مع شهيد القديح (جعفر عبد الرزاق)
بالأمس أخذ الإرهاب -الواقع على مسجد الإمام علي (ع)- والد صديقي العزيز، فأرداه صريعاً بدمه، فرحل شهيداً مخلِّفاً وراءه الكبار والصغار من الأبناء والأحفاد.
وطالت يد الإرهاب في نفس الحادث ابن عمتي السيد ماجد الذي لازال يرقد في المستشفى بحالة يُؤسف لها.
لا تكاد تفارقني تلك الصورة المؤلمة التي رأيته بها عندما زرته وهو على سريرٍ تحيط به الأجهزة من كل جانب، ولا وعي له، وهو لا يزال إلى الآن في حالٍ ترثى بما حل بشبابه.
وطالت يد الإرهاب والد أصدقائي وجيراني الأعزاء (آل الناصر) الذين قضيت معهم شطراً طويلاً من حياتي، وعشنا سوياً طفولتنا ومشاعر الجيرة والقُرب. ولم يكتف الإرهاب بذلك حتى شمل صديقي العزيز هاني الذي لازال يرقد تحت إرهاصات العلاج.
وطالت يد الإرهاب صديقي جعفر، فذهب جعفر في غيبوبته الطويلة بحالة يتشعب لها القلب ألماً وحسرة.
لست أستطيع أن أكتب عن كل واحد من هؤلاء الأحبة الأعزاء، ولا يطاوعني قلبي أن أصف أحوالهم وصورهم التي تعيش في ذاكرتي ملونةً بالدماء والمِحَن والأحزان وتتردد بين الحاضر وماضي الذكريات، ولا أن أتكلم عن بقية أقاربي الجرحى والمستشهدين ولا الذين زرتهم في المستشفيات، فهذا شعور لا يدرك أشجانه وأوجاعه جيداً إلا الذي يعيشه بنفسه مباشرة ويتذوق مرارته، فهو حسٌّ فوق الوصف ويعلو على الكلمات ولا يسده إلا الاحتساب عند الله تعالى واللقاء بالماضين في مجد العُلى وفسيح الجنان. فلقد تكاد تفارق البسمة شفاهي طوال هذه الأيام. لكن على رغم ذلك سأكتفي بالتكلم عن صديقي جعفر.
لقد كان الحادث الإرهابي مأساةً بشرية ودينية ووطنية وفشلاً إنسانياً بكل المعايير القيَمية، بالدرجة التي لم يَكُن المرء حينها يَقْدر على أداء الواجب كما ينبغي وهو في حيرة يزور مَن ويعَقِّب على مَن؟ سيما العائد من سفر …، سوى بذْل الجهد تلو الجهد قدر المستطاع، بما هو ظاهر كالزيارة وبما هو غائب كالابتهال لله والدعاء ..، فالشهداء الذين سقطوا حينها بلغوا العشرين وأكثر، والجرحى يَربو عددهم على المئة، لدرجة أن بعض الأصحاب عاتبني يوماً على قِلّة زيارتي فاتحة شهيدهم.
جعفر كان شاباً وسيماً وطيباً وحنوناً كما عرفته من قريب، ولأنه طيب وابن أطايب اختار الله تعالى له أطيب الأمور كما وعد سبحانه المؤمنين المصلين؛ و{الطيّباتُ للطيّبين، والطيّبون للطيّبات}[النور: ٢٦].
وكان جعفر مؤدَّباً للحد الذي لم أجده يوماً ولا سمعت عنه مرةً أنه آذى أحداً، وهذه شهادة أشهد بها أمام الله تعالى.
كان جعفر متواضعاً أريحياً رحبَ المُحَيّا، تعلو شفاهه البسمة ويملأ قلبه الصفاء.
هكذا كان مذ عرفته في المدرسة وطوال العِشرة التي قضيناها سوية بعد مراحل المدرسة.
لكن جعفر اليوم أبى إلا أن يوصل لنا خبر استشهاده
أبى إلا أن يرحل دون أن يعانقنا ودون أن يودعنا
رحل جعفر بعد أن بقي مدةً طويلة يودعنا بصمته
رحل غريباً نقلته آمال محبيه إلى غير دياره عساه يفيق ويفتح عينيه وتعود له البسمة ويَرْجِع كما عرفوه، لكن اليوم وبعد صمت جعفر الطويل الممتد ستعود لنا جنازة جعفر وعليها روحه ترفرف فرحاً بالفوز والرضا والطمأنينة
وسنسميه إلى الأبد (جعفر الشهيد)
وسنفخر بأن صديقنا رحل شهيداً وكان آخر لقائه بربه وأحِبتِه الصلاة
وسنجعل من جعفرٍ الشهيد فخراً ومناراً تتزين به سماء القطيف العظيمة الوفية
وستظل في قلوب أحبته الحسرة على فراق بسمته وضياء عينيه
وسنبقى نردد عند كل ذكراه:
رحل جعفر دون أن يعانقنا ودون أن يودعنا
لقد رحل جعفر بهدوئه وصمْته
رحل جعفر دون أن يفتح عينيه ودون أن يوصينا بشيء
أمين السعيدي
٢٥ شهر رمضان ١٤٣٦
للتعلیق أو مطالَعة التعلیقات اضغط هنا