بسم الله الرّحمن الرّحيم
الدَّرس الفقهي الأوَّل:-
* حديثُ العِلم
قال الرّسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلَّم): “مَن أَحبَّ أن يَنظر إلى عتقاء الله من النَّار فلينظر إلى المتعلِّمِين، فو الّذي نفسي بيده ما من متعلِّمٍ يَـخْتَلِف إلى باب العالم إلا كَتب الله له بكلِّ قدمٍ عبادة سنة، وبَنى له بكلِّ قدمٍ مدينة في الجنَّة، ويمشي على الأرض وهي تستغفر له، ويمسي ويصبح مغفوراً له، وشهدتْ الملائكة أنَّهم عتقاء الله من النار”.
الـمَبْحَثُ رقم1 (وجوب إحراز المكلَّف لامتثال التّكاليف الإلزاميّة الابتلائيّة):-
* لقد صدَّر الفقهاء رسائلهم العمليَّة بهذه الفتوى؛ ليعلم كلُّ مقلِّدٍ بأنَّ تعلّم المسائل الابتلائيّة واجبٌ عيني عليه ليس بعد الوقوع فيها فحسب، وإنّما قبل الوقوع فيها ما دام لا يأمن على نفسه من الابتلاء بها.
* ومثال ذلك: شكوك الصّلاة، فلا يوجد مكلَّف منّا يأمن على نفسه من النِّسيان وما شاكل؛ لذا يجب علينا تعلّم هذه المسائل قبل الوقوع فيها وإلا فإنَّ الصّلاة قد تبطل في بعض الحالات؛ لأنّ المكلَّف قد يشك مثلاً في صلاة رباعيَّة –كالظّهر- بين كونه أتى بثلاث ركعات أم أربع، فوظيفته عندئذٍ البناء على الأكثر –الأربع- ثمَّ الإتيان مباشرة بركعة احتياط دون الالتفات يميناً أو شمالاً وقبل الانشغال بأيِّ شيءٍ آخر.
وعليه إذا كان المكلَّف لا يعلم بالحكم، وشكَّ في هذا المورد، فإنَّ صلاته سوف تبطل؛ لأنَّه أوَّلاً: لا يعرف ما هو تكليفه، وثانياً: لا يعلم كيف هي صلاة –ركعة- الاحتياط.
وبهذا سوف يقع في محذور شرعي وهو إبطاله لصلاته بلا عذر معتد به في الشّريعة.
من هنا كان علينا أن نتعلَّم أمور ديننا وأن لا نتهاون بها بأيِّ حالٍ من الأحوال، فالإنسان خُلِقَ للعلم والعبادة والعمل، والحال أنَّ الكثير منّا يدرك بأنَّه محتاج لتعلّم المسائل الابتلائيّة الشّرعيّة الموجّهة إليه، ومع ذلك يُقصِّر، وتأخذ منه الغفلة مأخذها بفعل لهوه أو تهاونه أو استحيائه أو تكبّره عن التّصاغر للعِلم وأهلِه، فيسير على الأرض والله ساخط عليه وهو غير ملتفت أو ملتفت ولا يبالي، ثمَّ تدركه المنيَّة فيخسر خسراناً مبيناً، فيكون محلّه هو نفس محلّ الكافر بدين الله من أصل؛ لأنَّ كل منهما مآله إلى النّار، بينما النّبي يقول عن المتعلِّمِين ما ذكرناه أعلاه بما تقشعرّ منه القلوب وتخشع أمامه أفئدة الصّالحين؛ وحقّاً بهذا يُفهم قول الإمام عليه السّلام:
“من يرد الله به خيراً يفقّه في الدِّين”، وإلا غير المتفقّه وغير المتعلِّم هو بعيد عن هذا المعنى وهذه الحقيقة، كما يشمله قوله تعالى: {ومِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ على حَرْف}!؛ الحج: آية 11.
* الاختلاف في الابتلاء:
ثمَّ إنَّ المكلَّفِين يختلف كل منهم عن الآخر من جهة ما هو في مَعرض الابتلاء به، فالتّاجر –مثلاً- ليس كالّذي عمله الزّراعة، والمعلِّمة ليست كالّتي عملها في مجال تزيين النِّساء، والّتي تحيض ليست كالّتي لا تحيض والّذي لا يحيض، والمتزوّج والمتزوّجة ليسا كالأعزب والعازبة، فكل واحد من هؤلاء له ابتلاءت خاصَّة ومسائل معيّنة لا يبتلي بها الآخر المقابل له؛ لذا كان على كل منهم أن يتحرَّك نحو تحصيل العلم بأحكام المسائل والقضايا المرتبطة بشؤونه.
* مَن هو المكلَّف؟
قال: “المكلَّف” فمن هو المكلَّف؟ المكلَّف: هو العبد الّذي تتوفّر لديه شرائط معيّنة تلقي في عُهْدَتِه التّكاليف المشرَّعة.
* واعلمْ أنَّ الإنسان لتتبلور فيه واقعيّة التّكليف يجب أن تتوفَّر لديه بعض الشّروط وإلا فإنَّ الحكم الإلهي ينتفي في حقِّه بانتفائها، لذا نقول:
إن الشّرائط المقوِّمة للتّكليف تختلف من شخص لآخر، وهي بين عموم النّاس تشترك في عدد منها، كالعقل والبلوغ، فالمجنون والمجنونة مثلاً مرفوع عنهما قلمَي التّكليف والمؤاخذة، فهما لا تكليف لهما ولا عقاب عليهما، وكذا غير البالغ وغير البالغة، بينما هذه الشّرائط تختلف بين العِباد باختلاف وظائفهم وطبائعهم، فمثلاً الّذي وظيفته الحج –حجة الإسلام- فإنَّ الحج لا يكون موجّهاً إليه إلا بشرط كونه مستطيعاً من الجهة الماليَّة بالإضافة إلى الشّروط العامّة، وكذا حرمة قراءة القرآن –بتفصيل سنأتي عليه- وترك الصّلاة والصّيام، فهذه تكاليف موجّهة للمرأة الّتي –بطبيعتها الخَلقيّة- ترى الدّم، في حين انّها غير موجّهة لمن توفّرت فيها الشّروط العامّة ولا ترى الدّم، كما انّها غير موجّه للذّكور من العِباد، فشرطيّة رؤية الدّم بقيود معيّنة شرط يضاف للشّروط العامّة لنوعيّة خاصّة من المكلَّفِين (فالشّرائط تختلف باختلاف الموضوع).
* ما المراد بالإلزاميّة في قول الفقهاء “التّكاليف الإلزاميّة”؟
عندما تقرأ في أي رسالة عمليَّة هذه الكلمة فاعرفْ أنَّ المراد منها الواجبات والمحرَّمات؛ لأنَّ اللزوم المراد به ما هو واجب على المكلّف فعله أو تركه، وأمّا ما عدا ذلك من الأحكام الأخرى –المستحبّات والمكروهات والمباحات- فهو ليس بلازم على المكلَّف؛ لأنَّ المستحبّات تستبطن ترخيصاً للمكلَّف كونها غير واجبة الفعل وإن كان تركها يُفوِّت عليه نفعها ومصالحها ومثوبتها وفعلها يوجِب ذلك له، والعكس بالعكس بالنّسبة للمكروهات، إذ تستبطن ترخيصاً للمكلَّفِ أيضاً وإن كان فعلها فيه نوعُ ضررٍ عليه وتركها يوجِب له المثوبة وصلاح أموره وتساميه وتكامله؛ أمّا المباحات –بالمعنى الأخص- فأمرها واضح، وقد تمّت الإشارة إليها في أوراق مقدِّمة الدّروس.
* الزّبدة: ما يجب فعله وما يجب تركه هو اللازم على المكلَّف والمعاقب عليه، فما لا عقوبة فيه ليس بلازم وليس بواجب الفعل ولا واجب التّرك، ولا عقوبة إلا في ترك الواجب وفعل المحرَّم، فتَعيَّنَ كون المراد من التّكاليف الإلزاميَّة هو الواجبات والمحرّمات، وبالتّالي هي الّتي يجب على المكلَّف التّحرّك نحو تحصيلها وتعلّمها للعمل بها.
المبحث رقم2 (طُرق الوصول إلى الأحكام الإلهيّة):-
هنالك أربعة سُبُل ذكرها الفقهاء لبلوغ الأحكام الإسلاميَّة، وهي:
أ- اليقين التّفصيلي:-
وهو العِلم الشّخصي بالتّكليف.
وهذا في الغالب ينحصر بالضّروريّات؛ وذلك كأن يبصِر المكلَّف جماعة المسلمين تصلِّي في كلِّ يومٍ خمس صلوات على أنّها واجبة، فيدرك وجوب ذلك ويمتثل للعمل به، فهذا سبيل من سُبل الوصول إلى الأحكام الإسلاميَّة والمكلَّف لم يجتهد فيه ولم يعمل بالاحتياط ولم يقلِّد أحداً –حسب ما سنبيّن من المراد بالاجتهاد والاحتياط والتّقليد-، غاية الأمر أنّه عمل بذلك من منطلق ما حصل له من يقين بوجوبه عن طريق ملاحظته لقيام كافّة المسلمين به وعدم إنكار أي أحدٍ منهم له.
لاحظْ، فإنَّ الصّلاة لـمّا كانت ضرورة من ضروريّات الإسلام تمكَّن المكلَّف من معرفتها بنفسه بدون اجتهاد؛ لأنّه ليس بمجتهد لديه مَلَكَة وقدرة وشروط الاجتهاد المقرَّرة، وبدون احتياط؛ لأنَّه لم يُوفِّق بين أمور بناءً على ثبوت شيء مُسبق لديه، وبدون تقليد؛ لأنَّه لم يرجع في ذلك لمجتهد معيَّن وإنّما لاحظ المسلمين بنفسه.
إذن المكلَّف هنا تمكّن من بلوغ التّكليف بصورة معيّنة من خلال اليقين التّفصيلي، كل ذلك بفضل الضّرورة الدِّينيّة، والأمر نفسه بالنّسبة للضّرورة المذهبيّة الخاصّة بالمذهب، ولكنّه لو لم تكن القضيّة من الضّرورات فإنَّ المكلّف كثيراً ما لا يتمكّن من الوصول إلى حكمها الشّرعي، ومثال ذلك ما تفرّع على واجبات الصّلاة وأحكام النِّفاس والزّكاة والتّجارة والبنوك والمغتربِين وما شاكل، ممّا سيضطرّه في غير الضّروريّات –غالباً- لسلوك أحد الطّرق الثّلاثة الأخرى.
ب- الاجتهاد:-
وهو استنباط الحكم الشّرعي من مداركه المقرَّرة.
* ما المراد بالمدارك المقرَّرة في الاجتهاد وما هي؟
المدارك المقرَّرة هي المصادر والأدلَّة الّتي يعتمدها المجتهد وتكون حُجَّة شرعاً؛ وهي أمور مُختَلَف فيها بين العُلماء، فمثلاً المدرسة الأصوليّة ترى أنّها أربعة هي (العقل والقرآن والسّنّة والإجماع)، بينما بعض مناهج المدرسة الإخبارية تنكر العقل مثلاً.
وعلى أيِّ حال فإنَّ أغلب علماء الفترة الحاليّة هم من المدرسة الأصوليّة ويرون أنَّ المدارك الشّرعيّة الحُجّة هي الأدلّة الأربعة الّتي ذكرناها.
* فالعقل يكشف عن بعض الأحكام، وهذا يبرز دوره كثيراً في الأبواب الفقهيّة وعلى رأسها ما ارتبط منها بقِسم المعاملات.
* والقرآن أمره واضح، فهو مرجع لا خلاف في ضرورة كونه من مصادر التّشريع.
* والسّنّة على ثلاثة أقسام، وهي: قول المعصوم وفعله وتقريره.
أمّا قول المعصوم فكأن يقول رسول الله صلّى الله عليه وآله: تربية الأبناء واجبة على الأبوين، أو: يستحب للمؤمن قراءة القرآن، أو كأن يقول الصّادق عليه السّلام: يجب الخمس في الأموال بعد بلوغها الـحَول؛ فقراءة القرآن لم تكن مستحبّة سابقاً بل لم يكن هنالك قرآن، إلا انّ المعصوم لـمّا شرَّع ذلك صار مستحبّاً، وكذا الخمس فهو وإن كان واجباً قبل زمن الصّادق في غنائم الحرب فقط، إلا انّه بقوله هذا يكون –حسب التّدرّج في تشريع الأحكام- قد شرَّع حكماً من خلال توسعة الخمس للغنائم الشّخصيّة فيما زاد عن حاجة الإنسان بعد مضي سَنة عليها.
وأمّا فعل المعصوم فكأن نلحظ من الإمام الحسين عليه السّلام أو الإمام الهادي عليه السّلام -أو غيرهما من الأئمة الّذين أوصى بهم النّبي في حديث الاثني عشر الوارد لدى المسلمين كافّة- يُكبّر قبل الشّروع في الصّلاة سبع تكبيرات، فإنّنا نفهم من هذا الفعل وجود تشريع إلهي لذلك؛ لأنّ المعصوم لا يخالف الله تعالى، فهو إمّا يفعل المستحب أو الواجب، لأنّه بحكم إيصاء النّبي به وعصمته لا يرتكب المكروه ولا المحرّم.
وقيل: غاية ما يفيده الفعل هو الاستحباب.
وأمّا تقرير المعصوم فكأن نجد شخصاً يضرب عبده ليؤدِّبه جرّاء ارتكابه لأمر مخالف لحقّه مثلاً، وفي أثناء قيامه بذلك إذا بالإمام الكاظم عليه السّلام قد عبر بجانبه، فنظر إليه ومشى دون أن يعترض عليه بشيء؛ فإنّنا عند ذلك نفهم بأنَّ الإمام أقرَّ هذا الفعل وأمضاه كونه غير محرّم ولا مكروه، وإلا لو كان محرّماً أو مكروهاً لبيّن له ذلك بحكم وظيفته كمرشِد إلهي للأمّة؛ فهذا العمل ليس قولاً ولا فعلاً وإنّما إقرار وإمضاء.
وقيل: غاية ما يفيده التّقرير هو الحِل والجواز.
* والإجماع يراد به اتّفاق علماء الأمّة على حكم معيّن بأنّه قد تمَّ تشريعه في الإسلام، فإنَّ هذا الاتّفاق يكشف لنا عن وجود تشريع قد وقع سابقاً وإن كان هذا التّشريع مآله يرجع إلى أحد المصادر التّشريعيّة السّابقة، إلا انّه بالنّتيجة أفاد شيئاً يؤهّله لأن يكون مصدراً رابعاً.
ج- الاحتياط:-
للتعلیق أو مطالَعة التعلیقات اضغط هنا