إمام الفقهاء(ع) قراءة في السيرة والاعتراض على الفيلم الوثائقي
طرح وتقديم العضوة الفاضلة: 【يا صاحب الزمان】
مراجَعة وإضافات سماحة: السيد أمين السعيدي حفظه الله
هذا أبو موسى ابن خير العمل * صادق الاقوال اقوال وفعـل
أصبح بعلمه إمام لكل عقــــــل * تشرق عقول البشر بنواره
على سجية الخط الجعفري وصادق الأقوال والعمل سجله تاريخ علم الهدى في صفحات المجد والعز بين أقمار آل محمد الناصعية النيرة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ؛ بهؤلاء العظماء نرفع في مؤسَّسة أنبياء أولي العزم عليهم السلام راية الحزن الكسيرة السوداء نعزي إمام العصر والزمان عجل الله فرَجه الشريف والأمة الاسلامية بكافة مذاهبها بمناسبة استشهاد إمام المذهب وشيخ الأئمة: الإمام الهمام أبو عبد الله الصادق عليه الصلاة والسلام.
بهذه المناسبة نتوجه له صلوات الله وسلامه عليه لننهل ولو شيئاً يسيراً من عذب عطائه بما يفيدنا لدنيانا وآخرتنا ونرتقي به فكرياً ونتغذى منه روحياً.
مَدرسة الإمام الصادق عليه السلام ثورة ثقافية عارمة:-
لقد جاء في وصفها على لسان عبد الرسول اللاري، قوله: «كانت ثورة الإمام الثقافية ، المناضلة الوحيدة التي دخلت معركة الدفاع عن الإسلام في وقت تآمرت عليه كل قوى الإلحاد ، وجنّدت كل طاقاتها لإعادة الرجعية المادية التي نسفها الإسلام ، وقد اعترفت بذلك الجبهة الملحدة العدوة ، حيث كان يصرّح أقطابها ما كلمني بهذا غيرك»(1).
وأضاف قائلاً: «ومن هنا نعرف إن كل الملايين المسلمة التي عاشت بعد ثورة الإمام الثقافية ، وكل الملايين التي تعيش اليوم ، والتي ستعيش غداً ، وبعد غد ، كلها مدينة لثورة الإمام الصادق (ع) الثقافية العظيمة العملاقة»(2).
لَـمَّا كان من نتائجها تخليص الأمّة من منعطف جارف منحرف يأخذ بها إلى الهاوية نتيجة الظروف الاجتماعية والسياسية من جهة ، وتغلغل أولئك الزنادقة والملحدين بين صفوف المسلمين من جهة ثانية ، وتواجد زمرة المنافقين الذين لم يخلُ زمان منهم من جهة ثالثة ، وكل ذلك يشكل خطراً كبيراً على الأمة لا يمكن درؤه بواسطة الانشغال عنه بالسلطة وتولي الأمور السياسية.
لقد كان هذا من أهم الأسباب لتركه عليه الصلاة والسلام السلطة ، وتوجهه لإصلاح فكر الأمة من الجهل ، خصوصاً وأنه بعد سقوط الدولة الأموية أنفتح للإمام صلوات الله وسلامه عليه المجال لاستلام الحكم مع رغبة الناس إلى حكم العلويين من آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، إلا أنه عليه الصلاة والسلام أبى إلا أن يقدم ما هو أصلح لحال المسلمين ؛ لذا انبرى للدرس والتدريس وريادة حوزة أبيه الباقر عليه الصلاة والسلام العلمية.
ولأن مدرسته الخلاقة انطلقت لتجديد فكر الصحوة والتوعية للبحث عن المعارف الإلهية والإحكام الإسلامية ، وإحياء الأخلاق المحمدية المنكوبة ، ولأنها كانت المدرسة الحيادية العقلانية المعتدلة القائمة في كل جهاتها على الدليل والبرهان القويم والتواصل وسعة الصدر ؛
لذا حققت تلك المدرسة الإلهية النصيب الأكبر لتوجه العلماء وطلاب العلم ، ويكفيك أن التاريخ لم يكتب جملة واحدة في صفحاته كما كتب عن الإمام الصادق عليه السلام ومدرسته الراقية لدرجة أن كبار مخالفي مدهب آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم يجدون أنفسهم على اضرار صارخ لحضور درسه العلمي الرفيع وعدم الزهد فيه ، حتى أنتج العلماء والفلاسفة والفقهاء والمفسرين … وفتح في كل شوطٍ علمي شوطاً ممتداً يزخر بالآداب والمعرفة.
إنّ الإمام عليه الصلاة والسلام -كما ينقل المؤرخون- رغم كثرة من الأسئلة المتهافتة عليه ورغم كثرة المراء والتحديات العلمية الموجهة إليه من البعض لتخطئته ، رغم صعوب ما يطرح على منبره من بحوث رفيعة ما سئل عن شيء وأجاب لا أدري ، بل كان منفتح النفس ، وسيع الصدر ؛ إذ أنّ ذلك هو مقتضى تربيتهم عليهم السلام وعلمهم ومعرفتهم بالأشياء وحقائق الدين ، حيث اختارهم الله قرناء لكتابه العزيز كما جاء في حديث الثقلين ، وكما جاء في حديث جابر عن رسول الله حينما سأله الإمام محمد بن علي الباقر عليه السلام عن شيء ، فأجابه:
«والله لا دخلت في نهي رسول الله صلى الله ععليه وآله وسلم ؛ لقد أخبرني أنكم الأئمة الهداة من أهل بيته ، أحكم الناس صغاراً وأعلم الناس كباراً ، فقال: لا تعلِّموهم فإنهم أعلم منكم.
فقال الإمام أبو جعفر عليه الصلاة والسلام:
صدق جدّي صلى الله عليه وآله وسلم ، إني أعلم منك بما سألتك عنه ، ولقد أوتيتُ الحُكمَ صبياً ، كل ذلك بفضل الله علينا ورحمته لنا أهل البيت»(6).
ويذكر المؤرخون أن الصادق عليه الصلاة والسلام لم يناظِر مناظِراً فأقحمه قط ، بل كان يتحدى كل مبطِل بقوله: «سلوني فإنه لا يحدثكم أحد بمثل حديثي»(7).
وأما من جهة منقوله عليه الصلاة والسلام فلم يكن له نظير إلا بما لدى أقرانه من أئمة الهدى من آل محمدٍ الأوصياء النجباء أفضل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فعن هشام بن سالم وحماد بن عثمان وغيرهما ، قالوا: سمعنا أبا عبد الله عليه السلام يقول: «حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدي، وحديث جدي حديث الحسين، وحديث الحسين حديث الحسن، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين عليه السلام وحديث أمير المؤمنين حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وحديث رسول الله قول الله عزّ وجلّ»(8).
فهذا السند العظيم الذي تراه ، وأذعن له كل علماء الإسلام ، هو ذلك السند الذي اُطلِقَ عليه بين المسلمين كافة مسمى “السلسة الذهبية”!
هذا الإمام العظيم شيخ الفقهاء نجده اليوم غريباً بين هذه الأمة ، ويكفيك دليلٌ على ذلك ما حدث قبل بضعة أيام قليلة ؛ عندما تم تمثيل فيلم وثائقي يستعرض شيئاً بسيراً من تأريخه وجهاده وعطائه وفضله على الشارد والوارد ، فتمت مواجهة ذلك من البعض بالهتاف الصارخ بوجوب إيقاف هذا الفيلم بذريعة أنه يظهر فضائل لا يحتمل قلب الضلال السماع بها ، وأنه يجب أن لا تنشر تلك الفضائل كي لا يتخلى البعض عن مذهبه ويعتنق مذهب جعفر بن محمد عليه السلام!
والحال أننا جميعاً -أو أغلبنا- نعلم بأن ما عرض في ذلك الفيلم الوثائقي لم يكن إلا لبيان تأريخ الإمام عليه السلام علمه وفضله وآدابه وتقواه ، رغم قلة ما جاء فيه من بيان لتأريخه العريق وجهاده الطويل وفضله الجسيم ، إلا أن العجب كل العجب أن تهاب الأمة من عرض تأريخ مثل هذا العملاق لأبنائها فتستقي من معالمه وتَنهل من قيمه وتسمو في معاليه وتقتفي أثره وتبصر بنوره الذي ما تجرأ حتى علماء المذاهب من تلامذته -عليه السلام- على أن يواجهوه أو أن يمنعو الناس عنه ، بل هم بأنفسهم ذكروا شيخهم وأستاذهم عليه الصلاة والسلام بكل جميلٍ وجليل ،
فليت هؤلاء اقتفوا أثر أئمتهم في تبجيل شيخهم واحترامه وترويج كمالاته بدل أن يتعاملوا مع عرضٍ بسيطٍ لسيرته بهذا التعامل المشين المجحف الذي يصوِّر لك بأن عارض الفيلم كأنه ارتكب جريمةً نكراء ، وعرض فكراً إلحادياً يُخاف على الأمة منه ، في حين أن آلاف الأفلام الرخيصة المنحلة السحيقة تُعرَض في كل يوم على مسامع الأمة ألف مرة فلا نجد منهم قليلاً من المواجهة والمنع والنكير!
جعفر يا نهر محمد الأعظم ..
علمك فجر العالم الأعظم..
مذهبك هو المذهب الأقوم..
الصدق ينبع منك أيها الأكرم..
حليم عليم وصبرك الأصرم..
عظم الله لنا ولكم الأجر بمصاب إمامنا الصادق المسموم عليه أفضل صلوات الله وأتم سلام الأولين والآخرين والأنبياء والملائكة والناس أجمعين.
____________________________
المصادر:-
(1) الامام الصادق(ع)، عبدالرسول اللاري، ص37.
(2) المصدر نفسه، ص37.
(3) كمال الدين وتمام النعمة، الصدوق، ص253، طبعة محرم/ 1405 ق.
(4) تهذيب الكمال، المزي، ج5 ص79، ط4 / 1413ق – تذكرة الحفاظ، الذهبي، ج1 ص166، نشر مكتبة الحرم المكي – سِيَر أعلام النبلاء، الذهبي، ج6 ص257، ط9 / 1413 – معرفة علوم الحديث، الحاكم النيسابوري، ص55.
(5) الكافي، الشيخ الكليني، ج 1 ص 53 – إعلام الورى بأعلام الهدى، الشيخ الطبرسي، ج1 ص536.
(6) نهج البلاغة، محمد عبده، ج3 ص84، فيما أوصى به مالك الأشتر.
للتعلیق أو مطالَعة التعلیقات اضغط هنا