هل العصمة تنافى الاختيار ؟● السائل:
السلام عليكم و رحمةالله وبركاته. الأنبياء والأئمة”عليهم السلام”معصومون عن الخطأ فهل العصمة جبر أم لا؟
● رد سماحة السّيد أمين السعيدي حفظه الله:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أثابكم الله. إن الله سبحانه وتعالى لا يجبر عباده على شيء، والعصمة داخلة تحت هذا النطاق؛ لذا قال القرآن الكريم بأن الله “يَجتبي” و”يختار” و”يَصطفي” من عباده رسلاً وأنبياء، فهو يختار حسب قوة الإيمان والصلاح، ثم يؤيِّد ذلك الصالح بعلمه وأسراره سبحانه، فيرفع منزلته؛ وهذا قانون عام شامل للجميع، فالقرآن يقول في صياغة هذا القانون الإلهي العام: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69]؛ فكل من جاهد في الله هداه سبيله، نعم قد يصطفي الله شخصاً منذ صغره ونعومة أظفاره كعيسى عليه الصلاة والسلام مثلاً، وما ذلك إلا لوجود مقومات الاصطفاء فيه، ولو على نحو الفطرة والصلب وشرائط البيئة التي يوجَد فيها، فالله عالم بكل شيء، ويصطفي وفق علمه بالغيوب والمستقبليات. هذا والفلاسفة يثبتون في بحوثهم أن العلوم الإلهية ليست تحصيلية كما يدعي المناطقة في علم المنطق، وإنما هي علوم حضورية، تَحضر عند الإنسان -ذي النفس الناطقة- بقدر صفائه ومؤلهياته الإيمانية مثلها مثل حضور الألم عنده عند التألم؛ فالإنسان بقدر اتصاله بـ(عقل العلم) المسمى عندهم بـ(الصادر الأول والعقل المجرَّد الأول)؛ لذا لو كان صفاء الإنسان منذ الصغر عالياً فاتصاله بمركز المعلم -بالعقل المجرد- يكون عالياً، فينهل من ذلك العقل بذلك المقدار، فالعمدة في المسألة مقدار الصفاء والاعتدال والإيمان والتعالي في قمم المعالي. ثم بعد أن يلقى الإنسان من الله هدايةً وترقية وفق هذه الشرائط يبقى بكامل اختياره في أن ينحرف ويعصي ويرتكب القبيح، من هنا نجد القرآن الكريم يقول عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلّم بعد اصطفائه وحبوه بالرسالة الإسلامية العظيمة: {وَلَوْ تَقَوّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقَاوِيلِ * لأخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنكُمْ مّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ * وَإِنّهُ لَتَذْكِرَةٌ لّلْمُتّقِينَ … وَإِنّهُ لَحَقّ الْيَقِينِ} [الحاقة: آية 44 وما بعدها]، وهذا يدل على أن العصمة ليست بالجبر، وأن المعصوم عليه الصلاة والسلام له نحوُ قدرةٍ واختيار كغيره في ارتكاب القبيح وعدم ارتكابه، ويكفي منه أن يتقوَّل بعض الأقاويل ويفتري بكلمة بسيطة على الله تعالى فينال الخذلان والخسران منه سبحانه. فهو -أي المعصوم- أيضاً إذا ارتكب القبيح يخسر كما خسر إبليس فأبعده الله تعالى القائل في كتابه المجيد على لسان نبيه الكريم: {قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [الأحقاف:8]، ولا شك أن المعصوم يبغض الوقوع في العذاب والابتعاد عن الله تعالى عند بلوغه لهذه المرتبة العظيمة مع الله عز وجل كما سنبيِّن. من هنا نرى مثلاً (آصف بن برخيا) فهو رغم أنه كان يمتلك شيئاً من حروف اسم الله الأعظم التي لا ينال منها شخصٌ عادي، فهو رغم كونه من العُبّاد الزُّهّاد الذين وصلوا لمرتبة القدرة على التصرف في بعض جهات الكون وامتلاك حظٍ من حروف الاسم الإلهي الأعظم، إلا أنه اختار الانحراف فيما بعد، واستعمل تلك الحروف من الاسم الأعظم في مجال السقوط والانحراف، فواجه بذلك نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام!! نعم؛ لم يكن (آصف بن برخيا) نبياً، فانحرافه وقع على أنه عبد من العُـبّاد ترقَّى في مراتب الإيمان والصفاء فعَثر على ما عثر عليه، مثله مثل إبليس، الذي كان أفضل قومه ولم يكن نبياً، فأهلك الله تعالى قومه بسبب معاصيهم، وكرمه برفعه إلى السماء وجعله مع الملائكة، وحباه بقدرات عظيمة هائلة، ثم انحرف وضلَّ ضلالاً مبيناً فحلّت عليه لعنة الله والناس أجمعين وطرد وأُبعد إلى أبد الآبدين. أما المعصوم من الأنبياء والرسل والأوصياء فيستحيل عليهم عقلاً أن ينحرفوا، لا أنه يستحيل أن يَعصوا، كلا، فالمعصية مقدورة لديهم، غايته أن ذلك يستحيل صدوره منهم استحالة عقلية ذلك لأن الله (العالم) بكل شيء، (الحكيم)، (العادل)، يجب عليه أن يختار للنبوة والوصاية من يكون في علمه سبحان على هداية أبدية؛ وإلا استلزم ذلك عدم إمكان الوثوق بالأنبياء والأوصياء، ومن ثم سقوط العدل الإلهي واللطف الرباني؛ لأنه عند الإيمان بإمكان ارتكابهم للمعصية سيشكِّك العباد بنبوتهم وصلاحهم للهداية، فالهادي يجب أن يكون على هدي وإلا فاقد الشيء لا يعطيه، ففاقد الماء كيف يسقي الماء؟ لا يمكن له ذلك، ونفسه لو كان يمكن وقوع الانحراف من المعصومين، إذ عندها سيقول الناس لربما هذا النبي في الفعل والحكم الفلاني أخطأ أو انحرف، وكذا لربما في الفعل والحكم الآخر أخطأ وانحرف، وهكذا…، فيَنسحب الأمر على كل شيء يُخبِر عنه النبي أو يفعله؛ فينتهي الأمر إلى سقوط النبوة والدين، وينفتح الباب أمام المشكّكين وأهل الإغواء والانحلال لإضلال العباد. لذا كان يجب على الله اللطيف بعباده المريد لهم بالصلاح تبعاً لعدله الثابت أن يسد جميع الأبواب أمام موانع ثبوت الوثوق والوثاقة بشريعته وأنبيائه وأوصيائهم، من هنا امتنع عقلاً وقوع المعصية من المعصوم. وعليه؛ فالمعصية على نحو الإمكان الجدلي ممكنة، لكنها على نحو الوقوع لا يمكن أن تقع من المعصومين أبداً؛ والعلة في ذلك أيضاً هي: أنّ المعصومين بعد ترقيهم الكامل ووصولهم لعالي الدرجات يرون صورة الذنوب والقبائح بواقعها الحقيقي، فتنفر نفوسهم من ذلك فلا يرتكبونه، تماماً كما لو شمَّ الإنسان من جيفةٍ ما رائحة خبيثة جداً، فهو يتحاشا تلك الرائحة ويتجنبها بكل وجوده، ونفسه المعصومون، فهم بعد وصولهم لعالي المراتب ينفتح أمامهم باب الحقائق بمشيئة إلهية وهدي رباني، فيرون صور القبائح على واقعها الحقيقي، كما تنكشف لهم الآثار الخبيثة لتلك الأفعال القبيحة، فتنفر نفوسهم الصافية وفطرتهم الطاهرة من ذلك أشد نفرة، فيبتعدون عنها ولا يقتربون منها باختيارهم قيد أُنْملة. جلعنا الله وإياكم ممن يتلقاه الله بلطفه وهديه وتسديده. نسألكم الدعاء السيد امين السعيدي |
للتعلیق أو مطالَعة التعلیقات اضغط هنا