عتبُنا على إخواننا المسيحيين
بقلم: سماحة السيد أمين السعيدي حفظه الله
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد..
إنْ كان إخواننا (في الدِّين) قد نكبونا وبغوا علينا واستباحوا دماءنا ودماءكم وأعراضنا وأعراضكم ونساءنا ونساءكم، ونَكبوا قضية الحسين صلوات الله وسلامه عليه المسلَّم بها بين كافة الأطياف، فنكبوها بذرائع العصبية من جهة والأحقاد من جهة أخرى وغيرها من العلل التي لا تخضع لوِزان العلم والحق وحده، فما عذر إخواننا (في الإنسانية) بارتكابهم نفس النكبة وتخلفهم عن القضية التي تعنيهم قبل أن تعنينا؟!
فهل أنّ نفس العلل والأسباب هي التي تجعلكم في بُعد وخسران؟ أم هنالك علل أخرى لا نَعلمها؟
فإن كانت العلة تعود إلى ذات العلل؛ فأنتم وشأنكم، وإن كانت لا تعود لذات العلل التعصبية والأحقادية وأنتم دعاة الحرية والإنسانية كما تَدَّعون؛ فما هي العلة في ذلك إذاً؟
شبهةٌ علمية:-
ولِنَجعل كلامنا علمياً بعيداً عن التشدق والظنون الراجحة من ناحية أو المرجوحة من أخرى؛ فلو قيل في ردٍّ علمي –ونحن أبناء الدليل ونحترم صناعة العلم- بأنّ قضية الحسين إنما هي من المسائل المتعلقة بالمسلمين والدين الإسلامي فحسب؛ وبالتالي لا يحق لأحد العتب –مثلاً- على المسيحيين بعدم إحيائهم لشعائرها؛ إذ أنّ إحياء ذلك فرع الإيمان بأصل الإسلام، ومادمنا لم نؤمن بالإسلام للآن؛ فلا يتوجّه لنا تكليف بالعمل بفروعه ولا يصح العتب علينا بشيء منها؛ وهذا يعني أن مسار البحث علمياً إنما يَتَّجه أولاً لأصول الدين وإثباتها والإيمان بها، وليس فروعه، وقضية الحسين من الفروع كما هو واضح، والحال أننا لم نؤمن بالأصول لنخاطَب بالفروع المتفرِّعة على الأصول؛ فالعرش ثم النقش.
والجواب:-
أولاً:
رد الشبهة علمياً بالواقع الإنساني:
على رغم ما يكتنفه هذا الرد من السقطات الإنسانية على مستوى المعنى الإنساني؛ إذ أنّ كل قضية إنسانية هي معنيّة باهتمام كافة العقلاء، والتعامل معها من منطلقاتها العقلائية، والعقل والإنسانية مَبدآن مشتركان لكل البشر، فضلاً عن جامع الأُخوّة الذي يمتد لأمنا الواحدة وأبينا الواحد؛ فكل واحدٍ منا جاء من رحم حواء وصلب آدم؛ فنحن أخوة خرجنا من رحمٍ واحد وصلبٍ واحد.
هذا من ناحية.
ومن أخرى؛ فإنّ قضية الحسين سلام الله عليه هي قضية عالمية، أبعد بكثير عن حدود الاعتقادات المحدودة بطبيعتها والمحصورة بزاوية الإيمان والاعتناق؛ ذلك لأنها تمثِّل قيمتها القصوى على منحى الصراع الدائم بين السلام والإرهاب واغتصاب المِلْكية ونقض المواثيق والعهود، والصراع الدائم بين الجهل والعلم، والدائر بين الحق والباطل، وبين الظالم والمظلوم، وبين شواهد الحكمة والنصر والغلبة والصدق والصبر والحلم والحمية والعطاء والغيرة والحماسة والشجاعة والشهامة والتسامح والشرف والصداقة الوفية والطهارة وشواهد الأوغاد والحماقة والخضوع والذل والضعف والحقد والذبول والغدر والاستغلال والنكبة والطمع والجشع والحسد والخِسّة والأنانية والجبن والكذب والقبلية ونجاسة النفس وضيق الذات ومعالي الأخلاق الرفيعة في مختلف عناصر الكرم والجود والسخاء قبال مختلف عناصر القسوة والبخل والدناءة والحقارة والتسافل؛ ففي كربلاء كانت كل قيم الفضيلة وكل قيم الرذيلة حاضرة؛ وواضح أنّ هذه القيم برحمانيتها وشيطانيتها هي مبادئ تتعلق بذات الإنسان نفسه وشخصه، كل إنسان دون استثناء؛ وهو بداهة عالميتها قاطبة إلى الأبد، شاء من شاء وأبى من أبى.
بل نقول: إنّ الكلمات التي أَطلَقها فلاسفة كبراء وساسة معتد بهم في العالم البشري، على رغم اختلاف اتجاهاتهم وانتماءاتهم الدينية والمذهبية والسياسية والعِرقية؛ لَهي دليلٌ صارخ على وعيهم الجميل والطيب بهذه الحقيقة البيضاء؛ فمثلاً أقوال كل مِن جون أشر (الباحث الكندي) وادورد براون (المستشرق الإنجليزي) وفريا ستارك (الكاتبة الإنجليزية) وآرمان رينو (الشاعر الفرنسي) وتوماس ماساريك (الفيلسوف والناشط السياسي) ونصري سهلب (المحامي والأديب والناشط السياسي المسيحي) وتوماس لايل (الكاتب الإنجليزي) و(الزعيم الهندي الشهير) مهاتما غاندي وماربين (المستشرق الألماني) ومودوكابري ريس وتاملاس توندون (الرئيس الهندوسي السابق للمؤتمر الوطني الهندي) ووليم لوفتس (الآثاري الإنجليزي) وكارلس السير برسي سايكوس ديكنز (الكاتب الإنجليزي) وانطوان بارا (المؤلف المسيحي) وغيرهم الكثير؛ فما أقوال هؤلاء الرِّجالات وغيرهم في الحسين عليه الصلاة والسلام إلا حقيقة تصرخ وتزخر بما أذعنته نفوسهم من الحق الذي له عليهم وعلى كل إنسان حر يَنتجب الفضائل على الرذائل، على خلاف كل من يقف ضد الحسين؛ إذ لا تجد في نفسه إلا نجائب الرذيلة وسفالة الشيطان.
وإليك ثوابت ذلك بمتونها التي لم تعد تخفى على قارئ مهما حاول البعض أن يشكك في صدور مقولةٍ ما مما شاع منها بفعل قلة اطلاعه المحدود بتلك المقولة وعدم معرفته بغيرها …:
يقول الكندي جون في كلمته الشهيرة: (إنّ مأساة الحسين بن علي تنطوي على أسمى معاني الاستشهاد في سبيل العدل الاجتماعي ..)؛ لاحظ وأنت الخبير ذيل العبارة (العدل الاجتماعي)؛ أي أنّ قضية الحسين قضية لكل الإنسان ومعالمها لكل العالَم، فهي غير محصورة بإطار الاعتقاد والإيمان المحدود والضَّيِّق بطبيعته.
ويقول ادورد: (وهل ثم قلب لا يغشاه الحزن والألم حين يسمع حديث كربلاء؟!
وحتى غير المسلمين لا يسعهم إنكار طهارة الروح التي حضرت هذه الحركة تحت ظل الإسلام) وفي ترجمة أخرى: (وحتى غير المسلمين لا يسعهم إنكار طهارة الروح التي وقعت هذه المعركة في ظلها). لماذا حتى غير المسلمين رغم أنها حركة وقعت تحت رعاية الإسلام العظيم وظله الفذ الفريد؟
أدع الجواب لكل حرٍّ نزيهٍ في رأيه سليمٍ في منطفه.
وتقول فريا: (إنّ الشيعة في جميع أنحاء العالم الإسلامي يحيون ذكرى الحسين ومقتله ويعلنون الحِداد عليه في عشرة محرم الأولى كلها على مسافة غير بعيدة من كربلاء. جعجع الحسين إلى جهة البادية، وظل يتجول حتى نزل في كربلاء، وهناك نصب مخيمه، بينما أحاط به أعداؤه ومنعوا موارد الماء عنه، وما تزال تفصيلات تلك الوقائع واضحة جلية في أفكار الناس إلى يومنا هذا كما كانت قبل 1257 سنة، وليس من الممكن لمن يزور هذه المدن المقدسة أن يستفيد كثيراً من زيارته ما لم يقف على شيء من هذه القصة، لأن مأساة الحسين تتغلغل في كل شيء حتى تصل إلى الأسس، وهي من القصص القليلة التي لا أستطيع قراءتها قط من دون أن ينتابني البكاء)؛ لأن البكاء حسٌّ، والحس البشري يتحرَّك بمحركاته الإنسانية؛ ولأن الحسين حركةٌ في الحسِّ كله؛ لذا كان لابد للحس السليم أن يتأثر بقراءة قصته حتى لو قرأها الحسُّ آلاف المرات؛ والحس ملَكة في كل كائنات البشر.
ويقول آرمان: (أخيراً؛ حينما فقد الحسين كل أصحابه وأبنائه، سقط هو أيضاً، بجسم مضرَّج بالدماء ومقطَّع على الأرض، ومنذ ذلك الحين تبكي السماء في كل مساء)؛ وهذه إشارة ذكية منه إلى معرفته بتاريخ كربلاء بما تتضمنه إشارته القيمة هذه إلى الحمرة التي تتعقَّب كوكب الشمس؛ حيث تَذكر المصادر التاريخية مؤكِّدة بأنّ الحمرة التي تكون في السماء مع غروب الشمس .. لم تكن قبل وقعة الطف على طول التاريخ البشري الممتد قبلها، وأنّ الناس بدأت ترى تلك الحمرة في الأفق منذ لحظة العاشر من محرَّم بما جرى على هذا الإمام الغريب المظلوم والقائد العظيم الذي وفى لأصحابه، وأبى إلا أن يسقط على الأرض مثلهم وأن يفي لدمائهم وللحقيقة.
وفي مقولةٍ للفيلسوف الناشط السياسي توماس ماساريك يقول توماس: (رغم أن قساوستنا يؤثرون على مشاعر الناس عبر ذكر مصائب السيد المسيح، إلا أنك لا تجد لدى أتباع المسيح ذلك الحماس والانفعال الَّذَين نجدهما لدى أتباع الحسين. يبدو أن مصائب المسيح في قبال مصائب الحسين كقشعة في مقابل طودٍ عظيم)؛ والقشعة من أحد معانيها أنها تُطْلَق على القطعة من الطين اليابس، والطود يطلق في جملة معانيه على الثبات وعلى الجبل العظيم الذاهب صُعُداً في الجو لشدة عظمته وكِبَرِه وامتداده بامتداد البصر ورسوخه الشديد واستقراره الصلب وامتناعه عن التحريك وهزِّ الرياح، ويُشَبَّه به غيرُه من كل مرتفعٍ أو عظيم أو راسخ، وإذا أضيفت له كلمة عظيم ثبت أو أكَّد أو زاد ذلك في شموخ صفته أبعد مما هي عليه صفة الطود العظيمة وحدها.
وصدر عن المحامي الناشط السياسي نصري سهلب قوله: (احتضن الحسين وآل البيت الموت في كربلاء، فعاشوا في ضمير الأمة خالدين إلى الأبد).
ويقول توماس لايل: (لم يكن هناك أي نوع من الوحشية أو الهمجية، ولم ينعدم الضبط بين الناس .. فشعرت في تلك اللحظة وخلال مواكب العزاء وما زلت أشعر بأني توصلت في تلك اللحظة إلى جميع ما هو حسن وممتلئ بالحيوية في الإسلام، وأيقنت بأن الورع الكامن في هؤلاء الناس والحماسة المتدفقة منهم بوسعهما أن يهزا العالم هزاً فيما لو وجّها توجيهاً صالحاً وانتهجا السبل القويمة، ولا غرو فلهؤلاء الناس واقعية فطرية في شؤون الدين)؛ أقول: والواقعية الفطرية -هي ذاتها كل ما هو حسن وممتلئ بالحيوية والورع الكامن والحماسة المتدفقة- التي بوسعها أن تهز العالَم هزاً.
وأما مهاتما محرِّر الهند؛ فيقول: (أنا هندوسي بالولادة، ومع ذلك فلست أعرف كثيراً من الهندوسية، وإني أعزم أن أقوم بدراسة دقيقة لديانتي نفسها وبدراسة سائر الأديان على قدر طاقتي. وقال: لقد تناقشت مع بعض الأصدقاء المسلمين وشعرت بأنني كنت أطمع في أن أكون صديقاً صدوقاً للمسلمين. وبعد دراسة عميقة لسائر الأديان عرف الإسلام بشخصية الإمام الحسين).
وقال: (لقد طالعت بدقة حياة الإمام الحسين، شهيد الإسلام الكبير، ودققت النظر في صفحات كربلاء، واتضح لي أن الهند إذا أرادت إحراز النصر فلابد لها من اقتفاء سيرة الحسين). وخاطَب الشعب الهندي قائلاً: (على الهند إذا أرادت أن تنتصر فعليها أن تقتدي بالإمام الحسين). وقال في مقولته الشهيرة: (تعلمت من الحسين كيف أكون مظلوماً فأنتصر).
ويقول ماربين: (قدَّم الحسين للعالم درساً في التضحية والفداء من خلال التضحية بأعز الناس لديه ومن خلال إثبات مظلوميته وأحقيته، وأَدخَل الإسلام والمسلمين في سجل التاريخ ورَفَع صيتهما. لقد أَثبت هذا الجندي الباسل في العالم الإسلامي لجميع البشر أن الظلم والجور لا دوام لهما، وأن صَرْح الظلم مهما بدا راسخاً وهائلاً في الظاهر؛ إلا أنه لا يعدو أن يكون أمام الحق والحقيقة إلا كريشة في مهب الريح).
ويقول مودوكابري ريس: (يقال في مجالس العزاء أن الحسين ضحى بنفسه لصيانة شرف وأعراض الناس ولحفظ حرمة الإسلام، ولم يرضخ لتسلط ونزوات يزيد. إذاً تعالوا نتخذه لنا قدوة، لنتخلص من نير الاستعمار، وأن نُفَضِّل الموت الكريم على الحياة الذليلة)؛ بداهة أنّ حِفْظَ حرمة الإسلام هي ذاتها صيانة شرف الناس وأعراضهم.
ويقول تاملاس توندون: (هذه التضحيات الكبرى من قبيل شهادة الإمام الحسين رفعت مستوى الفكر البشري، وخليق بهذه الذكرى أن تبقى إلى الأبد، وتذكر على الدوام)؛ إذاً هي قضية فكر بشري لجميع البشرية، وليست قضية مذهبٍ أو دينٍ واحدٍ هنا أو هناك.
ويقول وليم لوفتس: (لقد قدَّم الحسين بن علي أبلغ شهادة في تاريخ الإنسانية وارتفع بمأساته إلى مستوى البطولة الفذة).
ويقول الإنجليزي المعروف كارلس السير برسي سايكوس ديكنز: (إنْ كان الإمام الحسين قد حارب من أجل أهداف دنيوية؛ فإنني لا أدرك لماذا اصطحب معه النساء والصبية والأطفال؟!)
وقال: (الإمام الحسين وعصبته القليلة المؤمنة عَزموا على الكفاح حتى الموت وقاتلوا ببطولة وبسالة ظلت تتحدى إعجابنا وإكبارنا عبر القرون حتى يومنا هذا).
ويقول السير برسي سايكوس: (حقاً إنّ الشجاعة والبطولة التي أبدتها هذه الفئة القليلة على درجةٍ بحيث دَفعتْ كل من سمعها إلى إطرائها والثناء عليها لا إرادياً، هذه الفئة الشجاعة الشريفة جعلت لنفسها صيتاً عالياً وخالداً لا زوال له إلى الأبد)؛ ذلك لأنها فئة إنسانية بلْوَرَها رجل الإنسانية، والفئة الإنسانية تمتد بامتداد إنسانية الإنسان، وإنسانية الإنسان أبدية؛ إذاً فهي كذلك خالدة معها. والإنسانية قضيةٌ مبادؤها لا تختص بجماعة معينة، بل تعم كل البشرية؛ إذاً الحسين لكل البشريةِ دون حدٍّ أو استثناء.
ومن الأقوال الكثيرة نختم بقول للباحث والمؤلِّف انطوان بارا صاحب كتاب “الحسين في الفكر المسيحي” حيث يقول: (ملحمة الحسين لا تختص بالشيعة أو السنة أو المسلمين، بل تتعداهم إلى كل مؤمن.
حينما يطّلع العالَم والمفكرون على سيرة الحسين ينبهرون به، كما انبهروا بسيرة علي بن أبي طالب.
الحسين في قلبي) …..
ثانياً:
رد الشبهة علمياً بنصوص الكتاب المقدَّس:
لكن على رغم ذلك فإنّ هذا الرد لو تفوَّه به أحد؛ فيمكن اعتباره –في صورته الكلية- رداً جيداً وعلمياً يستحق النظر فيه؛ ذلك باعتبار ما يستبطنه من الشبهة التي قد تَعْرض لأذهان الناس والمؤمنين وأهل الفكر والمعرفة.
فإذا أردنا أن نجيب عليه بصناعة علمية واعية ومقْنِعة؛ فأقل ما نقوله هو أنّ قضية الحسين عليه الصلاة والسلام هي من فروع المعتقدات المسيحية ومن أبجديات الإنجيل ومفادات النبي المسيح صلوات الله وسلامه عليه، ومعلوم أنّ يسوع عليه الصلاة والسلام أسبَق عن دين الإسلام وجاء قبله؛ وبالتالي فإنّ المسيحيين معنيون بقضية الحسين قبل المسلمين؛ فيكون موقف المسلمين تجاه قضية الحسين صلوات الله وسلامه عليه هو موقف الشاد لعضد إخوانهم المسيحيين، وإن كنا نحمد الله تعالى أنَّ بعض الشذاذ من المسلمين للآن لم ينسبوا –بصورة علنية واضحة- خصوص قضية الحسين عليه الصلاة والسلام وأتباعه للنصرانية تأليباً لعقول العامة عليهم واستهواءً للأهواء ضدهم.
وأما كيف تكون قضية الحسين قضية يعنى بها المسيح قبل غيرهم من المسلمين؛ فهذا الذي يحتاج للبرهنة العلمية الفاحصة؛ وهنا يمكن أن نقتصر في ذلك على استعراض مقال علمي قيِّم كتبته الأخت إيزابيل بنيامين بعنوان (من هو قتيل شاطئ الفرات في الكتاب المقدَّس؟) تقول فيه:
(نبوءة كتاب الرب المقدس:
من هو قتيل شاطئ الفرات؟ ضِمن دراستي الكهنوتية للكتاب المقدس والتي استمرت سنوات وأنا أتفكر في نص غريب موجود في الكتاب المقدس لكوني عراقية ونهر الفرات يمر في البلد الذي أسكنه. سألت عن هذا النص الكثير من قساوستنا وعلمائنا وأساتذتنا وراجعت التفاسير والمراجع الخاصة بتفسير الكتاب المقدس ولكن يبدو أن الجميع تواطأ على السكوت. حتى ألتقيت بقداسة الانبا المقدس البطريرك الماروني: صبيح بولس بيروتي، وسألته عن النص الذي يذكر بأن هناك ذبيح على شاطئ الفرات، فمن يكون؟
فنظر لي ملياً ثم قال: لولا أنك مسيحية وباحثة في علم اللاهوت وأن هذا ضمن دراساتك ما أجبتك على سؤالك، ولكني سأجيب.
قال: أولاً أن شاطئ النبوءة يمتد طولاً على امتداد نهر الفرات من منابعه وحتى مصبه في البصرة، ولكنني استطعت أن أحصر منقطة الحدث في صحراء تقع في العراق بالقرب من بابل.
الثاني: بحثت أيضا عن تفسير هذه النبوءة فوجدت أنه من تاريخ نزول هذه النبوءة وحتى يومنا هذا لم تتحقق هذه النبوءة إلا مرة واحدة.
قلت له: وأين المكان ومن هو الذبيح؟
قال: أن النبوءة تتحدث عن شخص مقدس “ابن نبي” وهو سيّد عظيم مقدس اسمه “اله سين”.
ولما سألت قداسة الأب بطرس دنخا كبير الأساقفة عن معنى كلمة “إله سين” قال: أن العرب في جنوب العراق يقلبون الهاء حاء فتصبح “الحسين”. هذا هو المذبوح بشاطئ الفرات وهي نبوءة تتعلق بابن نبي مقدس جداً وهو سيكون سيّداً في السماء.
من هذه النقطة بحثت وتعمقت، والآن أضع هذا النص بين يدي الإخوان لعلي أحظى بإطلالة شافية كافية وافية، مع أن النص واضح لأنه يُشير إلى معركة مصيرية كبيرة بجانب شط الفرات في أرض يُقال لها “كركميش” من أجْل إرجاع خلافة مغتصبة، لأن النص يقول بأنه هذا السيّد ذهب ليرد سلطته.
وعندما بحثت في معجم الكتاب المقدس وجدت أن “كركميش” تعني كربلاء. فمن هذا السيد الذي ذُبح بجانب شط الفرات ولماذا يصف الكتاب المقدس هذه الواقعة بهذا الوصف المخيف وكأَنَّ مصير البشرية يتوقف عليها؟!
صحيح أني وضعت أحاديث وأشياء تدل على هذه الواقعة، لكن كلها افتراضات لأني لست من داخل الحدث الإسلامي، ولكن هذا الشيء موجود على شكل نبوءة لم يستطع أحد أن يغيرها أو يتلاعب بها، ومنذ كتابتها منذ آلاف السنين لم تتحقق هذه النبوءة إلا في الإسلام من حيث المكان والشخص المقتول كما يقول كبير علماء أهل الكتاب والمتضلّع بالكتب السماوية “كعب الأحبار بن ماتح”. أتمنى القراءة بتدبر وتروي وعدم الانسياق وراء العاطفة وإنما يتم تحكيم العقل.
جاء في سفر إرمياء الإصحاح 46 : فما 6 ـ 10 النبوءة التالية وهي تحكي عن المستقبل البعيد حيث كان وصف إرمياء النبي صحيح مائة بالمائة فقد كان الوصف مهيباً رهيباً كأنك ترى ذلك المصروع والجيوش التي التفت حوله: “أسرجوا الخيل، واصعدوا أيها الفرسان وانتصبوا بالخوذ اصقلوا الرماح البسوا الدروع. لماذا أراهم مرتعبين ومدبرين إلى الوراء، وقد تحطمت أبطالهم وفروا هاربين، في الشمال بجانب نهر الفرات حيث عثروا وسقطوا لأن للسيد رب الجنود ذبيحة عند شط الفرات”.
ثم ماذا تقول النبوءة عن أسباب ذهاب هذا السيد إلى ذلك المكان؟ تقول: “ذهب ليرُد سلطته إلى كركميش ليحارب عند الفرات في الصحراء العظيمة التي يقال لها رعاوي عند الفرات”.
وكلمة كركميش تعني كربلاء، وكلمة رعاوي هي الصحراء الواسعة التي تمتد من حدود بابل إلى عرعر والتي يسميها الكتاب المقدس “رعاوي” وهي بالقرب من مدفن مقدَّس لأهل الكتاب اسمه النواويس، ولا يُعرف بالضبط السر في وجود دور عبادة لأهل الكتاب في هذا المكان تحيط به المقابر، ولكن الأب أنطوان يوسف فرغاني يقول: بأن أكثر أهل الكتاب دُفنوا في هذا المكان لأنهم كانوا ينتظرون ذلك السيد المذبوح لينصروه لأنه مقدَّس جداً، ولكن قدومه تأخر وماتوا وهم ينتظروه، ولذلك لم يُقتل مع هذا المقدس عند نهر الفرات سوى نصارى اثنين يقال أنهم اعتنقوا دين هذا المقدس. لم يصف أحد من شخصيات الأديان نفسه بأنه هو المذبوح هناك على ساحل كركميش حيث رعاوي الصحراء القاحلة.
فقط الحسين عليه مراحم الرب وبركاته يصف نفسه بأنه المذبوح بجانب الفرات وأنه ابن الذبيحين، وهذا ما قاله كعب الأحبار المتضلِّع بالتوراة، عندما مرّ بجانب الفرات في كربلاء حيث قال: “ما مررت في هذا المكان إلا وتصورت نفسي أنا المذبوح حتى ذُبح الحسين فقلنا هذا هو لأننا نروي أن ابن نبي يُذبح في هذا المكان”.
ملاحظة: إن كعب الاحبار قال ذلك أمام حشد من الصحابة وغيرهم كما في الرواية التالية: “ولمّا أسلم كعب الأحبار وقدم جعل أهل المدينة يسألونه عن الملاحم الّتي تكون في آخر الزمان وكعب يخبرهم بأنواع الملاحم والفتن ثمّ قال كعب: نعم، وأعظمها فتنة وملحمة هي الملحمة التي لا تنسى أبداً، وهو الفساد الذي ذكره الله في الكتب، وقد ذكره في كتابكم بقوله: {ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ والبَحرِ} وإنّما فُتح بقتل هابيل، ويُختم بقتل الحسين” المصدر انظر مقتل الخوارزمي الجزء الأول ص162.
هذا إذا أخذنا بنظر الاعتبار رواية إمام أهل السنة أحمد التي تؤكد بأن ابن النبي يُقتل بشاطئ الفرات، وإليك الرواية:
“روى الإمام أحمد بن حنبل من حديث علي بن أبي طالب -في ص85 من الجزء الأول- من مسنده، بالإسناد إلى عبد الله بن نجا عن أبيه: قال: “دخلتُ على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ذات يوم وعيناه تفيضان، قلت: يا نبي الله، ما شأن عينيك تفيضان؟ قال: قام من عندي جبرئيل قبل، فحدثني أن ولدي الحسين يقتل بشط الفرات”.
أو في الرواية التالية: “روى الشافعي -في باب إنذار النبي (صلى الله عليه وآله) بما سيحدث بعده، من كتابه أعلام النبوة- عن عروة، عن عائشة، قالت: دخل الحسين بن علي على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يوحى إليه، فقال جبرائيل: إنّ أُمّتك ستفتتن بعدك وتقتل ابنك هذا من بعدك، ومدّ يده فأتاه بتربة بيضاء، وقال: في هذه يُقتل ابنك، اسمها الطف، قال: فلما ذهب جبرائيل، خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أصحابه والتربة بيده -وفيهم: أبو بكر، وعمر، وعلي، وحذيفة، وعثمان، وأبو ذر- وهو يبكي، فقالوا: ما يبكيك يا رسول الله؟ فقال:
أخبرني جبرائيل: أن ابني الحسين يقتل بعدي”. بحثت فلم أجد غير ذلك تفسيراً، فهل هناك إضافة لا أعرفها؟) إيزابيل بنيامين ماما آشوري العراق. انتهى.
فدقِّقْ وتفكَّر وتأمَّل تَتفطَّن.
ودُوْنك كذلك حادثة العالم المسيحي الجليل الذي وقع بيده رأس الإمام الحسين عليه الصلاة والسلام وما صدر عنه هو وتلامذته، وغيرها مما أُثِر من الوقائع المسيحية الحسينية العظيمة الموثَّقة ..
أقول: لذا ثمة خطأ في أن يقال: (لو كان الحسين منا لَنَشرنا له في كل أرض راية، ولأَقمنا له في كل أرض منبرا، ولَدَعونا الناس إلى المسيحية باسم الحسين)! والخطأ هنا بات واضحاً بعد الذي أوضحناه.
فنأمل أن نجد لكم حضوراً في عاشوراء متميزاً بما يليق بكم وبالسيد المسيح يوم الغد ويوم الأربعين، وفي كل عام، فأنتم أصحاب القضية ودعاتها وأهل المكان ونحن ضيوفكم ومعزوكم.
إنّنا حقيقةً نستحي عندما نجد إخواننا المسيحيين لا يحيون قضية الحسين وكأنهم غير معنيين بها! أو عندما نجد بعض المؤمنين الخلَّص منهم يحْيون القضية على استحياء في مجالس قليلة ونادرة وصغيرة! وإن كنا نفخر ونعتز كثيراً بتلك المجالس الفريدة الإيمانية الطيبة التي وقع بأيدينا مَشاهد لبعضها بما تتضمنه من إقامة لمجموعات متعددة أو منفردة من النساء المسيحيات المؤمنات لمراسم قضية عاشوراء؛ إذ الأمور تؤخذ بمعانيها لا بكمِّها وكثرتها، لكن هذا لا يكفي لأن يكون عذراً لبقية الأخوة المسيحيين بما لهم من العدد الكبير على المستوى البشري في العالم في ظل قضية مِلْكيتها لكل إنسان ويجب تعريف الكل عنها وإحياء الفكر والقلوب والعقول والنفوس بها في زمنٍ بات أحوج ما يكون إليها بأمرٍ من السيد المسيح.
فبماذا ستجيبون يسوع والحسين، وماذا سيكون عذركم عند عتبهما عليكم غداً؟!
وإليكم ختاماً هذه الحقيقة الفذة:
إنْ أراد أحدٌ من أهل المِلل والديانات والتوجهات الأخرى أن تكون له كلمة خالدة للأبد وأن يكون له ذكر فذ لا ينقطع؛ فليقل كلمته الحق في الحسين؛ فإنها تخلد بخلود الحسين الأبدي كما خلدتْ كلمات مَن قال رأيه الحق فيه. “والموعظةُ كهفٌ لِـمَن وعاها”. والسلام على من اتقى واهتدى.
أمين السعيدي
ليلة العاشر من محرم الحرام 1437هـ
للتعلیق أو مطالَعة التعلیقات اضغط هنا