في هذه الأجواء خرج الحسين (ع)
رحل رسول الله (ص) ، واجتمع المهاجرون والأنصار في السقيفة ، ورسول الله (ص) بعدُ لم يتم جهازه ولم يدفن ، فوقع ما وقع مِن لَيِّ طريق الخلافة التي هي كما يــَـعـْـلم مَن عَلِم حق أوصياء رسوله الله (ص).
دخل الإمام علي (ع) في عزلة طويلة ، وكان من الطبيعي أن يكون أبناؤه كذلك ؛ لأن الأوصياء نور واحد ، ورأيُهم في الزمان والظرف الواحدِ واحدٌ.
وبعد تَــنَـقّـلِ الخلافة وقيادة المسلمين فترة مديدة من الزمن ، عادت لرائدها الأصيل ، ورفيقها الحق ، مشمِّرة عن نفسها ، تتعاهدها الجراح والآمال ، فرفضها عليٌ أكثر من مرة في يومٍ واحد ، إلى أن اُجبر عليها ، فشَرط شرطاً ينذهل منه اللبيب ، حيث ارتقى المنبر وقال بما خلاصته:
أما إني أقبلها على أن لا يتخلَّف عنها أحد ، فإن تخلَّف عن البيعة أحد فإني لست بقابل إمرتكم ، ولتنظروا لكم غيري أميرا.
فكان ابن عباس يراقب الناس ويتخوف من نهوض أحدٍ يطالبه عليه الصلاة والسلام بدم مَن قَتَل من الرجال في معارك رسول الله (ص) التي خلت منذ سنين ، إلى أن تمت البيعة على أحسن ما يكون ، وما كان مثلها بيعة في تاريخ الأمة قَط.
وما أن استلم الأمير زمام الإمرة -تلك الإمرة المحتاجة لتصحيح الأوضاع ، والمليئة بالمتاعب والنكبات ، سيّما في ظل اتساع البلاد وتغاير الشعوب حديثة العهد بالإسلام ، وشدة الأحقاد التي خلّفتها الحروب والفتوحات ، واختلاف الأعراف ، وكثرة المشكلات- حتى خرجت الفتن من صوب ، وانهالت على الإمام (ع).
ارسل (ع) ولاته إلى مصر والعراقَين والشام واليمن ونواحي البلاد الإسلامية ، فلم تسلم ولاية واحدة لواحدٍ من ولاته ، حيث أرجعتْ بعضَهم خيلُ معاوية ، ورُفِضَ بعضهم ودُفِعوا ، فعاد كل واحدٍ إلى الإمام (ع) يبلغه بما جرى.
كانت المدينة في قبضة علي عليه السلام ، يبسطها كيفما يشاء ، ويقبضها متى شاء ما دام فيها ، إلى أن وقع ما وقع من الحوادث الجمة ، والوقائع والعجائب والغرائب ، فخاض حروبه في البصرة ضد أصحاب الجمل وفي صفين ضد معاوية والشاميين وفي النهروان ضد الخارجيين ، وكان أول خليفة يمارس في كل خلافته (تقويم الأمة من الداخل وتصفيتها وتطهيرها).
ثم استشهد (ع) في محراب صلاته ولم تتجاوز خلافته (أربع سنوات وتسعة أشهر)!
وفي كل أحداث أيامه وإمرته كان وصيّا النبي (ص) الحَفِيّان الحسن والحسين (ع) في ذلك ، لا يبارحان الموقف والعمل والجهاد.
وكان مما بُلِيَتْ به الأمة ، وكشفت عنه دواهي الدهر من خفايا الصدور ومفاسد البطون ، أنْ خرج الفسقة في حلة جديدة ، تكلّلَ اسمها بـ(الخوارج) ، وما كان أحد أشد على الأمة من هؤلاء إلى يومنا هذا ، ناهيك أن كان فيهم الكثير من الصحابة ، والمسلمون بإجماع حَكموا بفسق كل خارجي ، صحابياً كان أم غير صحابي.
ثم انتقلت الأمور للإمام الحسن (ع) خليفة الله بعد علي (ع) بلا فصل ، فعانى الويلات والخُطوب ، وكانت مسيرته كأبيه دائرة على (الإصلاح الداخلي للأمة وتقويمها من الداخل) ، فهذه سمة اتصفت بها خلافة رسول الله (ص) والأئمة (ع) فحسب ، وبها تميزت قيادتهم وإمارتهم ؛ لذا استمر في حربه ضد معاوية ، بعد أن أقام علي (ع) بقيّة البلاد والأمصار وأعادها إلى قيادة الدولة الفتيّة.
وبعد أن تَعاهد الحسن (ع) في صُلحه مع معاوية بفعل الأحداث المَهولة التي نالت خلافته من الغدر والرُّشا التي دهن بها معاوية قادة جيش المسْلمِين ، والانكباب على الصفراء والبيضاء من الدينار والدرهم ، انثلم معاوية عن عهوده ، وبَسَط يده على المؤمنين ، وأخذ يَسوم شيعة عليٍّ سوء العذاب ، وجاء في الدين بما يندى له الجبين.
مات معاوية ، وقد أقامها حكومةً مَلَكية اُولى في تاريخ الأمة !! ودَهَسَ كل الأعراف والمواثيق بقدمه ، وأقام ابنه يزيداً سكّيراً على الرقاب ، يدير شؤون البلاد والعباد! وخالف بنود الصُّلح الذي عاهَد المسلمِين به ، والذي كانت إحدى بنوده أن الخلافة بعد موته تعود للحسن (ع) إن كام حياً ، وإلا فللحسين (ع). والصُّلح ، غيْرُ البيعة ، وقد صالَح رسول الله صلى الله عليه وآله أُناساً في جُملةٍ من النُّظُمِ والأعرافِ والأحداث ولم يبايعهم.
كان بعض القوم يقولون -بما زرع فيهم معاوية من الأباطيل- :
لا يَجوز الخروج على (الحاكم الفاسق) ، لكنهم -على خلاف آمال معاوية- لم يطْلِقوا هذه الفتوى ، وإنما قيَّدوها -برحمة الله- بأنْ (لا يَجهر الحاكم الفاسق بفسقه) ، فقَبِلنا متنزلِين للاحتجاج ، ويزيد كان فاسقاً يَجهر بفسقه ، وهو أول من قَتل حمَلة القرآن وحفّاظه في المدينة ، مَوطِئ الوحي وحرم رسول الله صلى الله عليه وآله ، وافتَض بجيشه المؤمنات البكارى فيها ، وحملن لا يُدرى مَن آباء أبنائهن ، وهو أول من استباح حرم الله مكة المشرَّفة ، ثم كَسَر الكعبة وفيها قبور الأنبياء ورِجال السماء ، كما اجتَرَعَ الخمر لا يَنكر أحدٌ أنه فعل ذلك …
فهو لا ينطبق عليه (قيد الفتوى) ، حيث جهر بفسقه ، وارتكب ما ارتكب من المناكير والخبائث نهاراً جهاراً.
وكان مما قام به يزيد أنْ دَفع بأشياعه للتضييق على الحسين (ع) الذي هو امتداد لعلي (ع) وللحسن (ع) في خلافتين متتاليتين لأهل البيت (ع) كانتا تواجَهان بعصيان معاوية واختلاساته وخروجه على إمامَي زمانه العادلَين بلا حُجة يقبلها أبسط المسلمين العقلاء.
وبتضييق يزيد على الإمام الحسين خرج (ع) إلى مكة وهو صاحب الحق ، فما تركه يزيد حتى أخرجه من بيت الله الحرام دون أن يكمل حَجَّتَه ، فحَوَّلها (ع) إلى عمرة ، ثم خرج يقصد العراق مجبراً ، تحار به السُّبُل ، فلبَّى للعراقيين بناءً على ما وصله من الرسل والرسائل الحثيثة الداعية له بالقدوم عليهم ، بعد رفضٍ متكرر منه (ع).
وفي الطريق قبل بلوغه الكوفة تلَقّاه جيش الحُر ، في كتيبةٍ عريضة ، فاختار (ع) العودة ، فأبى الحر ، فاختار طريق اليمن ، فأبى الحر إلا أن يبايع يزيد ، وما مِثله (ع) يبايع مِثل يزيد ، وما الحسين (ع) إلا رجلٌ إلهي ، فكيف يبايِع الحسين (ع) فاجراً فاسقاً لا ينطبق عليه حتى قيد الفتوى القائلة بحرمة الخروج على الحاكم الفاسق؟! ما الذي سيفعله ذلك بالأمة -وإلى الأبد- لو ارتَكب الحسين (ع) مثل هذا الفعل فبايع يزيداً وهو على هذه الشاكلة؟! هل سيبقى للدين وجهاد النبي وأهل بيته وتضحيات صحابته باقية؟
الحسن (ع) بمجرد صُلْحِه مع معاوية وبدون مبايعته (ع) له سمّاه القوم (مذل المؤمنين) ، واعتدوا عليه وطعنوه في خاصرته ، ونزعوا عمامته ، ورداءه ، ولما استشهد رموا جنازته بالسهام ، فكيف بالحسين (ع) وهو يبايع يزيد المارق الذي لا خصيصة فيه؟!
ففي هذه الأجواء نزل الحسين (ع) بكربلاء.
أمين السعيدي
1 محرم الحرام 1435هـ – قم المقدسة
للتعلیق أو مطالَعة التعلیقات اضغط هنا