نقاش مع المفسِّرين في (النِّسبة لأبي جعفر)!
- مَدْخَل وتأسيس لمَرْكَز البحث:
لقد ذكرَتْ كتب التاريخ مجموعة من الرسل والأنبياء الذين بعثهم الله تعالى للبشرية؛ منها كتاب تاريخ اليعقوبي للمؤرِّخ العباسي المعروف الذي اختصَّ جزءً كبيراً من كتابه لذلك قدْر ما أتاح له التفصيل، وقد استَقَ المؤرِّخون ذلك من كُتب اليهود والنصارى وتراثهم، كما أنّ القرآن الكريم ذكر مجموعة منهم، ولأن القرآن يمثِّل المصدر الأوثق في هذا الجانب بما هو وحي اللهِ الأعلم بأنبيائه عز وجل؛ لذا فإننا إذا طالعنا هذا الكتاب المجيد؛ نجده لم يَذكر جميع الأنبياء،
وإنما ذكر بعضهم بأسمائهم وأشار لبعضهم بالكناية والصفة، وثالثة ذَكَر مجموعة من الشخصيات الكبيرة والعظيمة دون بيان أنهم كانوا من الأنبياء أم لا؛ كعمران؛ فقد قال تعالى: {إنَّ اللهَ اصطفى آدمَ ونُوحاً وآلَ إبراهيمَ وآلَ عِمرانَ على العالَمِين}[آل عمران: 33]، وذي القرنين، وغيرهما، كما أَجْمَلَ أيضاً في ذكر البقية ولم يتعرَّض لهم لا بذكر الاسم ولا التوصيف، ؛ فاكتفى بالقول مثلاً:
{ولَقَد أَرسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ ومِنهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ، وما كانَ لِرَسولٍ أنْ يأْتيَ بآيةٍ إلاَّ بإذْنِ اللهِ، فإذا جاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بالحَقِّ وخَسِرَ هُنالِكَ المُبْطِلونَ}[غافر: 78].
أما الذين ذكرهم بأسمائهم؛ فعدّتهم خمسة وعشرون نبياً؛ وبالجُمْلة هم:
ثمانية عشر نبياً ذكرهم الله تعالى في موضع واحد من القرآن الكريم؛ وذلك في سورة الأنعام؛ وهم:
إبراهيم؛ إسحاق؛ يعقوب؛ نوح؛ داوود؛ سليمان؛ أيوب؛ يوسف؛ موسى؛ هارون؛ زكريا؛ يحيى؛ عيسى؛ إلياس؛ إسماعيل؛ اليسع؛ يونس، ولوط؛ وذلك في قوله تعالى: {وتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إبراهيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إنَّ رَبَّكَ حَكيمٌ عَلِيمٌ * ووَهَبْنا لَهُ إسحاقَ ويَعْقُوبَ كُلّاً هَدَيْنا ونُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ ومِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُودَ وسُليمانَ وأيُّوبَ ويوسُفَ وموسى وهارُونَ وكَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ * وزَكَرِيَّا ويَحْيَى وعِيسَى وإلياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالحِينَ * وإسماعيلَ والْيَسَعَ ويونُسَ ولُوطاً وَكُلّاً فَضَّلْنا عَلَى العالَمِينَ}.
كما ذكر بعض هؤلاء الأنبياء الثمانية عشر عليهم الصلاة والسلام في آيات أخرى؛ منهم مثلاً نبي الله إلياس صلوات الله وسلامه عليه الذي هو من أنبياء بني إسرائيل؛ إلياس بن ياسين، من ولد نبي الله هارون أخي النبي موسى ووزيره عليهم الصلاة والسلام، وهو المعروف في كتب الإسرائيليين باسم ’’إيليا‘‘، وقد روى البعض؛ منهم الطبري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أنه قال: إلياس هو إدريس. وهو رأيٌّ نستبعده، إلا أنّ المهم هو أنّنا لو اقتصرنا على إلياس دون ادعاء أنه نفس نبي الله إدريس؛ فإنّ القرآن ذكره مرتين في موضعين مختلفين؛ هما:
في سورة الأنعام؛ وهي الآية المتقدمة في جملة الأنبياء. وفي سورة الصّافّات، حيث ذكر عز وجل شيئاً من مناظراته مع مَن كانوا يعبدون صنماً يقال له ’’بعل‘‘، فورد اسمه فيها مكرَّراً مرَّتين، كما أسماه الله تعالى فيها بمِثْلِ اسمِ محمدٍ وآله صلى الله عليه وآله؛ فقال سبحانه:
{وإنّ إلياسَ لَمِنَ المرسَلِين * إذ قالَ لِقومِهِ ألا تَتَّقون؟! * أَتَدْعُونَ بَعْلاً وتَذَرونَ أَحسَنَ الخالقِين؟! * اللهُ ربُّكُم وربُّ آبائكُمُ الأَوّلِين * فكذَّبُوهُ فإنّهُم لَمُحْضَرونَ * إلا عِبادَ اللهِ المُخْلَصِين * وتَركْنا عليهِ في الآخِرِين * سلامٌ على إِلْ ياسين * إِنّا كذلكَ نَجْزي المُحْسِنِين * إِنّهُ مِن عِبادِنا المؤْمِنِين}[الصافات: 123 – 132].
وستأتيك إن شاء الله تعالى في طيات الكلام إشارات لآيات أخرى ذكرت بعض هؤلاء الثمانية عشر نبياً في مواضع متفرِّقة؛ فأَمْعِن النَّظَر.
وأما البقية السبعة الأنبياء؛ فذَكَرَهم القرآن في سُوَر متفرِّقة؛ وهم: آدم؛ إدريس؛ هود؛ صالح؛ ذو الكفل؛ شعيب؛ محمد وهو خاتم الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليه وآله وعليهم أجمعين.
علماً أنّ هنالك خلافٌ في شيث الذي هو ابن نبي الله آدم عليه الصلاة والسلام وفي ذو الكفل، هل هما من الأنبياء أم لا. ولنا فيهما تحقيقٌ يراجَع –لِمَن يَرغب- في محلِّه.
فمِن قول الله تعالى في ذِكْرِه أسماء هؤلاء الأنبياء السبعة عليهم السلام:
نبي الله آدم عليه السلام: {إنَّ اللهَ اصطفى آدمَ ونُوحاً وآلَ إبراهيمَ وآلَ عِمرانَ على العالَمِين}[آل عمران: 33].
نبي الله إدريس عليه السلام: {وإسماعيلَ وإدريسَ وذا الكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابرِين}[الأنبياء: 85].
نبي الله هود عليه السلام: {وإلى عادٍ أخاهُم هُوْداً}[هود: 50] وتكررت نفسها تماماً في سورة الأعراف بآية 65.
نبي الله صالح عليه السلام: {وإلى ثمودَ أخاهُم صالِحا}[هود: 61] وتكررت نفسها تماماً في سورة الأعراف بآية 73.
نبي الله شعيب عليه السلام: {وإلى مَدْيَنَ أخاهُم شُعَيْبا}[هود: 84] وتكرَّر شِبهها في سورة الأعراف بآية 85.
نبي الله الخاتم محمد صلى الله عليه وآله وقد ذكر الله تعالى في كثير من المواضع، سواء بالاسم أو الوصف والكناية؛ منها قوله عز وجل: {وما محمَّدٌ إلا رسولٌ قد خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ}[آل عمران].
- مَركزُ البحث:
وأما الأنبياء الذين ذكرهم القرآن الكريم بالوصف دون الاسم؛ فمنهم الآية التالية والتي هي محل بحثنا هنا:
قال تعالى:
{أَلَمْ تَرَ إلى الْمَلَإِ مِن بَنِي إسرائيلَ مِن بَعْدِ مُوسى إذْ قالُوا لِنَبيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً ..}[البقرة: 246]؛ من بعدِ موسى أي بعد ما قبض الله روح نبيه موسى عليه الصلاة والسلام، إذ قال وجوه بني إسرائيل وأشرافهم ورؤساؤهم لنبي لهم ابعث لنا ملكاً …
وأما من هو هذا النبي المذكور كنايةً بصفته؟ فهو محل خلافٍ بين المفسِّرين؛ فمنهم –كما يذكر الطبري- من ذهب إلى أنه شمويل بن بالى بن علقمة بن يرحام بن إليهو بن تهو بن صوف بن علقمة بن ماحث بن عموصا بن عزريا بن صفنية بن علقمة بن أبي ياسف بن قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، أو كما هو مكتوب في الكتاب المقدَّس في أخبار الأيام الأُوَل في الإصحاح السادس: صموئيل. كما ورد الاختلاف في سلسلة هذا النَّسَب بالزيادة أو الإنقاص وبإثبات حروف الأسماء.
ومنهم من ذهب إلى أنه شمعون؛ سمِّي شمعون لأن أُمّه دعت الله أن يرزقها غلاماً, فاستجاب لها دعاءها, فولدت غلاماً فسمته شمعون، تقول: الله تعالى سمع دعائي.
ومنهم من ذهب إلى أنه شمؤل.
ومنهم من قال هو يوشع بن نون بن أفراثيم بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، وهو –يوشع- أحد الرجلين اللذين أنعم الله عليهما[1]؛ أي في قوله عز وجل: يعني المذكورَين في قوله تعالى {قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا}[سورة المائدة : 23].
وفي نصوص من التوراة والنجيل في النبوات والأنبياء الصادر عن مركز المصطفى صلى الله عليه وآله جاء في عنوان الهدى إلى دين المصطفى للبلاغي في حِواريَّته نقلاً عن الكتاب المقدَّس:
(ثانياً: إن كتابك يقول: إن الذي طلب منه بنو إسرائيل أن يجعل لهم ملكاً هو نفس صموئيل، وإن طالوت ’’شاول‘‘ ملك في حياة صموئيل انظر ’’1 صم 10 – 25 ، 1‘‘)[2].
ونَقَلَ العلامة الطباطبائي في تفسيره الميزان عن المَجْمَع في قوله تعالى {إذ قالوا لنبي لهم} الآية: (هو أشموئيل، وهو بالعربية إسماعيل). ثم علَّق العلامة عليه فقال: (وهو مروي من طرق أهل السنة أيضاً: وشموئيل هو الذي يوجد في العهدين بلفظ صموئيل)[3].
أقول:
بل كلها آراء، لم أعثر فيها على رواية استند بها قائل بقوله، فالذي ينقله إخواننا السنة هو ما ذكرناه عن ابن جرير الطبري المولود سنة 224هـ والمتوفى 310هـ، ومِثله أيضاً ذكر البغوي المولود سنة 433 وقيل 436هـ وتوفي 516هـ، حيث ذكر ذلك في تفسيره مع شيء من التفصيل[4]، وأما تفسير ابن كثير المولود سنة 701هـ والمتوفى سنة 774هـ ففيه:
(قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: هذا النبي هو يوشع بن نون. قال ابن جرير: يعني ابن أفراثيم بن يوسف بن يعقوب. وهذا القول بعيد; لأن هذا كان بعد موسى بدهر طويل، وكان ذلك في زمان داود عليه السلام، كما هو مصرح به في القصة وقد كان بين داود وموسى ما ينيف عن ألف سنة والله أعلم.
وقال السدي: هو شمعون وقال مجاهد: هو شمويل عليه السلام. وكذا قال محمد بن إسحاق عن وهب بن منبه وهو: شمويل بن بالي بن علقمة بن يرخام بن إليهو بن تهو بن صوف بن علقمة بن ماحث بن عموصا بن عزريا بن صفنيه بن علقمة بن أبي ياسف بن قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليه السلام.
وقال وهب بن منبه وغيره: كان بنو إسرائيل بعد موسى عليه السلام على طريق الاستقامة مدة الزمان، ثم أحدثوا الأحداث وعبد بعضهم الأصنام، ولم يزل بين أظهرهم من الأنبياء من يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويقيمهم على منهج التوراة إلى أن فعلوا ما فعلوا فسلط الله عليهم أعداءهم فقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وأسروا خلقا كثيراً وأخذوا منهم بلادا كثيرة، ولم يكن أحد يقاتلهم إلا غلبوه وذلك أنهم كان عندهم التوراة والتابوت الذي كان في قديم الزمان وكان ذلك موروثاً لخَلَفهم عن سلفهم إلى موسى الكليم عليه الصلاة والسلام فلم يزل بهم تماديهم على الضلال حتى استلبه منهم بعض الملوك في بعض الحروب وأخذ التوراة من أيديهم ولم يبق من يحفظها فيهم إلا القليل وانقطعت النبوة من أسباطهم ولم يبق من سبط لاوي الذي يكون فيه الأنبياء إلا امرأة حامل من بعلها وقد قُتِل فأخذوها فحبسوها في بيت واحتفظوا بها لعل الله يرزقها غلاماً يكون نبياً لهم ولم تزل [تلك][5] المرأة تدعو الله عز وجل أن يرزقها غلاماً فسمع الله لها ووهبها غلاماً، فسمته شمويل: أي: سمع الله. ومنهم من يقول: شمعون وهو بمعناه فشب ذلك الغلام ونشأ فيهم وأنبته الله نباتاً حسناً فلما بلغ سن الأنبياء أوحى الله إليه وأمره بالدعوة إليه وتوحيده، فدعا بني إسرائيل فطلبوا منه أن يقيم لهم مَلكاً يقاتلون معه أعداءهم وكان الملك أيضاً قد باد فيهم فقال لهم النبي: فهل عسيتم إن أقام الله لكم ملكاً ألا تفوا بما التزمتم من القتال معه {قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا} أي: وقد أُخذت منا البلاد وسُبيت الأولاد؟ قال الله تعالى {فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين} أي: ما وفوا بما وعدوا …)[6]؛ فكل من ذكروا الرأي في اسم النبي المذكور في الآية المباركة لم يذكروا رواية واحدة اسندوا فيه إليها.
وكما ترى فإنّ الحقَّ في مثل هذه المسائل لا يمكن نيله ومعرفته وبلوغه إلا من أهل الوحي عليهم الصلاة والسلام وإن كنا لا ننكر أنّ المنقول التاريخي عن أهل الكِتاب من اليهود والنصارى له نحوُ كاشفيةٍ بدرجةٍ ما وإن كان كتابَيهم طالهما التحريف، ناهيك عن التغاير في الآراء المذكورة. كما أنّ تعبير العلامة في تعليقه بكلمة (أيضاً) يَحتمِل عدة احتمالات كلها باطلة؛ وهي ما يلي:
فإن كان يَقصد بأيضاً هو وجود قول للأصحاب ونفسه يوجد لدى إخواننا السنة؛ فهذا باطلٌ؛ لأنّ الشيعة لم يَرووا شيئاً من ذلك، اللهم إلا ما رووه كإخواننا السنة عن غيرهم أو ما شابه كما سيأتي تفصيله.
وإن كان يَقصد بأيضاً هو وجود رأي لدى أهل الكِتاب من اليهود والنصارى ونفسه لدى إخواننا السنة؛ فهو أيضاً باطل؛ لأنّ المروي عند إخواننا السنة آراء منقولة عن أهل الكِتاب، ولا توجد لديهم رواية مِن طُرُقهم في ذلك بالمصطلح الروائي، اللهم إلا أن يكون قصَدَ رحمه الله أنّ السُّنَّة نقلوا ما عند أهل الكتاب في هذا الأمر، وهذا أيضاً باطل رغم صوابه؛ لأنّه خلاف ظاهر كلام العلامة؛ إذ مراده رحمه الله أنهم يروون رواية كما هو واضح من تعبيره بقوله (وهو مروي من طُرُق أهل السنة).
اللهم إلا أن توسِّع مصطلح الرواية إلى كل ما يروى، وهذا مُشْكِلٌ في العلوم التخصصية إذا ورد دون تقييدٍ موضِّح، أو أن توسِّع مصطلح الرواية إلى كل ما يروى من جهة الكتب السماوية وأصحابها؛ وهذا أيضاً مُشْكِلٌ في العلوم التخصصية إذا ورد دون قيدٍ موضِّح، أو أن توسِّع مصطلح الرواية إلى كل ما يروى عن خصوص الأنبياء والكتب السماوية؛ وهذا أيضاً مُشْكِلٌ علمياً عندنا إذا ورد دون قيدٍ موضِّح. كل ذلك مضافاً إلى أنّ قوله رحمه الله (من طُرُق السُّنّة) لا يمكن تحميله المراد الأوسع؛ سيما وأنهم هم أنفسهم أهل السنة لا يرون كلام أهل الكتاب رواية بالمعنى المصطلَح. فلعل العلامة عبَّر بذلك حسباناً منه أنّ ما نقلوه رواية طريقها ينتهي للنبي الأعظم صلى الله عليه وآله؛ فلاحِظْ.
هذا (وفي تفسير القمي عن أبيه عن النضر بن سويد عن يحيى الحلبي عن هارون بن خارجة عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام: أن بني إسرائيل بعد موت موسى عملوا بالمعاصي، وغيَّروا دين الله، وعتوا عن أمر ربهم، وكان فيهم نبي يأمرهم وينهيهم فلم يطيعوه، وروي أنه أرميا النبي على نبينا وآله وعليه السلام، فسلَّط الله عليهم جالوت وهو من القبط، فأذلهم وقتل رجالهم وأخرجهم من ديارهم وأموالهم، واستعبد نسائهم، ففزعوا إلى نبيهم، وقالوا:
سل الله أن يبعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله، وكانت النبوة في بني إسرائيل في بيت، والمُلْك والسلطان في بيت آخر، ولم يَجمع الله النبوة والمُلك في بيت واحد، فمِن أجل ذلك قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله، فقال لهم نبيهم: هل عسيتم إن كتب عليكم القتال أن لا تقاتلوا؟ فقالوا: وما لنا أن لا نقاتل في سبيل الله وقد أُخرجنا من ديارنا وأبنائنا، فكان كما قال الله:
فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلاً منهم والله عليم بالظالمين، فقال لهم نبيهم: إن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً، فغضبوا من ذلك وقالوا: أَنَّى يكون له المُلْك علينا؟ ونحنُ أحقُّ بالمُلكِ منه ولم يؤتَ سعة من المال، وكانت النبوة في بيت لاوي، والمُلك في بيت يوسف، وكان طالوت من ولد بنيامين أخي يوسف لأمِّه وأبيه، ولم يكن من بيت النبوة ولا من بيت المملكة، فقال لهم نبيهم: إنّ الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي مُلكه من يشاء والله واسعٌ عَليم، وكان أعظمهم جسماً وكان قوياً وكان أعلمهم، إلا أنه كان فقيراً فعابوه بالفقر، فقالوا لم يؤت سعة من المال، فقال لهم نبيهم:
إنّ آية مُلكه أن يأتيكم التابوت فيه سكِينة من ربكم وبَقية مما تَركَ آل موسى وآل هارون تَحمله الملائكة، وكان التابوت الذي أَنزل الله على موسى فوضعته فيه أُمّه وألقته في اليم فكان في بني إسرائيل يتبركون به، فلما حضر موسى الوفاة وضع فيه الألواح ودرعه وما كان عنده من آيات النبوة، وأودعه عند يوشع وصيه، ولم يزل التابوت بينهم حتى استخفوا به، وكان الصبيان يلعبون به في الطرقات، فلم يزل بنو إسرائيل في عز وشرف ما دام التابوت عندهم، فلما عملوا بالمعاصي واستخفوا بالتابوت رفعه الله عنهم، فلما سألوا النبي بعث الله عليهم طالوت ملكاً فقاتل معهم فرد الله عليهم التابوت كما قال: إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة، قال: البقية ذرية الأنبياء).
وهنا علَّق السيّد العلامة الطباطبائي يقول: (قوله: وروي أنه أرميا النبي، رواية معترضة في رواية)[7].
- محلُّ الإشكال ومخرجاتُه:
أقول:هذا الذي نقله العلامة الطبطبائي عن تفسير علي بن إبراهيم بن هاشم القمي هو خبر ذكره القمي في تفسيره للآية في الجزء الأول مِن جزء الكتاب الذي كتبه القمي بنفسه، والقمي نقله هناك لا بإسناد لأحدٍ من المعصومين عليهم الصلاة والسلام، ولعل القمي قصد بـ(روي) أي أنه جاء ذلك في كتب إخواننا السنة والذين هم بدورهم نقلوا ذلك من أهل الكتاب كما أسلفنا، أو أنه نُقِل من أهل الكتاب، وليس أنه رواية.
ثمَّ إنّ صاحب تفسير مجمع البيان وهو الشيخ أبو علي الفضل بن الحسن بن الفضل الطبرسي لمّا ذكر الخبر في تفسيره نسبه إلى أبي جعفر، والحال أنّ الشيخ الطبرسي متأخر عن الشيخ القمي، وتفسير القمي متقدم، إذ أن وفاة الشيخ القمي رحمه الله كانت في القرن الثالث الهجري سنة 329هـ وقيل سنة 307هـ، بينما ولادة الشيخ الطبرسي رحمه الله كانت في القرن الخامس الهجري سنة 460هـ، والحال أن الخبر المذكور استقصيتُ البحث عنه جاهداً في كتب التفسير والمجاميع الحديثية؛ فلم أجد فيه رواية عن أبي جعفر عليه الصلاة والسلام! لا في كافي تلميذ علي بن إبراهيم القمي ولا في كتاب من الكتب الأربعة ولا الوسائل ولا جامع أحاديث الشيعة ولا غيرهم ولا حتى في موسوعة بحار الأنوار الشريفة.
كما أنّ تفسير العياشي للعالم الجليل محمد بن مسعود العياشي -الذي هو من المعاصرين للمحَدِّث أبي الحسن علي بن إبراهيم القمي الذي هو من أصحاب الإمام العسكري عليه الصلاة والسلام ومن أعاظم رواة الشيعة وشيخ الكليني والكليني يروي عنه كثيراً وهو على ما يَذكر الشيخ عباس القمي في الكنى والألقاب[8] أول من أشاع روايات أهل الكوفة في مدينة قم، حيث توفي العياشي رحمه الله سنة 320هـ- لم أجد فيه شيئاً من نِسبة الخبر للباقر عليه الصلاة والسلام.
لذا؛ فإنّ كل من جاؤوا بعد الشيخ الطبرسي ونقلوا الخبر بنسبه للإمام الباقر عليه الصلاة والسلام إنما وقعوا في ذلك بسبب نقلهم لكلام الشيخ الطبرسي، والذي هو ربما نقله عن تفسير القمي رغم أن تفسير القمي لم يتجاوز في عبارته ما نقلناه عنه.
ولعل العلَّة فيما وقع به الشيخ الطبرسي رحمه الله هو حَمْله كلمة (وروي) الواردة في تفسير أبي الحسن القمي على أنها إما من نفس كلام أبي جعفر عليه الصلاة والسلام، أو أنها مما رواه أبو بصير رضوان الله عليه عن أبي جعفر عليه الصلاة والسلام، والحال أنّ هذا خلاف الظاهر من سياق النقل المذكور في تفسير القمي؛ فلاحِظْ.
وإليك مجموعة من النقولات الواردة في التفاسير التالية للتفسيرين، وقبلها نذكر نَص عبارة الشيخ الطبرسي رحمه الله في تفسيره المجمع، حيث قال:
({إذ قالوا لنبيٍّ لهم} اختلف في ذلك النبي، فقيل: اسمه شمعون سمته أمه بذلك، لأن أمه دعت إلى الله أن يرزقها غلاماً، فسمع الله دعاءها فيه، وهو شمعون بن صفية، من ولد لاوي بن يعقوب، عن السدي.
وقيل: هو يوشع بن نون بن أفراثيم بن يوسف بن يعقوب، عن قتادة.
وقيل : هو أشمويل، وهو بالعربية إسماعيل، عن أكثر المفسرين، وهو المروي عن أبي جعفر)[9].
بينما في تفسير جوامع الجامع، وهو أيضاً كتاب تفسير آخر للشيخ الطبرسي، قال:
({إذ قالوا لنبي لهم} هو يوشع أو شمعون أو إشموئيل وهو الأعرف)[10].
وفي التفسير الصافي، للفيض الكاشاني المتوفى سنة 1091هـ، قال:
(ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى ألم ينته علمك يا محمد إلى جماعة الأشراف من بني إسرائيل من بعد وفاة موسى إذ قالوا لنبي لهم. في المجمع عن الباقر عليه السلام هو اشموئيل وهو بالعربية إسماعيل ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله أقم لنا أميراً ننهض للقتال معه ندبر أمره ونصدر فيه عن رأيه)[11].
وفي تفسير الأصفى، وهو تفسير آخر للفيض الكاشاني، وقد اكتفى فيه الفيض بقوله:
({ألم تر إلى الملا من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم} قال: ’’هو إشموئيل، وهو بالعربية إسماعيل‘‘)[12]؛ وعنى الفيض بقال أي الشيخ الطبرسي، والمصدر في الهامش أُثْبِتَ هكذا: (مجمع البيان: 1 – 2: 350).
هذا؛ والذي في مجمع البيان موجود في الجزء الثاني كما ذكرنا، وليس في الجزء الأول المشار له في هامش التفسير الأصفى شيء، ولعل المراد بالجزء الأول كتاب التفسير الآخر للشيخ الطبرسي والذي هو تفسير جوامع الجامع وليس تفسير مجمع البيان.
وقال صاحب ميزان الحكمة:
({إذ قالوا لنبيٍّ لهم} اختلف في ذلك النبي، فقيل: اسمه… [هكذا في المصدر] شمعون بن صفية من ولد لاوي بن يعقوب، عن السدي. وقيل: هو يوشع بن نون بن افراثيم ابن يوسف بن يعقوب، عن قتادة. وقيل: هو إشمويل، وهو بالعربية إسماعيل، عن أكثر المفسرين وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام)[13] ثمَّ في الهامش أَرجَعَ المصنِّف مصدر النقل إلى (مجمع البيان: ج2 ص610)، وهو كما ترى نفس لفظ تفسير مجمع البيان الذي نقلناه.
وفي الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل للمرجع الشيخ ناصر مكارم الشيرازي حفظه الله قال:
(اليهود الذين كانوا قد استضعفوا تحت سلطة الفراعنة استطاعوا أن ينجوا من وضعهم المأساوي بقيادة موسى عليه السلام الحكيمة حتى بلغوا القوة والعظمة. لقد أنعم الله على اليهود ببركة نبيهم الكثير من النعم بما فيها ’’صندوق العهد‘‘ الذي حمله اليهود أمام الجند فأضفى عليهم الطمأنينة والمعنوية العالية، وظلت هذه الروحية فيهم بعد رحيل موسى عليه السلام مدة من الزمن، إلا أن تلك النعم والانتصارات أثارت في اليهود الغرور شيئاً فشيئا، وأخذوا بمخالفة القوانين، وأخيراً اندحروا على أيدي الفلسطينيين وخسروا قوتهم ونفوذهم بخسارتهم صندوق العهد، فكان أن تشتتوا وضعفوا ولم يعودوا قادرين على الدفاع عن أنفسهم حتى أمام أتفه أعدائهم، بحيث إن هؤلاء الأعداء طَردوا الكثيرين منهم من أرضهم وأسروا أبناءهم. استمرت حالهم على هذا سنوات طوالا، إلى أن أرسل إليهم الله نبياً اسمه ’’اشموئيل‘‘ لإنقاذهم وهدايتهم، فتجمع حوله اليهود الذين كانوا قد ضاقوا ذرعا بالظلم وكانوا يبحثون عن ملجأ يأوون إليه، وطلبوا منه أن يختار لهم قائداً وأميرا لكي يتوحدوا تحت لوائه، ويحاربوا العدو متحدين يداً ورأيا، لاستعادة عزتهم الضائعة)[14].
ثم قال في مَبحث حول تفسير الآية:
(وقد ذكر البعض أن اسم ذلك النبي هو ’’شمعون‘‘ وذكر آخرون بأنه ’’إشموئيل‘‘ وبعض ’’يوشع‘‘ ولكن المشهور بين المفسرين أنه ’’إشموئيل‘‘ أي إسماعيل بلغة العرب، وبهذا وردت رواية عن الإمام الباقر عليه السلام أيضا) ثم في الهامش أَرجَعَ المصنِّف مصدر رواية الإمام الباقر عليه الصلاة والسلام إلى (مجمع البيان: ج1 و2 ص350)[15].
هذا؛ والذي يَظهر من العلة في إرجاع المصدر في الهامش إلى المجلد الثاني والمجلد الأول خطأً هو أن تفسير الأمثل لربما اتَّبعَ في التهميش نفس ما ورد في هامش التفسير الأصفى للفيض الكاشاني؛ لذا أثبَتَ المصدر هنا مِثْله. وقد بان لك ما فيه.
والحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على سيد الخلق محمد وآله الطاهرين.
أمين السعيدي – قم
صفر المبارك 1437هـ
الهوامش:
[1] راجع تفسير الطبري، لأبي جعفر محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب المعروف بالطبري: سورة البقرة آية 146 مع هوامشها بمشروع مصحف جامعة الملك سعود.
[2] نصوص من التوراة والنجيل في النبوات والأنبياء، مركز المصطفى صلى الله عليه وآله: ص الهدى إلى دين المصطفى للبلاغي ج2 ص222.
[3] تفسير الميزان، للعلامة السيد الطباطبائي: ج2 ص296 الآية.
[4] راجع تفسير البغوي، للحسين بن مسعود البغوي: ج1 ص296 الآية.
[5] هكذا في المصدر.
[6] تفسير ابن كثير، لإسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقي المسمى ابن كثير: ج1 ص665 و666 الآية.
[7] تفسير الميزان، العلامة السيد الطباطبائي: ج2 ص296 و297 الآية.
[8] انظر الكنى والألقاب، للشيخ عبّاس القمّي قدس سره: ج2 ص561 إلى 566 الطبعة الأولى 1425هـ.
[9] تفسير مجمع البيان، للشيخ الطبرسي: ج2 ص140 الآية.
[10] تفسير جوامع الجامع، للشيخ الطبرسي: ج1 ص228 الآية.
[11] التفسير الصافي، للفيض الكاشاني: ج1 ص273 ر246.
[12] تفسير الأصفى، للفيض الكاشاني: ج1 ص116 الآية.
[13] ميزان الحكمة، لمحمد الريشهري: ج4 ص3130 الطبعة الأولى طبع ونشر دار الحديث.
[14] الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، للمرجع الشيخ ناصر مكارم الشيرازي: ج2 ص215 و216 الآية.
[15] الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، للشيخ ناصر مكارم الشيرازي: ج2 ص220 الآية.
للتعلیق أو مطالَعة التعلیقات اضغط هنا