد المطّلب وغلْمة صغاراً من ولده إليك بالشّأم كالسَّبي المجلوب، تُري النَّاس أنَّك قهرتنا، وأنّكَ تأمر علينا، ولعَمْري لئن كنتَ تصبح وتمسي آمنا لـِجَرحِ يدي، إنّي لأرجو أن يعظم جراحك بلساني ونقضي وإبرامي، فلا يستقر بك الجدل، ولا يمهلك الله بعد قتلِك عترة رسول الله إلا قليلاً، حتَّى يأخذك أخذاً أليماً، فيخرجك الله من الدّنيا ذَميماً أثيماً، فعِشْ لا أبا لك، فقد والله أَرداك عند الله ما اقتَرفتَ، والسّلام على من أطاع الله”[31].
فابن عبّاس كما أكّد ما قلناه سلفاً وأوضح الحال فيه وبَيَّنَ حقيقة إخراج الحسين عليه السّلام بالقوّة بعد استهدافه وإرسال الرِّجال إليه لاغتياله خفْية في السِّر، أو قِتاله علناً في حرم الله بعد أن فرَّ من حرم رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم الّذي كَرِه أن تُهتك حرمته كمكان طاهر يجب على المسلمين تقديسه قبل من سِواهم، فخرج من حرم الله كما خرج من حرم رسوله لنفس العِلَّة من رعاية ما حرَّم الله ممّا رعَى رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم في حياته فلم يقاتِل فيه، ولم يرعَ غيره –كعبد الله بن الزّبير- فقاتل فيه بل وأمر بترك يزيد يضرب الكعبة مليّاً مكرَّراً ليُثير النّاس مستعيناً بهذه الحرمة الممنوعة[32]، ولغير ذلك من العِلل والأسباب الّتي ذكرناها قَبلاً، حيث قال بَيِّناً واضحاً:
“وما أنسَ من الأشياء، فلستُ بناسٍ اطْرادك الحسين بن علي من حرم رسول الله إلى حرم الله، ودسّك إليه الرّجال تغتاله، فأشخصتَه من حرم الله إلى الكوفة، فخرج منها خائفاً يَتَرَقَّب، وقد كان أعزَّ أهل البطحاء بالبطحاء قديماً، وأعزَّ أهلها بها حديثاً، وأَطْوَعَ أهل الحرمين بالحرمين لو تَبوَّأَ بها مقاماً واستَحلَّ بها قِتالاً، ولكنْ كَره أن يكون هو الّذي يَستحل حرمة البيت وحرمة رسول الله، فأَكْبَرَ من ذلك ما لم تُكْبِر حيث دسستَ إليه الرِّجال فيها ليقاتل في الحرم، وما لم يُكْبِر ابن الزُّبير حيث أَلْحَدَ بالبيت الحرام وعرَّضه للعائر وأراقل العالم، وأنت؟ لأنت المستحِل فيما أظن بل لا شكَّ فيه أنّك لَلْمُحرّف العريف، فإنّك حلف نسوة، صاحب ملاهٍ، فلمّا رأَى سوء رأيك شَخص إلى العراق، ولم يبتغك ضراباً، وكان أمر الله قدراً مقدوراً”.
المانع الثّاني: (دخول مَلِك الرّوم للبلاد الإسلاميّة من الخارج):-
إذن الظّرف كان مختلفاً تماماً، فمرحلة الإمام زين العابدين عليه السّلام وقعت فيها متغيّرات ساهمت في عكس الوقائع بشكل كبير تماماً، بحيث كانت الحرب لو وقعت ستتيح فرصة كبيرة لتدخّل الرّوم والطّمع في المسلمين، فالرّوم رغم ابتعاد الأمّة عن هذا المآل كانت –آنذاك- لديهم رغبة شديدة في القضاء على الإسلام وأتباعه واستحلال البلاد الإسلاميّة، فكيف بهم لو جُرَّت الأمّة لمثل هذه الأحوال؟
ففي الخبر:
“واستقامت الشّأم لعبد الملك بن مروان خلا فلسطين، فإنّ ناتل بن قيس[33] كان بها، فلمّا أراد عبد الملك النّهوض أتاه الخبر بأنّ طاغية الرّوم قد أناخ على المصّيصة[34] فِكْره أن يتشاغل بمحاربته مع اضطراب البلدان، فوَجَّه إليه، فصالحه، وحمل أموالاً كثيرة إليه، حتَّى انصرف!”[35]؛ فالبلاد الإسلاميّة كانت تمر بحالة مأساويّة من الهرج والمرج والاقتتال في داخلها بين بلدانها وأهلها بسبب تصارع بني أميّة وأزلامهم على الحكم والمناصب، بما دفع عبد الملك بن مروان بن الحكم لدفع كل تلك الأموال الطّائلة من بيت مال المسلمين لِـمَلِك الرّوم بهدف إسكاته.
وفي خبر آخر:
“كتب مَلِك الرّوم إلى عبد الملك: لَأَغزونّك بجنود مائة ألف ومائة ألف ومائة ألف!”[36]، حتَّى تحيّر عبد الملك بن مروان فأنقذ الإمام زين العابدين عليه السّلام الموقف –كما سيأتي- وحَلَّ هذه المعضلة العظيمة الّتي كادت أن تهلك الأمّة وتدمِّر الدِّين، بما يُبَيِّن أنّه عليه السّلام كان عليه أن يحمي البلاد الإسلاميّة بفكره ووعيه كما فَعَلَ لا أن يسلَّ السّيف ويحارب.
فمَلِك الرّوم كتب ذلك بما له من خطورة كبيرة والأمّة قائمة في دولتها ولو بصورة متفكّكة في بعض الجهات، فكيف بصنعه لو كانت الأمّة قد وقعت في وسط حربٍ داخليّة من قَبيل ما ذكرنا؟!
المانع الثّالث: (نكوث أهل الحجاز وغيرهم عن نصرة الإمام السّجّاد “ع”):-
كل ما تقدّم كان على فرض أنَّ أهل الحجاز استجابوا لحركة الإمام زين العابدين عليه السّلام فيما لو اختار منطق السّيف، إلا إنَّه من الواضح أنَّ أهل الحجاز لم يكونوا على استعداد لخوض مثل هذه المعركة؛ نظراً لما يواجهها من مخاطر كبيرة ستؤدّي لفشلها الذّريع وعدم اتّباعهم للأئمّة عليهم السّلام، فهم في الفترة الّتي كان الحسين عليه السّلام يتحرّك فيها على أساس أنّ العراق معه لم يستجيبوا لحركته رغم مكانته ورفعته فيهم وإيجابيّة المعطيات وخطاباته الصّريحة قبل خروجه من مكّة، فكيف بهم بعد أن اتّضح أنَّ العراق أصبح عدوّاً مُعِيناً ليزيد؟ بل ويستحق رجاله العقاب وإقامة الحدود فيهم قِبال ما فعلوه من مظالم واعتداءات واجتراء على ذرّيّة رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم وسبطه الحسين عليه السّلام ومن معه، بما يوجب القصاص والحد وفق قوانين الشّريعة الإسلاميّة.
أضف إليه أنَّ المجريات الّتي وقعت لاحقاً في المدينة ومكّة من يزيد بذاتها تشكّل –أيضاً- برهاناً واضحاً على هذه الحقيقة.
فالإمام زين العابدين عليه السّلام كان متفطّناً لكل هذه الأوضاع بدقّة، وعارفاً بأنَّ حمل السّلاح لا يجدي نفعاً، وهذا عين ما يفسّر لنا جوابه للزّهري لـمّا طرح عليه سؤالاً اعتراضيّاً في شأن اعتزاله للجهاد واشتغاله بالعبادة، ففي الخَبَر:
“لقي الزّهري علي بن الحسين عليهما السّلام في طريق الحج، فقال له: تركتَ الجهاد وصعوبته وأقبلتَ إلى الحج والله سبحانه يقول: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالـَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ في سبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقَّاً في التَّوْرَاةِ وَالإنجِيلِ وَالْقُرْءَانِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاستَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[37]؟!
فقال عليه السّلام له: أتم الآية الأخرى: {التَّائبُونَ الْعَابِدُونَ الْـحَامِدُونَ السَّائحُونَ الرَّاكعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكرِ وَالْـحَافِظونَ لِـحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}[38]، ثمّ قال: إذا رأينا هؤلاء الّذين هذه صفتهم فالجهاد معهم أفضل من الحج”[39]، فأفحمه عليه السّلام بالجواب ونقضَ حُجَّته على أساس الواقع القائم.
وغير ذلك ممّا يلي من أسباب.
فإن قيل: كيف لم يكن هنالك من يتحرّك من خلاله الإمام عليه السّلام ولم يكن أهل الحجاز في طاعته، في حين أنَّ أهل المدينة لـمّا وقعت حادثة الحَرَّة فيها –كما سنبيّن في خيار المعاهدة- وقَتَل مسلم بن عقبة مبعوث يزيد بن معاوية أهلها وقرّاءها وهتك مسجد النّبي وافتضَّ الأبكار وأجبرهم على البيعة امتنعوا عن ذلك، فلمّا نزل الإمام علي بن الحسين على ما طلب منه مسلم بن عقبة، أطاع أهل المدينة الإمام علي بن الحسين وساروا على رأيه وفعله؟! ممّا يعني أنّه كانت له طاعة وزعامة وقيادة، بخلاف ما قلتم من عدم وجود شيء من هذا القَبيل.
وجوابه: أنَّ أهل الحجاز لم يكونوا على طاعته وأمره بتاتاً، بدليل أنَّ أهل مكّة واجهوا بأمر عبد الله بن الزّبير مرسول يزيد، وقاتلوه شهوراً مديدة، وكان ذلك بعد وقائع المدينة وواقعة الحَرَّة مباشرة، في حين أنَّ مكّة جزء لا يتجزّأ من أرض الحجاز، وثقلها لا يقل عن ثقل المدينة، فلو كان القوم على رأيه عليه السّلام وفي طاعته لسلك أهل مكّة نفس سلوك أهل المدينة بعد فرض أنّهم اتّبعوا سلوك الإمام عليه السّلام مع مسلم مبعوث يزيد.
هذا من جهة أهل مكّة، وأمّا من جهة أهل المدينة فهم لم يكونوا على رأيه إلا فئة خاصّة كانت تعتقِد بإمامته عليه السّلام وتعمل بأمره، بدليل تخلّفهم عن أبيه الحسين ومن معه، وهل كان أهل مكّة إلا أهل المدينة بعد أن انتقل ابن الزّبير إليها وتحصّن بها وقاتل في حرمها المكّي وفي بيتها المشرّف؟
فإن كان هذا هو حال أهل الحرمين فلا حديث في غيرهم من أهل الحجاز وهم واجهة الحوادث يوم ذاك؛ وسيأتيك –عند الكلام عن خيار المعاهَدة والصّلح- استدلال أكثر لهذا الإشكال ودفعه.
المانع الرّابع: (تشتّت رايات المطالبين بدم الحسين “ع”):-
قد يقال:
إنَّ ما نقله التّأريخ يفيد بأنَّه بعد قتل الحسين عليه السّلام وانتشار نبئه خرجت رايات كُثُر تطالب بدمه، خصوصاً من أرض العراق، وكان منها ما هو ملتف حول الإمام زين العابدين عليه السّلام، وهذا يعارض القول بأنّه ما كانت هناك مؤشّرات ومقوّمات لنصرته فيما لو اختار منطق القتال.
وجوابه: هو أنَّ انتشار الحدث وتحريكه للجماهير في ذلك الزّمان كانت تحكمه صعوبة الإعلام وضعفه، ممّا يمنع من بروز تحرّكات سريعة تجتذب الحدث وتوظّفه بحرارته في زمن مقارب له.
نعم؛ بالنّسبة لخبر قتل الحسين عليه السّلام اختلف الأمر من هذه الجهة، ففي الوقت الّذي امتاز فيه دمه الزّكي بحرارة لا تبرد في قلوب المؤمنين أبداً راج خبر مقتله بسرعة في مساحة واسعة، وذلك يعود لموقع حدوثه والجيش المقابل، إذ ساهم كلا الأمرين في سرعة انتشاره في العراق، مضافاً إلى حركة السّبايا وسرعة تسييرهم بمعيّة الإمام زين العابدين وعمّته زينب عليهما السّلام، فكان عبورهم على البلدان بصورة ملفته وبرؤوس صرعاهم الـمُشرعة على أَسِنَّة الرِّماح ومكوثهم في الشّام وما مارسه الإمام عليه السّلام من إعلام مليء بالدّلالات والاحتجاج والإقناع والتّأثير، يشكّل نافذة مرنة لنقل الحدث سريعاً ونشره ناهيك عن مكانة الحسين عليها الصّلاة والسّلام في الأمّة، ففي الخبر:
“وابتزّوا –أي من أرسلهم عبيد الله بن زياد لقتال الحسين- حرمه، وحملوهنّ إلى الكوفة، فلمّا دخلن إليها خرجت نساء الكوفة يصرخن ويبكين، فقال علي بن الحسين: هؤلاء يبكين علينا فمن قتلنا؟ وأُخْرِجَ عيال الحسين وولده إلى الشّأم، ونُصِبَ رأسه على رمح”[40].
أضف إليه رجوعه عليه السّلام السّريع إلى المدينة، ومواقفه المؤثّرة على أطرافها بما نَصب من خيام لحرمه كما الغرباء، ودفعه ببشر بن حذلم الشّاعر المتمرّس القدير لإثارة أهلها، وإقامة النَّواعي والمراثي فيها، واستحضاره الدّائم بين النّاس لحادثة نحر الحسين وعطشه ومظلميّة من معه في كل مناسبة وفي الأعياد بيانيّاً وعمليّاً، ونصب السّيّدة زينب عليها السّلام للمجالس بلا انقطاع، وإقامة أمّ البنين رضي الله عنها للمَراثي باستمرار في البقيع كبقعة حسّاسّة واستراتيجيّة في المدينة، بما فجّر الخبر في مناطق مختلفة شملت مكّة المكرّمة وغيرها في الحجاز، مضافاً لتردّد الإمام علي بن الحسين عليه السّلام الرّمز الأوّل عليها في مواسم الحج.
بل وما كان موقف أم سَلَمة إلا صاعقة إعلاميّة ارتجَّ لها أهل المدينة، فقد نقل المؤرّخون خبرها بقولٍ بَيِّنٍ جاء فيه:
“وكان أوّل صارخة صرخت في المدينة أم سلمة زوج رسول الله، كان دَفَعَ –أي رسول الله صلّى الله علية وآله وسلّم- إليها قارورة فيها تربة –وكانت حسب النّقل تربة من كربلاء- وقال لها: إنّ جبريل أعلمني أنَّ أُمّتي تقتل الحسين، وأعطاني هذه التّربة، وقال لي:
إذا صارت دماً عبيطاً فاعلمي أنَّ الحسين قد قُتِل، وكانت عندها، فلمّا حضر ذلك الوقت جعلت تنظر إلى القارورة في كلِّ ساعة، فلمّا رأتها قد صارت دماً صاحت: وا حسيناه! وابن رسول الله! وتصارخت النّساء من كل ناحية، حتَّى ارتفعت المدينة بالرَّجّة الّتي ما سُمع بمثلها قَط”[41]؛ فشكّل نعي زوجة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وبرهانها حركة إعلاميّة قويّة لانتشار الخبر وتأجيجه للنّفوس ونفوذه في الذّوات الخامدة.
ولكن هنالك نقطة مهمّة كانت تؤثّر على الموقف والتّحرّكات يجب الالتفات إليها ضمن الإذعان بحقيقة انتشار خبر قتل الحسين عليه السّلام بأقل قدر من الموانع، وهي أنَّ الإعلام السّريع كما كان يؤدّي دوراً إيجابيّاً في نقل الحدث المأساوي من الطَّف ونشره كان في ذات الوقت يؤدّي دوراً عكسيّاً يتلاءم مع فعليّة القسوة والإجرام في كربلاء وخارجها، وكثرة القتل والتّهديد هنا وهناك.
فخبر كربلاء بجميع جرائمه ومآسيه الرّهيبة -بما فيها قتْل الرّضيع عَطِشاً على صدر أبيه، وحزّ رأس الحسين عليه السّلام عطشاناً جنب الفرات المكتظ بالماء بعد قلبه على وجهه وعلوِّ صدره الأقدس بنعل من حديد ومن ثُـمَّ طحْن صدره بحوافر الخيول- كان يحمل معه وحشيّة بني أميّة بما كان يوزّع في بعض النّفوس حالة من الانقباض والخوف، تماماً كما كان يولّد في بعضها الآخر حرارة وألماً، ورغبة شديدة في المواجهة والتّحرّك.
أمّا النّفوس الّتي تولّدت فيها الغيرة ونفرت للاقتصاص والقتال منذعرة متألّمة، فكَوَّنت رايات وحرّكت قبائلها وأنصارها ومن ثارت ثائرته مثلها، فرايات زعمائها كانت متشتّتة متفرّقة لم تجمعها الحركة وإن جمعها السّبب في بعض جهاته؛ لذا لـمّا لم تجمعها راية واحدة ما كانت مؤهَّلة لحالة من هذا القَبيل، فكانت بحاجة للابتعاد بها عن الوقوع في مثل ما وقع فيه القوم في معركة صفِّين وفي فترة صلح الإمام الحسن عليه السّلام وفترة تحرّك الإمام الحسين عليه السّلام من تمزّق وفتن وفشل، وهذا عين ما مارسه الإمام زين العابدين عليه السّلام.
ففي الخبر التّأريخي أنَّه في عهد مروان بن الحَكَم –الّذي طرده عبد الله بن الزّبير من الحجاز فذهب للشّام فتسلّط عليها وعلى العراق وغيرهما- وعبد الله بن الزّبير –الّذي تسمَّى بأمير المؤمنين ودعا لنفسه فتسلّط على الحجاز وأكثر المناطق في البلاد الإسلاميّة- “قام سليمان بن صُرد الخزاعي، والمسيّب بن نَجَبَة الفزّاري، وخرجا في جماعة معهما من الشّيعة بالعراق، بموضع يقال له عين الوردة[42]، يطلبون بدم الحسين بن علي، ويعملون بما أمر الله به بني إسرائيل، إذ قال:
{فتُوبُوا إلَى بارِئِكُمْ فاقْتُلُوا أَنفْسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِندَ بارِئِكُمْ فَتَابَ عليكُمْ إِنَّهُ هوَ التَّوَّابُ الرَّحِيم}[43]، واتّبعهم خلق من النّاس، فوَجَّه إليهم مروان عبيد الله بن زياد، وقال: إن غلبْت على العراق فأنت أميرها، فلقي سليمان بن صُرد، فلم يزل يحاربه حتَّى قتله، وقيل لم يُقْتَل سليمان في أيام مروان، ولكنّه قُتِل في أيّام –ابنه- عبد الملك”[44].
هذا بالنّسبة لراية سليمان بن صُرد والمسيّب بن نَجَبَة ومن خرج معهما من النّاس، وهناك ثورات ورايات أخرى خرجت للمطالبة بدم الحسين عليه السّلام كـ”ثورة التّوّابين” المشهورة الّتي تزعّمها المختار بن أبي عُبيد الثّقفي، والّتي كانت أشوس وأشدّ الرّايات على بني أميّة، فبعد أن مات مروان بن الحكم وهو في الحادية والسّتّين من العمر في سنة 65هـ بعد حكم دام تسعة أشهر خَلَفَ بعده ابنه عبد الملك، بينما بَقِيَ عبد الله بن الزّبير سلطاناً على ما في يده من البلاد بما فيها الكوفة في الوقت الّذي “كان المختار بن أبي عُبيد الثّقفي أقبل في جماعة عليهم السّلاح، يريدون نصر الحسين بن علي، فأخذه عُبيد الله بن زياد، فحبسه، وضربه بالقضيب، حتَّى شتر عينه، فكتب فيه عبد الله بن عمر إلى يزيد بن معاوية، وكتب يزيد إلى عبيد الله:
أن خلِّ سبيله؛ فخلَّى سبيله، ونفاه، فخرج المختار إلى الحجاز، فكان مع ابن الزّبير، فلمّا لم يرَ ابن الزّبير يستعمله شَخَصَ إلى العراق، فوافَى وقد خرج سليمان بن صرد الخزاعي يطلب بدم الحسين، فلمّا صار إلى الكوفة اجتمعت إليه الشّيعة، فقال لهم:
إنَّ محمّد بن علي بن أبي طالب بعثني إليكم أميراً، وأمرني بقتل المحلّين، وأطلب بدماء أهل بيته المظلومين، وإنّي والله قاتل ابن مرجانة، والمنتقم لآل رسول الله ممّن ظلمهم، فصدّقه طائفة من الشّيعة، وقالت طائفة:
نخرج إلى محمّد بن علي فنسأله، فخرجوا إليه، فسألوه، فقال: ما أَحبَّ إلينا مِن طلبٍ بثأرِنا، وأخذٍ لنا بحقِّنا، وقتْلِ عدوّنا، فانصرَفوا إلى المختار، فبايَعوه وعاقَدوه، واجتمعت طائفة.
وكان ابن مطيع عامل ابن الزّبير على الكوفة، فجعل يطلب الشّيعة ويخيفهم، فواعد المختار أصحابه، ثمّ خرجوا بعد المغرب، وصاحب الجيش إبراهيم بن مالك بن الحارث الأشتر، ونادَى: يا لثارات الحسين بن علي! وكان ذلك سنة 66هـ، والْتَحَمَ القتال بينهم وبين عبد الله بن مطيع، وكانت أشدَّ حربٍ وأصعبها، ثمَّ صار ابن مطيع إلى القصر ودعا النّاس إلى البيعة، فبايعوا لآل رسول الله، ودفع المختار إلى ابن مطيع مائة ألف، وقال له: تحمل بها وانفذْ لوجهك.
وسرَّح المختار عمّاله إلى النّواحي، فأخرجوا من كان فيها، وأقاموا بها، وكان عامل المختار على الموصل عبد الرّحمن بن سعيد بن قيس الهمداني –وهو من أشرف اليمانيّين من شِبام وسيّد قومه- فزحف إليه عُبيد الله بن زياد، بعد قتله سليمان بن صُرد، فحاربه عبد الرّحمن، وكتب إلى المختار بخبره، فوجَّه إليه يزيد بن أنس، ثمَّ وجَّه إبراهيم بن مالك بن الحارث الأشتر، فلقي عُبيد الله بن زياد فقتله، وقتل الحصين بن نمير السَّكوني، وشرحبيل بن ذي الكلاع الحميري، وحرق أبدانهما بالنّار، وأقام والياً على الموصل وأرمينية وأذربيجان من قبل المختار وهو على العراق والٍ…
وتَتَبَّع المختار قتلة الحسين، فقتل منهم خلقاً عظيماً، حتَّى لم يبقَ منهم كثير أحد، وقتل عمر بن سعد وغيره، وحرق بالنّار، وعذَّب بأصناف العذاب”[45].
فالمختار –بغض النّظر عمّا نُسِبَ إليه من تشويه في سيرته- وإن قام بأفعال حسنة وانتصر لعترة رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم، وأخذ بالحق من الظّالم للمظلوم، إلا أنَّ رايته وراية غيره ما كانت تحت إدارة الإمام عليه السّلام وتوجيهه، في الوقت الّذي لم تتّحد فيه تلك الرّايات في حركة واحدة.
وهكذا الأمر بالنّسبة للرّاهب –في الحادثة المشهورة- الّذي وقع رأس الحسين عليه السّلام في يده، فأخذه إلى بيته، فطيَّبه، ووقع له ما وقع، فأسلم، وثارت ثائرته، فشدَّ حزامه واعتزل طعامه وانتفض مع سبعين رجلٍ من تلامذته الّذين تبعوه في اعتناق الإسلام، متوجِّهاً بهم للإمام عليه السّلام يسأله في أمر الخروج لقتال المعتدين، فهدّأ عليه السّلام من روعهم وأمرهم بالسّكون واعتزال ذلك.
بل إذا وسّعنا الحلقة ونظرنا لمجموع الحركات الّتي خرجت على بني أميّة لا لخصوص الرّايات الّتي خرجت للمطالبة بدم الحسين عليه السّلام؛ فسنلاحظ واقعيّة التّشتّت في تلك الحركات المتعدّدة.
وبعبارة أخرى: تارة ننظر للحركات الّتي خرجت في هذه المرحلة بخصوصيّة كونها تهدف للمطالبة بدم الحسين عليه السّلام المظلوم والأخذ بحق أهل البيت عليه السّلام الموصَى به في الكتاب والسّنّة عند كافّة المسلمين، وتارة ننظر لها بصورة عامّة تشمل جميع التّحرّكات المواجهة للأمويّين.
وقد تقدّم الأمر في الشّكل الأوّل، وفيما يلي نتحدّث عن الشّكل الثّاني.
المانع الخامس: (تشتّت الرّايات المواجهة لحكم بني أُميّة بعيداً عن خط أهل البيت “ع”):-
أمّا الشّكل الثّاني فنلحظ فيه حركة عبد الله بن الزّبير الّذي كان يدعو لنفسه في فترة يزيد وما بعدها، بالدّرجة الّتي جلب فيها الخراب والدّمار على حرم الله في مكّة بينما كان الحسين عليه السّلام يَتجنّب ذلك ويَتحاشاه، ويرفض القتال فيه وفي حرم رسول الله في المدينة حفاظاً على حرمتيهما من يزيد العنجهي المتهوّر كما أشرنا في رسالة عبد الله بن عبّاس، ممّا دفعه عليه السّلام للخروج مضطرّاً للعراق في ظرف كان حساب الخروج فيه هو الأدق.
فممّا ورد عن ابن عبّاس في برقيَّته الجوابيّة ليزيد يوم فَرِحَ برفضه لبيعة ابن الزّبير ومعارضته له في مكَّة فامتدحه وأثنَى عليه، فكَرِه منه ذلك:
“من عبد الله بن عباس إلى يزيد بن معاوية.
أمّا بعد، فقد بلغني كتابك بذكر دعاء ابن الزُّبير إيّاي إلى نفسه وامتناعي عليه في الّذي دعاني إليه من بيعته، فإن يكُ ذلك كما بلغك، فلستُ حمدك أردتُ، ولا ودّك، ولكنَّ الله بالّذي أنوي عليم…
وما أنسَ من الأشياء، فلستُ بناسٍ اطْرادك الحسين بن علي من حرم رسول الله إلى حرم الله[46]، ودسّك إليه الرّجال تغتاله، فأشخصتَه من حرم الله إلى الكوفة، فخرج منها خائفاً يَتَرَقَّب، وقد كان أعزَّ أهل البطحاء بالبطحاء قديماً، وأعزَّ أهلها بها حديثاً، وأَطْوَعَ أهل الحرمين بالحرمين لو تَبوَّأَ بها مقاماً واستَحلَّ بها قِتالاً، ولكنْ كَره أن يكون هو الّذي يَستحل حرمة البيت وحرمة رسول الله، فأَكْبَرَ من ذلك ما لم تُكْبِر حيث دسستَ إليه الرِّجال فيها ليقاتل في الحرم، وما لم يُكْبِر ابن الزُّبير حيث أَلْحَدَ بالبيت الحرام وعرَّضه للعائر[47] وأراقل[48] العالم”[49].
فحركة عبد الله بن الزّبير بن العوّام الّتي اتّسعت فيما بعد فمكّنته من التّسلّط على أغلب بقاع الدوّلة الإسلاميّة، كانت تشكّل حركة أخرى في عرض تلك الحركات المطالبة بدم الحسين عليه السّلام.
فقد جاء في ذكر أحداث سنين يزيد بن معاوية وسنة وفاة ابنه معاوية بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان: “كان عبد الله بن الزّبير بن العوّام، وأمّه أسماء بنت أبي بكر، قد تغلَّب على مكّة، وتسمَّى بأمير المؤمنين، ومال إليه أكثر النّواحي، وكان ابتداء أمره في أيّام يزيد بن معاوية، على ما اقتصصنا من خبره، ومحاربته للحصين بن نمير، فلمّا توفِّي يزيد بن معاوية مال النّاس من البلدان جميعاً إلى ابن الزّبير، وكان بمصر عبد الرّحمن بن جحدم الفهري عاملاً لابن الزّبير، وأهل مصر في طاعته، وبفلسطين ناتل بن قيس الجذامي، وبدمشق الضّحّاك بن قيس الفهري، وبحمص النّعمان بن بشير الأنصاري، وبقنّسرين والعواصم زفر بن الحارث الكلابي، وبالكوفة عبد الله بن مطيع –الّذي سبق أن ذكرنا خبره في التّضييق على المختار الثّقفي ومن معه- وبالبصرة الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة، وبخراسان عبد الله بن خازم السّلمي، ولم تبقَ ناحية إلا مالت إلى ابن الزّبير خلا الأردن، ورئيسها يومئذ حسّان بن بحدل الكلبي –أخو أُم يزيد-.
وأخرج ابن الزّبير بني أميّة من المدينة، وأخذ مروان بالخروج، فأتَى عبد الملك ابنه، وهو عليل مُجدر[50]، فقال له:
يا بُنَيَّ إنَّ ابن الزّبير قد أخرجني! قال: فما يمنعك أن تخرجني معك؟ قال: كيف أخرجك وأنت على هذا الحال؟ قال: لُــفّني في القطن، فإنَّ هذا رأي لم يتعقّبه ابن الزّبير –أي لم يلتفت لمخاطره- فخرج وأخرج عبد الملك، وتعقّب ابن الزّبير الرّأي، فعلم أنّه قد أخطأ، فوَجَّه يردّهم ففاتوه.
وقدم مروان، وقد مات معاوية بن يزيد، وأمْرُ الشّأم مضطرب، فدعا إلى نفسه، واجتمع النّاس بالجابية من أرض دمشق، فتناظروا في ابن الزّبير وفيما تقدّم لبني أميّة عندهم –حيث طردهم وأذلّهم- وتناظروا في خالد بن يزيد بن معاوية، وفي عمرو بن سعيد بن العاص بعده، وكان روح بن زنباع الجذامي يميل مع مروان، فقام خطيباً، فقال:
يا أهل الشّأم! هذا مروان بن الحكم شيخ قريش، والطّالب بدم عثمان، والمقاتل لعلي بن أبي طالب يوم الجمل، ويوم صفِّين، فبايعوا الكبير، واستنيبوا للصّغير –أي اجعلوا ولاية العهد والخلافة له من بعده- ثمّ لعمرو بن سعيد؛ فبايَعوا لمروان بن الحكم، ثمّ لخالد بن يزيد، ثمّ لعمرو بن سعيد، فلمّا عقدوا البيعة جمعوا من كان في ناحيتهم، ثم تناظروا في أيِّ بلدٍ يقصدون…”[51].
المانع السّادس: (تضييق أعداء بني أُميّة على بني هاشم):-
أضف إلى هذا عاملاً آخر شديد الأهمّيّة، وهو أنَّ عبد الله بن الزّبير في الوقت الّذي فتح فيه باباً جديداً على الأمّة مليء بالمحن والفتن بطرده مروان بن الحكم وابنه عبد الملك من الحجاز الّذي اضطرّه وفتح له المجال ليعيد دولة بني أميّة من جديد وينعش كيانها ويسلّط فيها أبناءه وأحفاده لاحقاً، حيث صار حكّام الدولة بعد مروان ابنه عبد الملك ثمَّ أبناء عبد الملك، ففي هذا الوقت كان –أعني ابن الزّبير- يتحرّك في سلطانه على أساس قمع بني هاشم وأنصارهم، والتّحامل عليهم ومحاربتهم والتّشفّي لغيظه تجاه أمير المؤمنين علي عليه الصّلاة والسّلام ممّا أنزله بأتباع الجَمل النّاكثين في معركة الجَمل بما فيهم والده الزّبير وعمّه طلحة، وهو ابن أسماء بنت الخليفة الأوّل أبي بكر، فقد نقل التّأريخ شواهد كثيرة على ذلك نذكر منها:
أوّلاً: تركه الصّلاة على محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم في خطبته، فقد ورد في كتب التّأريخ:
“وتحامَل عبد الله بن الزّبير على بني هاشم تحاملاً شديداً، وأظهر لهم العداوة والبغضاء، حتَّى بلغ ذلك منه أن ترك الصّلاة على محمّد في خطبته، فقيل له:
لم تركت الصّلاة على النّبي؟! فقال: إنّ له أهل سوء يشرئبّون لذكره، ويرفعون رؤوسهم إذا سمعوا به”[52]؛ يريد بذلك بني هاشم.
وهل كان الإمام عليه السّلام إلا أبرز رموز بني هاشم وواجهة هذه الذّرّيّة الطّاهر، خصوصاً وأنّه كانت له موقعيّة بين النّاس؟
ثانياً: حبسه لمحمّد بن علي بن أبي طالب المعروف بابن الحَنفيّة مع عبد الله بن عبّاس -جليل الحجاز وصحابي رسول الله- وأربعة وعشرين رجلاً من بني هاشم، فهو لـمّا عرض عليهم البيعة وأجبرهم عليها فرفضوا مبايعته، مارس تجاههم أشدّ الحِراب، كما فعل مع أهل الشّام بمنعه لهم من الحج، بسبب عرضه البيعة عليهم وإجباره إيّاهم عليها، لحتَّى اضطرَّ عبد الملك بن مروان لأن يصنع لهم كعبةً في الشّام يحجّون إليها ويطفون حولها بدل بيت الله المكّي المحرَّم! فقد أورد المؤرّخون في كتبهم ما يلي:
“وأَخذَ ابن الزّبير محمّد بن الحنفيّة، وعبد الله بن عبّاس، وأربعة وعشرين رجلاً من بني هاشم ليبايعوا له، فامتنعوا، فحبسهم في حجرة زمزم، وحلف بالله الّذي لا إله إلا هو ليبايعُنَّ أو ليحرقنّهم بالنّار، فكتب محمّد بن الحنفيّة إلى المختار بن أبي عبيد: بسم الله الرّحمن الرّحيم، من محمّد بن علي ومَن قِبَله من آل رسول الله إلى المختار بن أبي عبيد ومَن قِبَله من المسلمين، أمّا بعد، فإنّ عبد الله بن الزّبير أخذنا، فحبسنا في حجرة زمزم، وحلف بالله الّذي لا إله إلا هو لنبايعنّه، أو ليضرمنّها علينا بالنّار، فيا غوثاً!
فوَجَّه إليهم المختار بن أبي عبيد بأبي عبد الله الجدلي في أربعة آلاف راكب، فقدم مكّة، فكسر الحجرة، وقال لمحمّد بن علي: دعني وابن الزّبير! قال: لا أَسْتِحِلُّ مِن قَطْعِ رحمه ما استَحَلَّ منِّي”[53].
ثالثاً: تهجّمه على علي بن أبي طالب –وليد الكعبة وأوّل المؤمنين ونبراس الصّحابة وأعلمهم- في حضرة المسلمين في حرم الله مكّة المشرّفة، ونيله منه في خُطَبِه بكلام بذيء يستحي المسلم أن يذكره! ولكن نذكر شاهد فعله لذلك بصورة عامّة، فقد ورد في كتب التّأريخ:
“أنّ ابن الزّبير قام خطيباً فنال من علي بن أبي طالب!”[54].
رابعاً: تهجّمه على محمّد بن الحَنفيّة لـمّا قام خطيباً يدافع عن أبيه علي بن أبي طالب عليه السّلام في حرم الله تعالى مكّة المكرّمة في قِبال ما قاله في علي بن أبي طالب عليهما السّلام ونال به منه وتحامل به عليه! حيث وصف محمّداً بكلمات بذيئة وتحامل عليه بعبارات التّعيير وهو من مَفاخره، ففي الخبر:
“وبلغ محمّد بن علي بن أبي طالب أنّ ابن الزّبير قام خطيباً فنال من علي بن أبي طالب، فدخل –يعني محمّد- المسجد الحرام، فوضع رحلاً، ثمّ قام عليه، فحمد الله وأثنَى عليه، وصلَّى على محمّد، ثمّ قال:
شاهَت الوجوه، يا معشر قريش! أيقال هذا بين أظهركم وأنتم تسمعون، ويُذكر علي فلا تغضبون؟ ألا إنّ عليّاً كان سهما صائباً من مرامي الله أعداءه، يضرب وجوههم، ويهوعهم مآكلهم، ويأخذ بحناجرهم، ألا وإنّا على سننٍ ونهجٍ من حاله، وليس علينا في مقادير الأمور حيلة، وسيَعْلَم الّذينَ ظَلموا أيَّ مُنقلبٍ يَنقلبون.
فبلغ قوله عبد الله بن الزّبير، فقال: هذا عذرة بني الفواطم[55]، فما بال ابن أَمَةِ بني حنيفة؟
وبلغ محمّداً قوله، فقال: يا معاشر قريش! وما ميَّزني من بني الفواطم[56]؟ أليست فاطمة ابنة رسول الله حليلة أبي وأُم إخوتي؟ أوَليست فاطمة بنت أسد بن هاشم جدّتي وأُم أبي؟ أليست فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم جدّة أبي وأُم جدّتي؟ أما والله لولا خديجة بنت خويلد لما تركت في أسد عظماً إلا هشّمته، فإنّي بتلك الّتي فيها المعاب صَبير”[57].
خامساً: طرده لبني هاشم من مكّة بما فيهم محمّد بن الحنفيّة مع عبد الله بن عبّاس فقيه الحجاز ومفسّرها، بعد أن عجز عن هذه الذّرّيّة الطّاهرة وعن أبطالها وشجعانها، فأدرك خشونة لحومهم وعزّتهم وشموخهم، وهو العارف بهم الخبير بمعاليهم، حيث أشخصهم إلى خارجها إشخاصاً قبيحاً! فقد جاء في النَّص التّأريخي:
“ولـمّا لم يكن بابن الزّبير قوّة على بني هاشم، وعجز عمّا دبَّره فيهم، أخرجهم عن مكّة، وأخرج محمّد بن الحنفيّة إلى ناحية رَضْوَى[58]، وأَخرَج عبد الله بن عبّاس إلى الطّائف إخراجاً قبيحاً!”[59].
وهذا عين ما دفع محمّد بن الحنفيّة لمكاتبة ابن عبّاس وتسليته في مصابه الجلل هذا وغيره، حيث “كتب محمّد بن الحنفيّة إلى عبد الله بن عبّاس: أمّا بعد، فقد بلغني أنَّ عبد الله بن الزّبير سيّرك إلى الطّائف، فرفع الله بك أجراً، واحتطَّ عنك وزراً، يا ابن عم، إنّما يُبتلَى الصّالحون، وتُعدّ الكرامة للأخيار، ولو لم تؤجَر إلا فيما نحب وتحب قَلَّ الأجر، فاصبرْ فإنَّ الله قد وعد الصّابرين خيراً، والسّلام”[60].
و”روَى بعضهم أنَّ محمّد بن الحنفيّة صار أيضاً إلى الطّائف، فلم يزل بها، وتوفّي ابن عبّاس بها في سنة 68هـ، وهو ابن إحدى وسبعين سنة، وصلَّى عليه محمّد بن الحنفيّة، ودَفن عبد الله بن عباس بالطّائف في مسجد جامعها، وضرب عليه فسطاط[61]، ولـمّا دُفن أتَى طائر أبيض فدخل معه قبره، فقال بعض النّاس: عِلْمُه، وقال آخرون: عَمَلُه الصّالح.
قال عبد الله بن عبّاس: أردفني رسول الله، ثمّ قال لي: يا غلام! ألا أعلّمك كلمات ينفعك الله بهن؟ قلت: بلى! يا رسول الله، قال:
احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، اذكر الله في الرّخاء يذكرك في الشّدّة، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، جفَّ القلم بما هو كائن، ولو جَهد الخَلق على أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله لم يقدروا عليه، ولو جَهدوا على أن يضرّوك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يقدروا عليه، فعليك بالصّدق في اليقين، إنّ في الصّبر على ما تكره خيراً كثيراً، واعلمْ أنّ النّصر مع الصّبر ، وأنّ الفَرَجَ مع الكرب، وأنّ مع العُسر يسراً”[62].
هذا وفي المانع التّالي شكل سادس لتضييقه على بني هاشم.
المانع السّابع: (محاربة ابن الزّبير للثّوّار المطالِبين بدم الحسين “ع”):-
لقد مارس عبد الله بن الزّبير نوعاً آخر من العدوان على بني هاشم، وذلك يكمن في محاربته الممتدّة لشيعة أهل البيت عليهم السّلام، وإحباطه المستديم للحركات الّتي خرجت للمطالبة بدم سبط رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلّم المظلوم، وتشويه سِيَر قادتها، وعلى رأسهم المختار الثّقفي، لحتَّى أن نكّل بهم أي تنكيلك وشتّت جموعهم فأنزل بهم الـمَهالك، ففي الأثر:
“وَجَّه عبد الله بن الزّبير أخاه مصعب بن الزّبير إلى العراق، فقدمها سنة 68هـ، فقاتله المختار، وكانت بينهم وقعات مذكورة، وكان المختار شديد العلّة من بَطَنٍ[63] به، فأقام يحارب مصعباً أربعة أشهر، ثمّ جعل أصحابه يتسلّلون منه حتَّى بقي في نفر يسير، فصار إلى الكوفة، فنزل القصر، وكان يخرج في كل يوم، فيحاربهم في سوق الكوفة أشد محاربة، ثمّ يرجع إلى القصر.
وكان عُبيد الله بن علي بن أبي طالب مع مصعب بن الزّبير، فجعل مصعب يقول: يا أيّها النّاس! المختار كذّاب –يريد أن يشوّه سمعته ويشكّك في نواياه بفعل مواقفه المشرّفة مع ابن عبّاس وبني هاشم- وإنّما يغرّكم بأنّه يطلب بدم آل محمد! وهذا ولي الثّأر، يعني عُبيد الله بن علي، يزعم أنّه مبطل فيما يقول.
ثمّ خرج المختار يوماً، فلم يزل يقاتلهم أشدَّ قتال يكون، حتَّى قُتِل، ودخل أصحابه إلى القصر فتحصّنوا، وهم سبعة آلاف رجل، فأعطاهم مصعب الأمان، وكتب لهم كتاباً بأغلظ العهود، وأشدِّ المواثيق، فخرجوا على ذلك، فقدّمهم رجلاً رجلاً فضرب أعناقهم! فكانت إحدى الغدرات المذكورة المشهورة في الإسلام.
وأخذ أسماء بنت النّعمان بن بشير امرأة المختار، فقال لها: ما تقولين في المختار بن أبي عُبيد؟ قالت: أقول إنّه كان تقيّاً، نقيّاً، صوّاماً. قال: يا عدوّة الله أنتِ ممّن يزكّيه! فأمر بها فضرب عنقها، وكانت أوّل امرأة ضرب عنقها صبراً، فقال –الشّاعر القرشي المعروف الّذي ولِد في ليلة وفاة عمر بن الخطّاب فسمّيَ باسمه- عمر بن أبي ربيعة المخزومي:
إنَّ مِنْ أعجبِ العجائبِ عندي * قتلَ بيضاءَ حرّةٍ عُطْبُــــــــــــــولِ[64]
قَتَلوهــــــا بغيرِ جرْمٍ أتتـــهُ * إنَّ للهِ درّهــــــــا من قَتيـــــــــــلِ
كُتِبَ القتلُ والقتـالُ علينــــــا * وعلى الغانيـــــــاتِ جـرّ الذّيولِ”[65].
فعبد الله بن الزّبير الّذي لم يكتفِ بهذه الفعال والمفاسد، حيث حسد أخاه مصعَباً –الّذي قتله عبد الملك بن مروان في حروبه مع عبد الله بن الزّبير- بعد أن قتل المختار واستقامت له أمور العراق فوَجَّه إليه ابنه حمزة ليصرف أمر البصرة إليه رغم كون حمزة –كما ورد عنه- كان أضعف النّاس وأقلّهم علماً بالأمر، ممّا اضطرّه للعودة إلى مكّة بعد أن اجتبَى خراج البصرة، فعبد الله بن الزّبير كان في تذبذبه لا ينكفئ حتَّى عن قتل أخيه عمرو لعداوة كانت بينهما لمبايعته لمروان بن الحكم! فقد ورد في بيان ذلك:
“فلمّا قَتل مصعب بن الزّبير المختار، واستقامت له أمور العراق، حسده عبد الله بن الزّبير على ذلك، فوَجَّه حمزة ابنه إلى البصرة، وكتب إلى مصعب أن يصرف أمر البصرة إلى حمزة، ففعل ذلك، فكان حمزة من أضعف النّاس، وأقلّهم علماً بالأمر، ثمّ اجتبَى خراج البصرة، ونفذ إلى أبيه إلى مكّة.
ووفدَ مصعب على أخيه عبد الله فجفاه حتَّى كان لَيدخل فيسلِّم فلا يرفعه، فلمّا قدم على عبد الله ابنه حمزة ردّ مصعب إلى العراق، وقتل عبد الله بن الزّبير أخاه عمرو بن الزّبير لعداوة كانت بينه وبينه، ولمبايعته لمروان بن الحكم، وقيل: إنّه كان على شرطة عمرو بن سعيد، فوَجَّه به عمرو لمحاربة أخيه فقتله!”[66].
كما كان حاداً في رعيّته مُقْبِضاً، ، وقد مرّ عبد الله بن عمر على عبد الله بن الزّبير وهو مصلوب في مكّة بعد أن نكّس الحَجّاج بن يوسف الثّقفي رايته وذلّه شرّ ذلّة في عهد عبد الملك بن مروان في سنة 73هـ، فقال:
“يرحمك الله، أبا خُبَيب، لولا ثلاث كنَّ فيك لقلتُ أنتَ أنت: إلحادك في الحرم، ومسارعتك إلى الفتنة، وبُـخْل بكفِّك، وما زلتُ أتخوّف عليك هذا المركب وما صرتَ إليه، مذ كنتُ أراك تَرْمق بَغْلاتٍ شُهباً كنَّ لابن حرب، فيعجبنك، إلا أنّه كان أسوس لدُنْياه منك”[67].
وهو القائل يعيِّر أصحابه لـمّا تثاقلوا عن نصرته في مواجهته مع الحَجّاج بن يوسف وملّوا حروبه وفعاله فيهم: أَكلتم تمري وعَصيتم أمري، فالرّواية التّأريخيّة هكذا جاءت:
“ورأَى ابن الزّبير من أصحابه تثاقلاً عنه، وكان يُـجْري لهم نصف صاع من تمر، فقال: أكلتم تمري، وعصيتم أمري! وكان شديد البخل”[68].
المانع الثّامن: (كثرة الحروب الّتي مُنِيَتْ بها الأمّة خلال هذه المرحلة):-
هذا ومن العوامل المانعة لسلِّ السّيف ما وقع بين مروان وعبد الله بن الزّبير من حروب طويلة طاحنة أكلت الأرواح وذهبت بالنّفوس، تلك الحروب الّتي امتدّت لفترة عبد الملك بن مروان مع الحَجّاج وغيره من ولاة بني أميّة في قِبال ابن الزّبير الّذي جنا مرّة أخرَى على بيت الله الحرام عندما قاتله الحَجّاج، إلى أن قُتِل –ابن الزّبير- هناك.
فهذه الحروب الطّاحنة الطّويلة كان لها من الأثر السّلبي الشّيء الكبير في إيجاد حالة من الإرباك في الوضع الدّاخلي وعدم القدرة على ضبطه وتنظيمه، ولو اطّلعتَ على كثرتها وحوادثِها لرأيتَ العَجبَ العُجاب!
المانع التّاسع: (جشع النّفوس والقبائل في الحُكْم والتّكالب على الإمرة والخلافة):-
ومن العوامل المهمّة أيضاً ابتلاء الأمّة خلال هذه المرحلة بطولها بطمع النّفوس الرّاغبة في التّسلّط والـمُلْك والخلافة، فبينما يُقضَى من الجهاز الحاكم -بكلا شقَّيه الأموي والزُّبيري- على حركة متمرّدة هنا يريد رؤوسها الاستيلاء على البلاد، تَفْغر فاغرة أخرَى في بقعة أخرَى، لينشغل بها الجهاز الحاكم فتَعود المنطقة السّابقة لما كانت فيه من هَرَج ومَرَج بما يَحتاج سرده لمجلّدات من الكتب!
ويكفيك أنّه “في هذه السَّنة -68هـ- وقفت أربعة ألوية بعرفات: محمّد بن الحنفيّة في أصحابه، وابن الزّبير في أصحابه، ونجدة بن عامر الحروري[69]، ولواء بني أميّة، وقال المساور بن هند بن قيس[70]: وتشعَّبوا شُعَبَاً، فكل قبيلة فيها أمير المؤمنين!”[71].
المانع العاشر: (اتّساع رقعة الخوارج في المناطق وتربّصهم بالمسلمين وآل علي “ع” وآل أُميّة):-
ومن العوامل المهمّة أيضاً ابتلاء الأمّة بالخوارج وفرَقِهم لا سيّما فرقة الأزارقة منهم التّابعة لنافع بن الأزرق والمتسمّية باسمه، وصولات هذه الجماعات في منطقة البَحرين ومختلف نواحي البلاد الإسلاميّة، وتنقّلها من مكان إلى آخر، وشدّة بأسها وعنادها واستبسالها ومكوثها على المواجهات مع الجهاز الحاكم، فضلاً عن عدائها الواضح لعلي بن أبي طالب عليه السّلام وأهل بيته وكافّة بني هاشم!
المانع الحادي عشر: (بقاء المنافقين وكثرتهم وعدم إنابة قتلة الحسين “ع”):-
أضف إليه ما قلناه من كون الكثرة الغالبة في الوجود في ظلِّ تلك المساحة من الأرض لتلك الجماعة الّتي غدرت بالحسين عليه السّلام وخانته وقتلته، والجماعة الّتي أنكر الإمام عليه السّلام عند سبيه للكوفة على نسائها عندما بكين عليهم كما ذكرنا سابقاً، وبطانة المختار الثّقفي الّتي اخترقها المنافقون، فأخذوا يتسلّلون من جيشه خلال مواجهته لمصعب بن الزّبير الّذي غَدر بسبعة آلاف من ذلك الجمع كما رأيت في الخَبر، وكذا جماعة السُّلطة الغاصبة المنتشرة في كل مكان، فضلاً عن جماعة الشّتم الّتي كانت تسب عليّاً عليه السّلام مئة عام على المنابر سيراً على سنّة معاوية، بما يعني العَود لنفس ما قلناه في بداية هذا العنوان، مضافاً لما ذكرناه في خبر الزّهري من عدم وجود النّاصر الثّابت الحقيقي الحقيق بالجهاد وغير ذلك ممّا يلي.
** العوامل المانعة وفق حركة الإمام (ع) بمفرده على غرار حركة أبيه الحسين (ع):-
قد يقال: كان سلّه عليه السّلام للسّيف ولو بمفرده يماثل سل الحسين عليه السّلام للسّيف، ويصب في نفس غايات أبيه، فلِمَ لم يَختر هذا الطّريق –في هذه المرحلة- بدل غيره، فلا حاجة له بأهل الحجاز ولا غيرهم كما لم يكن للحسين عليه السّلام اعتماد عليهم في حركته؟
وهنا نذكر عدّة عوامل مهمَّة تَلُوْحُ بها المؤشّرات الواقعيّة تجاه حركة الإمام عليه السّلام فيما لو سلك دوره في هذه المرحلة على أساس القِتال والمواجهة بمفرده على غرار مواجهة أبيه الحسين عليه السّلام بعيداً عن الحراك الجَمْعي الواسع، فالحديث في مَحْضر الإجابة على هذا القول كما يلي:
العامل الأوّل: (حركة أئمّة أهل البيت “ع” على أساس سِلْمي ما لم تجبرهم الظّروف):-
إنّ الحسين عليه السّلام –كما أسلفنا- ما كان خارجاً للحرب، فخروجه لمكّة للحج كان سلميّاً، إلا أنَّ الحرب فرضت عليه فرضاً، فقُسِرَ على الخروج من مكّة حتّى حوَّل حجّه لعمرة مفرَدة مسرعاً في خروجه ليحافظ على البيت وحرمته، وإلا وقع به ما لم يرتدع عنه يزيد لاحقاً من هدم الكعبة وإسفار مكّة وغيره ممّا بيّنّا.
وفي المقابل ما كان الإمام علي بن الحسين عليه السّلام يمر بظرف من هذا القَبيل بالدّرجة الّتي تجبره على ترك مبدأ السِّلْم على هذا المستوَى كما هو واضح.
العامل الثّاني: (الحاجة الماسّة لوجود الإمام السّجّاد “ع” بالخصوص وتوجيهه للأمّة):-
هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإنَّ الأمّة كانت بحاجة ماسّة لوجود شخص كالإمام زين العابدين عليه السّلام؛ لأنَّ دم الحسين عليه السّلام الّذي هُدر كان بحاجة لتوجيه دقيق، ولتصحيح حركة الأمّة في تلقي حدثه والانفعال معه، ووجود الإمام عليه السّلام بالذّات يمثّل الحصن الأكبر لتحقيق هذا الهدف كونه: 1-ابن الحسين عليه السّلام 2-والأولى بدمه 3-ودماء الهاشمييّن ممّن كانوا معه 4-ودماء أصحابه كشيعة يعتقد ذووهم بإمامته عليه السّلام 5-وأحد الشّخصيّات المهمّة الّتي حضرت مَقْتَل سبط الرّسالة وأحداث الطَّف وذاقت مَواجعها 6-وأَعْلَمَت إعلاماً واسعاً عنها 7-وأَرَّخَت لها.
وما سعي الحسين عليه السّلام في كربلاء للحفاظ على حياة وبقاء هذا الفرد بالخصوص من بين شباب الطَّف، وسعي زينب عليها السّلام خلال مسيرة الشّام لذلك إلا حقيقة مبرهِنة على هذا الأمر المهم.
فالإمام زين العابدين كان بقاؤه ضروريّاً لمواصلة المسيرة وتحقيق أهدافها، لا العكس وهو استشهاده وتقديم دمه حسب معطيات الجهة التّالية، فهو عليه السّلام لم يكن لدَى أي أحد في ذلك الوقت مؤهِّليّة لأن يسدَّ الفراغ الّذي سيخلّفه غيابه فيما لو وقع ذلك.
وهذا بذاته يشكّل مانعاً آخر من موانع الحِراك الجمعي أيضاً، وذلك فيما لو وقع بصورة غير مدروسة وأدَّى سريعاً لمثل هذه النّتيجة المولِّدة لهذه الآثار الوخيمة.
العامل الثّالث: (عدم تحقيق أهداف جديدة وهدم أهداف كربلاء):-
ومن جهة ثالثة، ما كانت حركته عليه الصّلاة والسّلام بهذه الطّريقة ستحقّق هدفاً جديداً، ولن تؤكّد غايات أبيه، بل وستصب في مصب الهدم لتلك الأهداف والجهود، كما كانت أي حركة من هذا القَبيل حسب الفرض المذكور، وكذا حسب المعطيات وقتذاك –بغضِّ النّظر عن التّدخّلات الغيبيّة واجبة الإيمان- تعطي احتمالاً كبيراً بأنّها ستنتهي بموت قائدها، ليبقَى دم القائد ومن معه يأخذ مجراه ويؤدّي دوره في النّفوس، بينما هذا لن يغيّر في الأمر شيئاً ولن يُفِد مكسباً جديداً؛ وذلك للسّبب الّذي سنذكره في العامل التّالي.
العامل الرّابع: (تأدية دم الحسين “ع” لدورٍ لا يَتعالَى عليه دور أيِّ دمٍ آخر):-
ومن جهة رابعة، إنَّ دم الحسين عليه السّلام أدَّى دوره الكبير بأعلَى درجاته على صعيد صحوة الأمّة بشكل كامل في حدود أهدافه المرادة بلا حاجة لما يضاف إليه، بما يعني أنَّ أيَّ دمٍ يُهدر بعد دمه لن يكن ذا أثرٍ يُعتد به في ذلك الوقت بتلك الدّرجة، فحرارة دم الحسين في وجدان المسلمين لا يمكن لدم آخر أن يحقّقها ولو كان نفس دم ابنه الإمام السّجّاد عليه السّلام؛ لأنّ مكانة الحسين عليه السّلام لا شك كانت أكبر امتداداً وأوسع نفوذاً تبعاً لرفعة منزلته فيهم بما أتاح له ظرف الدّهر من سعة الظهور وبما يمثّله نسبه وأحاديث رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الكثيرة فيه ومواقفه العظيمة تجاهه، ومادام لا يحقِّق الدّم الواحد بعد دمه ما يكون بالمستوى المطلوب في الإمام؛ فإنَّ الرّكون لخيار من هذا الشّكل بلا شك ليس هو الخيار الأفضل ما زال لا جابر عليه.
وبالتّالي فإنَّ فرض تحريك الدّم الجديد لوجدان الأمّة أكثر فأكثر سيكون فرضاً شكليّاً لا واقع له، خصوصاً في ظلِّ حاجة الأمّة لوجود الإمام عليه السّلام بينها أكثر من وجود تلك الآثار الّتي سيسْفِر عنها دمه الطّاهر.
العامل الخامس: (إحداث فوضَى واسعة في الأُمّة):-
ومن جهة خامسة، فإنّه في مقابل هدم مثل هذا التّوجّه لأهداف وغايات كربلاء كان تحرّكه عليه السّلام –لو وقع- سيُحدث فوضَى كبيرة في صفوف الأمّة؛ بسبب الرّايات المختلفة الّتي خرجت وقد تخرج وتتكاثر بصورة عفويّة غير منظَّمة بحيث تكون درجة عُسْر السّيطرة عليها أشد ممّا هي عليه، خصوصاً وأنّها كانت بحاجة للتّوعية والتّوجيه بعد ما نالته من جرعة الصّحوة وأثر الهزّة قبل أي دخول في خيار من هذا النّوع، فحمل السّلاح على أكتف لا تحظَى بذلك يأتي بنتائج سلبيّة كما هو واضح وكما بَيَّن الإمام عليه السّلام للزّهري في ردّه عليه كما مَر.
العامل السّادس: (انفتاح باب واسع للتّشويش وتشويه حركة الإمام السّجّاد “ع”):-
ومن جهة سادسة سيكون هذا التّحرّك في ظلِّ نهايته المميتة وما سيؤول فيه بأصحابه للشّهادة ذا صورة قابلة لمختلف ألوان التّشويه، إذ أقل ما سيقال فيه بصورته المتهوّرة المفهومة لدى بعض العقول البعيدة عن فهم الإمام عليه السّلام –في فرض اتّخاذه لمثل هذا القرار والتّحرّك الجهادي الفردي- بأنّه تصرّف غير عقلاني؛ لأنّه سلوك كان الظّرف فيه لا يخدم صاحبه، وأنّه عليه السّلام لم يتحرّك لأجل الدِّين، وإنّما لأجل أبيه وعرقه وقوميّته وقبيلته، وبهذا سينفتح الطّريق أيضاً للتّشكيك ولإعلام الطّاغية يزيد وغيره ضدّ أهل البيت عليه السّلام وسيخدمهم كثيراً.
ردُّ القول بأنَّ دم الحسين (ع) كان بذاته يدعو الإمام للمواجهة بهذه الصّورة:
قد يقال من جانب آخر:
ما حرّكه دم الحسين عليه السّلام في جماهير الأُمّة كان بذاته يدعو للمواجهة بالسّيف والمطالبة بدمه عليه السّلام.
وجوابه: أنَّ طلب دم الحسين بهذه الصّورة يجعل منه قضيّة شخصيّة، بينما المراد لديهم عليهم السّلام هو قضيّة دين وقضيّة أمّة كما بيّنّا سابقاً.
أضف إليه أنَّ ما أحدثه دم الحسين عليه السّلام كان يتحرّك في أُطر معيّنة ونفوس متوزّعة، بما يعني أنَّ فرضيّة القتال ستعود بنا لنفس الفرضين السّابقين بتقديريهما، وهما استجابة أهل الحجاز وعدم استجابتهم، ومواجهة العراق والشّام، وقد بان لك سقوط النّتيجة على كل فرض منهما.
العامل السّابع: (علّة القائد):-
وفي مقابل ما ذكرنا يبقَى هناك علّة رئيسيّة مهمّة تمنع من التّوجّه لخيار من هذا النّوع، وهي مرض الإمام عليه السّلام الّذي يمنعه من قيادة حِراك مسلّح بهذا الشّكل؛ وهذه العلّة أيضاً تُعتبر مانعاً من موانع الحِراك الجَمْعي.
والسّؤال: كيف لو أضفنا جميع هذه الجهات لبعضها البعض؟
لا ريب سنخرج حينها بنتيجة تنص على أنَّ خيار الحرب في هذه المرحلة بكلا قراءتيه ما كان سليماً قَط.
ومن هنا يَنْقَدِح الاستفهام بـ: هل كان الإمام علي بن الحسين عليه السّلام في غفلة عن جميع هذه الموانع والعوامل؟ بلا ريب كلا، فهو العارف بما يدور حوله -ممّا وصلَنا وما لم يصلنا- المدرِك لظروف ومتغيّرات تلك الفترة كما اتّضح.
نكتفي بهذا القدر، لنتم الحديث في المقال الآتي –إن شاء الله تعالى- والّذي سنتناول فيه -وفق منهجيّة التّقييم الصّحيح للحوادث التّأريخيّة وسلوكيّات الأفراد، قِبال تحليل وتقييم سيرة الإمام عليه السّلام، وضمن الفترة الثّانية من مسيرته المباركة، المتعلّقة بمرحلة ما بعد السّبي والرّجوع للمدينة- الخيارات الأربعة الباقية من مبحث الجهة الثّالثة، وهي:
(b)- خيار المعارَضة السِّلميّة. (c)- خيار المعاهدة والصّلح. (d)- خيار نشر العلوم والانشغال ببثّ المعارف المختلفة بصورة واسعة. (e)- خيار التّثبيت على الخط والتّصدّي لدفع دواعي التّخبّط والحيرة.
ومن ثمَّ نتعرَّض للجهة الرّابعة وبيان الحقيقة الكاملة لسلوك هذه المرحلة، لنختم الحديث بتناول الجهة الخامسة واستقراء الوظائف والمهام الأخرَى الّتي مارسها الإمام عليه السّلام خلال ذلك.
والحمد لله ربِّ العالمين والصّلاة والسّلام على محمّدٍ وآله الطّيّبين الطّاهرين.
أمين السّعيدي – 4 محرّم الحرام 1432هـ
قم المقدَّسة-بيمارستان نيكويي
الهوامش:
[2] ويكفيك قول الشّاعر في الزّمن القديم فيه: “يا أيُّها القبر بحوارينا * ضممتَ شرَّ النّاس أجمعينا”؛ حوارينا: منطقة في حمص من بلاد الشّام.
[3] نهج البلاغة، خُطَب الإمام علي عليه السّلام، جمع الشّريف الرّضي ره: ج1 ص124.
[4] فقد جاء في كتب التّأريخ في أحداث سنتي 62هـ و63هـ ما نصّه: “وَجَّه –أي يزيد بن معاوية- إلى مسلم بن عقبة، فأقدَمه من فلسطين، وهو مريض، فأدخله منزله، ثمّ قصَّ عليه القصّة –يعني رفض أهل الحجاز لولاته وعمّال وبيعته ودفع الصّوافي من المحاصيل إليه..- فقال: يا أمير المؤمنين! وجِّهني إليهم، فوالله لأدعنَّ أسفلها أعلاها، يعني مدينة الرّسول، فوجَّهه في خمسة آلاف إلى المدينة، فأوقع بأهلها وقعة الحَرَّة –الحَرَّة أرض ذات حجارة سود نخرة كأنّها أحرقت بالنّار- فقاتله أهل المدينة قتالاً شديداً، وخندقوا على المدينة، فرام ناحية من نواحي الخندق، فتعذر ذلك عليه، فخدع مروان بعضهم –يعني بعض أهل المدينة- فدخل ومعه مائة فارس، فأتبعه الخيل حتَّى دخلت المدينة، فلم يبقَ بها كثير أحد إلا قُتِل، وأباح حرم رسول الله، حتَّى ولدت الأبكار لا يُعرف مَن أولدهن، ثمَّ أخذ النّاس على أن يبايعوا على أنّهم عبيد يزيد بن معاوية، فكان الرّجل من قريش يؤتَى به، فيقال: بايع آيةَ أنّك عبد قنّ ليزيد –القنّ: غبدٌ مُلِك هو وأبواه- فيقول: لا. فيضرب عنقه!…
وكان جيش مسلم خمسة آلاف رجل: من فلسطين ألف رجل عليهم روح بن زنباع الجذامي، ومن الأردن ألف رجل عليهم حبيش بن دلجة القيني، ومن دمشق ألف رجل عليهم عبد الله بن مسعدة الفزّاري، ومن أهل حمص ألف رجل عليهم الحصين بن نمير السّكوني، ومن قنسرين ألف رجل عليهم زفر بن الحارث الكلابي…
وخرج مسلم بن عقبة من المدينة يريد مكّة لمحاربة ابن الزّبير –كما سنيّن في المتن- فلمّا صار بثنيّة المُشلّل احتضر –ثنيّة المُشلّل: هي ثنيّة مشرفة على المدينة يطؤها من يريد مكّة، وتسمَّى ثنيّة الوداع لأنَّ النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ودَّع بها بعض من خلّفه بالمدينة في آخر خرَجاته- واستخلف الحُصَين بن نُمَير، وقال له: يا برذعة الحمار! لولا حبيش بن دلجة القيني لما ولّيتك، فإذا قدمتَ مكّة، فلا يكون عملك إلا الوقاف ثمَّ الثّقاف، ثمّ الانصراف، ثمّ قال: اللهم إن عذّبتني بعد طاعتي لخليفتك يزيد بن معاوية وقتل أهل الحَرَّة، فإنِّي إذاً لشقي. ثمَّ خرجت نفسه فدفن بثنيّة المُشلّل، وجاءت أم ولد يزيد بن عبد الله بن زمعة، فنبشته وصلبته على المُشلّل، وجاء النّاس فرجموه، وبلغ الخبر الحُصَين بن نُمَير فرجع فدفنه، وقتل جماعة من أهل ذلك الموضع، وقيل لم يدع منهم أحداً…
وقَدِم الحُصَين بن نُمَير مكّة فناوش ابن الزّبير الحرب في الحرم، ورماه بالنّيران حتَّى أحرق الكعبة.
وكان عبد الله بن عُمَير الليثي قاضي ابن الزّبير، إذا تواقف الفريقان قام على الكعبة، فنادى بأعلَى صوته: يا أهل الشّأم! هذا حرم الله الّذي كان مأمنا في الجاهلية يأمن فيه الطّير والصّيد، فاتّقوا الله، يا أهل الشّأم! فيصيح الشّاميّون: الطّاعة الطّاعة! الكَرَّة الكَرَّة! الرّواح قبل المساء! فلم يزل على ذلك حتَّى أُحرقت الكعبة…
وكان سعيد بن المسيَّب يسمِّي سنين يزيد بن معاوية بالشّؤم: في السّنة الأولى قتل الحسين بن علي وأهل بيت رسول الله، والثّانية استبيح حرم رسول الله وانتهكت حرمة المدينة، والثّالثة سفكت الدّماء في حرم الله وحُرِّقتِ الكعبة”. تأريخ اليعقوبي، لأحمد بن أبي يعقوب، تحقيق عبد الأمير مهَنّا: ج2 ص165و166.
[5] قال المؤرِّخون: “وكان الرّكن لـمّا أصابه الحريق تصدّع بثلاث قطع، فشدّه ابن الزّبير بالفضّة”!. تأريخ اليعقوبي، لأحمد بن أبي يعقوب: ج2 ص260.
[6] أعناقهما ورؤوسهما كناية عن إرادته لهما ومن تبعهما، لا هما فحسب، وإلا لقال: بعنقَيهما ورأسيهما؛ فتأمَّل.
[7] يناديه ويهدّده قاصداً: أنّنا سنرجعك لأصلك ونسبك المجهول، بعد أن نسبَك معاوية إليه وأَلحقكَ به وبرّأكَ من ماء الزّنا الّذي جئتَ منه.
[8] وكان في البصرة.
[9] أي كان مريضاً شديد المرض.
[10] يعني مسلم بن عقيل رضي الله عنه.
[11] القُطْقُطانة: موضع قرب الكوفة من جهة البرّيّة بالطّف، به كان سِجْن النّعمان بن المنذِر. تأريخ اليعقوبي، لأحمد بن أبي يعقوب، تحقيق عبد الأمير مهَنّا: ج2 ص156 نقلاً عن معجم البلدان.
[12] يعني أصحاب الحسين عليه السّلام تقدّموا للقتال.
[13] أي يُهَذِّبه.
[14] اللبّة: موضع النَّحر.
[15] تأريخ اليعقوبي، لأحمد بن أبي يعقوب: ج2 من ص241 إلى ص245.
[16] جاء في كتب التّأريخ في فترة من خَلَف يزيد بن معاوية في الحكم بعد موته في صَفر سنة 64هـ: “ثمّ مَلَكَ معاوية بن يزيد بن معاوية، وأمّه أم هاشم بنت أبي هاشم بن عتبة بن ربيعة، أربعين يوماً، وقيل: بل أربعة أشهر، وكان له مذهب جميل، فخطب النّاس، فقال: أمّا بعدَ حمدِ الله والثّناء عليه، أيّها النّاس فإنّا بُلينا بكم وبُليتم بنا، فما نجهل كراهتكم لنا وطعنكم علينا، ألا وإنّ جدِّي معاوية بن أبي سفيان نازع الأمر من كان أولَى به منه في القرابة برسول الله، وأحق في الإسلام، سابِق المسلمين، وأوَّل المؤمنين، وابن عمِّ رسول ربِّ العالمين، وأبا –أي رفض- بقيّة خاتم المرسلين، فركب منكم ما تعلمون، وركبتم منه ما لا تنكرون، حتَّى أتته منيّته وصار رهناً بعملِه، ثمَّ قلَّدَ أبي وكان غير خليق للخير، فركب هواه، واستحسن خطأه، وعظم رجاؤه، فأخلفه الأمل، وقصر عنه الأجل، فقَلَّت منعته، وانقطعت مدّته، وصار في حفرته رهناً بذنبِه، وأسيراً بجرمِه. ثمَّ بكى، وقال: إنَّ أعظم الأمور علينا علمنا بسوء مصرعه وقبح منقلبه، وقد قَتَّل عترة الرّسول، وأباح الحرمة، وحرَّق الكعبة، وما أنا المتقلّد أموركم، ولا المتحمّل تبعاتكم، فشأنكم أمركم، فوالله لئن كانت الدّنيا مغنماً لقد نلنا منها حظّاً، وإن تكن شرّاً فحسب آل أبي سفيان ما أصابوا منها. المصدر السّابق: ج2 ص254.
[17] المصدر السّابق: ج2 من ص247 و248.
[18] أي التّراب.
[19] أي الأسوء وكل ما يشين.
[20] المفند المهوّر: أي الكاذب المتهوّر.
[21] أي تتناوبهم.
[22] أي ستروهم
[23] يعني عُبيد الله بن زياد الّذي نسبه معاوية إليه وألحقه به وبرّأه من ماء الفجور الّذي انحدر منه فلم يُعرف فِراشه ولا أصله.
[24] أي طردك إياه من المدينة وحرم جدّه (ص) إلى مكّة وحرم الكعبة بيت الله الحرام.
[25] العائر من السّهام: ما لا يُدْرَى راميه.
[26] الأراقل، قيل هنا بمعنى: المفازات.
[27] أي ربيع النّساء وجليسهنَّ.
[28] يعني الحسين بن علي عليهما السّلام.
[29] يقصد ابن زياد.
[30] ابنَي عمّي: يعني الحسن والحسين عليهما الصّلاة والسّلام.
[31] راجع تأريخ اليعقوبي، لأحمد بن أبي يعقوب، تحقيق عبد الأمير مهنّا: ج2 من ص162 إلى ص164.
[32] فقد ورد في كتب التّأريخ في بيان أحداث سنة 63هـ من فترة حكم يزيد ما يلي: “وقَدِم الحُصَين بن نُمَير مكّة فناوَش ابن الزُّبير الحرب في الحَرم، ورماه بالنّيران حتَّى أحرق الكعبة، وكان عبد الله بن عُمير الليثي قاضي ابن الزّبير، إذا تواقف الفريقان قام على الكعبة، فنادى بأعلى صوته: يا أهل الشّأم! هذا حرم الله الّذي كان مأمنا في الجاهلية يأمن فيه الطّير والصّيد، فاتّقُوا الله، يا أهل الشّأم! فيصيح الشّاميّون: الطّاعة الطّاعة! الكَرّة الكَرّة! الرّواح قبل المساء! فلم يزل على ذلك حتَّى أُحرقت الكعبة، فقال أصحاب ابن الزّبير: نطفئ النّار، فمنعهم، وأراد أن يغضب النّاس للكعبة”؛ المصدر السّابق: ص251 و252.
[33] وهو والي ابن الزّبير كما سنشير لاحقاً.
[34] المصّيصة: مدينة على شاطئ جيحان من ثغور الشّام بين إنطاكيّة وبلاد الرّوم تقارب طرسوس.
[35] المصدر السّابق: ج2 ص188.
[36] مناقب آل أبي طالب، لابن شهر آشوب: ج3 ص299 – وكنز العمّال، للمتّقي الهندي: ج4 ص255 – وتاريخ دمشق لابن عساكر: ج54 ص332.
[37] التّوبة: 111.
[38] التّوبة: 112.
[39] تفسير مجمع البيان، للطّبرسي ره: ج5 ص114.
[40] تأريخ اليعقوبي، لأحمد بن أبي يعقوب: ج2 ص245.
[41] المصدر السّابق: ج2 من ص245 و246.
[42] عين الوردة: رأس عين المدينة المشهورة بالجزيرة كانت فيها وقعة للعرب ويوم من أيّامها. تأريخ اليعقوبي، لأحمد بن أبي يعقوب، تحقيق عبد الأمير مهنّا: ج2 ص173 هامش1 نقلاً عن معجم البلدان.
[43] البقرة: 54.
[44] المصدر السّابق: ص173.
[45] المصدر السّابق: من ص174 إلى 176.
[46] أي طردك إياه من المدينة وحرم جدّه (ص) إلى مكّة وحرم الكعبة بيت الله الحرام.
[47] العائر من السّهام: ما لا يُدْرَى راميه.
[48] الأراقل، قيل هنا بمعنى: المفازات.
[49] المصدر السّابق: ج2 ص162 و163.
[50] أي به مرض الجدري.
[51] المصدر السّابق: من ص170 إلى 171.
[52] المصدر السّابق: ص178.
[53] المصدر السّابق: ص178 و179.
[54] المصدر السّابق: ص179.
[55] كلامٌ نابي! مع أنّ محمّداً من خولة بنت جعفر الحَنفيّة رضي الله عنهما، والحسن والحسين من إخوته من فاطمة بنت محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم وعليهم، فيُنْسب لأُمِّه بالحَنفيّة تمييزاً له عن الحسنين من الزّهراء عليهم أفضل الصّلاة وأتم التّسليم. وفواطم جمع فاطمة، تُقال لنساء آل البيت وأبنائهم لكثرة تسميتهم نساءهم باسم فاطمة، تقول للرّجل منهم: يا ابن الفواطم، كما تقول: يا ابن الهواشم نسبة لجدِّهم هاشم.
[56] يريد أن يَحْتَج عليه بما أقرَّ به من شرف نسبه والجهة الطّاهرة الّتي ينحدر منها.
[57] المصدر السّابق: ص179.
[58] رَضْوَى: جبل معروف بالمدينة.
[59] المصدر السّابق: ص179.
[60] المصدر السّابق: ص179 و180.
[61] الفسطاط: بيت من الشَّعر.
[62] المصدر السّابق: ص180.
[63] البَطَن: داء البطْن.
[64] العطبول: المرأة الجميلة الفتيّة الطّويلة العنق. فعمر بن أبي ربيعة كان مولعاً بالتّعرّض للنّساء والتّشبيب بهن، ممّا اضطرَّ عمر بن عبد العزيز لنفيه إلى “دهلك” ليبجنّبه عن ذلك.
[65] المصدر السّابق: ص181 و182.
[66] المصدر السّابق: ص182 و183.
[67] المصدر السّابق: ص187.
[68] المصدر السّابق: ص185.
[69] نجدة بن عامر الحروري: رأس الفرقة النّجديّة، نسبة إليه، من الحروريّة، ويعرف أصحابها بالنّجدات، انفرد عن سائر الخوارج بآراء، كان أوّل أمره مع نافع بن الأزرق –رئيس فرقة الأزارقة من الخوارج- وفارقه لإحداثه في مذهبه، ثمَّ “خرج” مستقلاً باليمامة، فأتَى البحرين وتسمَّى بأمير المؤمنين، قُتِل سنة 69هـ، والحروري نسبة إلى حروراء.
[70] المساور بن هند: شاعر معمِّر، قيل: ولد في حرب داحس والغبراء، هو وأبوه من أشراف بني عبس، شعراء، فرسان، وقال البغدادي: كان يهاجي المرّار الفقعسي، وأورد له أبياتاً رقيقة في هجاء بني أسد.
[71] المصدر السّابق: ص180 و181.
فهرس المصادر للأجزاء الثلاثة:
الكتاب، المؤلِّف، تحقيق، الطّبعة، سنة الطّبع، مطبعة، نشْر
1- أعيان الشّيعة، للسّيّد محسن الأمين، تحقيق وتخريج: حسن الأمين، ن: دار التّعارف للمطبوعات – بيروت – لبنان.
2- الأغاني، لأبي الفَرَج الأصفهاني، ن: مؤسّسة الأعلمي – بيروت – لبنان.
3- الأنوار البهيّة، للشيخ عبّاس القمّي، ط: الأولى، س: 1417هـ، ن: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرَّفة.
4- البحار، للعلامة المجلسي ره، ط: كمباني.
5- البداية والنّهاية، لابن كثير، تحقيق وتدقيق وتعليق: علي شيري، ط: الأولى، س: 1408هـ – 1988م، م: دار إحياء التراث العربي – بيروت – لبنان.
6- تأريخ أسماء الثّقاة ممّن نقل عنهم العلم، لعمر بن أحمد المعروف بابن شاهي، تحقيق صبحي السّامرّائي، ط: الأولى، س: 1404هـ، ن: الدّار السّلفيّة.
7- تأريخ اليعقوبي (1)، لأحمد بن أبي يعقوب بن جعفر بن وهب بن واضح الكاتب العبّاسي المعروف باليعقوبي، م: دار صادر – بيروت – لبنان، ن: مؤسّسة نشر فرهنگ أهل بيت عليهم السّلام – قم – إيران.
8- تأريخ اليعقوبي (2)، لأحمد بن أبي يعقوب، تحقيق عبد الأمير مهَنّا، ط: الأولى، س: 1413هـ، م و ن: مؤسّسة الأعلمي – بيروت – لبنان.
9- تأريخ مدينة دمشق، لابن عساكر، تحقيق علي شيري، س: 1415هـ، م و ن: دار الفكر – بيروت – لبنان.
10- تفسير مجمع البيان، للشّيخ الطّبرسي ره، ط: الأولى، س: 1415هـ – 1995م، ن: مؤسّسة الأعلمي – بيروت – لبنان.
11- شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد، ط: الأولى، س: 1378هـ – 1959م، م: دار إحياء الكتب العربية، ن: مؤسسة مطبوعاتي إسماعيليان.
12- صحيح البخاري، لمحمد بن إسماعيل البخاري، س: ١٤٠١ هـ – ١٩٨١ م، ن: دار الفكر.
13- صحيح مسلم، لمسلم النّيسابوري، ن: دار الفكر – بيروت – لبنان.
14- الصّحيفة السّجّاديّة، أدعية الإمام زين العابدين (ع)، تدقيق وشرح: السّيّد محمّد باقر الموحِّد الأبطحي الأصفهاني، ط: الأولى، س: 25 محرّم الحرام 1411هـ، م: مؤسّسة الإمام المهدي (ع)، ن: مؤسسة الأنصاريان للطباعة والنشر – قم – ايران.
15- عيون أخبار الرِّضا (ع)، للشّيخ الصّدوق، تصحيح وتعليق وتقديم: الشّيخ حسين الأعلمي، س: 1404هـ – 1984م، م و ن: مؤسّسة الأعلمي – بيروت – لبنان.
16- فتح الأبواب، لابن طاووس، مؤسسة أهل البيت “ع” ط: الأولى، س: 1415هـ.
17- كنز العمّال، للمتّقي الهندي، س: 1409هـ، ن: مؤسّسة الرسالة – بيروت.
18- المعجم الكبير، للطّبراني، م: دار إحياء التّراث العربي، ن: مكتبة ابن تيمية –القاهرة.
19- المناقب، للموفّق الخوارزمي، ط: الثّانية، س: ربيع الثاني 1414هـ، م و ن: مؤسّسة النّشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرَّفة.
20- مناقب آل أبي طالب، لابن شهر آشوب، س: 1376هـ، م ون: المكتبة الحيدريّة – النّجف الأشرف.
21- نهج البلاغة، خطب الإمام علي (ع) وهو ما جمعه السّيّد الشّريف الرّضي من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)، شرح: الشّيخ محمّد عبده، ط: الأولى، س:1412هـ – 1370ش، م: النّهضة – قم، ن: دار الذّخائر – قم – إيران.
للتعلیق أو مطالَعة التعلیقات اضغط هنا