في المدينة المنورة «بيان للجهات الرسمية المعنية، وتحذير لإخواني»
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي شَرَعَ لعبادِهِ مِنهاجَ الحقِّ والصواب، ونَحَّاهُم عنِ الهَلَكةِ والعذاب، وبصَّرَهم بحكيمِ ما شَرعَ لهم، ورَفَعَ مَنازلَهم بلطيف ما أَودَعَ فيهم، وحذَّرَهم قبلَ يومِ العتاب، وسدَّدَهم قبلَ مَنْزِلِ العقاب، والصلاة والسلام على النبي المصطفى وآلِه الأطهار وصحبِه الأخيار.
وبعد ..
في اليوم الثاني من عيد الفطر حيث كنا في المدينة المنورة لزيارة رسول الأمة محمد (ص)، رسول السماحة، رسول الأخلاق، رسول الأمن والأمان، رسول العقل، رسول الإنسانية، رسول المحبة والمودة والغفران.
كنت أسير فريداً مع زوجتي وابنتي الصغيرة وطفلي الرضيع متجهين لزيارة الأطهار والشهداء في البقيع، بعد أن لم نستطع زيارته في فجر اليوم الأول من العيد المبارك لعدم افتتاحه أو سرعة إغلاقه حَسْب تضارب الآراء بين مسؤولي الحرم الأقدس وغيرهم.
كان بعض المسؤولين المحترمين في الحرم يشير علينا بالذهاب للبقيع في اليوم التالي باكراً منذُ صلاة الفجر؛ ففعلنا ذلك عسى أن نوفَّق للدخول. ومعلوم أن البقيع لا يُرى داخله إلا بدخوله؛ نظراً لارتفاع أسواره الضخمة، لا سيما الأمامية والجانبية!!
وبينما وصلنا للبقيع وإذا برجل من خارج البلاد، يرتدي ثوباً شبيهاً بثوب النوم، ويتكلم باللهجة العراقية، وملامحه ليست من أهل هذه البلاد الطاهرة. فلما رآني توجه نحوي بكل أدب، وفي نفس الوقت سألني بكل عفوية وبساطة؛ وهذا هو الموقف أضع مفاده بين أيديكم بكل صدق والله على ما أقول شهيد.
قال لي الرجل، وكان وحيداً ليس معه أحد: هذا البقيع؟
قلت مُرَحِّباً ومتبسماً وفي نفسي أن اليوم يوم عيد وسرور وأن هذا الرجل المسلم لعله لأول مرة يزور المدينة المعظَّمة ولا يدل فيها شيئاً، فقلت: نعم أخي؛ هذا هو البقيع.
قال: هذا بابه أم له باب آخر؟
قلت: هذا بابه الرئيسي، ولا علم لي أخي العزيز هل له باب فرعي آخر يتم فتحه لزائره أم لا، وحسب علمي هذا هو بابه الذي يتم فتحه للزائر (علماً أنني لم أوفَّق للذهاب إلى المدينة المنورة قرابة العشر سنوات؛ لذا كان جوابي على سؤاله بصورة احتمالية).
قال بمَسْكَنة وانكسار: لماذا هو مغلق؟
قلت: لربما بسبب الازدحام باعتبار أن هذه الأيام أيام عيد، وربما فتحوه وأغلقوه بسرعة (مع أن الوقت كان فجراً، ولكن أحببت أن أهوِّن عليه الأمر والمشقة).
قال وعلامات المسكنة لا تفارقه: ومتى يتم فتحه؟
قلت: بعد صلاتَي الفجر والعصر، ويتم افتتاحه لفترة بعد هاتين الصلاتين ثم يغلَق، فإذا أحببت دخوله فبكِّر بالمجيء في هذه الأوقات.
قال منكسراً: من في البقيع؟ الحمزة ومن؟
قلت برحابة: الذي في البقيع هم الإمام الصادق والإمام الباقر والإمام زين العابدين والإمام الحسن، وأما الحمزة أخي فليس في البقيع، الحمزة مدفون بقرب جبل أحد مع الشهداء هناك.
وما أتممتُ جوابي إلا وقد مرَّت بجانبنا جماعة، فانفرد منها واحد سريعاً واتجه نحوي مباشرة، وذهب البقية ودخلوا من باب كان أسفل سُوْر البقيع، فسَلَّم علَيَّ فرددت السلام بأفضل ما يكون، وصافحني بيده، فصافحته بأفضل ما يكون، وابتسم قليلاً فابتسمت بأفضل منه، ثم لما استأنس مني الرحابة والليونة قال مشتداً:
أنت تشتغل في الهيئة؟
قلت: كلا.
قال: ولماذا تجيب على هذا الرجل فيما يسألك عنه؟
قلت بهدوء: رجلٌ مسلم سألني سؤالاً استرشادياً عادياً وبريئاً جداً فأجبتُه، فهل في ذلك خطأ أو ارتكاب لما هو ممنوع؟
قال: نعم؛ لا يحق لك أن ترد على أي أحد ولا على أي سؤال، فأنت لست من الهيئة.
قلت باحترامٍ ولُطف: ألا يحق لي أن أجيب على أخي المسلم جواب سؤالٍ عاديٍّ؟! فهو لم يسألني شيئاً ممنوعاً في القرآن والإسلام؛ فكل ما قاله أنه سألني عن البقيع هل هو أم لا وعن بابه ومتى يفتح ومن فيه وهل الحمزة مدفون به أم لا؛ فأجبتُه وأرشدتُه بقدر تساؤلِه العابر هذا؛ فهل يحرم على المسلم أن يجب على سؤال أخيه المسلم؟ هل كان المفترض علَيَّ أن أقول له: اذهب لن أجيبك؟ أم هل كان المفترض مني أن أُعْرِض عنه ولا أجيبه بأي كلمة؟
قال والرجل واقف معنا يسمع: إذا سألك أحد سؤالاً فقل له اذهب واسأل الهيئة.
قلت: مهما كان نوع السؤال؟ حتى لو كان بسيطاً استرشادياً يتعلق بأبسط الأمور؟
قال: نعم.
قلت: أبشرْ، إن شاء الله. فقط دلني أين هي الهيئة المعنية؟
فنظر إليَّ وعينه تمتلئ كيداً وشراً بعد أن شعر بانغلاق طريق الأذى عليه فقال: ألا تدل أين هي الهيئة؟ وتقدَّمَ نحوي أكثر يريد الشر، فقال: أعلمك فين هي الهيئة؟
قلت: وهل هذا السؤال من الحرام أيضاً؟ هذه هي الهيئة؟ وأشرت للباب الذي دخل منه أصحابه، ولم أكن متيقناً بأنه باب يتبع لهم؛ لأن الأبواب التي أسفل البقيع كثيرة ولا علم لي بشأن وعمل كل ما هو خلف تلك الأبواب المتعددة.
فقال: نعم هنا الهيئة.
قلت: أبشرْ، في أمان الله. وقلت لذلك الرجل: نسألكم الدعاء يا أخي. وبينما أنا عازم على الذهاب وإذا به يقول موجهاً كلامه نحوي: إن أعدتَها مرة ثانية فسنحتجزك! ثم مشيت مع زوجتي وابنتي وطفلي واتجهنا نحو قبر النبي (ص)، وفي الأثناء أخذ موظف الهيئة ذلك الرجل الغريب جانباً وراح مباشرةً يضحك معه وكأنه يعرفه منذ زمنٍ بعيد، وأخذ يلقنه وصاياه ويوجهه باتجاه آخر.
لذا؛ أقول مخاطباً أصحاب الشأن والمسؤول عن أمن واستقرار هذه البلاد العزيزة وأمور المواطنين، وأقول مخاطباً أصحاب العقول:
كيف عَرف موظف الهيئة أن الرجل يسألني لدرجة أنه توجه نحوي مباشرةً بكل ثقةٍ بمراده دون أي تردد؟ لماذا لم أكُن في احتماله على الأقل أنا الذي مثلاً كنت أسأل الرجل؟
ولِمَ قال لي لماذا تجيب على الأسئلة؟ فما يدريه أنها كانت أسئلة؟
ولماذا صدر منه كل هذا الحقد والكيد وهو لا يعرفني أدنى المعرفة؟
لماذا ذهب جانباً مع ذلك الرجل وأخذ يضاحكه ويوجهه لجهةٍ أخرى دون أن يتكلم ذلك الرجل معه بكلمة وكأن بينهما اتفاق مسبق؟
لماذا يتم إيذاء زوار رسول الله (ص) عند مسجده في مدينة الغفران والاستغفار، مدينة الوحي ومهبط القرآن أعظم كتاب أنزله الله على أعظم نبي؟! قال تقدَّست أسماؤه:
{ولَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيما}[النساء: ٦٤].
هل يليق بدار العبادة؛ مدينة رسول السماحة والأدب والأخلاق والمحبة والغفران أن يشاع فيها الشر والعداء والحقد والبغضاء؟
هل يجوز التربص بالمسلمين وتخويف النساء والأطفال وبجوار نبي الأمة (ص)؟
هل هذا يرضي الله ورسوله؟
أهكذا يكون حفظ الأمانة؟
هل حفْظ الأمانة يكون بوضعها في أيدي هؤلاء الذين يؤذون المسلمين وزوار النبي بمرأى ومسمع منه (ص)؟
ألا يؤذي ذلك الله ورسوله؟ ألا يستلزم ذلك ما نصَّ عليه القرآن الكريم في حق من يؤذي رسول الله (ص)؟
وهل في جواب المسلم على سؤال أخيه المسلم حرام؟ قال عز ذِكْرُه:
{إنَّما المؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون}[الحجرات: ١٠].
لماذا كل هذا الشك، ولماذا جَمَّدوا عقول الناس وسَفَّهوهم؟
لماذا الهيئة هي التي تفكر وصاحبةُ عقلٍ يـَفهم وبقية المسلمين لا عقول لهم ولا يحق لهم السؤال من أحد في أتفه الأمور ولا يحق لأحد من المسلمين الجواب على أبسط الأسئلة العادية العابرة؟
لماذا تعمل هذه الهيئة لصالح جهةٍ واحدةٍ في وسطِ شعبٍ متعددِ الأطياف؟ لماذا تعمل لصالح الشك والترهيب والتكذيب والبغضاء وإذكاء العنصرية والفتنة؟
لماذا تسفيه العقول وتعطيلها وتسطيحها؟ لماذا حتى مجرد التفكير بدون عقل الهيئة هو شيء ممنوع وحرام؟ أليست الهيئة تَدَّعي لنفسها أنها قدوة ومربِّية للناس؟! فما بالها تمارس مثل هذه الأفاعيل المشينة لدى الشرع والعقلاء وفي مدينة سيد العقلاء وإمام الأمة؟
قال تبارك وتعالى:
{يا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاء بِالقِسْطِ ولا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا ، اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى واتَّقُوا اللهَ إنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُون}[المائدة: ٨]، وقال سبحانه:
{خُذِ العَفْوَ وأْمُرْ بِالْعُرْف}[الأعراف: ١٩٩].
لِـمَن نشتكي هذه الظُلامات والمآسي الواقعة على الجميع بلا استثناء؟
كنت أبحث عن جهة لرفع الشكاية على هذا الموظف فلم أجد، وربما القصور مني عندما لم أجد، ولكن ينبغي وضع جهة مختصة معلَنة وواضحة صادقة موثوقة نزيهة وعادلة تتبنى النظر في قضايا وشكاوى المسلمين في هذه البقاع الطاهرة بحيادية تامة.
فهذه بقاع أعظم رجل نادى بالعدالة وحققها بأفعاله قبل أقواله. فليس الإسلام مجرد اسمٍ ورسْم؛ إنما الإسلام السماحة، الإسلام الحب، الإسلام المودة، الإسلام الشراكة الصادقة، الإسلام الاحترام، الإسلام الإنصاف، الإسلام النزاهة، الإسلام العدل، الإسلام العقل، الإسلام الإنسانية، الإسلام الصفاء، الإسلام الإخاء، الإسلام التكافل والتعاون، الإسلام السلام؛ قال تعالى:
{وطُورِ سِينِين * وهَذا البَلَدِ الأمِين}[التين: ٢ و٣]، وقال سبحانه:
{فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذا البَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وآمَنَهُمْ مِنْ خَوْف}[قريش: ٣ و٤]، وقال عز وجل:
{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالمؤمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}[التوبة: 128]، وقال تعالى:
{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتابَ وَالحِكْمَةَ وإن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِين}[الجمعة: ٢]، وقال تقدَّست أسماؤه:
{وكذَٰلكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ويَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ۗ وما جَعَلْنا القِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْها إلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ ۚ وإن كانتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ ۗ وما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ ۚ إنَّ اللهَ بالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيم}[البقرة: ١٤٣].
إنني أعتذر للجميع عن بث الوجع ونِكاية الألم، وأختتم بالقول:
إنّ ما يحَرِّض على التفرُّق والتمزق والفتنة والتناحر والتباغض والعصبية والكراهية وكل السمات الممقوتة التي تجر البلاء والشر، هو هذه الابتدارات والأفاعيل التي لا يقرها الدين الحنيف، وترْك هؤلاء يعبثون بمشاعر الكبير والصغير، ويدهسون كرامة الآخرين، ويحطِّمون نزعة الخير والبِر ومبادلة الاحترام والتكافل والتعاضد، كل هذا مآله لانبثاق ردات فعل من شأنها تشويش الوضع وإقصاء القِيـَم وأواصر التعايش الصادق الذي به تبنى البلاد وتَزدهر، وليس مناط القضية الشجاعة، فالشجاعة عند الجميع، ولا يزاوِد بها علينا أحد، ولكن الحكمة مطلوبة على كل حال، والتعاضد سِمَة الإخاء والإسلام والسلام، وليس السلام أن تسَلِّم على الآخرين وتصافحهم فحسب، إنما السلام هو الله تعالى، والسلام عهدٌ وميثاقٌ أرفع بكثير من مجرد الحرف وتركيب اللفظ.
فليس من عاقلٍ يقبل أن يجد الناس تمزِّق الناس، وليس من حكيمٍ يتيح الفرصة لتراكم المساوئ وانشحان النفوس وانحلال المبادئ وانفجار الشرور واندلاع نار الشيطان؛ لأن هذا ليس من مصلحة هذا الوطن العزيز أبداً؛ قال عز وجل:
{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا والآخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}[النور: 19].
إنّ خطابنا هذا ليس تحريضياً، وبوصلته ليست باتجاه التأجيج والتحميل الخطأ والخَطَاء؛ فهو إنما تحذير لإخواني، واسترفاق وعطف بهذه الأُمّة المسكينة، فهو شكوى ما ذكرتُها إلا بعد أن بلغتني إساءات مثيلة وأشد متكررة تحصل في الحرم الشريف للزائرين هذه الأيام؛ فليس هذا الخطاب سِوى مبادرة صادقة ونزيهة كل غايتها إلفات أصحاب الشأن للمسارعة باتخاذ الإجراءات السديدة والحكيمة قبل أن تخرج الأمور عن السيطرة وتصير إلى ما لا عودة إلى قبْله وما لا تُحْمد عقباه؛ فمن حق الراعي على الرعية النصح وبث الشكوى إليه بعد الله ورسوله (ص)، فهذا كمال الإخلاص للراعي وللوطن، وهو تمام العمل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأداء الواجب والشعور بالمسؤولية.
إنَّ هذه الجزئية هي قضية كبرى مما نادى به الشعب بإلحاح في قسيمة شكاواه ومَطالبه البريئة الحَقة المعتدلة؛ فنأمل أن نجد اهتماماً بذلك تنجم عنه إجراءات علاجية فعلية سريعة قوية ورصينة ومستمرة لا تقل شأناً عن الإجراءات والمواد الحكيمة التي صدرت عما قريب.
والسؤال الـمُلِح: هل هذا الذي يجري يتناسب مع دعوات الوحدة التي تسعى لها جهود الجهة الرسمية والدُّعاة وجميع العقلاء؟
إنّ خوفنا على مصالح الوطن وبالأخص الصالح العام، يدفع بنا للوقوف على مثل هذه التجاوزات بكل عزمٍ وحزمٍ وإقدام، وأقسم بالله الذي لا إله إلا هو لو تُرك هؤلاء ونظائرهم في مثل هذه المواقع شديدة الحساسية؛ فإنّ تيارات الجهاد المسلَّحة التي تهدد البلاد الإسلامية وأرض الوحي اليوم ستتمكن من النفوذ إلى بلاد الحرمين وبالخصوص مكة والمدينة بأقل مؤونة وبأدنى مجهود، وستدك الحرمة على الحرمة، والكل يعلم بالسوابق الخطرة الفاتكة التي حصلت في مكة سلفاً في حادثة (جهيمان) وغيره، فليس من عاقلٍ في هذا الوطن الغالي يود أن تتكرر حادثة (جهيمان) ونظائرها ببلاد الحرمين الطيبة الطاهرة؛ فقد ورد في الخبر الشريف:
«لَتَأْمرون بالمعروف ولَتَنهَون عن المنكر، أو لَيستعمِلنَّ عليكم شِرارَكم فيدعوا خيارُكم فلا يستجاب لهم».
إنّ الحفاظ إخواني على النظام والأواصر مسؤولية الجميع كافة، ومسؤولية رعاة الوطن خاصة باعتبارهم المتصدون لزمام أمور الشعب والمواطنين، وليس لأحد أن يعزل نفسه عن المسؤولية والمساهمة في توطيد ذلك، كما يَلْزم عدم التهاون بهذه المخاطر وتقليل انعكاساتها الفتاكة.
ثمَّ إنّ المساهَمة وممارسة المسؤولية لها جهات عدة، كلٌ يؤدي فيها وظيفته وفق موقعه، سواء بالنصح واللسان أو بالقلم أو برفع الشكاوى للجهات الإدارية في الحرمين التي بحاجة لتشكيل نزيه وواقعي سريع، أو بالضغط على أصحاب هذه التوجهات بالتي هي أحسن وأقوَم، وتبقى الإجراءات القضائية الفصل موكولة للجهة العُليا المتصدية للفصل الإجرائي العملي.
قال اللطيف الخبير:
{ولْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الخَيْرِ ويَأْمُرُونَ بِالمعْرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ الـمُنكَرِ وأُوْلَـئِكَ هُمُ المفْلِحُون}[آل عمران: 104]؛ فهذا الواجب الكبير الذي نص عليه القرآن كثيراً، هو فرع من فروع الدين الكبرى، وهذا الفرع العظيم هو من (الناحية الأولية) واجب شرعاً وعقلاً على الجميع كافة دون استثناء، ومن (ناحية ثانوية)؛ أي بعد كفاية المتصدين وزوال الباطل، هو واجب كفائي، والحال الحاصل في الوقت الحاضر هو (الناحية الأولية) من هذا الواجب العظيم الذي سيسألنا الله تعالى عنه؛ إذ لم ينكفئ الباطل إلى الحين الحاضر. وفي هذا أحاديث كثيرة قطعية متواترة لا بأس بذكر بعضها للتعرف على استفاضتها وكثرتها العظيمة:
جاء في الخبر عن زوج النبي (ص) عائشة قالت:
دخل علَيَّ النبي (ص) فعرفْتُ في وجهه أن قد حضره شيء، فتوضأ وما كلم أحداً، فلصقتُ بالحجرة أستمع ما يقول، فقعد على المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال:
«يا أيها الناس! إن الله يقول لكم: مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، قبل أن تدعوا فلا أجيب لكم، وتسألوني فلا أعطيكم، وتستنصروني فلا أنصركم».
ومِثله ورد في وصية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب لابنه الإمام الحسن الزكي عند استشهاده. وعن رسول الله (ص) أنه قال:
«إذا عَظَّمت أمتي الدنيا نزعَتْ منها هيبة الإسلام، وإذا تَركَت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حرمت بركة الوحي». وعنه (ص):
«لَتَأمرن بالمعروف ولَتَنهون عن المنكر أو ليلحينكم الله كما لحيت عصاي هذه -وأشار لعود في يده-». وعنه (ص) :
«إذا تَركَتْ أمتي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلَيأذن بوقاع من الله جل اسمه». وعنه أيضاً (ص) :
«لَتَأمرن بالمعروف ولَتَنهن عن المنكر، أو ليعمنكم عذاب الله». وقال (ص) :
«إنّ الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه». وأيضاً قال (ص) :
«لا يزال الناس بخير ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وتعاونوا على البر، فإذا لم يفعلوا ذلك نزعت منهم البركات، وسلط بعضهم على بعض، ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء». وعنه (ص) أنه قال:
«إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا! اتقِ الله ودع ما تصنع به فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ثم قال: {لعن الذين كفروا من بني إسرائيل} … الآيات.
ثم قال: كلا والله لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرا». وعنه (ص)، قال:
«إنّ الأحبار من اليهود والرهبان من النصارى لما تَركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعنهم الله على لسان أنبيائهم، ثم عُمُّوا بالبلاء». وعنه أيضاً (ص) :
«والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على أيدي الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم يلعنكم كما لعنهم». وقال (ص) :
«لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليبعثن الله عليكم العجم فليضربن رقابكم، ولَيـَكونُنّ أشداء لا يفرون»؛ والعجم هم كل مَن لغته غير العربية ولا يـَفْهم مقاصد القوم على وجهها. وقال رسول الله (ص) :
«لا تزال لا إله إلا الله تنفع من قالها، وترد عنهم العذاب والنقمة، ما لم يستخفوا بحقها. قالوا: يا رسول الله! وما الاستخفاف بحقها؟ قال: يظهر العمل بمعاصي الله، فلا ينكر، ولا يغير».
وقال تعالى مبيناً النجاة لمن ائتمر وأمر بالكتاب حتى عند وجود اليائسين من الإصلاح والمحبطين والمتثاقلين:
{وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٦٤) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُون(١٦٥)}؛ قال ابن زيد: نجت الناهية، وهلكَت الفرقتان، وهذه أشد آية في ترك النهي عن المنكر.
{فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِين (١٦٦) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيم(١٦٧)}[الأعراف].
قال الإمام جعفر الصادق في قوله تعالى: {فلَمّا نَسُوا ما ذُكِّروا به…}: «كانوا ثلاثة أصناف:
صنف ائتمروا وأمروا فنجوا، وصنف ائتمروا ولم يأمروا فمسخوا ذراً، وصنف لم يأتمروا ولم يأمروا فهلكوا» والعياذ بالله.
أسأل الله لي ولكم الصلاح وحُسن العاقبة، والتآزر والتاحب والتواد، وأن يجمع سبحانه شمل المسلمين على كلمةٍ سواءٍ طيبةٍ تبني البلاد وتَرْفع مَجْدَهم وتنْكي الأعداء عنهم وتحفّهم بالبشائر الإلهية والفيوض البارة واللطائف الـمُعِزة، واجتياز امتحان هذا العالَم الفاني برضا الله تعالى ورضا نبيه العظيم، وآخر دعوانا أن الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله المصطفى وآله الطاهرين وصحبه المنتجبين.
أمين السعيدي-المدينة المنورة
٦شوال١٤٣٥هـ
للتعلیق أو مطالَعة التعلیقات اضغط هنا